اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل الواحد والاربعون 41 والاخير بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل الواحد والاربعون 41 والاخير بقلم منال سالم


ما طمره التامور وطمره)
قبل أن يعاني ويلات هذه الكسرة المهينة، هزمه بقــــسوة تخلي الأقرب إليه عنه، فأدرك وتدارك معنى أن يكون وحيدًا، في ذيل قائمة الاهتمامات، ومنسيًا بين أسرته، لم يكن مُصانًا بالدرجة الكافية التي جعلت عائلته تضعه فوق أي اعتبار، لم يجد والدته بجواره، ولا والده في محيطه، ليذودا عنه، ويوقفا بطش هذا الحقير النجس، الكل اختفى فجأة من المشهد، وكأنه وُلد يتيم الأبوين، بلا سند أو معين. تركه "ممدوح" وسط محيط وجعه الراسخ، وعلى وجهه علامات الألم والرعب، فقد تأكد أن تكون عقوبته ذات أثر مخيف وغير قابل للنسيان. راح يئن أنينًا خافتًا، جاهد لوأده، وكأنه يخشى إن ارتفع صوت بكائه أن يكتشف أحدهم ما تعرض له، حينها لن ينجو من هذا الشعور المذل أبدًا، بل سيلازمه حتى مماته!
اعتدل "أوس" من نومته المهينة، وبحث عما يغطي به جسده، فالتقط الملاءة، ولفها بيدين مرتعشتين حوله، قبل أن يهرع نحو باب الغرفة ليوصده من الداخل. لن يسمح لأي فرد بأن يرى آثار وحل القذارة الذي وقع فيه بممارسات زوج أمه اللعين عليه، بكى مع كل محاولة منه للسير بتؤدةٍ تجاه الحمام للاغتســال، أراد بشدة تطهير جسده من موضع لمساته المحرمة، لم يكترث إن كان الماء المنساب على بدنه باردًا، أم دافئًا، أم حتى حارقًا، المهم ألا يبقى أي أثر ليده عليه.
جروحه النفسية قبل البدنية لم ولن تندمل بسهولة، بل إن ندوبها الموحشة ستظل معالمها موجودة لتذكره على الدوام بأنه كان الضحية، المجني عليه، بأنه اُغتيل، وأعيد اغتيــاله في كل مرة كان يرى فيها هذا البغيض قبل أن يجهز عليه تمامًا في مرته الأخيرة.
اختلطت دموعه الحارقة بقطرات المياه، تعهد لنفسه بأن تكون آخر مرة يظهر فيها ذلك الضعف، لن يسمح لأحدهم بالمساس به، بالسير على حطامه، ودعسه كحشرة لا قيمة لها، سيخفي ذلك الجانب المخزي منه للأبد، وكأنه لم يكن من الأساس. أغلق الصنبور، وخرج مبتلًا وهو يلف جسده بهذه المنشفة الصغيرة، كان لا يزال يرتعش، وارتجف أكثر مع رؤيته للفراش، ذاك الذي شهد على لحظات نحـــــره، أغمض عينيه بعدما التف بظهره ليقول بصوتٍ مهتز ومختنق:
-ده كابوس، كابوس...
حاول السيطرة على الرجفة العظيمة التي تفشت فيه، وأكد لنفسه:
-مافيش حاجة حصلت! مافيش!
اتجه بعدها إلى الدولاب وفتح الضلفة ليجد حقيبته التي أحضرها والده قبل عدة أيامٍ، فتش بداخلها عن ثيابه، تأوه من الوجع، فتنفس بعمقٍ ليكبت هذا الشعور المؤلم، ثم بدأ في ارتداء ملابسه على مهلٍ، رافضًا أن يكون جسده مكشوفًا لكائنٍ من كان!
لم يقوَ على الجلوس، ظل واقفًا أمام النافذة، يراقب بعينين خاليتين من الحياة، ومن خلف الستائر المنسدلة الفضاء الممتد على مرمى بصره، قست ملامحه، وأصبح أكثر جمودًا وصلابة، أخذ على نفسه ميثاقًا غليظًا، بألا يدع ما حدث يسيطر عليه، لن يجعل مشاعره تسوقه، وقلبه يقوده، بل لا مكان للعاطفة في حياته، آن الأوان ليطمر ما خاضه ذلك الطفل الضعيف المضطهد في التامور، ويحل كبديل عنه آخر مطابق في الصفات والسلوك لمن نجحوا في إفساده، المهم ألا يصبح كما كان سابقًا!
