اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم منال سالم


الفصل الثامن والثلاثون
(مصالح مشتركة)
لا شك أن الوقوع في فخ أكذوبة الحب العميق أعمى قلبها وبصيرتها، بل وحجب عقلها الواعي، فلم ترَ الوجه الحقيقي لما تخفيه النفس البشرية، استغرقها الأمر عدة لحظات حتى تستوعب جدية ما يمليه عليها الطبيب من حقائق أكيدة، في البداية رفضت تصديقه، إلى أن أثبت لها بالبراهين والأدلة كلامه. أجهشت بالبكاء المرير، بل إنها بكت في حرقةٍ كما لم تبكِ من قبل، انهارت صارخة في ذهول مستنكر:
-طب ليه عمل معايا كده؟ ليه؟
عجز عن إيجاد التفسير المناسب لتصرفه بهذه الطريقة الغامضة في موضوع شائك كهذا، وأخبرها بقدرٍ من الحرج:
-إجابة السؤال ده يا هانم مش عندي!
انتفضت قائمة من موضع جلوسها، وطرقت بعنفٍ على سطح مكتبه وهي تطلق وابل تهديداتها:
-أنا هكشف حقيقته لبابا، أنا هدمره زي ما ضيعني.
نهض بدوره هو الآخر، وأشار لها بيده مخاطبًا إياها برويةٍ:
-من فضلك يا "ناريمان" هانم تهدي، العصبية مش حلوة عشانك.
نظرت له شزرًا، وتجاهلته، لتخرج بعدها من حقيبتها منديلًا قماشيًا كفكفت به دموعها المنسابة، لتستعد للمغادرة. لحق بها الطبيب قبل أن تنصرف، ورجاها:
-مش هينفع أسيبك تمشي وإنتي بالحالة دي.
أوقفته بإشارة صارمة من عينيها أتبعها قولها الآمر:
-لو سمحت ماتدخلش!
اضطر أن يمتثل بخنوعٍ لرغبتها، وتركها ترحل وهو متوجس خيفة من تطورات كشف ما لا يجب معرفته. صفقت "ناريمان" باب غرفة الطبيب خلفها، ولسانها يتوعد زوجها المخادع:
-هتشوف يا "مهاب"، مين هي "ناريمان شوقي"!
...........................................
كان أول ما قامت به بعد خروجها من عيادة الطبيب النسائي الشهير هو التوجه إلى المقر الرئيسي لإدارة أعمال والدها لإطلاعه على هذه الكارثة، لم يكن الأخير متواجدًا، فانتظرت قدومه في مكتبه بصبر فارغ، عاد بعد وقتٍ ليس بقليل، بعدما انتهى من جولة تفقدية لآخر مشاريعه الاستثمارية في مجال الطب. اندهش السيد "شوقي" من مجيئها الغريب، وقام بتأجيل جدول أعماله للمكوث وتبادل الهموم معها، تفاجأت "ناريمان" بشدة عندما وجدته على علمٍ كامل بما أصابها، وهتفت في استهجانٍ متعاظم، وكأنها لا تصدق اشتراكه فيما اعتبرته جريمة نكراء:
-يعني كنت عارف يا بابا بده؟
في هدوءٍ كبير، وبلا أدنى توتر أخبرها وهو يسترخي في مجلسه:
-أيوه، وكنت متوقع إن في مضاعفات تحصل، "مهاب" كان صريح معايا من الأول، ووعدني هيعمل اللي يقدر عليه علشان تعدي من الأزمة دي علي خير.
صاحت في استنكار جلي، وقد تشربت بشرة وجهها بحمرة الغضب:
-بس أنا كنت رافضة، وقولتلكم الكلام ده.
اعتدل في جلسته المسترخية لينظر إليها بثباتٍ قبل أن يصرح لها:
-وأنا صممت، لأنه كان في خطورة عليكي.
ظلت على استنكارها الناقم منه:
-تقوموا تتحدوا سوا وتحرموني من حقي؟
رد باقتناعٍ تام:
-طالما هتأذي نفسك فأنا دوري أختار اللي يحافظ على حياتك ويحميكي.
