رواية رحلة الآثام الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم منال سالم
الفصل التاسع والثلاثون
(ما لا يمكن الاحتفاظ به)
كان اليوم مشحونًا منذ مطلع النهار، خاصة مع اعتذار المربية عن القدوم اليوم لممارسة مهامها المعتادة في رعاية الصغار، لهذا اضطرت "تهاني" لاصطحاب أطفالها معها وتركهم بالمكتب، ريثما تنتهي من جدول أعمالها المزدحم. نهضت من خلف مقعدها بعدما جمعت الأوراق المطلوب إرسالها لمعمل التحاليل، وابتسمت لصغيرها قائلة في صوت حنون لكنه لا يخلو من الحزم:
-حبيبي، خد بالك من إخواتك لحد ما أرجع، أنا مش هتأخر، هما 5 دقايق بس.
اكتفى بهز رأسه وهو يدير رأسه لينظر إلى شقيقتيه التوأم بنظراتٍ جادة، ليعاود التحديق فيها فوجدها تتحرك صوب باب الغرفة، قبل أن تضع يدها على المقبض لتفتحه وجدت زوجها يسبقها، تبسمت لرؤياه، وقالت في سرور لا يمكن إنكاره:
-"ممدوح"! إنت مش كان وراك آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها متسائلًا بوجه جاد التعبيرات، ونبرة أقرب للجدية:
-البنات معاكي؟
عقدت حاجبيها مجيبة إياه:
-أيوه.
سار نحو الداخل متابعًا كلامه، ونظرة مزعوجة سددها نحو "أوس":
-طيب، أنا اتصرفت في مربية معرفة حد من زمايلي، هي هتيجي البيت دلوقتي تقعد بيهم، أنا هاخدهم.
مدت يدها لتستوقفه من ذراعه وهي تسأله:
-و"أوس"؟
انتشل يدها من على ذراعه متعللًا في وجومٍ، وكأنه يرفض بشكلٍ غير مباشر أخذه:
-ما إنتي عارفاه، مابيسمعش الكلام، ولا أنا بقدر أسيطر عليه.
تساءلت في تحيرٍ:
-والعمل؟ هسيبه هنا لواحده؟ ده صغير وآ..
قاطعها للمرة الثانية مرددًا:
-بصي هكلم أبوه يتصرف، وهو عنده بدل الخدامة عشرة!
استحسنت اقتراحه، وقالت في تأييد:
-أوكي، يكون أحسن برضوه.
تقدم "ممدوح" نحو رضيعتيه ليجر العربة التي تضمهما، بعدما منحهما قدرًا من الحب والاهتمام، ليلقي بعدها بنظرة كارهة إلى الصغير "أوس"، قبل أن يميل برأسه عليه ليهمس له في شيء من الحقد:
-خليك لواحدك، محدش طايقك.
في قرارة نفسه كان ممتنًا لذهابه، فتواجده معه مؤخرًا كان يسبب له الكوابيس والمزيد من مشاعر الخوف والقلق.
ما إن ابتعد حتى تنفس الصعداء وبدا مسترخيًا لرحيله، لم تلحظ "تهاني" ما يصيب ابنها من تبدل أحواله بمجرد أن يصبح قريبًا من زوجها، وظنت كما يدعي الأخير أن ما يدور بينهما نوعًا من العناد الطفولي والاستفزاز الأبله، لذلك لم تعر الأمر الاهتمام الكبير. مرة أخرى عادت إلى ابنها لتخاطبه في وديةٍ:
-حبيبي، أنا رايحة مع عمو "ممدوح" وجيالك تاني.
لم ينبس بكلمة، فداعبت شعره، وتركته لتلحق بزوجها، فظل بمفرده متنعمًا بالبقاء دون الشعور بأنه مراقب وتحت التهديد.
................................................
في سعيه للانتقام والتخلص من الأخطار المحتملة، لم يكف "مهاب" عن التفكير في كافة السيناريوهات المقترحة لتنفيذ الأفضل منها في أقرب وقت. دبر لهذا اللقاء مع أحد أتباعه المخلصين بداخل مكتبه، تناقش معه حول كافة التفاصيل، ليسأله للمرة الأخيرة وهو يحدجه بهذه النظرة المتشككة:
-إنت متأكد إنك هتقدر تعمل كده؟
أكد عليه بيقين واضح:
-أومال يا باشا.
حذره "مهاب" مشيرًا بإصبعه، وبلهجة لم تكن متساهلة:
-أنا مش عاوز شوشرة ولا قلق، ولو اتكشفت أنا معرفكش.
بنفس الثقة الكبيرة أخبره:
-يا باشا اطمن، ولا حد هيدرى بأي حاجة، وحتى لو وقعت أنا اللي هشيل الليلة.
لم يبدُ مقتنعًا تمامًا بذلك، ومع هذا غمغم باقتضابٍ:
-أما أشوف.
ثم مد يده داخل درج مكتبه المفتوح ليخرج مغلفًا أبيض اللون، ناوله إياه وهو يتساءل:
-هتنفذ امتى؟
في التو التقط المظروف منه، وقال في شيء من الابتهاج:
-يدوم يا باشا، وقت ما ألاقي اللي عليهم العين موجودين في المكتب.
حرك رأسه بخفةٍ، وخاطبه بنفس النبرة الجادة:
-اتفقنا، ولما تخلص ليك أدهم.
انتشى داخله، وهتف وهو يطوي المظروف ليضعه في جيب بنطاله الجينز:
-من يد ما نعدمهاش.
أشار له "مهاب" بعدها لينصرف وهو يأمره:
-يالا من هنا، مش عايز حد يشوفك.
طأطأ رأسه قائلًا وهو يلوح بيده في الهواء ليحييه:
-حاضر.
ظل "مهاب" محتفظًا بتعابيره القلقة بالرغم من ذهاب هذا الرجل، فلا مجال للعودة أو الخطأ إن مضى في هذا الأمر.
...........................................
نظرًا لضيق الوقت، وقلة العمالة الخبيرة، تعذر عليها توفير مربية أخرى جديدة ومتمرسة في مجالها، كبديلة عن تلك التي اعتذرت عن العمل، ورغم إرســال صغيرها إلى أبيه ليمكث معه بضعة أيام، إلا أنه أعاده إليها لانشغاله هو الآخر بواحدٍ من المؤتمرات التي تتطلب سفره للخارج. كعادته جلس "أوس" على الأريكة الجلدية ذات الحجم المتوسط، ينظر بتأمل –وفي صمت- إلى ما أحضرته والدته من معدات وأدوات طبية لم يكن قد رآها سابقًا. شعر بالعطش، وحرقة طفيفة في جوفه، فمد يده ليمسك بكوب الماء، حتى يرتشف منه القليل. غص الماء في حلقه حينما فتح الباب فجأة، لذا سعل، وارتجفت يده، فسقط الكوب، وتناثر محتواه على بنطاله ذي اللون الزيتوني فابتل غالبيته.
