رواية جوازة ابريل الجزء الثاني الفصل الثالث 3 بقلم نورهان محسن
الفصل الثالث (يبدأ الحب بخفقة) رواية جوازة ابريل" ج2
الحبُ الذي لا يوصل إلي غاية ، تركه واجب ، والتمسّك به سفهٌ وجنون ، لأن لكل حبٍ منتهى وغاية ، فالعشق لا سلطان عليه ، لكنه في شرع العشّاق حرامٌ إن لم يكن نهايته الزواج والوصال.
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈-❈
فى المستشفي
اندفع بسرعة جنونية جفلت الجميع ، نحو باسم ممسكًا بقماش قميصه ، ليسحبه منه بعنف حتى يستقيم ، فوضع باسم كفه بحركة دفاعية على يد يوسف الذي صرخ بغلاظة وحشية ، وقد نفذ صبر كله : هتفضل متصنم كدا .. ما تنطق عملت فيها ايه وصلها للحالة دي؟
اتسعت عيون الجميع في قلق ، ورسمت ريهام تعابير الفزع الكاذب على وجهها ، وهي ترفع يديها وتضعهما على فمها ، بينما يرد باسم بثبات ، وبصوت هادئ يخفي في ثناياه الغضب الذي جلى كالعاصفة الرعدية فى رماديتيه : نزل ايدك .. هكون عملتلها ايه؟
تدخل فهمي سريعا ، ووضع يديه على ذراعي ابنه ، وهو يصرخ محذرا إياه بصرامة : اللي بتعمله دا مالوش داعي يا يوسف اهدا شوية
زمجر يوسف بحدة تدل على مدى سخطه ، قبل أن ينزل يديه عن رقبة باسم رغماً عنه ، ليتراجع عدة خطوات إلى الوراء : اهدا ازاي يا بابا واختي بين الحياة والموت ومش فاهمين ايه اللي جرالها من تحت راسه؟
_وهو ذنبه إيه يا يوسف .. احنا مقدرين ان الموقف صعب وكلنا متوترين .. بس لازم نصبر مفيش في ايدنا حاجة تانية
احتد تنفس يوسف مرة أخرى بسبب غضبه الشديد من نفسه ومن باسم ، وكاد يستعد لمهاجمته مرة أخرى ، متجاهلا تماما كلام صلاح الحازم ضارباً به عرض الحائط ، إلا أن صوت فتح باب غرفة الفحص يليه أقدام أحدهم تقترب منهم جذبت إنتباه الجميع.
❈-❈-❈
في سيارة ياسر
ألجمت الصدمة لسانه ، وعلت الدهشة ملامحه من اعترافها الأول عشقها الدفين له ، الذي تحترق به كل يوم.
وقبل أن يتكلم حاوطت وجهه بين يديها ، وسحبته إليها مؤكدة له صدق حبها إليه ، إذ أطبقت شفتيها على شفتيه برقة جارفة ، فإنشل عقله من هذا القرب المهلك لرجولته ، ولم يمنعها رغم عدم تجاوبه مع قبلتها ، فإذ يتبادر إلى ذهنه سؤال حائر كيف لا يبالى بها ، وهو لا يريد أن تبتعد عنه؟
بتعبير ممزوج بين الصدمة والركود على وجهه جعلها ترغب في الذوبان والاختفاء عن ناظريه وبدأت تنهر ذاتها بغضب على تهورها ، بينما كان ياسر يقاوم الشعور الحسى الذي يشعر به من فعلتها ، لتخرج الكلمات فى حرارة من فمه وهو مذهولًا : يارا .. انتي ازاي تعملي كدا؟
كان قلب يارا يقرع داخل صدرها بقوة جنونية ، لدرجة أنها تيقنت من سماعه لهم ، فإبتلعت لعابها مرارا قبل أن تمتم بصوت مرتجف ممزوج بالارتباك : انا اسفة .. معرفش ازاي عملت كدا؟
ارتفعت يداه لا إراديًا إلى ذراعيها ، ليجعلها تلتفت إليه ، بينما يهزها بقوة خفيفة ، وهو يتحدث بإدراك يوقظ به حاله أمامها : يارا ارجعي لوعيك .. انا انهاردة كانت خطوبتي .. هالة هي اللي هتكون شريكة حياتي انا بحبها
تثاقلت الأنفاس المتهدجة داخل رئتيها بعد ان حبستها ، وهي تسمع ما يقوله ، لتردد الكلمة الأخيرة بألم تغلف به سؤالها : بتحبها؟
رفعت يارا عينيها إليه ، والدموع محصورة في زوايا مقلتيها ، ليشاهدها تتدفق ببطء على خديها ، وهي تنطق بالكلمات التي تجرح قلبها قبل حلقها : عارف كام مرة جيت قولتلي الكلمة دي علي واحدة .. عارف كام واحدة كنت فاكر انك بتحبها .. وبعد فترة حسيت انكو مش متفاهمين و قررت تسيبها
ضحكت يارا لا شعورياً رغم مرارة ما شعرت به ، وهي تربت على كتفها ، وتشير إليه من خلال حديثها المتحشرج : اعدلك كام مرة حطيت دماغك علي كتفي وانت بتشكيلي من كل واحدة فيهم
إلتزم ياسر الصمت ، يستجمع شتات كلماته ، وهو لا يقوى النظر إليها محروجاً ، بسبب صدق حديثها القاسى عليه.
ظل الجو يملؤه التوتر بينهما لحظات طويلة ، قبل أن يلتفت إليها ويقترب منها ، وهو يحتضن وجهها بين كفيه ، ليهمس بصوت أجش مع خروج أنفاسه الحارة ، لتلفح بشرتها الناعمة. : افهميني يا يارا عشان خاطري .. انا فكرة اني اخسرك دي بالنسبالي صعبة اوي وماقدرش اتحملها بس..
أغلقت يارا عينيها بضعف تقاوم رغبتها في الانهيار أمامه ، فهو يعذبها ويشتت افكارها أكثر ، حالما أن رقيقًا وحنوناً معها هكذا ، قبل أن تسمعه يستطرد هامساً بصوت منخفض وهو مضطرب الأنفاس : بس انتي دلوقتي اعصابك تعبانة ومتلخبطة .. خلينا ننسي للي حصل وانا..
إعترضت يارا مقاطعة إياه ، وهي ترفع رموشها لتنظر إليه بعمق : انا لا تعبانة ولا متلخبطة يا ياسر .. انت اللي مش عارف عايز ايه .. و ياريت لما تعرف مايكونش فات الاوان
نطقت يارا بذلك بشفتين مرتعشتين ، وهي تبعد وجهها عن حصار يديه دون أن تنظر إليه ، فضغط ياسر على قبضته بقوة ، فيما اجتاحه شعور بالانزعاج عندما سمع كلامها ، مثبتاً نظره على الابتسامة التي لاحت على ثغرها تعج بالألم روحي قبل أن تفتح باب السيارة ، تنوي الخروج ، لكنها فوجئت بيده تلتف حول معصمها ، ليوقفها هامساً بصوت رجولى مليئ بالرجاء : يارا اسمعيني
أغمضت يارا عينيها تعصرهما بقوة ، وهي تسمعه يرتل اسمها بتلك النغمة الرجولية المحببة لها ، قبل أن تسحب يدها منه ، وتقول بنبرة مختنقة : خلاص مابقاش في حاجة تتقال تاني
ولم تنتظر منه أي رد ، بل ترجلت من السيارة متجهة ، وقلبها يترنح من الحزن نحو باب منزلها بخطوات بطيئة ، بينما إشتدت قبضتيه حول المقود حتى تحولت مفاصله إلى اللون الأبيض ، وتبعتها نظراته حتى دخلت منزلها.