في ألم متعاظم بداخلها، ينخر ثنايا قلبها علقت عليه:
-وأنا دلوقتي إيه؟ واحدة مش موجود فيها أهم حاجة بتميزها!
أظهر نوعًا من الإشفاق لرؤيتها على هذه الحالة المهتاجة، فقام واقفًا، واتجه إليها ليضع يديه على منبتي كتفيها قائلًا في صوت رزين، وكأن لغة العقل والمنطق هي التي لا تتحدث:
-يا حبيبتي إنتي باصة للموضوع من ناحية المشاعر والعاطفة، لكن احنا غيرك بنبص ليها بشكل عملي وواقعي، لأن دي حياتك، وهي اللي تهمني أكتر من أي حاجة تانية.
أحست بالخذلان ناحيته، ولامته بشكلٍ صريح:
-مهما قولت من مبررات، مش هقدر أصدق إنك توافق على ده.
حرك يديه للأعلى قليلًا ليضغط برفقٍ على كتفيها قائلًا في لطافةٍ:
-حبيبتي، إنتي جوهرة حياتي، وكل ما أملك سايبه عشانك، كون إني شايفك في الحالة دي بيضايقني أكتر.
نكست رأسها قائلة في حزنٍ عميق:
-من حقي أزعل وأتقهر.
للمرة الأولى يرى ابنته على هذه الحالة البائسة، فتعاطف معها بقوةٍ، وتخلى عن أسلوبه الجاف في التعامل، ليرد عليها:
-هوني على نفسك.
مسحت بظهر كفها دموعها، وقالت فجأة بعزمٍ غريب:
-أنا لازم أسافر لـ "مهاب"، وأعرف منه ليه خبى عليا الحقيقة، وأرجوك ما تمنعنيش!
لم يعارضها، وأبدى موافقته كنوعٍ من الدعم لها:
-ماشي، طالما ده هيريحك.
وكيف لها أن تجد الراحة وقد فقدت ما لا يمكن توضيعه مهما امتلكت من كنوز الدنيا وثروتها؟!
...............................................
استرعى انتباهه، بل الأحرى أن يقال كامل اهتمامه أثناء حضوره لإحدى الندوات الطبية المقامة خارج البلاد، هذه الثرثرة العابرة –وغير الحذرة- لأحد أفراد الطاقم الطبي ممن يتشارك معهم الطاولة، حيث تفاخر ذلك الشاب النزق في تفكيره بمشاركته في إجراء العملية الجراحية لابنة ذلك الطبيب الثري الذي اقتحم عالم رجال الأعمال وصار واحدًا من رواده، معتقدًا بعدم معرفة أحدهم لهذا الشأن، وبالتالي قد ينال استحسان وإعجاب من حوله حينما يظهر لهم مدى براعته في التعامل مع الأزمة الطارئة.
لم يبدُ الأمر غريبًا على "ممدوح"، فقد حاول استدراجه في الحديث ليعرف أكثر عن تفاصيل ما جرى ليتأكد من ظنونه، على ما يبدو لم يمتلك هذا الشاب قدرًا من الفطنة ليحاذر في انتقاء ما يقوله بعناية، وبالتالي ظفر "ممدوح" بكنزٍ من المعلومات القيمة التي اِدَّخرها لاستخدامها وقت الحاجة. وها قد أتته اللحظة التي يستغلها فيها عندما تعقدت الأمور وصارت على المحك بعد حادثة المربية الأخيرة والتي شهد عليها الصغير "أوس".
اتخذ "مهاب" موقعًا معاديًا لرفيقه، ولم يتهاون في التعامل معه، لهذا أراد "ممدوح" تهديده بشكلٍ ضمني، ليعيد العلاقات بينهما إلى ما كانت عليه، فاستطرد وهو يمد يده تجاه اللافتة الخشبية الموضوعة على سطح المكتب، والمدون عليها اسم وطبيعة مهنة رفيقه بالمشفى ليعبث بها:
-في كلام سمعته كده طياري إن عملية مراتك قبل ما تتجوزها حصل فيها شوشرة.