انزعج "أوس" لأنه تسبب دون قصدٍ في هذه الفوضى، وقد يتلقى التوبيخ لطيشه، ومع ذلك لم تكن والدته على نفس القدر من الضيق، اندفعت تجاهه، وجثت على ركبتها أمامه بعدما أجلسته وهي تبتسم، مدت يدها لتمسح على وجنته بنعومةٍ، ثم خاطبته في وديةٍ:
-حبيبي، متخافش، مافيش حاجة حصلت.
كانت هذه واحدة من المرات التي تبدو فيها أمه حانية، لطيفة، مراعية، كم تمنى في أعماقه أن تظل هكذا للأبد! نهضت من جلستها غير المريحة، وقالت وهي تشير بيدها نحو غرفة جانبية صغيرة ملحقة بمكتبها:
-أنا هجيبلك شورت تاني نضيف بدل ده...
ما لبث أن بدت نبرتها شبه محذرة وهي تختتم عبارتها:
-بس ما تتحركش من مكانك وما تلعبش في حاجة.
هز رأسه في طاعة، فداعبت رأسه في لطافةٍ، واتجهت إلى الغرفة الأخرى، ليبقى "أوس" جالسًا على الأريكة، سرعان ما تحولت عيناه إلى الباب عندما أطل منه أكثر من يبغض وهو يدفع أمامه عربة التوأم. ضاقت نظراته، وزم شفتيه في عبوس صريح. لم يقل حال "ممدوح" عنه، كان مستاءً ومتأففًا لرؤيته هو الآخر، شتت بصره الحاد عنه ليلصق بشفتيه ابتسامة مصطنعة مخاطبًا زوجته بنبرة مرتفعة نسبيًا:
-حبيبتي.
تفاجأت "تهاني" بوجوده، وخرجت إليه متسائلة في دهشة:
-"ممدوح"، إنت بتعمل إيه هنا؟
على حسب ما رتب كلاهما، كانت الرضيعتان تمكثان بصحبة إحدى المربيات في مكانٍ قريب من المشفى طوال فترة النهار، إلى أن تفرغ "تهاني" من عملها، فتذهب إليهما، وتأخذهما إلى المنزل، لذا ظهرت آثار المفاجأة على ملامحها حينما وجدتهما مع زوجها، تدلى فكها للأسفل للحظةٍ، قبل أن تستجمع نفسها وتتساءل بصوتٍ لا يخلو من الدهشة:
-إنت جايب البنات معاك؟ إيه اللي حصل؟
تنهد في سأمٍ، وأجابها:
-اعتذرت ومجاتش.
تعقدت تعبيراتها متسائلة باستغرابٍ قلق:
-ليه؟
أجابها وهو يدفع العربة أكثر للداخل:
-عندها دور برد شديد، وخايفة لأحسن تعدي البنات.
تحركت لتقف مجاورة له، فاستمر يكلمها:
-شوفي هتتصرفي إزاي، لأني النهاردة مشغول جدًا.
منحت الرضيعتين نظرة حنون وهي ترد:
-حاضر.
التفت "ممدوح" ناظرًا بنظرة قاتمة إلى "أوس"، وصل مغزاها إلى الصغير، قبل أن يدير رأسه متسائلًا في صوتٍ خافت:
-هو ابنك هيقضي اليوم معانا؟
أجابته وهي تهز كتفيها:
-ما أبوه سافر مع مراته، ومش هينفع يفضل لواحده.
برطم "ممدوح" في همهمة غير مسموعة:
-أه طبعًا، مصلحته أهم.
من جديد ركز انتباهه مع "تهاني" عندما أضافت في لهفة أمومية:
-وبعدين هو وحشني، أنا بقالي كام يوم ماشفتوش، ومصدقت إن "مهاب" وافق يخليه معانا فترة.
قال على مضضٍ، وبابتسامة سخيفة:
-وماله.
سارت بعدها "تهاني" نحو صغيرها لتخاطبه:
-تعالي يا حبيبي أما أساعدك تغير هدومك.
وكأن في ذلك إهانة فجة إليه، رفض عونها، واجتذب منها السروال صائحًا في تذمرٍ:
-أنا كبير، وبعرف لواحدي.
نظرت له بدهشةٍ قبل أن تقول باسمة:
-طبعًا، إنت كبير، بس لو احتاجت أي مساعدة أنا موجودة.
بنفس التجهم الشديد قال وهو لا ينظر إليها:
-مش عاوز.
ثم أكمل مشيه المتعجل نحو الغرفة الجانبية ليبدل ثيابه بالداخل، وهذا الشعور الحانق يستعر في صدره، ليس لأنه يبغض زوج أمه فقط، بل لأنه على وشك معايشة شعور الإهمال والإقصاء جانبًا.
.................................................
في تلك الأثناء، دار أحدهم حول محيط غرفة المكتب بضعة مرات ليتأكد من وجود جميع أفراد الأسرة معًا، ما إن تأكد من اجتماعهم، وبقائهم بالداخل لوقت لا بأس به، حتى تلفت حوله ليضمن عدم متابعة أي شخص لما هو على وشك القيام به. اعتلى ثغره ابتسامة مغترة وهو يُحادث نفسه بعزمٍ:
-حلو أوي، الباشا موصيني أظبط كل حاجة، ولو اللي طلبه اتنفذ بالملي هبقى راجله ودراعه، وساعتها الدنيا هتزهزه، وهنول الرضا.
تحمس كثيرًا لأداء مهمته المنوط بها، فتوارى عن الأنظار مترقبًا اللحظة المناسبة للتسلل إلى الداخل، والتخلص من الجميع.
...............................................
أكثر ما كان يستثير أعصابه، ويستفزه، هو رؤيته لوالدته تتمرغ في أحضان ذلك الغريب عنه بكل هذا الخنوع والإذلال، خاصة حينما يتعامل معها بقدرٍ من القسوة الممزوجة بالإغراء، وكأن في ذلك نوعًا من الإغواء لها. من فرجة الباب المواربة شاهد "أوس" أمه وهي تستند بمرفقيها على صدر "ممدوح"، والأخير يطوقها من خصرها بذراعيه، ليلصقها به أكثر، ضحكت في دلالٍ، قبل أن يأتي صوتها معترفًا، ونظرات العشق تنير حدقتيها:
-أنا حاسة إني في حلم جميل، كل اللي بحبهم حواليا...
ثم طافت بنظراتها الشغوفة على كل فردٍ على حدا، وكأنها تخصه وحده بالكلام:
-إنت، و"أوس"، و"بيسان"، و"ليان".
ما لبث أن غلف صوتها رنة من القلق عندما أكملت:
-خايفة أفوق من الحلم ده على كابوس.