زفر ياسر بقوة وهو يتحرك بسيارته للأمام.
❈-❈-❈
في منزل عز
داخل غرفة النوم
يعم الصمت الغرفة ، لا يقطعه إلا صوت النحيب أنثوى يصدر من منى التي كانت تجلس على أرضية الغرفة ، ومن حولها مجموعة من الصور المتناثرة بشكل عشوائي ، والتي جمعتهم معًا.
أنزلت منى كفيها عن وجهها الذي كان محتقناً بشدة ، وعيناها حمراء من كثرة البكاء ، منذ وصولها للمنزل ، وهى على هذا الحال مازالت لا تستوعب ما حدث ، وتمر بحالة من الإنكار للأحداث الأخيرة من قوة قساوتها.
إلتقطت منى إحدى الصور بأطراف أصابعها المرتجفة ، لتنظر إلى السعادة التي ظهرت على وجوههم بأسف شديد ، قائلة بصوت منخفض ، والدموع الساخنة تتساقط على خديها بغزارة مع كلماتها كأنها كانت تلومه من خلال الصورة : سنين وانا مستحملة كل حاجة منك .. عشان بحبك ومتعلقة بيك .. وجيت انت في لحظة واحدة بتتخلي عني بالسهولة دي
_يا خسارة حبي ليك
همست منى بها بحرقة تضاهى إحتراق فؤادها ، وهي تحدق إلى ملامحه المنقوشة بسهم ناري يمزق قلبها ، قبل أن تشق يديها الصورة بعنف إلى نصفين ثم اعتصرتها في قبضتها بقهر.
استقامت منى من مكانها ، لتخرج من الغرفة بخطوات مهرولة تنوي الذهاب إلى الحمام ، ثم اتجهت مباشرة إلى أحد الرفوف ، لتأخذ منه مقصاً بمقبض أخضر اللون.
وضعته على المغسلة قبل أن توشك على فتح سحاب فستانها ، فانزلق ببطء عن جسدها إلى الأرض وهى تطلع إلى إنعكاسها فى المرآة بنظرات مبهمة.
❈-❈-❈
داخل قاعة الإنتظار فى المستشفي
خفقات تقرع بالقلق والترقب قادمة من ذلك القلب بين ضلوعه ، يكاد يصم أذنيه من قوة دقاته المجنونة ، بينما تصلبت قدماه على الأرض ، مثبتاً عينيه الرماديتين اللامعتين في جمود على الطبيب المعالج ، رافضًا عقله أن يذهب معهم خوفاً مما سيقوله لهم.
حمحم صلاح قبل أن يتساءل بصوت خشن : ها طمنا يا دكتور هي عاملة ايه؟
تحرك بؤبؤ الطبيب على الحاضرين قبل أن يسأل في حيرة : مين في حضرتكم والدها ووالدتها؟
تقدم فهمي خطوة إلى الأمام ، محمحماً بخشونة لتلطيف حنجرته ، ثم أجابه مستفسرًا بصوت أجش : انا ابوها يا دكتور هي كويسة مش كدا
صمت الجميع ترقبًا لخطاب الطبيب التالي ، بينما كان باسم يحاول التنصت من مكانه ، وهو يجبر قدميه على الثبات بصعوبة.
أومأ الطبيب برأسه ، وتحدث بعد لحظة بنبرة جادة : بقت كويسة .. الازمة كانت حادة وضغطها كان واطي عشان مكلتش كويس بقالها يومين .. والحمدلله وضعها دلوقتي مستقر .. بس ياريت تاني مرة تاخدوا بالكم عليها .. لان غلط عليها تسيبوها توصل للمرحلة دي
هز يوسف رأسه بالموافقة ، ليسأله سريعاً : حاضر يا دكتور بس نقدر نشوفها
_مفيش مشكلة هي نايمة حاليا و هتفضل معانا لحد بكرا الضهر عشان نقدر نتابع حالتها ونكمل باقي الفحوصات الازمة لسلامتها بعدها تقدر تخرج معاكم
وافق الطبيب بلهجة عملية ، جعلت باسم يغمره مزيج من شعور غريب من الراحة والطمأنينة أروي خلاياه المتعطشة لهذا الخبر ، فأسند رأسه بتثاقل إلى الحائط ، وأغمض عينيه بألم حارق من الدموع الحبيسة بهم ، متنفساً الصعداء.
ربت صلاح على ذراع الطبيب شاكرا إياه بابتسامة : تمام متشكرين جدا ليك يا دكتور
خاطبه الطبيب باسماً : مفيش داعي للشكر دا واجبي
_علي فين
سأل يوسف بصوت بدا حادا ، بعدما وقف مقابل باسم الذي كاد أن يتجاوزه ، ليدخل الغرفة خلفهما ، لكن إعترض جسد يوسف طريقه متطلعاً بنظرات قوية حادة نحوه ، قابلها رماديتيه الداكنة في تحدٍ.
❈-❈-❈
فى منزل يارا
أغلقت يارا باب المنزل خلفها ، ثم جرت قدميها بإرهاق ، وهي تعصر حقيبتها بقلب مكسور وهى ترغب فى صفع نفسها مراراً وتكراراً بسبب تسرعها وتهورها معه.
تابعت يارا سيرها عازمة على الذهاب إلى غرفتها ، لكنها توقفت في مكانها عندما أضاء ضوء المصباح الجانبي للصالة ، فسألت بدهشة تخللتها بحة في صوتها : ماما! انتي ايه مصحيكي لحد دلوقتي؟
_ومن امتي بيجيلي نوم قبل ما اطمن عليكو انتي واختك؟
قالتها أمها بنبرة حنونة ، ثم ضيقت عيناها ، وهي تنهض من مقعدها ، وتساءلت بإستغراب : ايه دا انتي بتعيطي؟
_مابعيطش يا ماما .. بس تعبانة شوية ومحتاجة انام مش اكتر
وقفت المرآة التى تبدو فى منتصف الخمسينات مقابلها ، لتطرح عليها سؤالاً بنبرة جدية مليئة بالقلق ، وهي تدير وجهها إليها حتى أجبرتها على النظر إليها : بصيلي هنا .. فهميني الاول حاصل ايه مخليكي في الحالة دي؟
_مفيش حاجة والله .. معلش خلينا نأجل كلامنا للصبح مش قادرة اتكلم بليز
قالت يارا هذا مع تتلعثم رغم محاولتها السيطرة على نفسها أمام والدتها ، ثم تحركت بخطوات متوترة نحو غرفتها تريد الهرب لتكون وحيدة ، لكن والدتها ذهبت بسرعة خلفها ، ودخلت الغرفة وهي تقول بقهر حانٍ بينما تصر على أسنانها بقوة : يا حبيبتي ماتكابريش عليا انا امك .. والله كنت عارفة انك هترجعي مقهورة عشان كدا قولتلك ماتروحيش .. وانتي للي صممتي تروحي خطوبة ابن امال
سارعت يارا بالجلوس أمام المرآة ، محاولة صرف انتباهها بمسح المكياج عن وجهها حتى لا تجهش بالبكاء بمرارة أمام والدتها التي أردفت بنبرة هادئة وحازمة : اسمعي يا يارا .. انا مش هستحمل اللي بيجرالك دا يا بنتي .. ومن دلوقتي تقطعي اي تواصل بينك وبين ياسر
رفعت يارا عينيها المتسعتين إلى والدتها عبر المرآة بصدمة انبلجت على ملامحها.