صدمه تطرقه لهذا الأمر، وحملق فيه مدهوشًا، قبل أن ينفيه تمامًا، كأنما لم يحدث:
-مش مظبوط الكلام ده!
وليبدو أكثر حزمًا وجدية تابع في لهجة غير متساهلة مطلقًا:
-واللي نقل الكلام الكدب ده هيتحاسب.
التوى ثغر "ممدوح" ببسمة صغيرة، مستمتعًا برؤيته على هذا الكم من التوتر، نظر له مليًا، قبل أن يضع اللافتة مكانها ليخاطبه ببرودٍ:
-اهدى يا "مهاب"، ما الموضوع اترمخ عليه، وعدى خلاص، وبقيت حرمك المصون...
ثم غمز له بطرف عينه، وتابع في شيءٍ من التهديد الخفي:
-ولا خايف لأحسن تعرف إنك شلت جزء من الرحم؟ ساعتها هتبقى المشكلة اللي بجد!
جملته المنطوقة عن عمدٍ، والتي ظن أنه متفاخر للإدلاء بها، وكشف المستور، كانت مفتاح نجاته من الهــــلاك، إذًا من نقل إليه المعلومة أعطاه إياه منقوصة، لذلك استراح داخله، ومع هذا ظل "مهاب" على جديته الصارمة فأمره:
-"ممدوح" قفل على السيرة دي، أنا مش عايز مشاكل مع "ناريمان"....
وليبدو أكثر إقناعًا تعلل كذبًا:
-وخصوصًا إنها حامل...
وكأن كلمته الأخيرة وقعت على رأسه كالمطرقة، حيث ذُهل كليًا، وردد في غير تصديقٍ:
-حامل؟!
أكد له بجدية شديدة لئلا ينكشف أمره:
-أيوه حامل في الأول، ولا إنت شاكك في قدراتي ولا إيه؟
ظلت علامات الصدمة واضحة على تعابيره، وقال وهو يفرك جبينه:
-لأ، أنا واثق إنك تقدر تجيب بدل العيل عشرة، بس إنت معرفتنيش بده.
تقوس فمه في امتعاضٍ قبل أن يحرجه بوقاحةٍ:
-لأنه مايخصكش!
ارتفع حاجبه للأعلى بغيظٍ، فتجاهل "مهاب" ما بدا على وجه رفيقه، واستمر يوبخه:
-وبعدين كفاية أوي اللي حصل منك إنت ومراتك في بيتي آخر مرة.
لم يبقَ طويلًا على بروده، بل بدأ غليل نفسه يطغى عليه، ورد بتحفزٍ:
-وعرفت ألم الدور، ومحدش حس بحاجة.
في شيءٍ من التحذير علق عليه:
-بس مش كل مرة تسلم الجرة، مش بيقولوا كده في الأمثال؟!!
استهزأ به "ممدوح" بقوله السخيف:
-معقولة، بقيت تخاف من "تهاني"؟ قلبك ضِعف ولا إيه؟
كاد أن يلزمه حده بجملة صارمة لولا أن اقتحمت "ناريمان" المكتب فجــأة بظهورها غير المخطط له، لتحل الصدمة المشوبة بالتوتر على وجه "مهاب"، كان في مأزقٍ خطير، كل شيء بات مهددًا بالكشف عنه والانهيار. رغم الحنق المسيطر إلا أنه بذل الكثير من الجهد ليضبط انفعالاته، ولا يظهر تأثره بحضورها الغريب. نظرت "ناريمان" إلى الجالس مع زوجها، وخاطبته في لهجة رسمية، عكست إلى حدٍ كبير عن ضيقها لتواجده في هذا الوقت تحديدًا:
-دكتور "ممدوح"! سوري مكونتش أعرف إنك هنا.