توجس خيفة أن تكون قد استشعر ما رتب له في وقت سابق مع رفيقه لتوريطها فيما لم ترتكب، حاول أن يتسلح بهدوئه، وقال وهو يرفع يده ليمسد على رأسها:
-ماتقلقيش طول ما أنا جمبك يا حبيبتي.
ظلت على توترها وهي تسترسل بأريحيةٍ:
-إنت عارف صاحبك، مش بالساهل نديله الأمان، وخصوصًا إننا عارفين كل حاجة عنه، وهو عاوز يفضل بصورته التانية المثالية قصاد مراته.
التوى ثغره معلقًا:
-مسيرها تعرف حقيقته.
وافقته الرأي قائلة:
-أيوه، معاك حق، هو ما يقدرش يفضل الملاك الطاهر كده كتير.
هز رأسه مؤيدًا جملتها، وزاد عليها بنزقٍ ندم عليه لاحقًا:
-وبعدين "مهاب" بيعمل اللي بنصحه بيه، وهو دلوقتي محتاجني.
ارتابت في قوله، وتساءلت بعينين مستفهمتين:
-ليه؟
تعلل كذبًا بحجة رجا أن تنطلي عليها:
-يعني عاملين سمعة كويسة هنا، وناس كتير بتثق في شغلنا.
وقبل أن تفكر في استجوابه أكثر، طلب منها في نبرة معاتبة ليشعرها بالذنب:
-أنا مش عايزك تفكري فيه، على فكرة ده بيزعلني، وأي راجل مكاني بيضايق من كده.
وقعت في فخ خدعة انزعاجه، وهتفت في توترٍ:
-حبيبي وأنا مقدرش على زعلك أبدًا...
ثم بررت له في صوتٍ مليء بالأسى:
-بس غصب عني لما بفتكر سنين شـــذوذه، وقرفه معايا، وإزاي قدرت استحمل ده كله علشان أفضل جمب ابني، كل ده بيأثر فيا.
نظر لها في صمتٍ، فحاولت تبديل الأجواء المشحونة بأخرى رومانسية حالمة، فشبت على قدميها، ورفعت ذراعيها لتقوم بالتعلق بعنقه، رفعت ذقنها كذلك، وقبلته من وجنته قائلة:
-وفي الآخر ربنا عوضني بيك.
لم تلن ملامحه، واستمر مدعيًا انزعاجه الزائف، فقامت بتقبيل الوجنة الأخرى وهي تداعبه بهذا اللقب اللطيف:
-يا أبو البنات!
لئلا يبدو متشددًا، أرخى في قسماتها، ومنحها ابتسامة راضية قبل أن يخبرها:
-ما تفكريش في اللي فات.
هزت رأسها مستجيبة له، فاستغل الفرصة ليسألها في مكرٍ:
-صحيح عملتي إيه في التحاليل اللي جبتهالك؟
أجابته بتلقائيةٍ، ودون أدنى شك في نواياه:
-لسه هراجعهم يا حبيبي.
رفع حاجبه للأعلى وعاتبها بسؤاله:
-إنتي مش واثقة فيا ولا إيه؟
في التو أخبرته، وكأنها تستنكر سوء ظنه بها:
-معقولة، ده أنا أسلملك حياتي وأنا مغمضة.
لحظتها فقط شدد من ضمه إليها، ليحني رأسه عليها قاصدًا تقبيل جبينها وهو يخاطبها:
-هو أنا حبيتك من فراغ؟
استمتعت بلحظة قربهما الدافئة، ليتبع ذلك كلامه شبه الجاد، وهي لا تزال تحت تأثير حصار العواطف:
-وقعي عليهم واختميهم خلينا نسلمهم ونروح بيتنا.
حتى يقضي على ترددها، لجأ إلى حيلته الرخيصة في اللعب على مشاعرها، فمال على أذنها وهمس لها بحرارةٍ ألهبت بشرتها:
-نفسي أخدك في حضني.
معظم ما قاله استثار دواخلها، فاشتعلت جذوة الحب ببواطنها، وتحرجت من احتمالية رؤية أحدهم للحظات التقارب الحميمي بينهما، بالكاد أبعدته عنها وقالت في شيءٍ من الارتباك:
-"ممدوح"، احنا في المكتب، أي حد ممكن يشوفنا، شكلنا مش هيبقى حلو خالص.
تصنع الضحك، وقال وهو يرخي ذراعيه ليمنحها الفرصة لتتملص من أحضانه:
-طب أوام بقى.
قالت ممتثلة لطلبه وهي تدور حول المكتب لتنهي توقيع هذه الأوراق:
-حاضر.
متابعته في الخفاء لما يجري بينهما جعل شعوره بالنقم والغضب يتضاعف، تراجع ليبدل سرواله في حنق، وهو يتمتم بلا صوتٍ:
-أنا بكرهكم كلكم، بكرهكم!
أولاهما ظهره، وحاول سد أذنيه عما يسمع من عبارات غزل، وملاطفات ليست عفيفة، آملًا أن يتوقفا عن ذلك ويدركا وجوده، وإن كان غير مرغوب فيه، انتفض بتأهبٍ في وقفته عندما جاء صوت والدته من خلفه ليخاطبه:
-"أوس"، حبيبي، أنا رايحة مع عمو "ممدوح" نخلص شوية شغل، خد بالك من إخواتك لحد ما نرجع.
لم ينظر نحوها، وكأنه يظهر لها نوعًا من الخصام لعدم مراعاتها لمشاعره، فظنت أنه يتدلل عليها، لذا لم تلح عليه، وتركته لتنصرف، واضعة في أمانته شقيقتيه التوأم.
............................................
في حركات دائرية، ذرع الغرفة الجانبية جيئة وذهابًا، محاولًا طرد ما امتلأت به ذاكرته من مشاهد غير محببة إطلاقًا إليه تجمع بين والدته وزوجها البغيض. كوسيلةٍ متاحة أمامه للتنفيس عن انفعالاته المكبوتة، ركل الأرضية بعصبية، وأطلق لعنة خافتة وهو يكز على أسنانه، انتبه لصوت البكاء الخافت لإحدى شقيقتيه، فنفخ في ضيقٍ قائلًا:
-وأنا المفروض أعمل إيه؟
بتكاسلٍ وتأفف تحرك تجاه عربة الأطفال المرابطة في زاوية الغرفة، نظر إلى الرضيعة "بيسان" في حدةٍ، وخاطبها بصوتٍ خفيض، لئلا يوقظ الأخرى:
-ماتعيطيش، دلوقتي ماما هتيجي تشوفك.
جذب أنفه هذه الرائحة الغريبة، والمزعجة، فدار برأسه محاولًا تبين مصدرها، سار بتباطؤ ملحوظ في محيط عربة الأطفال، لحظتها فقط توقف عن المسير، وتجمدت نظراته على ألسنة اللهب المندلعة في الستائر المعلقة بالجانب الآخر من الغرفة، انقبض قلبه وانخلع، أحس بالارتعاب الشديد مع ارتفاع الألسنة للأعلى، وكأن هناك ما يستثيرها لتزداد وهجًا وانتشارًا.