❈-❈-❈
فى ذات الوقت
عند باسم
قلب باسم عينيه سئماً على إصرار يوسف لإثارة غضبه ، ثم اتسعت على وجهه ابتسامة لا علاقة لها بالمرح ، مجيبًا عليه بصبر يوشك على النفاذ : هشوفها في مانع
رد يوسف عليه مؤكداً : ايوه في
تمعّن يوسف في ملامح وجه باسم الساخر ، الذى عاد لارتداء قناع البرود واللامبالاة فور تأكده من أنها بخير ، فأضاف يوسف بمغزي وبصوت هامس حاد : هي وانا عارف سبب موافقتها عليك .. انما انت بينك وبينها ايه ولا تعرفها منين عشان تتقدملها كدا فجأة
حدق باسم إليه طويلاً ، مدركاً قصده ، ثم قال ببرود حتى يبدو أنه غير مبال بالأمر ، مشيراً برأسه : اختك في الاوضة اللي وراك لما تفوق هتشرحلك بنفسها
تلبست يوسف حالة عصبية من برود الآخر ، فسأل بسرعة وبإصرار : وانت ليه ماتشرحليش ودلوقتي
أخفض باسم وجهه ، وهو يتنهد بصوت عالٍ لأنه تعب من إلحاحه عليه ، قبل أن يتطلع إليه ليقول بنبرة هادئة : اي كلام هقوله .. انت مش هتصدقو وانا مبحبش اضيع وقتي في حاجة خسرانة .. الاحسن تصبر وتسمع من اختك
جاء صوتاً حازماً من فهمي من خلفهم ، ليغلق هذه المناقشة المثيرة للأعصاب وينهى الموضوع في الوقت الحالي فقط : وبعدهالك يا يوسف .. خلي الليلة دي تعدي وكفاية كدا .. يلا تعالي خلينا ندخل نطمن علي اختك
أنهى فهمي حديثه ، مع سحب يوسف من ذراعه ليتحرك أمامه ، بينما كان باسم ينظر إليهما باستفزاز صامت ، حتى دخلا كلاهما الغرفة التي نقلت فيها إبريل.
التفت باسم ببرود إلى خالد الذى تمتم بإلحاح ، مشيراً برأسه له : تعالي عايزك
زفرت وسام بتعب ، لتعقب بقلة حيلة وهى تحملق فى ظهر باسم حتى اختفى هو وخالد عن الأنظار : ربنا يهديك يا بني ويعدي الليلة الطويلة دي علي خير
عاودت دعاء الجلوس بجانبها ، لتقول بإستفسار : امين يارب .. قوليلي هتعملي ايه دلوقتي؟
رفعت وسام كتفاها وهى تتنفس مجيبة إياها بهدوء : هدخل اطمن عليها و بعديها نمشي كلنا ولا ايه
نهضت دعاء بسرعة ، لتقول بنبرة هادئة نوعاً ما دون أن تنظر إليها : طيب انا هروح التواليت علي ما تخلصي مش هتأخر
ردت وسام بنبرة ودودة : تمام خدي راحتك يا قلبي
قامت وسام من مكانها بعد أن ذهبت دعاء ، يليها لميس وهالة يسيروا خلفها ، حتى اهتز هاتف هالة بالرنين ، فنظرت إلى الشاشة بإستغراب قبل أن ترفع عينيها إلى والدتها قائلة على الفور في حرج : معلش يا ماما معايا مكالمة هخلصها واحصلكم
هزت وسام رأسها بالموافقة لهه بصمت ، ثم تفرقوا في اتجاهين مختلفين ، بينما ردت هالة على الهاتف بصوتها الرقيق : الو!
جاء إليها صوت أنثوي مرعوب : هالة الحقيني!!
رفعت هالة حاجبيها متسائلة بقلق : في ايه مال صوتك يا مرام!؟
أخبرتها مرام علي الفور : انا في المستشفي عندك ممكن تجيلي احنا في الطوارئ
أسرعت هالة في خطواتها قاصدة الذهاب إلى المصعد ، وهى تجيبها بسرعة : طيب طيب .. جاية حالا
❈-❈-❈
خلال ذلك
عند يارا
إلتزمت يارا الصمت لعدة ثواني ، بينما ترددت كلمات والدتها في أذنيها ، مما جعلها تقع فريسة لأفكارها المتضاربة بقوة قبل أن تقول بصوت منخفض ، وهى تركت ما في يديها ، وقامت تستدير لتعطى ظهرها إلى المرآة : ايه اللي بتقوليه دا بس يا ماما
تجعدت ملامح السيدة بالعبوس ، وقالت بصوت يشع حزنا وقهرا عن حالة ابنتها : اللي سمعتيه كفاياني سكوت لحد كدا .. انتي بتدمري حياتك بإيدك يا بنتي وياريت علي حد يستاهل او حاسس بيكي .. انتي عارفة رفضتي كام عريس لحد دلوقتي .. عارفة بقي عندك سنة يا يارا اللي قدك عندهم بيت وعيال
جلست يارا على السرير ، متهدلة الكتفين ، وتلون وجهها بالعذاب بأدق صورة ظهرت بلمعان عينيها الغائمتين بطبقة بلورية من الدموع داخل مقلتيها ، قبل أن تتمتم بصوت هادئ ضعيف يوحي بكل الصراعات الداخلية التي كانت تمر بها : ماما لو سمحتي .. انا مش متحملة الكلام دا دلوقتي خالص .. والله العظيم حرام عليكي
أغلقت يارا جفنيها بقوة فى نهاية عبارتها المرتعشة ، فسقطت عبراتها تلطخ خديها بالكحل الأسود ، فسارعت والدتها على الفور للجلوس بجوارها ، ولفت ذراعيها حولها بحنان ، وبدأت تهدئها بصوت أكثر رقة عن ذى قبل : اهدي خلاص يا حبيبتي .. انا خايفة عليكي والله .. انا محيلتيش غيرك انتي واختك .. وماتخلنيش اندم اني سايباكي تتصرفي علي حريتك ماتخلنيش اندم علي ثقتي فيكي يا يارا
أنكرت يارا ذلك بصوت مخنوق بشهقات بكائها ، وهي ترفع رأسها من حضنها : يا ماما .. انا اعصابي متوترة شوية .. بس والله محصلش حاجة لكل دا
هزت والدتها رأسها بعدم اقتناع ، ثم احتجت بنبرة قوية وإصرار أكبر : وانا هستني لما يحصل .. المفروض كنتي سمعتي كلامي وماروحتيش الخطوبة دي و اصريتي كالعادة وعملتي اللي في دماغك عجبك الحال للي انتي فيه دا