...........................................................
لحظة لم يرغب في إضاعتها هباءً دون رؤية تأثيرها المحزن عليها، واظب "ممدوح" على زيارة زوجته في المشفى المحتجزة به، منتظرًا السماح له بزيارتها بعدما تم رفض طلبه لعدة مرات، خلال تلك الفترة تمكن كذلك من سحب ما احتفظت به من أموال في البنك ليصبح رصيدها صفرًا، كان لا يكف عن البحث عن أي وسائل يقهرها بها. حين جاء اليوم كان محظوظًا، فقد أخبره الطبيب أنها تقبلت خسارة الرضيعتين، وبدأت تتأقلم على الوضع الجديد، ومع ذلك هي بحاجة للمزيد من العون الأسري لتخطي هذه الفاجعة. أوهمه أنه قادرٌ على مساعدتها، فأعطاه الإذن للقاء بها.
تأملها "ممدوح" وهي ترقد على الفراش منكسة الرأس، ذابلة الوجه، تبدو نحيلة بشكلٍ ملحوظ، حتى شعرها بالكاد يكون مرتبًا بعد أن بذلت الممرضة مجهودًا لإجبارها على تمشيطه وتسويته؛ لكنه لم يكن معقودًا. ما إن رفعت نظرها للأعلى ووجدته قبالتها حتى خفق قلبها ونادته بلوعة المشتــاق:
-"ممدوح"!
رأى السواد الذي تشكل حول جفنيها، وكيف غارت عيناها لتبدو كواحدة أخرى غير تلك الندية البهية المفعمة بالأمل والحياة. فردت "تهاني" ذراعها أمامها آملة أن يمسك بيدها؛ لكنه ظل رابضًا في مكانه، ورافضًا الاقتراب منها، نادته مجددًا بنفس النبرة المليئة بالشوق والمغلفة بالحزن، ويدها لا تزال ممدودة إليه:
-"ممدوح"! تعالى جمبي، أنا محتاجاك!
ظل باقيًا في موضعه، يرمقها بنظرة خالية من الرأفة، ليسألها بعدها بصوت جاف:
-إحساسك إيه دلوقتي بعد ما ماتوا بناتي؟ مبسوطة؟
اتهاماته المجحفة في حقها كانت تزيد من لوعتها وإحساسها بالذنب، رغم أنها لم تتسبب في وفاتهما؛ لكن ظل هذا الشعور المرير يلازمها ليؤلمها طوال الوقت، رفعت يديها لتضعهما على أذنيها وهي تهز رأسها باستنكار، لتصرخ فيه بتوسلٍ ممزوجٍ بالبكاء:
-حرام عليك كفاية، أنا قلبي موجوع على فراقهم، ملحقتش أشبع منهم، اتخدوا مني غدر.
لم تحبس دموعها، وأطلقت لها العنان لتسيل بغزارة وهي تكلمه:
-ولو أطول أرجع بالزمن عشان أخدهم في حضني تاني وآ...
قاطعها في صوتٍ جهوري أفزعها:
-كفاية أوهام، وكلام فارغ مالوش معنى!
تحجرت الدموع في عينيها خاصة وهو يتابع على نفس النهج القاسي، كأنما انتشل الحب من قلبه:
-بتقوليه بس علشان تصبري نفسك بيه...
هزت رأسها رافضة باستهجانٍ كبير ما يقوله، فزاد من وابل كلماته غير العطوفة بترديده غير الرحيم:
-إنتي ماتستاهليش تكوني أم!
شهقت في قهرٍ مصدوم، لم يأتِ ببالها أن يكون على هذه الدرجة من القسوة معها، أليست مثله تعاني من ألم الفقد والخسارة الغالية؟ تابع "ممدوح" بنظرة ازدراء مستحقرة:
-كانت غلطة لما وافقت أكمل معاكي.
أنهى جملته وقد تحرك صوبها ليمسك بها من ذراعها، ضغط بشراسة عليه، فتألمت من قوة ضغطته، استعطفته بنظراتها ليصدمها بقوله:
-إنتي تستحقي الموت بدل المرة ألف مرة.