ببطءٍ مشوب بالخوف تراجع للخلف، وعيناه لا تزالان معلقتان باللهب المتراقص في قوةٍ، لم يرمش، ولم يصرخ، بل واصل التراجع إلى أن التصق ظهره بعربة الأطفال، لحظتها فقط انحنى ليجلس مجاورًا لها، ويده امتدت لتمسك بالعجلة المطاطية، شدها بكامل طاقته ليدفعها خلفه، كأنما يحاول بطريقته حماية من فيها. بقيت نظراته متعلقة بالألسنة المتوهجة، إلى أن غطى الدخان كامل الغرفة، فاختنق صدره، وراح يسعل بقوةٍ جراء استنشاقه لكميات منه، كان يظن نفسه قادرًا على مقاومته والصمود حتى تعود والدته؛ لكن جسده خانه، واستسلم مع أول اختبار حقيقي وضُع فيه قبيل الصدفة لاختبار مدى تحمله.
......................................................
اعتصر ألم وبأس لا يحتمل قلبها حينما وصلت إليها الأنباء غير المحمودة باندلاع النيران في غرفة مكتبها، خاصة مع تأكدها من احتجاز أطفالها الثلاثة بين جدران الحجرة. هرولت "تهاني" كالمجنونة في أروقة المشفى لتصل إليهم، وكل ما فيها يدعو الله أن ينجيهم، وصل صراخها إلى الحشد المجتمع أمام المكتب الغارق في الدخان:
-ولادي جوا، الحقوهم!
حاولت تجاوزهم والمرور وهي تتوسل الحاضرين بصراخها الفزع، ودموعها تنهمر بغزارة:
-حد ينجدهم، عيالي محبوسين جوا.
راحت تلطم على صدغيها في حرقة وهي لا تزال على عويلها:
-يا ريتني ما خرجت وسبتهم لواحدهم!
مدفوعة بعاطفتها الأمومية حاولت بقوة اختراق الصفوف لبلوغ الغرفة؛ لكنهم حالوا دون وصولها، ومنعوها من إلقاء نفسها في التهلكة، انتبهت لصوت أحدهم حين تكلم بشكلٍ عابر:
-كل حاجة ولعت جوا.
كان كمن سكب الوقود على النار بكلماته هذه، حيث برزت عيناها الحمراوين بشدة، فالتفتت إليه، واندفعت تجاهه لتمسك به من تلابيبه، صرخت في وجهه وهي تهزه بغضبٍ:
-إنت بتقول إيه؟ ولادي لسه جوا، وعايشين!!!
نبرة "ممدوح" المفطورة صدحت في الأرجاء وهو ينادي من بعيد:
-بناتي، "ليـــــان"، "بيســــان"!
ظهوره في هذه اللحظات الحرجة كان كشعاع من النور بزغ في كهف مظلم، تركت "تهاني" ذلك الرجل الذي تشاجرت معه لتذهب إليه، أمسكت به من ذراعيه، وصاحت في بكاءٍ يقطع نياط القلوب:
-عيالي يا "ممدوح"، الحقوهم، هما جوا!
من هول الصدمة تخشب في موضعه، عاجزًا عن إبداء أي ردة فعل، وكأنها تخاطب صنمًا لا حياة فيه، تجمدت عينا "ممدوح" على الغرفة المحترقة، لا يصدق ما تبصره عيناه، أليس من المحتمل أن يكون ما يراه الآن مجرد كابوس وقتي سينتهي باستفاقته؟ هز رأسه في ذهول غير مصدق ما يحدث، عندما لم تجد منه أدنى استجابة بحثت عمن ينجدها، لمحت "مهاب" يقترب من الحشد، فلكزت من حولها لتصل إليه، وقفت قبالته، وصرخت في وجهه تستجديه:
-الحق ابننا، هو موجود جوا.
حدجها بهذه النظرة القاسية التي لا يمكن نسيانها مطلقًا، حاولت الإمساك بذراعه لتستعطف قلبه المتحجر ومشاعره التي لا تتأثر بسهولة؛ لكنه صدها، ودفعها قبل أن تمسه قائلًا بنبرة عدائية:
-دلوقتي بتقولي ابنك؟
زادت الرجفات بجسدها من طريقته الجافة في التعامل مع الأزمة المخيفة، لم تعد تستطيع السيطرة على حالها، ولا فهم ما يدور، ما ضاعف من انقباض قلبها وتمزقه قوله الصادم:
-اعتبريه مات!
شهقت في فزعٍ كبير، ووضعت يدها على فمها لثانية، ثم هدرت في استنكارٍ رافضة التصديق للحظة لما فاه به:
-إنت بتقول إيه؟
أمسك بها من ذراعها، وشدد من قبضته عليه، فأحست بقساوته على جسدها الواهن، نظرت إليه بعينين زائغتين، فقال بلهجةٍ لا تبشر بخيرٍ:
-بعد اللي حصل ده وإهمالك فأنسي إنه موجود.
وكأنه انتزع بغتةً، وبلا مقدمات ذلك الجزء النابض من بين ضلوعها، ليتركها في جحيم مستعر بقراره الذي لا رجعة فيه، اندفعت ناحيته في جنون، فتراجع للخلف ليتفاداها، فتعثرت وانكفأت على وجهها، لم تعبأ بالسقطة المهينة، والتفتت باحثة عنه، زحفت تجاهه، وتعلقت بساقه لتستجديه:
-ماتقولش كده يا "مهاب"، دي مش غلطتي، أنا أصلًا معرفش إيه اللي حصل!
ركلها بقدمه ليتحرر منها، ثم قبض على فكها بين أصابعه، أرسل لها هذه النظرة النارية قبل أن يخبرها وهو يطالعها من علياه:
-الأم اللي تهمل في رعاية ماتستحقش تكون أم من الأساس!
من بين الألم الفتاك الذي يعصف بذقنها هتفت:
-لأ متقولش كده، أنا ...
دفعها بخشونة للخلف مقاطعًا إياها بتهديدٍ صريح:
-إنتي هتتحاسبي عن كل حاجة يا "تهاني".
تأوهت من الوجع، واستدارت برأسها باحثة عن زوجها ليغيثها، فنادته:
-"ممـــدوح"، الحقني!
جحظت عيناها على الأخير عندما وجدت "مهاب" يسحبه معه بعيدًا وهو يكلمه في شيءٍ من المواساة:
-تعالى معايا يا صاحبي.