قامت يارا من مجلسها ، لتنظر إليها بعينيها الحمراء قائلة بتوسل مبحوح : خلاص يا ماما .. انا بجد تعبانة هغير هدومي وانام .. لو سمحتي
زفرت والدتها بإحباط من عناد ابنتها ، لكنها لن تسكت على هذا الأمر بعد الآن ، فقالت باستسلام مؤقت : ماشي .. نامي .. هقولك ايه تاني بس .. ربنا يهديكي يا بنتي
❈-❈-❈
فى ردهة المستشفي
تحدثت دعاء عبر الهاتف بنبرة متهكمة : اخيرا عرفت ترد!؟
تجاهلت مبرراته التي لا تعد ولا تحصى ، لتقول بجمود : طيب انا عايزة اشوفك حالا
تغير صوت دعاء ، وهي تصر عليه بحدة ، وصوتها مشتعل بالغيرة : قولتلك دلوقتي يا صلاح يعني تجيلي حالا هستناك في اخر الكوريدور
❈-❈-❈
فى قسم الطوارئ بالمستشفي
جاءت هالة تجري ، وهى تبحث بعينيها عن صديقتها ، وما إن رأتها حتى أسرعت إليها ، وقالت بحيرة لاهثة : ايه مالك!! في ايه!! رعبتيني
هزت مرام رأسها بالنفي حيث شعرت بتشنج في بطنها من الخوف لتخبرها بصوت متعب : اسكتي .. كنت هموت يا هالة .. كنت هموت بس الحمدلله ربنا سترها
_بعد الشر عليكي .. انتي كويسة حصل ايه؟
_كان هيحصلي حاجات بشعة مش قادرة اتلم علي اعصابي
بدأت مرام تتكلم بكلمات غير مترابطة من الخوف بعد أن تذكرت كيف رحلت وحيدة في وقت متأخر من حفل خطوبة هالة بسيارتها بعد أن ذهبوا جميعًا إلى المستشفى ، مرورًا بسيارتها التي تعطلت في الطريق ، وعندهم توقف أحدهم بغرض مساعدتها حاول التعدى عليها حتى أرسل الله لها منقذاً فى الوقت المناسب.
زادت ارتعاشتها بخوف ، فأمسكت هالة بذراعها خوفًا عليها ، وأسندتها تحثها على السير نحو المقاعد ، وتمتمت بقلق : تعالي اقعدي هنا
تركتها هالة لعدة ثواني قبل أن تعود إليها حاملة كوب الماء البارد ، لتجلس بجانبها ، وتتحدث معها بسلاسة : خدي اشربي واهدي كدا وبعدها احكيلي
بعد ثواني ، حمحمت مرام تنظف حلقها ، لتخبرها بما حدث بصوت يرتجف من الخوف : الحمدلله الحمدلله .. كله بفضل الاستاذ اللي وقفلي بالعربية انا كان زماني في خبر كان وهو بيدافع عني اتعور
سألتها هالة بذهول ، وهى تربت على ظهرها برفق : ومين الراجل دا؟
_هو موجود في الاوضة دي ومعاه ممرضة بتنضفلوا الجرح .. اصله اتعور وهو بيدافع عني
في نهاية جملتها أشارت مرام نحو غرفة في نهاية الممر ، قبل أن تردف بحماس غريب على حالتها السابقة ، وهي تنهض ببطء وتعدل حمالة حقيبتها على كتفها جيداً ، ثم تحتضن ذراع هالة ، ليمشوا معاً فى الممر : قومي خلينا ندخلوا اعرفك عليه قبل ما يوصلوا الشرطة عشان المحضر
نظرت هالة إليها بنصف عينيها ، وهي تتمتم بمزاح ، تحاول التخفيف من حدة الموقف عليها : شكله كدا من لهفتك انه مز
ابتسمت مرام ، لتضحك على عبارتها الممازحة ، ثم ردت عليها مؤكدة بنبرة شقية ، مع إيماءة مضحكة من فمها : دا معدي حدود المزمزة
❈-❈-❈
فى حديقة المستشفي
عند باسم
_ايه يا اخي ما ترحمني من نقرك فوق راسي انت كمان مش ناقص!!
عقد خالد ذراعيه فوق صدره ، ولم يبد أي رد فعل على كلام باسم المنزعج ، بل قال بسخط : يعني عجبك اللي عملته دا .. اكيد انت اللي ورا اللي جرالها؟
وضع باسم يديه فى خصره ، بينما يلتفت إلى خالد بنظرة متعجبة ، قائلا بابتسامة ساخرة : انت كمان! هلاقيها منك ولا من اخوها المنافق اللي عامل راجل اوي ومحموق علي اخته بعد كل اللي عملو فيها
وضع خالد يده في جيب بنطاله ، بينما يلعب النسيم بشعرهم بطريقة جذابة ، فأكمل حديثه بكل جدية يتخللها الإرتياب من صديقه : ماتحاولش تهرب من الكلام .. انت من عشر دقايق مكنتش علي بعضك من خوفك عليها وحاسس بالذنب .. ودا مخليني متأكد انك هببت مصيبة معاها
ارتفع جانب فم باسم باستياء ، وهو يقول بعبوس : تصدق بحس اوقات كتير انك مش صاحبي .. زي ماتكون صوت ضميري لدرجة اني مابكونش طايقك
جذب خالد نفساً عميقاً ، أعقبه قوله بنبرة حادة : كل مرة بتقول نفس الكلام لما بتعكها وبعدها بتلاقي نفسك لابس في الحيط .. وفي كل مرة بتعمل حاجة مجنونة بتهرب من المسؤولية واللوم بالطريقة بتاعتك دي
زفر باسم بقوة ، دافعاً خالد فى صدره بملل ، وهو يهتف بنفاذ صبر : بطل كتر كلام مالوش لازمة .. هي مش خلاص بقت كويسة ماتكبرش الموضوع بقي
ضرب خالد كفاً على كف ، وتحدث بحيرة : انا مابقتش عارف افهمك .. انت خايف عليها ولا خايف منها انها تبقي ملعوب من ريهام جديد زي ما كنت بتقول؟
سرعان ما أخفى باسم يده في جيب بنطاله ، وأخرج منه دفتراً ومدّه إليه ، ويتمتم ببرود وابتسامة جانبية مليئة بالخبث : مظنش .. بص كدا
تمتم خالد بسؤال مليء بالشك ، وهو يقلب فى صفحات الدفتر : وصلك ازاي دا؟
الحبُ الذي لا يوصل إلي غاية ، تركه واجب ، والتمسّك به سفهٌ وجنون ، لأن لكل حبٍ منتهى وغاية ، فالعشق لا سلطان عليه ، لكنه في شرع العشّاق حرامٌ إن لم يكن نهايته الزواج والوصال.