لم تصدق أن مشاعرها المتيمة بها قد تبدلت فجـأة هكذا لتصبح كارهة لكل ما يخصها، وكأنه لم يعشقها يومًا! رجته بقلبٍ مفطور:
-"ممدوح"! ماتتكلمش كده.
لفظها بطريقة أوحت بأنه على وشك الاستغناء عنها، وأكد على ذلك حين خاطبها بوجهه الغائم:
-من اللحظة دي انسي إني أكون في حياتك...
انخلع قلبها وعصفت فيه عواصف الخوف، تلألأت الدموع في عينيها مجددًا وهو على وشك إخبارها:
-إنتي آ...
عادت الدنيا لتسود في عينيها، وتسارعت دقات قلبها، لم ترغب لذا قاطعته في رجاءٍ شديد:
-أوعى، ما تنطقهاش يا "ممدوح"، بلاش تظلمي، خليك سندي.
اعتبرها الملامة على ما حدث، المجرمة التي قضت عليه بسلبه أعز ما في الدنيا، لم يكن قد اكترث بأحدهم فيما مضى من حياته إلا عندما رزق بالتوأم، وجودهما أعاد إليه نبض الحياة وبهجتها، وها قد حُرم منهما. حدجها بنظرة أخرى أكثر كراهية ليردد بعدها بلا ندمٍ:
-إنتي طالق يا "تهاني"، طــــالق!
أذهلها بقراره، وجعلها تحدق فيه بعينين متسعتين، وكأن أحدهم قد سكب على رأسها وقودًا حارقًا، فجعل الموت يزورها بغتة، صرخت في غير تصديق:
-ليه يا "ممدوح"؟ ليه؟
لم يطق النظر في وجهها، ولم يبح لها بمسألة أخذ أموالها، تركها لها كمفاجأة أخرى قاسمة، أولاها ظهره ورحل، وصوت صراخها الهيستري والمفطور يهدر من ورائه؛ لكنه لم يكن كافيًا ليخمد النيران المشتعلة في قلبه، فهو خسر كل شيء دفعة واحدة، وغيره فاز بملذات الدنيا ومباهجها، لقد أقسم لنفسه ألا يتوانى أو يكف حتى يجعل رفيقه أيضًا يتذوق من نفس الكأس، فالرهان بينهما لا يزال قائمًا، وإن كان على حساب اللعب بأرواح الأبرياء!
....................................................
بضعة أيام مرت بعد حادثته المشؤومة، كان يعامل فيها جميع من حوله بعجرفة وتسلط، وكأنه امتلك أمرهم، لجوئه لذلك كان بنية إخفاء هشاشته وكسره المخزي خلف حاجز وهمي صنعه لنفسه. عاد والده بعد غياب مريب، ليجد عشرات الشكاوي من الأطقم الطبية المكلفة برعاية صغيره تتمحور كلها في رفضه للتجاوب معهم. حينما ولج إليه في غرفته وجده واقفًا على قدميه، يقف عند نفس موضع النافذة والذي يتطلع منه للخارج، تنحنح "مهاب" بصوته الخشن ليلفت انتباهه لوجوده؛ لكنه لم يبرح مكانه، بدا وكأنه لم يسمعه مما أغاظه قليلًا، لهذا ناداه بنبرته الصارمة:
-"أوس"!
ببطءٍ وتكاسل أدار فقط رأسه لينظر إليه، فعاتبه "مهاب" بجديةٍ:
-إيه مافيش وحشتني يا بابا؟ وتيجي في حضني؟
وكأنه مجبر على السير إكرامًا لمنزلته، تحرك صوبه في خطواتٍ ثابتة، ونفذ ما طلبه دون أن يظهر في احتضانه إليه أي نوعٍ من المشاعر الدافئة، بل كان أقرب لأداء الواجب. تفقده والده بنظرة فاحصة قبل أن يعلق بروتينية:
-أنا شايف إنك بقيت أحسن.
رد عليه الصغير متسائلًا:
-هخرج من هنا إمتى؟
أتاه رده بنفس اللهجة الجادة:
-طالما أنا رجعت يبقى مالهاش لازمة الأعدة هنا...
هز رأسه في استحسان، فأكمل والده كلامه:
-على فكرة، الدكاترة بيشتكوا منك!