شيعتهما بنظرات مذهولة، تعج بسحب من العبرات، ما إن تحركا بعيدًا عن الغرفة، حتى راح دمعها يسح بغزارة غير مسبوقة، تولاها النشيج الممزوج بالصراخ والعويل، ويدها تشير إليهما بالتوقف:
-لأ، ماتسبوش ولادي، هما موجودين جوا
(ما لا يمكن الاحتفاظ به)
كان اليوم مشحونًا منذ مطلع النهار، خاصة مع اعتذار المربية عن القدوم اليوم لممارسة مهامها المعتادة في رعاية الصغار، لهذا اضطرت "تهاني" لاصطحاب أطفالها معها وتركهم بالمكتب، ريثما تنتهي من جدول أعمالها المزدحم. نهضت من خلف مقعدها بعدما جمعت الأوراق المطلوب إرسالها لمعمل التحاليل، وابتسمت لصغيرها قائلة في صوت حنون لكنه لا يخلو من الحزم:
-حبيبي، خد بالك من إخواتك لحد ما أرجع، أنا مش هتأخر، هما 5 دقايق بس.
اكتفى بهز رأسه وهو يدير رأسه لينظر إلى شقيقتيه التوأم بنظراتٍ جادة، ليعاود التحديق فيها فوجدها تتحرك صوب باب الغرفة، قبل أن تضع يدها على المقبض لتفتحه وجدت زوجها يسبقها، تبسمت لرؤياه، وقالت في سرور لا يمكن إنكاره:
-"ممدوح"! إنت مش كان وراك آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها متسائلًا بوجه جاد التعبيرات، ونبرة أقرب للجدية:
-البنات معاكي؟
عقدت حاجبيها مجيبة إياه:
-أيوه.
سار نحو الداخل متابعًا كلامه، ونظرة مزعوجة سددها نحو "أوس":
-طيب، أنا اتصرفت في مربية معرفة حد من زمايلي، هي هتيجي البيت دلوقتي تقعد بيهم، أنا هاخدهم.
مدت يدها لتستوقفه من ذراعه وهي تسأله:
-و"أوس"؟
انتشل يدها من على ذراعه متعللًا في وجومٍ، وكأنه يرفض بشكلٍ غير مباشر أخذه:
-ما إنتي عارفاه، مابيسمعش الكلام، ولا أنا بقدر أسيطر عليه.
تساءلت في تحيرٍ:
-والعمل؟ هسيبه هنا لواحده؟ ده صغير وآ..
قاطعها للمرة الثانية مرددًا:
-بصي هكلم أبوه يتصرف، وهو عنده بدل الخدامة عشرة!
استحسنت اقتراحه، وقالت في تأييد:
-أوكي، يكون أحسن برضوه.
تقدم "ممدوح" نحو رضيعتيه ليجر العربة التي تضمهما، بعدما منحهما قدرًا من الحب والاهتمام، ليلقي بعدها بنظرة كارهة إلى الصغير "أوس"، قبل أن يميل برأسه عليه ليهمس له في شيء من الحقد:
-خليك لواحدك، محدش طايقك.
في قرارة نفسه كان ممتنًا لذهابه، فتواجده معه مؤخرًا كان يسبب له الكوابيس والمزيد من مشاعر الخوف والقلق.
ما إن ابتعد حتى تنفس الصعداء وبدا مسترخيًا لرحيله، لم تلحظ "تهاني" ما يصيب ابنها من تبدل أحواله بمجرد أن يصبح قريبًا من زوجها، وظنت كما يدعي الأخير أن ما يدور بينهما نوعًا من العناد الطفولي والاستفزاز الأبله، لذلك لم تعر الأمر الاهتمام الكبير. مرة أخرى عادت إلى ابنها لتخاطبه في وديةٍ:
-حبيبي، أنا رايحة مع عمو "ممدوح" وجيالك تاني.
لم ينبس بكلمة، فداعبت شعره، وتركته لتلحق بزوجها، فظل بمفرده متنعمًا بالبقاء دون الشعور بأنه مراقب وتحت التهديد.
................................................
في سعيه للانتقام والتخلص من الأخطار المحتملة، لم يكف "مهاب" عن التفكير في كافة السيناريوهات المقترحة لتنفيذ الأفضل منها في أقرب وقت. دبر لهذا اللقاء مع أحد أتباعه المخلصين بداخل مكتبه، تناقش معه حول كافة التفاصيل، ليسأله للمرة الأخيرة وهو يحدجه بهذه النظرة المتشككة:
-إنت متأكد إنك هتقدر تعمل كده؟
أكد عليه بيقين واضح:
-أومال يا باشا.
حذره "مهاب" مشيرًا بإصبعه، وبلهجة لم تكن متساهلة:
-أنا مش عاوز شوشرة ولا قلق، ولو اتكشفت أنا معرفكش.
بنفس الثقة الكبيرة أخبره:
-يا باشا اطمن، ولا حد هيدرى بأي حاجة، وحتى لو وقعت أنا اللي هشيل الليلة.
لم يبدُ مقتنعًا تمامًا بذلك، ومع هذا غمغم باقتضابٍ:
-أما أشوف.
ثم مد يده داخل درج مكتبه المفتوح ليخرج مغلفًا أبيض اللون، ناوله إياه وهو يتساءل:
-هتنفذ امتى؟
في التو التقط المظروف منه، وقال في شيء من الابتهاج:
-يدوم يا باشا، وقت ما ألاقي اللي عليهم العين موجودين في المكتب.
حرك رأسه بخفةٍ، وخاطبه بنفس النبرة الجادة:
-اتفقنا، ولما تخلص ليك أدهم.
انتشى داخله، وهتف وهو يطوي المظروف ليضعه في جيب بنطاله الجينز:
-من يد ما نعدمهاش.
أشار له "مهاب" بعدها لينصرف وهو يأمره:
-يالا من هنا، مش عايز حد يشوفك.
طأطأ رأسه قائلًا وهو يلوح بيده في الهواء ليحييه:
-حاضر.
ظل "مهاب" محتفظًا بتعابيره القلقة بالرغم من ذهاب هذا الرجل، فلا مجال للعودة أو الخطأ إن مضى في هذا الأمر.
...........................................
نظرًا لضيق الوقت، وقلة العمالة الخبيرة، تعذر عليها توفير مربية أخرى جديدة ومتمرسة في مجالها، كبديلة عن تلك التي اعتذرت عن العمل، ورغم إرســال صغيرها إلى أبيه ليمكث معه بضعة أيام، إلا أنه أعاده إليها لانشغاله هو الآخر بواحدٍ من المؤتمرات التي تتطلب سفره للخارج. كعادته جلس "أوس" على الأريكة الجلدية ذات الحجم المتوسط، ينظر بتأمل –وفي صمت- إلى ما أحضرته والدته من معدات وأدوات طبية لم يكن قد رآها سابقًا. شعر بالعطش، وحرقة طفيفة في جوفه، فمد يده ليمسك بكوب الماء، حتى يرتشف منه القليل. غص الماء في حلقه حينما فتح الباب فجأة، لذا سعل، وارتجفت يده، فسقط الكوب، وتناثر محتواه على بنطاله ذي اللون الزيتوني فابتل غالبيته.