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈-❈
فى المستشفي
اندفع بسرعة جنونية جفلت الجميع ، نحو باسم ممسكًا بقماش قميصه ، ليسحبه منه بعنف حتى يستقيم ، فوضع باسم كفه بحركة دفاعية على يد يوسف الذي صرخ بغلاظة وحشية ، وقد نفذ صبر كله : هتفضل متصنم كدا .. ما تنطق عملت فيها ايه وصلها للحالة دي؟
اتسعت عيون الجميع في قلق ، ورسمت ريهام تعابير الفزع الكاذب على وجهها ، وهي ترفع يديها وتضعهما على فمها ، بينما يرد باسم بثبات ، وبصوت هادئ يخفي في ثناياه الغضب الذي جلى كالعاصفة الرعدية فى رماديتيه : نزل ايدك .. هكون عملتلها ايه؟
تدخل فهمي سريعا ، ووضع يديه على ذراعي ابنه ، وهو يصرخ محذرا إياه بصرامة : اللي بتعمله دا مالوش داعي يا يوسف اهدا شوية
زمجر يوسف بحدة تدل على مدى سخطه ، قبل أن ينزل يديه عن رقبة باسم رغماً عنه ، ليتراجع عدة خطوات إلى الوراء : اهدا ازاي يا بابا واختي بين الحياة والموت ومش فاهمين ايه اللي جرالها من تحت راسه؟
_وهو ذنبه إيه يا يوسف .. احنا مقدرين ان الموقف صعب وكلنا متوترين .. بس لازم نصبر مفيش في ايدنا حاجة تانية
احتد تنفس يوسف مرة أخرى بسبب غضبه الشديد من نفسه ومن باسم ، وكاد يستعد لمهاجمته مرة أخرى ، متجاهلا تماما كلام صلاح الحازم ضارباً به عرض الحائط ، إلا أن صوت فتح باب غرفة الفحص يليه أقدام أحدهم تقترب منهم جذبت إنتباه الجميع.
❈-❈-❈
في سيارة ياسر
ألجمت الصدمة لسانه ، وعلت الدهشة ملامحه من اعترافها الأول عشقها الدفين له ، الذي تحترق به كل يوم.
وقبل أن يتكلم حاوطت وجهه بين يديها ، وسحبته إليها مؤكدة له صدق حبها إليه ، إذ أطبقت شفتيها على شفتيه برقة جارفة ، فإنشل عقله من هذا القرب المهلك لرجولته ، ولم يمنعها رغم عدم تجاوبه مع قبلتها ، فإذ يتبادر إلى ذهنه سؤال حائر كيف لا يبالى بها ، وهو لا يريد أن تبتعد عنه؟
بتعبير ممزوج بين الصدمة والركود على وجهه جعلها ترغب في الذوبان والاختفاء عن ناظريه وبدأت تنهر ذاتها بغضب على تهورها ، بينما كان ياسر يقاوم الشعور الحسى الذي يشعر به من فعلتها ، لتخرج الكلمات فى حرارة من فمه وهو مذهولًا : يارا .. انتي ازاي تعملي كدا؟
كان قلب يارا يقرع داخل صدرها بقوة جنونية ، لدرجة أنها تيقنت من سماعه لهم ، فإبتلعت لعابها مرارا قبل أن تمتم بصوت مرتجف ممزوج بالارتباك : انا اسفة .. معرفش ازاي عملت كدا؟
ارتفعت يداه لا إراديًا إلى ذراعيها ، ليجعلها تلتفت إليه ، بينما يهزها بقوة خفيفة ، وهو يتحدث بإدراك يوقظ به حاله أمامها : يارا ارجعي لوعيك .. انا انهاردة كانت خطوبتي .. هالة هي اللي هتكون شريكة حياتي انا بحبها
تثاقلت الأنفاس المتهدجة داخل رئتيها بعد ان حبستها ، وهي تسمع ما يقوله ، لتردد الكلمة الأخيرة بألم تغلف به سؤالها : بتحبها؟
رفعت يارا عينيها إليه ، والدموع محصورة في زوايا مقلتيها ، ليشاهدها تتدفق ببطء على خديها ، وهي تنطق بالكلمات التي تجرح قلبها قبل حلقها : عارف كام مرة جيت قولتلي الكلمة دي علي واحدة .. عارف كام واحدة كنت فاكر انك بتحبها .. وبعد فترة حسيت انكو مش متفاهمين و قررت تسيبها
ضحكت يارا لا شعورياً رغم مرارة ما شعرت به ، وهي تربت على كتفها ، وتشير إليه من خلال حديثها المتحشرج : اعدلك كام مرة حطيت دماغك علي كتفي وانت بتشكيلي من كل واحدة فيهم
إلتزم ياسر الصمت ، يستجمع شتات كلماته ، وهو لا يقوى النظر إليها محروجاً ، بسبب صدق حديثها القاسى عليه.
ظل الجو يملؤه التوتر بينهما لحظات طويلة ، قبل أن يلتفت إليها ويقترب منها ، وهو يحتضن وجهها بين كفيه ، ليهمس بصوت أجش مع خروج أنفاسه الحارة ، لتلفح بشرتها الناعمة. : افهميني يا يارا عشان خاطري .. انا فكرة اني اخسرك دي بالنسبالي صعبة اوي وماقدرش اتحملها بس..
أغلقت يارا عينيها بضعف تقاوم رغبتها في الانهيار أمامه ، فهو يعذبها ويشتت افكارها أكثر ، حالما أن رقيقًا وحنوناً معها هكذا ، قبل أن تسمعه يستطرد هامساً بصوت منخفض وهو مضطرب الأنفاس : بس انتي دلوقتي اعصابك تعبانة ومتلخبطة .. خلينا ننسي للي حصل وانا..
إعترضت يارا مقاطعة إياه ، وهي ترفع رموشها لتنظر إليه بعمق : انا لا تعبانة ولا متلخبطة يا ياسر .. انت اللي مش عارف عايز ايه .. و ياريت لما تعرف مايكونش فات الاوان
نطقت يارا بذلك بشفتين مرتعشتين ، وهي تبعد وجهها عن حصار يديه دون أن تنظر إليه ، فضغط ياسر على قبضته بقوة ، فيما اجتاحه شعور بالانزعاج عندما سمع كلامها ، مثبتاً نظره على الابتسامة التي لاحت على ثغرها تعج بالألم روحي قبل أن تفتح باب السيارة ، تنوي الخروج ، لكنها فوجئت بيده تلتف حول معصمها ، ليوقفها هامساً بصوت رجولى مليئ بالرجاء : يارا اسمعيني
أغمضت يارا عينيها تعصرهما بقوة ، وهي تسمعه يرتل اسمها بتلك النغمة الرجولية المحببة لها ، قبل أن تسحب يدها منه ، وتقول بنبرة مختنقة : خلاص مابقاش في حاجة تتقال تاني
ولم تنتظر منه أي رد ، بل ترجلت من السيارة متجهة ، وقلبها يترنح من الحزن نحو باب منزلها بخطوات بطيئة ، بينما إشتدت قبضتيه حول المقود حتى تحولت مفاصله إلى اللون الأبيض ، وتبعتها نظراته حتى دخلت منزلها.