لم يعبأ بشكواهم، وظل على وضعه جامد التعبيرات، حاد النظرات، أضاف "مهاب" بعد زفرة سريعة:
-المفروض هما هنا علشان ياخدوا بالهم من صحتك، تقدر تقول هما موجودين مكاني.
عندئذ عقب "أوس" بعبارة قوية المعنى، وكأن فيها لومًا مستترًا على ما تعرض له في غيابه غير الطبيعي:
-محدش ينفع يبقى مكانك!
تفاجأ به يخاطبه بهذه الطريقة، وبلهجة تفوق عمره، فنظر له مدهوشًا للحظة، ابتسم وهو يداعب خصلات شعره قائلًا:
-معاك حق..
استحثه على السير معه تجاه باب الغرفة بعدما لف كتفيه، واستطرد متابعًا، ورنة من الفخر تسود كلماته:
-عارف، كلامك دلوقتي بيفكرني بجدك الله يرحمه، وأنا عايزك تبقى زيه...
انتصب "مهاب" بكتفيه للأعلى في زهوٍ، وأكمل بجديةٍ، كأنما يسدي له نصيحة ذهبية:
-راجل قوي، وليك هيبة، والكل بيخاف منك، وبيعملولك ألف حساب! ساعتها بس محدش هيقدر يقرب منك.
خُيل إليه أنه وجد فيما فاه به الحل المثالي لدرأ ما قد يناوشه من مشاعر الخوف إن التقى أو تصــادف مع من ألحق به الأذى. انتشله من لحظة شروده السريعة حديث أبيه القائل:
-احنا هنروح بيتنا الجديد، أنا أصلي نقلت في مكاني تاني أحسن.
لم يمانع ذلك، وارتضى بإحداث ذلك التغيير في حياته، فقد أراد الابتعاد عن كل ما حوله، ظل على صمته ووالده لا يزال يطلعه على المزيد من القرارات المُرتب لها مسبقًا:
-وبفكرك أوديك مدرسة برا تتعلم فيها.
توقع أن يثور عليه ويعترض مثلما عهد منه؛ لكنه للغرابة قابل رغبته بالإذعان:
-ماشي.
ضحك في فخرٍ، وبصوتٍ لافت، ليقول بعدها باعتزازٍ:
-إنت كده ابني "أوس الجندي"!
................................................
لأشهر متواصلة خاضت فيها حربًا ضروسًا لتتمكن من الحصول على أي معلومات مفيدة تمكنها من الوصول إلى ابنها بعدما أُخذ منها قسرًا، وحرمت من رؤياه. لم تهتم بوظيفتها التي خسرتها، ولا بالأموال التي سلبت من حسابها بغير معرفة منها، ولا باضطرارها للسكن في مكانٍ متواضع مع إحدى العاملات حتى تتدبر أمرها، كل ما أرادته هو استعادة ابنها الوحيد، معتقدة أن وجوده سيساعدها على إعادة لم شملها مع زوجها الذي طغى عليه حزنه، وغلبه فطلقها مرغمًا!
وصلت أخيرًا إلى مبتغاها، وعرفت أين يقيم صغيرها في الوقت الحالي؛ لكن تعذر عليها الدخول مباشرة دون مواجهة أفراد الأمن المتواجدين عند المدخل، لذا كان عليها التريث حتى تتمكن من الصعود. بعد مراقبة حثيثة لوقت طويل، استطاعت التسلل خلسة إلى البناية التي يقطن بها الجراح الشهير، وبحثت بعينين متلهفتين عن باب منزله، طرقته وقد تحفزت كليًا للقاء صغيرها، لسوء حظها كان "مهاب" متواجدًا ببيته، فتفاجأ برؤيتها، ومنعها من الدخول ليخبرها بصرامةٍ، وبلهجةٍ لا ترد:
-اعتبري ابنك مات!
انتفضت منقضة عليه، وأمسكت به من ياقتي قميصه لتهزه في انفعال، وصراخها الغاضب يصدح في الأرجاء:
-إنت بتقول إيه؟ أنا ابني عايش، وهاخده في حضني.
غرز أظافره في كفيها ليخمشهما عن قصدٍ، فتألمت من الوجع المباغت ليقوم بعدها بإبعادها عنه ودفعها للخلف وهو ينهرها بغلظةٍ، وإصبعه موجه إليها:
-إنتي مالكيش ابن، ويالا امشي من هنا!