انزعج "أوس" لأنه تسبب دون قصدٍ في هذه الفوضى، وقد يتلقى التوبيخ لطيشه، ومع ذلك لم تكن والدته على نفس القدر من الضيق، اندفعت تجاهه، وجثت على ركبتها أمامه بعدما أجلسته وهي تبتسم، مدت يدها لتمسح على وجنته بنعومةٍ، ثم خاطبته في وديةٍ:
-حبيبي، متخافش، مافيش حاجة حصلت.
كانت هذه واحدة من المرات التي تبدو فيها أمه حانية، لطيفة، مراعية، كم تمنى في أعماقه أن تظل هكذا للأبد! نهضت من جلستها غير المريحة، وقالت وهي تشير بيدها نحو غرفة جانبية صغيرة ملحقة بمكتبها:
-أنا هجيبلك شورت تاني نضيف بدل ده...
ما لبث أن بدت نبرتها شبه محذرة وهي تختتم عبارتها:
-بس ما تتحركش من مكانك وما تلعبش في حاجة.
هز رأسه في طاعة، فداعبت رأسه في لطافةٍ، واتجهت إلى الغرفة الأخرى، ليبقى "أوس" جالسًا على الأريكة، سرعان ما تحولت عيناه إلى الباب عندما أطل منه أكثر من يبغض وهو يدفع أمامه عربة التوأم. ضاقت نظراته، وزم شفتيه في عبوس صريح. لم يقل حال "ممدوح" عنه، كان مستاءً ومتأففًا لرؤيته هو الآخر، شتت بصره الحاد عنه ليلصق بشفتيه ابتسامة مصطنعة مخاطبًا زوجته بنبرة مرتفعة نسبيًا:
-حبيبتي.
تفاجأت "تهاني" بوجوده، وخرجت إليه متسائلة في دهشة:
-"ممدوح"، إنت بتعمل إيه هنا؟
على حسب ما رتب كلاهما، كانت الرضيعتان تمكثان بصحبة إحدى المربيات في مكانٍ قريب من المشفى طوال فترة النهار، إلى أن تفرغ "تهاني" من عملها، فتذهب إليهما، وتأخذهما إلى المنزل، لذا ظهرت آثار المفاجأة على ملامحها حينما وجدتهما مع زوجها، تدلى فكها للأسفل للحظةٍ، قبل أن تستجمع نفسها وتتساءل بصوتٍ لا يخلو من الدهشة:
-إنت جايب البنات معاك؟ إيه اللي حصل؟
تنهد في سأمٍ، وأجابها:
-اعتذرت ومجاتش.
تعقدت تعبيراتها متسائلة باستغرابٍ قلق:
-ليه؟
أجابها وهو يدفع العربة أكثر للداخل:
-عندها دور برد شديد، وخايفة لأحسن تعدي البنات.
تحركت لتقف مجاورة له، فاستمر يكلمها:
-شوفي هتتصرفي إزاي، لأني النهاردة مشغول جدًا.
منحت الرضيعتين نظرة حنون وهي ترد:
-حاضر.
التفت "ممدوح" ناظرًا بنظرة قاتمة إلى "أوس"، وصل مغزاها إلى الصغير، قبل أن يدير رأسه متسائلًا في صوتٍ خافت:
-هو ابنك هيقضي اليوم معانا؟
أجابته وهي تهز كتفيها:
-ما أبوه سافر مع مراته، ومش هينفع يفضل لواحده.
برطم "ممدوح" في همهمة غير مسموعة:
-أه طبعًا، مصلحته أهم.
من جديد ركز انتباهه مع "تهاني" عندما أضافت في لهفة أمومية:
-وبعدين هو وحشني، أنا بقالي كام يوم ماشفتوش، ومصدقت إن "مهاب" وافق يخليه معانا فترة.
قال على مضضٍ، وبابتسامة سخيفة:
-وماله.
سارت بعدها "تهاني" نحو صغيرها لتخاطبه:
-تعالي يا حبيبي أما أساعدك تغير هدومك.
وكأن في ذلك إهانة فجة إليه، رفض عونها، واجتذب منها السروال صائحًا في تذمرٍ:
-أنا كبير، وبعرف لواحدي.
نظرت له بدهشةٍ قبل أن تقول باسمة:
-طبعًا، إنت كبير، بس لو احتاجت أي مساعدة أنا موجودة.
بنفس التجهم الشديد قال وهو لا ينظر إليها:
-مش عاوز.
ثم أكمل مشيه المتعجل نحو الغرفة الجانبية ليبدل ثيابه بالداخل، وهذا الشعور الحانق يستعر في صدره، ليس لأنه يبغض زوج أمه فقط، بل لأنه على وشك معايشة شعور الإهمال والإقصاء جانبًا.
.................................................
في تلك الأثناء، دار أحدهم حول محيط غرفة المكتب بضعة مرات ليتأكد من وجود جميع أفراد الأسرة معًا، ما إن تأكد من اجتماعهم، وبقائهم بالداخل لوقت لا بأس به، حتى تلفت حوله ليضمن عدم متابعة أي شخص لما هو على وشك القيام به. اعتلى ثغره ابتسامة مغترة وهو يُحادث نفسه بعزمٍ:
-حلو أوي، الباشا موصيني أظبط كل حاجة، ولو اللي طلبه اتنفذ بالملي هبقى راجله ودراعه، وساعتها الدنيا هتزهزه، وهنول الرضا.
تحمس كثيرًا لأداء مهمته المنوط بها، فتوارى عن الأنظار مترقبًا اللحظة المناسبة للتسلل إلى الداخل، والتخلص من الجميع.
...............................................
أكثر ما كان يستثير أعصابه، ويستفزه، هو رؤيته لوالدته تتمرغ في أحضان ذلك الغريب عنه بكل هذا الخنوع والإذلال، خاصة حينما يتعامل معها بقدرٍ من القسوة الممزوجة بالإغراء، وكأن في ذلك نوعًا من الإغواء لها. من فرجة الباب المواربة شاهد "أوس" أمه وهي تستند بمرفقيها على صدر "ممدوح"، والأخير يطوقها من خصرها بذراعيه، ليلصقها به أكثر، ضحكت في دلالٍ، قبل أن يأتي صوتها معترفًا، ونظرات العشق تنير حدقتيها:
-أنا حاسة إني في حلم جميل، كل اللي بحبهم حواليا...
ثم طافت بنظراتها الشغوفة على كل فردٍ على حدا، وكأنها تخصه وحده بالكلام:
-إنت، و"أوس"، و"بيسان"، و"ليان".
ما لبث أن غلف صوتها رنة من القلق عندما أكملت:
-خايفة أفوق من الحلم ده على كابوس.