زفر ياسر بقوة وهو يتحرك بسيارته للأمام.
❈-❈-❈
في منزل عز
داخل غرفة النوم
يعم الصمت الغرفة ، لا يقطعه إلا صوت النحيب أنثوى يصدر من منى التي كانت تجلس على أرضية الغرفة ، ومن حولها مجموعة من الصور المتناثرة بشكل عشوائي ، والتي جمعتهم معًا.
أنزلت منى كفيها عن وجهها الذي كان محتقناً بشدة ، وعيناها حمراء من كثرة البكاء ، منذ وصولها للمنزل ، وهى على هذا الحال مازالت لا تستوعب ما حدث ، وتمر بحالة من الإنكار للأحداث الأخيرة من قوة قساوتها.
إلتقطت منى إحدى الصور بأطراف أصابعها المرتجفة ، لتنظر إلى السعادة التي ظهرت على وجوههم بأسف شديد ، قائلة بصوت منخفض ، والدموع الساخنة تتساقط على خديها بغزارة مع كلماتها كأنها كانت تلومه من خلال الصورة : سنين وانا مستحملة كل حاجة منك .. عشان بحبك ومتعلقة بيك .. وجيت انت في لحظة واحدة بتتخلي عني بالسهولة دي
_يا خسارة حبي ليك
همست منى بها بحرقة تضاهى إحتراق فؤادها ، وهي تحدق إلى ملامحه المنقوشة بسهم ناري يمزق قلبها ، قبل أن تشق يديها الصورة بعنف إلى نصفين ثم اعتصرتها في قبضتها بقهر.
استقامت منى من مكانها ، لتخرج من الغرفة بخطوات مهرولة تنوي الذهاب إلى الحمام ، ثم اتجهت مباشرة إلى أحد الرفوف ، لتأخذ منه مقصاً بمقبض أخضر اللون.
وضعته على المغسلة قبل أن توشك على فتح سحاب فستانها ، فانزلق ببطء عن جسدها إلى الأرض وهى تطلع إلى إنعكاسها فى المرآة بنظرات مبهمة.
❈-❈-❈
داخل قاعة الإنتظار فى المستشفي
خفقات تقرع بالقلق والترقب قادمة من ذلك القلب بين ضلوعه ، يكاد يصم أذنيه من قوة دقاته المجنونة ، بينما تصلبت قدماه على الأرض ، مثبتاً عينيه الرماديتين اللامعتين في جمود على الطبيب المعالج ، رافضًا عقله أن يذهب معهم خوفاً مما سيقوله لهم.
حمحم صلاح قبل أن يتساءل بصوت خشن : ها طمنا يا دكتور هي عاملة ايه؟
تحرك بؤبؤ الطبيب على الحاضرين قبل أن يسأل في حيرة : مين في حضرتكم والدها ووالدتها؟
تقدم فهمي خطوة إلى الأمام ، محمحماً بخشونة لتلطيف حنجرته ، ثم أجابه مستفسرًا بصوت أجش : انا ابوها يا دكتور هي كويسة مش كدا
صمت الجميع ترقبًا لخطاب الطبيب التالي ، بينما كان باسم يحاول التنصت من مكانه ، وهو يجبر قدميه على الثبات بصعوبة.
أومأ الطبيب برأسه ، وتحدث بعد لحظة بنبرة جادة : بقت كويسة .. الازمة كانت حادة وضغطها كان واطي عشان مكلتش كويس بقالها يومين .. والحمدلله وضعها دلوقتي مستقر .. بس ياريت تاني مرة تاخدوا بالكم عليها .. لان غلط عليها تسيبوها توصل للمرحلة دي
هز يوسف رأسه بالموافقة ، ليسأله سريعاً : حاضر يا دكتور بس نقدر نشوفها
_مفيش مشكلة هي نايمة حاليا و هتفضل معانا لحد بكرا الضهر عشان نقدر نتابع حالتها ونكمل باقي الفحوصات الازمة لسلامتها بعدها تقدر تخرج معاكم
وافق الطبيب بلهجة عملية ، جعلت باسم يغمره مزيج من شعور غريب من الراحة والطمأنينة أروي خلاياه المتعطشة لهذا الخبر ، فأسند رأسه بتثاقل إلى الحائط ، وأغمض عينيه بألم حارق من الدموع الحبيسة بهم ، متنفساً الصعداء.
ربت صلاح على ذراع الطبيب شاكرا إياه بابتسامة : تمام متشكرين جدا ليك يا دكتور
خاطبه الطبيب باسماً : مفيش داعي للشكر دا واجبي
_علي فين
سأل يوسف بصوت بدا حادا ، بعدما وقف مقابل باسم الذي كاد أن يتجاوزه ، ليدخل الغرفة خلفهما ، لكن إعترض جسد يوسف طريقه متطلعاً بنظرات قوية حادة نحوه ، قابلها رماديتيه الداكنة في تحدٍ.
❈-❈-❈
فى منزل يارا
أغلقت يارا باب المنزل خلفها ، ثم جرت قدميها بإرهاق ، وهي تعصر حقيبتها بقلب مكسور وهى ترغب فى صفع نفسها مراراً وتكراراً بسبب تسرعها وتهورها معه.
تابعت يارا سيرها عازمة على الذهاب إلى غرفتها ، لكنها توقفت في مكانها عندما أضاء ضوء المصباح الجانبي للصالة ، فسألت بدهشة تخللتها بحة في صوتها : ماما! انتي ايه مصحيكي لحد دلوقتي؟
_ومن امتي بيجيلي نوم قبل ما اطمن عليكو انتي واختك؟
قالتها أمها بنبرة حنونة ، ثم ضيقت عيناها ، وهي تنهض من مقعدها ، وتساءلت بإستغراب : ايه دا انتي بتعيطي؟
_مابعيطش يا ماما .. بس تعبانة شوية ومحتاجة انام مش اكتر
وقفت المرآة التى تبدو فى منتصف الخمسينات مقابلها ، لتطرح عليها سؤالاً بنبرة جدية مليئة بالقلق ، وهي تدير وجهها إليها حتى أجبرتها على النظر إليها : بصيلي هنا .. فهميني الاول حاصل ايه مخليكي في الحالة دي؟
_مفيش حاجة والله .. معلش خلينا نأجل كلامنا للصبح مش قادرة اتكلم بليز
قالت يارا هذا مع تتلعثم رغم محاولتها السيطرة على نفسها أمام والدتها ، ثم تحركت بخطوات متوترة نحو غرفتها تريد الهرب لتكون وحيدة ، لكن والدتها ذهبت بسرعة خلفها ، ودخلت الغرفة وهي تقول بقهر حانٍ بينما تصر على أسنانها بقوة : يا حبيبتي ماتكابريش عليا انا امك .. والله كنت عارفة انك هترجعي مقهورة عشان كدا قولتلك ماتروحيش .. وانتي للي صممتي تروحي خطوبة ابن امال
سارعت يارا بالجلوس أمام المرآة ، محاولة صرف انتباهها بمسح المكياج عن وجهها حتى لا تجهش بالبكاء بمرارة أمام والدتها التي أردفت بنبرة هادئة وحازمة : اسمعي يا يارا .. انا مش هستحمل اللي بيجرالك دا يا بنتي .. ومن دلوقتي تقطعي اي تواصل بينك وبين ياسر
رفعت يارا عينيها المتسعتين إلى والدتها عبر المرآة بصدمة انبلجت على ملامحها.