استعر داخلها كمدًا منه، فهاجت تهدده في عصبيةٍ مبررة:
-إنت مفكر نفسك مين؟ ابني هعرف أخده بالقانون، ومش هتقدر تحرمني منه.
ردد في استخفاف ساخر:
-قانون؟!
أكدت بقوةٍ وكأنها تثبت له أنها لم تعد ترتعد منه أو تخشاه:
-أيوه.
نظر لها بعينين تطقان شررًا، وسألها في استحقارٍ:
-إنتي مجنونة ولا حاجة؟
ثم لوح بإصبعه صعودًا وهبوطًا على طول جسدها وهو يستكمل في نبرة مهينة:
-مش شايفة منظرك عامل إزاي؟
هيئتها العامة كانت شبه مزرية، تؤكد على فقرها، على كونها معدمة، لا تملك شيئًا، ومع هذا ردت بعزة نفس كانت قد تناستها معه:
-مش فارق معايا، أنا هصرف كل ما أملك علشان أرجع ابني لحضني.
أطلق ضحكة قصيرة هازئة ومغيظة لها، ليعلق بعدها في تهكمٍ محقر من شأنها:
-معقولة لسه مصدقة إن معاكي فلوس؟ ده إنتي شحاتة!
قطبت جبينها، وعبست بكامل ملامحها، وقبل أن تنطق بشيءٍ أضاف على نفس ذات المنوال:
-شكلك لسه عايشة في جنانك، ده "ممدوح" خلاكي على البلاطة يا هانم!
صدمها كليًا، فآمالها كانت معقودة –وبقوةٍ- على استعادة زوجها بمجرد نجاحها في استرداد ابنها، آمنت أنها قادرة على تجميع أسرتها مرة ثانية، استفاقت من ذهولها اللحظي، وهتفت تستنكر ما اعتبرته اتهامًا باطلًا:
-"ممدوح"!! استحالة يعمل كده، ده بيحبني.
ضحك مرة ثانية في استهزاء أكثر استفزازًا، ليخبرها بعدها:
-خليكي عايشة في الأوهام دي، هو اتجوزك بأمر مني، وطلقك لأنه مابقاش طايق يبص في خلقتك.
لم يكن الأمر مجرد مزحة سخيفة منه قالها لإغاظتها، بل بدا جديًا للغاية وهو يؤكد لها بحقائق غير مشكوك فيه:
-جايز اللي كان مصبره عليكي حملك في البنات، بس خلاص هما ماتوا، وإنتي بقيتي مالكيش لازمة.
تحطمت أحلامها على صخرة الواقع القاسية، فصرخت في صوتٍ منفعل:
-اسكت، "ممدوح" مش كده!
رد عليها في نبرته المتهكمة:
-إنتي اللي غبية، وصدقتي إن في حد بيحبك، على إيه؟ إنتي كنتي مجرد صيدة سهلة، وتسلية.
جرحها بنصل كلماته القاسية، فاندفعت مرة أخرى تجاهه لتضربه في صدره وهي تنعته بغضبٍ متصاعد:
-إنت مش بني آدم!
لكزها في ذراعها محذرًا إياها بغير تساهلٍ، وبنظرة يسودها العداء:
-نزلي إيدك بدل ما أقطعهالك.
هتفت متحدية جبروته بإصرارٍ:
-معدتش يهمني، أنا مش همشي من هنا إلا وابني معايا!
في تلك الأثناء، خرج الصغير "أوس" من غرفته على إثر الأصوات المتشاحنة، تفاجأ بوجود أمه على عتبة باب المنزل، هتف في ذهولٍ، ووجهه يكسوه هذا التعبير المصدوم:
-ماما!
وكأن وهج الحياة النابض قد عاد إليها دفعة واحدة، فما إن سمعت صوته العذب والذي يتحرَّق إليه قلبها حتى صاحت بلوعةٍ أموميةٍ شديدة:
-"أوس"، حبيبي، أنا هنا يا ابني!