توجس خيفة أن تكون قد استشعر ما رتب له في وقت سابق مع رفيقه لتوريطها فيما لم ترتكب، حاول أن يتسلح بهدوئه، وقال وهو يرفع يده ليمسد على رأسها:
-ماتقلقيش طول ما أنا جمبك يا حبيبتي.
ظلت على توترها وهي تسترسل بأريحيةٍ:
-إنت عارف صاحبك، مش بالساهل نديله الأمان، وخصوصًا إننا عارفين كل حاجة عنه، وهو عاوز يفضل بصورته التانية المثالية قصاد مراته.
التوى ثغره معلقًا:
-مسيرها تعرف حقيقته.
وافقته الرأي قائلة:
-أيوه، معاك حق، هو ما يقدرش يفضل الملاك الطاهر كده كتير.
هز رأسه مؤيدًا جملتها، وزاد عليها بنزقٍ ندم عليه لاحقًا:
-وبعدين "مهاب" بيعمل اللي بنصحه بيه، وهو دلوقتي محتاجني.
ارتابت في قوله، وتساءلت بعينين مستفهمتين:
-ليه؟
تعلل كذبًا بحجة رجا أن تنطلي عليها:
-يعني عاملين سمعة كويسة هنا، وناس كتير بتثق في شغلنا.
وقبل أن تفكر في استجوابه أكثر، طلب منها في نبرة معاتبة ليشعرها بالذنب:
-أنا مش عايزك تفكري فيه، على فكرة ده بيزعلني، وأي راجل مكاني بيضايق من كده.
وقعت في فخ خدعة انزعاجه، وهتفت في توترٍ:
-حبيبي وأنا مقدرش على زعلك أبدًا...
ثم بررت له في صوتٍ مليء بالأسى:
-بس غصب عني لما بفتكر سنين شـــذوذه، وقرفه معايا، وإزاي قدرت استحمل ده كله علشان أفضل جمب ابني، كل ده بيأثر فيا.
نظر لها في صمتٍ، فحاولت تبديل الأجواء المشحونة بأخرى رومانسية حالمة، فشبت على قدميها، ورفعت ذراعيها لتقوم بالتعلق بعنقه، رفعت ذقنها كذلك، وقبلته من وجنته قائلة:
-وفي الآخر ربنا عوضني بيك.
لم تلن ملامحه، واستمر مدعيًا انزعاجه الزائف، فقامت بتقبيل الوجنة الأخرى وهي تداعبه بهذا اللقب اللطيف:
-يا أبو البنات!
لئلا يبدو متشددًا، أرخى في قسماتها، ومنحها ابتسامة راضية قبل أن يخبرها:
-ما تفكريش في اللي فات.
هزت رأسها مستجيبة له، فاستغل الفرصة ليسألها في مكرٍ:
-صحيح عملتي إيه في التحاليل اللي جبتهالك؟
أجابته بتلقائيةٍ، ودون أدنى شك في نواياه:
-لسه هراجعهم يا حبيبي.
رفع حاجبه للأعلى وعاتبها بسؤاله:
-إنتي مش واثقة فيا ولا إيه؟
في التو أخبرته، وكأنها تستنكر سوء ظنه بها:
-معقولة، ده أنا أسلملك حياتي وأنا مغمضة.
لحظتها فقط شدد من ضمه إليها، ليحني رأسه عليها قاصدًا تقبيل جبينها وهو يخاطبها:
-هو أنا حبيتك من فراغ؟
استمتعت بلحظة قربهما الدافئة، ليتبع ذلك كلامه شبه الجاد، وهي لا تزال تحت تأثير حصار العواطف:
-وقعي عليهم واختميهم خلينا نسلمهم ونروح بيتنا.
حتى يقضي على ترددها، لجأ إلى حيلته الرخيصة في اللعب على مشاعرها، فمال على أذنها وهمس لها بحرارةٍ ألهبت بشرتها:
-نفسي أخدك في حضني.
معظم ما قاله استثار دواخلها، فاشتعلت جذوة الحب ببواطنها، وتحرجت من احتمالية رؤية أحدهم للحظات التقارب الحميمي بينهما، بالكاد أبعدته عنها وقالت في شيءٍ من الارتباك:
-"ممدوح"، احنا في المكتب، أي حد ممكن يشوفنا، شكلنا مش هيبقى حلو خالص.
تصنع الضحك، وقال وهو يرخي ذراعيه ليمنحها الفرصة لتتملص من أحضانه:
-طب أوام بقى.
قالت ممتثلة لطلبه وهي تدور حول المكتب لتنهي توقيع هذه الأوراق:
-حاضر.
متابعته في الخفاء لما يجري بينهما جعل شعوره بالنقم والغضب يتضاعف، تراجع ليبدل سرواله في حنق، وهو يتمتم بلا صوتٍ:
-أنا بكرهكم كلكم، بكرهكم!
أولاهما ظهره، وحاول سد أذنيه عما يسمع من عبارات غزل، وملاطفات ليست عفيفة، آملًا أن يتوقفا عن ذلك ويدركا وجوده، وإن كان غير مرغوب فيه، انتفض بتأهبٍ في وقفته عندما جاء صوت والدته من خلفه ليخاطبه:
-"أوس"، حبيبي، أنا رايحة مع عمو "ممدوح" نخلص شوية شغل، خد بالك من إخواتك لحد ما نرجع.
لم ينظر نحوها، وكأنه يظهر لها نوعًا من الخصام لعدم مراعاتها لمشاعره، فظنت أنه يتدلل عليها، لذا لم تلح عليه، وتركته لتنصرف، واضعة في أمانته شقيقتيه التوأم.
............................................
في حركات دائرية، ذرع الغرفة الجانبية جيئة وذهابًا، محاولًا طرد ما امتلأت به ذاكرته من مشاهد غير محببة إطلاقًا إليه تجمع بين والدته وزوجها البغيض. كوسيلةٍ متاحة أمامه للتنفيس عن انفعالاته المكبوتة، ركل الأرضية بعصبية، وأطلق لعنة خافتة وهو يكز على أسنانه، انتبه لصوت البكاء الخافت لإحدى شقيقتيه، فنفخ في ضيقٍ قائلًا:
-وأنا المفروض أعمل إيه؟
بتكاسلٍ وتأفف تحرك تجاه عربة الأطفال المرابطة في زاوية الغرفة، نظر إلى الرضيعة "بيسان" في حدةٍ، وخاطبها بصوتٍ خفيض، لئلا يوقظ الأخرى:
-ماتعيطيش، دلوقتي ماما هتيجي تشوفك.
جذب أنفه هذه الرائحة الغريبة، والمزعجة، فدار برأسه محاولًا تبين مصدرها، سار بتباطؤ ملحوظ في محيط عربة الأطفال، لحظتها فقط توقف عن المسير، وتجمدت نظراته على ألسنة اللهب المندلعة في الستائر المعلقة بالجانب الآخر من الغرفة، انقبض قلبه وانخلع، أحس بالارتعاب الشديد مع ارتفاع الألسنة للأعلى، وكأن هناك ما يستثيرها لتزداد وهجًا وانتشارًا.