تحرك الأخير تجاهها بعدما نهض من مكانها ليصافحها قائلًا بوديةٍ زائدة، وهذه الابتسامة اللبقة تزين محياه:
-"ناريمان" هانم، ده من حسن حظي إني أشوفك.
لم يترك كفها بل رفعه إلى فمه ليقبله متابعًا كلامه إليها:
-مبروك.
نظرت له باستغرابٍ حائر، فتدخل "مهاب" على الفور هاتفًا بصوت لا يخلو من الارتباك:
-حمدلله على السلامة يا حبيبتي...
جذبها ناحيته ليعانقها، وتابع في عتابٍ رقيق:
-مش كنتي تعرفيني إنك جاية علشان أروح استقبلك بنفسي؟
تجاهلت ما فاه به لتسأله بتحفزٍ واضح:
-فاضي شوية؟
ألصق بثغره ابتسامة عذبة وهو يخاطبها:
-ولو مش فاضي يا حبيبتي ألغي كل حاجة علشانك.
ثم التفت برأسه موجهًا كلامه إلى رفيقه، ويده تطوق زوجته من خصرها، ليظهر انسجامه معها:
-معلش يا "ممدوح"، المدام رجعت، خلينا نكمل شغلنا بعدين.
نظر إلى ما يفعله بتشككٍ، وقال بتهذيبٍ:
-طبعًا، خدوا راحتكم.
ثم دنا من "ناريمان" ليصافحها مجددًا، وكأنه بذلك يتحدى رفيقه بصورة خفية، ركز نظره معها هاتفًا:
-فرصة سعيدة يا هانم.
سحبت يدها من بين أصابعه الضاغطة عليها قائلة:
-ميرسي.
قبل أن يشيح ببصره بعيدًا أضاف في مكرٍ مريب:
-وأنا واثق إننا هنتقابل دايمًا.
لم يفهم "مهاب" ما الذي يرمي إليه بطريقته المراوغة هذه، فقد استشعر بقوةٍ نواياه غير المحمودة تجاهه، خاصة بعد حوارهما السابق، لهذا فكر في التصرف بحزم معه، لئلا يترك له المجال ليفسد عليه حياته بأي تهديداتٍ محتملة.
....................................................
قيل على لسان أحدهم أن من يتعذب يَــتعذب وحده، لا يشاركه آخر أوجاعه أو آلامه، لم تهنأ "ناريمان" للحظة منذ معرفتها بمأساتها، كانت تعاني في كل وقت تتذكر فيه أنها حُرمت من شيء لن تتمكن أبدًا من استرداده مهما أنفقت من ثروات وأموال. أفرغت كامل غضبها على زوجها بعدما أصبح الاثنان بمفردهما، ألقت عليه كل اللوم، وكل الاتهامات، رأت أنه المسئول عن سلب مكمن الأمومة منها، كورت قبضة يدها، ولكزته في كتفه صارخة به:
-إنت قضيت على حلمي.
رغم أن ضربتها كانت قوية إلا أنه تريث في إبداء أي ردة فعل، فهذه المسألة تحديدًا تحتاج لضبط النفس، لاستعادة زمام الأمور. نظر إليها بعينين حزينتين، وقال بلهجةٍ حاول أن يجعلها متأثرة، متعاطفة معها، ليتمكن من خداعها، وإجبارها على الاقتناع بحججه الواهية:
-صدقيني، أنا عملت كل اللي أقدر عليه عشان أنقذ حياتك...
ادعى اختناق صوته وهو يتابع:
-غير كده كنت خسرتك للأبد...
أغمض عينيه للحظةٍ قبل أن يفتحهما ليقول مع تنهيدة ثقيلة:
-وأنا مش متخيل حياتي بدونك.
نظرت إليه من بين دموعها بلومٍ شديد، ورأى ذلك جليًا في تعبيرات وجهها الناطقة بمدى عمق تأثير خسارتها عليها، حاول أن يلطف من الأجواء، فقال والتوتر ظاهر في نبرته:
-حبيبتي كل حاجة سهل تتعوض، إلا إنتي!