نظر إليها مليًا وهو لا يزال على صدمته، تقدم تجاه الباب متسائلًا:
-إنتي لسه عايشة؟
في التو اشتاطت غضبًا لكون أبيه قد احتال عليه وأخبره كذبًا أنها فارقت الحياة، استنكرت بشدته حيلته القذرة، وهدرت به:
-كمان مفهم ابني إني مُت؟
انزعج "مهاب" لقدوم ابنه في هذا التوقيت، لم يحبذ ظهوره بمظهر المخادع أمام ابنه، لذا استدار بجسده مشكلًا حاجزًا صلدًا أمامها، ومواجهًا صغيره ليخاطبه في لهجته الآمرة:
-خش أوضتك يا "أوس"!
رغم مشاعر التبلد والجمود التي صارت متغلغلة فيه مؤخرًا، إلا أن اللقاء بوالدته أعطاه دفقة من الشعور بالأمان، والرغبة في البوح بأبشع أسراره وأكثرها وحشية، لعل ذلك الغليان المستعر بداخله يخبت. في صوتٍ حانٍ ومملوء بالشجن هتف "أوس":
-ماما، إنتي عايشة بجد؟
تقافز الغضب في وجه "مهاب"، وأمسك بابنه من كتفه ليسحبه للداخل وهو يوبخه:
-إنت مابتسمعش الكلام ليه؟ مش قولتلك ادخل جوا!!
قاومه الصغير قائلًا بعنادٍ:
-أنا عايز ماما.
هلل "مهاب" مناديًا بأعلى نبرته:
-"ناريمـــان"، تعالي بسرعة، وخدي "أوس" من هنا.
جاءت على صوت ندائه ومعها الخادمة، لتحل عليها الدهشة المختلطة بقدرٍ من الفزع، خاصة عندما رأت "تهاني" أمامها، ارتجف بدنها، وتلبكت، فأمرها "مهاب" بلهجته الصارمة:
-دخلي "أوس" أوضته.
تغلبت على مخاوفها التي انعكست على ملامحها، وهتفت تعنف الصغير:
-إنت خرجت من أوضتك ليه؟
نظر لها "أوس" بعينين حانقتين، وهتف معاندًا:
-أنا عايز ماما.
تعاونت مع الخادمة لجره بعيدًا رغم كل ما أبداه من مقاومة واحتجاج؛ لكنهما في الأخير نجحتا في إعادته لغرفته واحتجازه بها. صراع القوة وفرض السلطة كان جليًا نصب عينيها أثناء إجبار وحيدها على الافتراق عنها، ارتمت "تهاني" عند قدمي "مهاب"، أمسكت ببنطاله، وتوسلته بقلبٍ محترق:
-رجعلي ابني، ماتحرمنيش منه، معدتش فاضلي في الدنيا إلا هو!
ركلها بساقه ليطرحها أرضًا وهو ينذرها بحدةٍ:
-قولتلك شيليه من حساباتك.
تألمت من السقطة العنيفة، ووضعت يدها على موضع الألم، لتنظر إليه بعجزٍ وهي تستجدي مشاعرًا إنسانية غير موجودة في شخصه المقيت:
-حرام عليك أنا أم.
رد عليها بصبرٍ نافد:
-كفاية بقى، إيه ما بتزهقيش؟
استندت على مرفقيها لتقوم وتواجهه مرة ثانية، فاض به الكيل من الجدال معها، لذا أنذرها للمرة الأخيرة:
-أحسنلك تمشي بدل ما أجيبلك الأمن وأبهدلك، أنا بكلمة مني أعلق رقبتك دي على حبل المشنقة، كفاية إني ساكت لحد دلوقتي على جرايمك!
نظرت إليه بعينين زائغتين، فعبارته الأخيرة تحمل تهديدًا خطيرًا، سألته لتستفهم منه عن مقصده:
-إنت بتقول إيه؟
ببساطة شديدة أخبرها:
-في ورق بتوقيعك يثبت إنك السبب في وفاة كام مريض أيام ما كنتي شغالة بالمستشفى.
أصاب عقلها الجمود للحظةٍ، لم تستوعب ما حدث لتتلقى اللوم عن شيء لم تقترفه من الأساس، فتساءلت في ذهولٍ مشوب بالخوف:
-ورق إيه؟ أنا معرفش حاجة عن الكلام ده!
حدجها بنظرة دونية وهو يقول بتشفٍ:
-اسألي "ممدوح"، ما هو اللي ورطك يا دكتورة.