ببطءٍ مشوب بالخوف تراجع للخلف، وعيناه لا تزالان معلقتان باللهب المتراقص في قوةٍ، لم يرمش، ولم يصرخ، بل واصل التراجع إلى أن التصق ظهره بعربة الأطفال، لحظتها فقط انحنى ليجلس مجاورًا لها، ويده امتدت لتمسك بالعجلة المطاطية، شدها بكامل طاقته ليدفعها خلفه، كأنما يحاول بطريقته حماية من فيها. بقيت نظراته متعلقة بالألسنة المتوهجة، إلى أن غطى الدخان كامل الغرفة، فاختنق صدره، وراح يسعل بقوةٍ جراء استنشاقه لكميات منه، كان يظن نفسه قادرًا على مقاومته والصمود حتى تعود والدته؛ لكن جسده خانه، واستسلم مع أول اختبار حقيقي وضُع فيه قبيل الصدفة لاختبار مدى تحمله.
......................................................
اعتصر ألم وبأس لا يحتمل قلبها حينما وصلت إليها الأنباء غير المحمودة باندلاع النيران في غرفة مكتبها، خاصة مع تأكدها من احتجاز أطفالها الثلاثة بين جدران الحجرة. هرولت "تهاني" كالمجنونة في أروقة المشفى لتصل إليهم، وكل ما فيها يدعو الله أن ينجيهم، وصل صراخها إلى الحشد المجتمع أمام المكتب الغارق في الدخان:
-ولادي جوا، الحقوهم!
حاولت تجاوزهم والمرور وهي تتوسل الحاضرين بصراخها الفزع، ودموعها تنهمر بغزارة:
-حد ينجدهم، عيالي محبوسين جوا.
راحت تلطم على صدغيها في حرقة وهي لا تزال على عويلها:
-يا ريتني ما خرجت وسبتهم لواحدهم!
مدفوعة بعاطفتها الأمومية حاولت بقوة اختراق الصفوف لبلوغ الغرفة؛ لكنهم حالوا دون وصولها، ومنعوها من إلقاء نفسها في التهلكة، انتبهت لصوت أحدهم حين تكلم بشكلٍ عابر:
-كل حاجة ولعت جوا.
كان كمن سكب الوقود على النار بكلماته هذه، حيث برزت عيناها الحمراوين بشدة، فالتفتت إليه، واندفعت تجاهه لتمسك به من تلابيبه، صرخت في وجهه وهي تهزه بغضبٍ:
-إنت بتقول إيه؟ ولادي لسه جوا، وعايشين!!!
نبرة "ممدوح" المفطورة صدحت في الأرجاء وهو ينادي من بعيد:
-بناتي، "ليـــــان"، "بيســــان"!
ظهوره في هذه اللحظات الحرجة كان كشعاع من النور بزغ في كهف مظلم، تركت "تهاني" ذلك الرجل الذي تشاجرت معه لتذهب إليه، أمسكت به من ذراعيه، وصاحت في بكاءٍ يقطع نياط القلوب:
-عيالي يا "ممدوح"، الحقوهم، هما جوا!
من هول الصدمة تخشب في موضعه، عاجزًا عن إبداء أي ردة فعل، وكأنها تخاطب صنمًا لا حياة فيه، تجمدت عينا "ممدوح" على الغرفة المحترقة، لا يصدق ما تبصره عيناه، أليس من المحتمل أن يكون ما يراه الآن مجرد كابوس وقتي سينتهي باستفاقته؟ هز رأسه في ذهول غير مصدق ما يحدث، عندما لم تجد منه أدنى استجابة بحثت عمن ينجدها، لمحت "مهاب" يقترب من الحشد، فلكزت من حولها لتصل إليه، وقفت قبالته، وصرخت في وجهه تستجديه:
-الحق ابننا، هو موجود جوا.
حدجها بهذه النظرة القاسية التي لا يمكن نسيانها مطلقًا، حاولت الإمساك بذراعه لتستعطف قلبه المتحجر ومشاعره التي لا تتأثر بسهولة؛ لكنه صدها، ودفعها قبل أن تمسه قائلًا بنبرة عدائية:
-دلوقتي بتقولي ابنك؟
زادت الرجفات بجسدها من طريقته الجافة في التعامل مع الأزمة المخيفة، لم تعد تستطيع السيطرة على حالها، ولا فهم ما يدور، ما ضاعف من انقباض قلبها وتمزقه قوله الصادم:
-اعتبريه مات!
شهقت في فزعٍ كبير، ووضعت يدها على فمها لثانية، ثم هدرت في استنكارٍ رافضة التصديق للحظة لما فاه به:
-إنت بتقول إيه؟
أمسك بها من ذراعها، وشدد من قبضته عليه، فأحست بقساوته على جسدها الواهن، نظرت إليه بعينين زائغتين، فقال بلهجةٍ لا تبشر بخيرٍ:
-بعد اللي حصل ده وإهمالك فأنسي إنه موجود.
وكأنه انتزع بغتةً، وبلا مقدمات ذلك الجزء النابض من بين ضلوعها، ليتركها في جحيم مستعر بقراره الذي لا رجعة فيه، اندفعت ناحيته في جنون، فتراجع للخلف ليتفاداها، فتعثرت وانكفأت على وجهها، لم تعبأ بالسقطة المهينة، والتفتت باحثة عنه، زحفت تجاهه، وتعلقت بساقه لتستجديه:
-ماتقولش كده يا "مهاب"، دي مش غلطتي، أنا أصلًا معرفش إيه اللي حصل!
ركلها بقدمه ليتحرر منها، ثم قبض على فكها بين أصابعه، أرسل لها هذه النظرة النارية قبل أن يخبرها وهو يطالعها من علياه:
-الأم اللي تهمل في رعاية ماتستحقش تكون أم من الأساس!
من بين الألم الفتاك الذي يعصف بذقنها هتفت:
-لأ متقولش كده، أنا ...
دفعها بخشونة للخلف مقاطعًا إياها بتهديدٍ صريح:
-إنتي هتتحاسبي عن كل حاجة يا "تهاني".
تأوهت من الوجع، واستدارت برأسها باحثة عن زوجها ليغيثها، فنادته:
-"ممـــدوح"، الحقني!
جحظت عيناها على الأخير عندما وجدت "مهاب" يسحبه معه بعيدًا وهو يكلمه في شيءٍ من المواساة:
-تعالى معايا يا صاحبي.
شيعتهما بنظرات مذهولة، تعج بسحب من العبرات، ما إن تحركا بعيدًا عن الغرفة، حتى راح دمعها يسح بغزارة غير مسبوقة، تولاها النشيج الممزوج بالصراخ والعويل، ويدها تشير إليهما بالتوقف:
-لأ، ماتسبوش ولادي، هما موجودين جوا