هل حقًا يصدق عبارته السخيفة تلك؟ على ما يبدو لم يكن موفقًا في اختيارها، لهذا شعر بتخشبها، قبل أن تنتشل يديها من راحتيه، زرَّ ما بين عينيه ناظرًا إليها بترقبٍ، فرفعت ذراعيها للأعلى، ودفعته من صدره بقوة وهي تسأله في صوتٍ مليء بالاتهام:
-وهخلف إزاي؟ هيبقى عندي عيال منين؟
حاول التعامل مع عصبيتها المبررة بكل تعقلٍ وحكمة، فاقترب منها قائلًا بتوسلٍ:
-أرجوكي إهدي.
رفضت لمساته، وصرخت فيه:
-سيبني، متقربش مني..
تجمد في موضعه، ونظراته تتابعها، تلفتت "ناريمان" حولها باحثة عن حقيبة يدها، وصوتها لا يزال يصرخ:
-أنا عاوزة أمشي من هنا، أنا مخنوقة.
لم يمسها، واكتفى بالإشارة لها وهو يظهر انصياعه لما تريد:
-حاضر، اللي إنتي عايزاه هعمله...
ظلت تحدجه بهذه النظرة النارية، ومع ذلك قابلها بكل محبة وود، ليخبرها في إصرارٍ معاند لها:
-بس مش هسيبك لواحدك، مقدرش أعمل كده.
انخرطت مجددًا في نوبة بكاءٍ أعنف، فما كان منه إلا أن تقدم ناحيتها، وجذبها إلى صدره، رافضًا تحريرها رغم سعيها الدؤوب للتخلص من حصاره، بعد برهةٍ بدأت تخبت مقاومتها، واستسلمت لعطفه وحنانه، فألقت برأسها على كتفه، حينئذ ضمها ليحتويها أكثر، وهمس مؤكدًا لها تمسكه بها، وإن كان بالكذب:
-كفاية إنك إنتي أحلى حاجة حصلت في حياتي.
.....................................................
نظر حوله بعينين مزعوجتين، فالبيت لم يكن مرتبًا مثلما كان في السابق، وغالبية الأشياء إما متروكة في حالة إهمال أو غير نظيفة، حتى ثيابه كانت لا تُغسل إلا مرة واحدة أسبوعيًا، فيضطر بنفسه لتنظيفها وأيضًا رعاية طفلته الرضيعة، لم يكتفِ بذلك بل كان على قدر استطاعته يزيح الغبار المتراكم هنا وهناك محاولًا جعل المنزل منظمًا. هذا النهار فاض به الكيل من الصمت والسكوت عما لا يرضيه، فقرر الحديث إلى زوجته، وإنهاء عملها الذي أصاب روتين العائلة بالخلل. انتظر عودتها ليفاتحها في الأمر، فاستطرد في لهجةٍ معاتبة:
-ينفع كده يا "فردوس"؟ البيت كله مبهدل وعاوز نضافة!
وكأنه كان ينقصها تذمره ليقضي على ما تبقى لديها من طاقة استنفذت في العمل، انفجرت هادرة به بتشنجٍ:
-أنا بني آدمة وبروح، هموت نفسي يعني؟ ولا تكونش مفكرني الخدامة اللي جبوهالك أهلك.
ضيق عينيه في استعتاب أكبر، ورد:
-الله يسامحك، بس الوضع مابقاش ينفع.
زمت شفتيها هاتفة بسخطٍ:
-أل يعني كان بمزاجي؟!
جاء رده جادًا للغاية:
-خلاص، مالوش لازمة الشغل اللي معطلك عن بيتك ده.
رمقته بهذه النظرة الهازئة المستنقصة من رجولته، قبل أن تهاجمه لفظيًا:
-ومين هيصرف علينا؟ إنت مثلًا؟!!
رنة الاستحقار الظاهرة في صوتها أحرجته، وجعلت ملامحه تغيم بشدة، فقال في ضيقٍ:
-أنا بعمل اللي ربنا بيقدرني عليه.