مجددًا اندفعت تجاهه لتمسك بياقته وهي تصرخ فيه:
-إنت كداب!
استوقفها قبل أن تمسه بالإمساك بها من رسغيها، وصاح في ضيقٍ:
-مهما قولت مش هتصدقي، بس دي الحقيقة...
ثار عليها أكثر، ودفعها للخلف ليتخلص منها قائلًا:
-أنا أصلًا واقف بتكلم معاكي ليه؟
ارتمت تجاه الحائط، فارتطم ظهرها به بخشونةٍ، بالكاد حاولت الحفاظ على اتزانها لتلحق به قبل أن يغلق الباب وهي تهدر في التياعٍ::
-استنى يا "مهاب"، أنا عاوزة ابني!
صفقه بقوةٍ مانعًا إياها من الدخول، وصوته يلعنها:
-غوري في داهية.
ألصقت جسدها بالباب، وراحت تطرق عليه بقبضتها في غير يأس –وبكل ما أوتيت من قوةٍ- وهي تتوسله:
-افتح الباب يا "مهاب"، أرجوك ما تحرمنيش من ابني، أنا مستعدة أعمل أي حاجة علشان أكون جمبه.
حينما لم تجد أي تجاوبٍ منه، رفعت من نبرة صراخها الهيستري، مما سبب لـ "مهاب" المزيد من الفضائح، ناهيك عن الإزعاج المتواصل، فأصدر أوامره لأفرد الأمن للقدوم للتعامل معها بصرامة وقسوة، حيث قاموا بمحاصرتها، وجرها جرًا بعيدًا من محيط بيته، ليتم طردها خارج المبنى في شكلٍ مهين، ومع ذلك لم تكف عن القدوم يوميًا، وافتعال المشاحنات مع أفراد تأمين المكان، لتحظى بفرصة رؤية ابنها ولو للحظاتٍ، لينتهي بها المطاف محتجزة في المخفر، تعاني من الهذيان تمهيدًا لترحيلها نهائيًا إلى موطن رأسها.
.................................................
-يعني إيه الكلام ده يا دكتور؟ احنا مش فاهمين حاجة!
تساءل "عوض" بهذه الكلمات الجزلة وهو يتطلع إلى الطبيب المتخصص الذي تم إرســال ابنه الرضيع إليه ليقوم بالكشف الطبي عليه وإعلامه بعد تحاليل وفحوصات دقيقة عن طبيعة مرضه. بدا الطبيب جادًا رغم صوته الهادئ وهو ينظر إلى أهل الرضيع بشيءٍ من التعاطف عندما حادث الأب:
-للأسف ابنك مولود بعيب خلقي في القلب، ومحتاج تدخل جراحي علشان نقدر نعالج المشكلة دي، وإلا هتأثر عليه، ويمكن ...
تعذر عليه إكمال جملته، فقال بصوتٍ شبه خافت:
-يخسر حياته ويموت.
فزعت "فردوس" كليًا، وصارت ملامحها شاحبة، ألجمت الصدمة لسانها، فحملقت بعينين متسعتين إلى رضيعها، بينما انتفض "عوض" هاتفًا:
-ماتقولش كده يا دكتور، ده الأعمار بيد الله.
رد عليه بأسلوبه المهني:
-ونعم بالله، بس لازم ناخد بالأسباب!
حينما استفاقت من الصدمة هللت "فردوس" لاطمة على صدرها:
-يا نصيبتي، أل وأنا اللي فكرت إن الدنيا خلاص ضحكتلي، وهشوف الهنا!
نظر إليها زوجها للحظةٍ قبل أن يتوجه بسؤاله للطبيب:
-ودي تتكلف كتير يا دكتور؟
دون مراوغة أجابه بجوابٍ مقتضب وصريح:
-أيوه.
اختنقت الكلمات في صدر "عوض"، فلم يعرف ما الذي يجب عليه فعله وهو لا حول له ولا قوة، عاجزٌ عن تقديم أدنى مساعدة لإنقاذ رضيعه البريء من خطر الموت. بدا الطبيب مشفقًا عليه، فقال كنوعٍ من المؤازرة:
-اللي عايز كمان أقوله إن صعب العملية تتعمل وهو في السِن ده، فاحنا هننتظر لما يكبر شوية ونعملهاله، إنتو حاولوا خلال الفترة دي تدبروا المبلغ المطلوب.