❈-❈-❈
فى ذات الوقت
عند باسم
قلب باسم عينيه سئماً على إصرار يوسف لإثارة غضبه ، ثم اتسعت على وجهه ابتسامة لا علاقة لها بالمرح ، مجيبًا عليه بصبر يوشك على النفاذ : هشوفها في مانع
رد يوسف عليه مؤكداً : ايوه في
تمعّن يوسف في ملامح وجه باسم الساخر ، الذى عاد لارتداء قناع البرود واللامبالاة فور تأكده من أنها بخير ، فأضاف يوسف بمغزي وبصوت هامس حاد : هي وانا عارف سبب موافقتها عليك .. انما انت بينك وبينها ايه ولا تعرفها منين عشان تتقدملها كدا فجأة
حدق باسم إليه طويلاً ، مدركاً قصده ، ثم قال ببرود حتى يبدو أنه غير مبال بالأمر ، مشيراً برأسه : اختك في الاوضة اللي وراك لما تفوق هتشرحلك بنفسها
تلبست يوسف حالة عصبية من برود الآخر ، فسأل بسرعة وبإصرار : وانت ليه ماتشرحليش ودلوقتي
أخفض باسم وجهه ، وهو يتنهد بصوت عالٍ لأنه تعب من إلحاحه عليه ، قبل أن يتطلع إليه ليقول بنبرة هادئة : اي كلام هقوله .. انت مش هتصدقو وانا مبحبش اضيع وقتي في حاجة خسرانة .. الاحسن تصبر وتسمع من اختك
جاء صوتاً حازماً من فهمي من خلفهم ، ليغلق هذه المناقشة المثيرة للأعصاب وينهى الموضوع في الوقت الحالي فقط : وبعدهالك يا يوسف .. خلي الليلة دي تعدي وكفاية كدا .. يلا تعالي خلينا ندخل نطمن علي اختك
أنهى فهمي حديثه ، مع سحب يوسف من ذراعه ليتحرك أمامه ، بينما كان باسم ينظر إليهما باستفزاز صامت ، حتى دخلا كلاهما الغرفة التي نقلت فيها إبريل.
التفت باسم ببرود إلى خالد الذى تمتم بإلحاح ، مشيراً برأسه له : تعالي عايزك
زفرت وسام بتعب ، لتعقب بقلة حيلة وهى تحملق فى ظهر باسم حتى اختفى هو وخالد عن الأنظار : ربنا يهديك يا بني ويعدي الليلة الطويلة دي علي خير
عاودت دعاء الجلوس بجانبها ، لتقول بإستفسار : امين يارب .. قوليلي هتعملي ايه دلوقتي؟
رفعت وسام كتفاها وهى تتنفس مجيبة إياها بهدوء : هدخل اطمن عليها و بعديها نمشي كلنا ولا ايه
نهضت دعاء بسرعة ، لتقول بنبرة هادئة نوعاً ما دون أن تنظر إليها : طيب انا هروح التواليت علي ما تخلصي مش هتأخر
ردت وسام بنبرة ودودة : تمام خدي راحتك يا قلبي
قامت وسام من مكانها بعد أن ذهبت دعاء ، يليها لميس وهالة يسيروا خلفها ، حتى اهتز هاتف هالة بالرنين ، فنظرت إلى الشاشة بإستغراب قبل أن ترفع عينيها إلى والدتها قائلة على الفور في حرج : معلش يا ماما معايا مكالمة هخلصها واحصلكم
هزت وسام رأسها بالموافقة لهه بصمت ، ثم تفرقوا في اتجاهين مختلفين ، بينما ردت هالة على الهاتف بصوتها الرقيق : الو!
جاء إليها صوت أنثوي مرعوب : هالة الحقيني!!
رفعت هالة حاجبيها متسائلة بقلق : في ايه مال صوتك يا مرام!؟
أخبرتها مرام علي الفور : انا في المستشفي عندك ممكن تجيلي احنا في الطوارئ
أسرعت هالة في خطواتها قاصدة الذهاب إلى المصعد ، وهى تجيبها بسرعة : طيب طيب .. جاية حالا
❈-❈-❈
خلال ذلك
عند يارا
إلتزمت يارا الصمت لعدة ثواني ، بينما ترددت كلمات والدتها في أذنيها ، مما جعلها تقع فريسة لأفكارها المتضاربة بقوة قبل أن تقول بصوت منخفض ، وهى تركت ما في يديها ، وقامت تستدير لتعطى ظهرها إلى المرآة : ايه اللي بتقوليه دا بس يا ماما
تجعدت ملامح السيدة بالعبوس ، وقالت بصوت يشع حزنا وقهرا عن حالة ابنتها : اللي سمعتيه كفاياني سكوت لحد كدا .. انتي بتدمري حياتك بإيدك يا بنتي وياريت علي حد يستاهل او حاسس بيكي .. انتي عارفة رفضتي كام عريس لحد دلوقتي .. عارفة بقي عندك سنة يا يارا اللي قدك عندهم بيت وعيال
جلست يارا على السرير ، متهدلة الكتفين ، وتلون وجهها بالعذاب بأدق صورة ظهرت بلمعان عينيها الغائمتين بطبقة بلورية من الدموع داخل مقلتيها ، قبل أن تتمتم بصوت هادئ ضعيف يوحي بكل الصراعات الداخلية التي كانت تمر بها : ماما لو سمحتي .. انا مش متحملة الكلام دا دلوقتي خالص .. والله العظيم حرام عليكي
أغلقت يارا جفنيها بقوة فى نهاية عبارتها المرتعشة ، فسقطت عبراتها تلطخ خديها بالكحل الأسود ، فسارعت والدتها على الفور للجلوس بجوارها ، ولفت ذراعيها حولها بحنان ، وبدأت تهدئها بصوت أكثر رقة عن ذى قبل : اهدي خلاص يا حبيبتي .. انا خايفة عليكي والله .. انا محيلتيش غيرك انتي واختك .. وماتخلنيش اندم اني سايباكي تتصرفي علي حريتك ماتخلنيش اندم علي ثقتي فيكي يا يارا
أنكرت يارا ذلك بصوت مخنوق بشهقات بكائها ، وهي ترفع رأسها من حضنها : يا ماما .. انا اعصابي متوترة شوية .. بس والله محصلش حاجة لكل دا
هزت والدتها رأسها بعدم اقتناع ، ثم احتجت بنبرة قوية وإصرار أكبر : وانا هستني لما يحصل .. المفروض كنتي سمعتي كلامي وماروحتيش الخطوبة دي و اصريتي كالعادة وعملتي اللي في دماغك عجبك الحال للي انتي فيه دا