تساءلت "فردوس"، وعيناها تغرقان في الدموع:
-واللي مش معاه يا دكتور يعمل إيه؟ يشوف ضناه بيموت قصاد عينيه؟
صمت قليلًا ليفكر قبل أن يقترح عليهما:
-يبقى مافيش قدامكم غير تقدموا طلب للعلاج على نفقة الدولة، وأنا هساعدكم في الإجراءات، وهشوف حد أعرفه يوصي عليكم كمان.
وكأنه منحهما بارقة من الأمل، فتساءل "عوض" في لهفةٍ:
-بجد يا دكتور؟
أومأ برأسه قائلًا بهذه البسمة الخفيفة، لعل وعسى تحدث المعجزة ويتم المساهمة في علاجه:
-اطمنوا، أنا هعمل اللي في وسعي، بس ضروري تتابعوا صحة ابنكم.
أبدى "عوض" استعداده الكامل لفعل كل ما يمليه عليه الطبيب طالما أنه يخدم في النهاية صالح الرضيع.
...........................................
على عكسه لم تؤمن "فردوس" بزمن المعجزات، والأفئدة الرحيمة، نظرتها إلى الحياة كانت سوداوية، مليئة بالسخط والنقم، فالبشر المحبين للمساعدة تلاشوا، وحل محلهم غلاظ القلوب، ذوي السلطة والنفوذ. سارت بجوار زوجها تضم رضيعها إلى صدرها، وعقلها شارد في الكارثة الجديدة التي حلت بالعائلة، همٌ جديد أضيف إلى جبل همومها الثقيلة، فهي لا تزال تُلقي بحمل رعاية طفلتها إلى جارتها الطيبة، فماذا عن ذلك المريض العاجز؟ عليها أن تتكفل بالاهتمام به بنفسها وإلا لفقدته، وهذا ما لا تريد التفكير فيه! تنهدت في أسى قبل أن تتكلم وهي تصعد الدرجات إلى بيتها:
-يا حسرة قلبي عليك يا ضنايا!
توقفت عن اعتلاء الدرج، والتفتت ناظرة إلى زوجها في يأسٍ لتسأله بتخبطٍ وحيرة:
-هنعمل إيه يا "عوض"؟ هنجيب فلوس منين؟
أجابها وهو محدقٌ أمامه:
-ربنا خلق الداء والدواء، وهو سبحانه مش هينسانا!
ابتسمت في سخرية مريرة، هم على هامش الحياة من الأساس، فكيف يكون على هذا القدر الكبير من الثبات واليقين، اكتفت بإشاحة عينيها عنه، وأكملت طريقها للأعلى، لتجد كتلة بشرية تفترش الأرض أمام عتبة الباب، وجهها مختبئ بين ركبتيها المضمومتين إلى صدرها، وشعرها المهوش يغطي على أي ملمح لوجهها. جزعت منها، وهتفت في تحفزٍ:
-الحق يا "عوض"، في واحدة نايمة قصاد باب بيتنا؟
تنبه زوجها لكلامها، وأسرع في خطاه بعدما أرجع زوجته للخلف هاتفًا بتحفظٍ:
-خليكي مكانك، أنا هشوف مين.
مدفوعًا بقليلٍ من القلق تقدم ناحية المرأة محنية الرأس يخاطبها في صوتٍ خشن:
-إنتي يا ست، بتدوري على حد هنا؟
من ورائه وقفت "فردوس"، وحاولت تبين ماهية هذه المرأة الدخيلة، حينما رفعت وجهها الذابل للأعلى، استحوذ الذهول المشوب بالصدمة على قسماتها، في التو تحركت ناحيتها لتنظر إليها عن قربٍ وهي تنادي في غير تصديقٍ:
-"تهــــــــــاني"!
بثيابٍ قديمة مهترئة، وقلب ممزق، ووجه لا يغطيه إلا صنوف القهر والهوان، استطردت هذه المكلومة الذليلة تتكلم بغير عقلٍ، وكأنه هو الآخر سلب منها، لتصير فاقدة لكل شيء تمنت الظفر به ذات يومٍ:
-خدوا مني عيالي، وفلوسي، ورموني في الشارع ......................................... !!!
................................................

-تمت-



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close