قامت يارا من مجلسها ، لتنظر إليها بعينيها الحمراء قائلة بتوسل مبحوح : خلاص يا ماما .. انا بجد تعبانة هغير هدومي وانام .. لو سمحتي
زفرت والدتها بإحباط من عناد ابنتها ، لكنها لن تسكت على هذا الأمر بعد الآن ، فقالت باستسلام مؤقت : ماشي .. نامي .. هقولك ايه تاني بس .. ربنا يهديكي يا بنتي
❈-❈-❈
فى ردهة المستشفي
تحدثت دعاء عبر الهاتف بنبرة متهكمة : اخيرا عرفت ترد!؟
تجاهلت مبرراته التي لا تعد ولا تحصى ، لتقول بجمود : طيب انا عايزة اشوفك حالا
تغير صوت دعاء ، وهي تصر عليه بحدة ، وصوتها مشتعل بالغيرة : قولتلك دلوقتي يا صلاح يعني تجيلي حالا هستناك في اخر الكوريدور
❈-❈-❈
فى قسم الطوارئ بالمستشفي
جاءت هالة تجري ، وهى تبحث بعينيها عن صديقتها ، وما إن رأتها حتى أسرعت إليها ، وقالت بحيرة لاهثة : ايه مالك!! في ايه!! رعبتيني
هزت مرام رأسها بالنفي حيث شعرت بتشنج في بطنها من الخوف لتخبرها بصوت متعب : اسكتي .. كنت هموت يا هالة .. كنت هموت بس الحمدلله ربنا سترها
_بعد الشر عليكي .. انتي كويسة حصل ايه؟
_كان هيحصلي حاجات بشعة مش قادرة اتلم علي اعصابي
بدأت مرام تتكلم بكلمات غير مترابطة من الخوف بعد أن تذكرت كيف رحلت وحيدة في وقت متأخر من حفل خطوبة هالة بسيارتها بعد أن ذهبوا جميعًا إلى المستشفى ، مرورًا بسيارتها التي تعطلت في الطريق ، وعندهم توقف أحدهم بغرض مساعدتها حاول التعدى عليها حتى أرسل الله لها منقذاً فى الوقت المناسب.
زادت ارتعاشتها بخوف ، فأمسكت هالة بذراعها خوفًا عليها ، وأسندتها تحثها على السير نحو المقاعد ، وتمتمت بقلق : تعالي اقعدي هنا
تركتها هالة لعدة ثواني قبل أن تعود إليها حاملة كوب الماء البارد ، لتجلس بجانبها ، وتتحدث معها بسلاسة : خدي اشربي واهدي كدا وبعدها احكيلي
بعد ثواني ، حمحمت مرام تنظف حلقها ، لتخبرها بما حدث بصوت يرتجف من الخوف : الحمدلله الحمدلله .. كله بفضل الاستاذ اللي وقفلي بالعربية انا كان زماني في خبر كان وهو بيدافع عني اتعور
سألتها هالة بذهول ، وهى تربت على ظهرها برفق : ومين الراجل دا؟
_هو موجود في الاوضة دي ومعاه ممرضة بتنضفلوا الجرح .. اصله اتعور وهو بيدافع عني
في نهاية جملتها أشارت مرام نحو غرفة في نهاية الممر ، قبل أن تردف بحماس غريب على حالتها السابقة ، وهي تنهض ببطء وتعدل حمالة حقيبتها على كتفها جيداً ، ثم تحتضن ذراع هالة ، ليمشوا معاً فى الممر : قومي خلينا ندخلوا اعرفك عليه قبل ما يوصلوا الشرطة عشان المحضر
نظرت هالة إليها بنصف عينيها ، وهي تتمتم بمزاح ، تحاول التخفيف من حدة الموقف عليها : شكله كدا من لهفتك انه مز
ابتسمت مرام ، لتضحك على عبارتها الممازحة ، ثم ردت عليها مؤكدة بنبرة شقية ، مع إيماءة مضحكة من فمها : دا معدي حدود المزمزة
❈-❈-❈
فى حديقة المستشفي
عند باسم
_ايه يا اخي ما ترحمني من نقرك فوق راسي انت كمان مش ناقص!!
عقد خالد ذراعيه فوق صدره ، ولم يبد أي رد فعل على كلام باسم المنزعج ، بل قال بسخط : يعني عجبك اللي عملته دا .. اكيد انت اللي ورا اللي جرالها؟
وضع باسم يديه فى خصره ، بينما يلتفت إلى خالد بنظرة متعجبة ، قائلا بابتسامة ساخرة : انت كمان! هلاقيها منك ولا من اخوها المنافق اللي عامل راجل اوي ومحموق علي اخته بعد كل اللي عملو فيها
وضع خالد يده في جيب بنطاله ، بينما يلعب النسيم بشعرهم بطريقة جذابة ، فأكمل حديثه بكل جدية يتخللها الإرتياب من صديقه : ماتحاولش تهرب من الكلام .. انت من عشر دقايق مكنتش علي بعضك من خوفك عليها وحاسس بالذنب .. ودا مخليني متأكد انك هببت مصيبة معاها
ارتفع جانب فم باسم باستياء ، وهو يقول بعبوس : تصدق بحس اوقات كتير انك مش صاحبي .. زي ماتكون صوت ضميري لدرجة اني مابكونش طايقك
جذب خالد نفساً عميقاً ، أعقبه قوله بنبرة حادة : كل مرة بتقول نفس الكلام لما بتعكها وبعدها بتلاقي نفسك لابس في الحيط .. وفي كل مرة بتعمل حاجة مجنونة بتهرب من المسؤولية واللوم بالطريقة بتاعتك دي
زفر باسم بقوة ، دافعاً خالد فى صدره بملل ، وهو يهتف بنفاذ صبر : بطل كتر كلام مالوش لازمة .. هي مش خلاص بقت كويسة ماتكبرش الموضوع بقي
ضرب خالد كفاً على كف ، وتحدث بحيرة : انا مابقتش عارف افهمك .. انت خايف عليها ولا خايف منها انها تبقي ملعوب من ريهام جديد زي ما كنت بتقول؟
سرعان ما أخفى باسم يده في جيب بنطاله ، وأخرج منه دفتراً ومدّه إليه ، ويتمتم ببرود وابتسامة جانبية مليئة بالخبث : مظنش .. بص كدا
تمتم خالد بسؤال مليء بالشك ، وهو يقلب فى صفحات الدفتر : وصلك ازاي دا؟