مجددًا سخرت منه بإهانةٍ واضحة:
-أه بأمارة ما أنا رامية البت طول النهار عند الجيران عشان ماتحوجش للي يسوى واللي مايسواش!!!
كاد يرد عليها لكنها رفعت من نبرتها لتواصل هجومها الكلامي عليه:
-يا راجل إنت ليك عين تتكلم أصلًا؟ ما تطلع من جيبك وتديني العشرات والميات؟!!
خجل من عجزه المادي، وأطبق على شفتيه مانعًا نفسه من مجاراتها في جدالها المسيء، فمنحها ذلك الأفضلية عليه لتشعر بأنها صاحبة الصوت الأعلى في هذا البيت بعدما استطاعت أن تتدبر احتياجاته بعملها، تحركت بتكاسلٍ تجاهه، حدجته بهذه النظرة القوية، ثم رفعت يدها وربتت على كتفه قائلة بتحدٍ كانت واثقة أنه لن يجرؤ على الإقدام عليه:
-يوم ما تصرف على البيت ده وتستتني زي الرجالة اللي بجد يبقالك الكلام، غير كده هو ده اللي عندي يا جوزي!
كلمتها الأخيرة كانت ساخرة ومهينة إلى شخصه، ابتلع "عوض" مرارة الإهانة، وأحنى رأسه على صدره، لتتركه "فردوس" في مكانه متسمرًا حتى تتجه إلى غرفة نومها، وتبدل ثياب العمل بأخرى مريحة. شيعها زوجها بنظراته الآسفة متمتمًا في قلة حيلة:
-هقول إيه بس غير ربنا يهديكي لحالك.
........................................................
منذ أن عاد إلى المنزل وهو شارد الذهن، ممتنع عن الكلام، وكأنه معزول عمن حوله، كان ينظر بفتور إلى زوجته، حتى طفلتيه، لم يشاركهما اللعب كما اعتاد كل يوم، فقد هبط خبر حمل "ناريمان" كالصاعقة على رأسه وأربك كافة مخططاته، حاولت "تهاني" استدراجه في الحديث ليفصح لها عما يشغل باله؛ لكنه تعلل بضغوطات العمل المستمرة، لم تحاصره كثيرًا بأسئلتها، وقدمت له هدية مغلفة لم يتوقعها منها، نظر إلى ذلك الشيء الملفوف في ورق مفضض متسائلًا:
-دي عبارة عن إيه؟
مسدت على وجنته برفقٍ، وقالت في صوت متحمس:
-افتحها وإنت تعرف.
راقبته باهتمامٍ شغف وهو يفض ورقها اللامع، لتعلق بمزيدٍ من الحماس:
-يا رب تعجبك.
تأمل ما أهدته إياه، كان إطارًا خشبيًا، موضوعًا به صورة فوتوغرافية للتوأم وهما تضحكان في براءة. أعجبته بشدة، وقال في مدحٍ كبير:
-حلوة أوي.
ابتسمت في سرورٍ لأنها نالت استحسانه، وعلقت في حيويةٍ:
-المرة الجاية نتصور كلنا سوا.
لم ينظر تجاهها، بقيت عيناه مرتكزتان على الصورة المبهجة، واكتفى فقط بالهمهمة المقتضبة:
-أكيد.
........................................
بعدما استفاقت من حالة الهياج العصبي التي سيطرت عليها لعدة أيام، واستعادت هدوئها السابق، اقترح عليها "مهاب" الانضمام إليه، والانخراط في سوق العمل، لملء الفراغ الكبير الذي يشغل معظم وقتها، في البداية اعترضت على ذلك؛ لكن مع إصراره المستمر قبلت بعرضه كنوعٍ من الإلهاء. شغلت "ناريمان" منصبًا هامًا في مشفى زوجها الاستثماري، لا يتناسب مع مؤهلاتها ولا قدراتها، مما أدى لوقوعها في أخطاء فادحة، ترتب عليها نتائج خطيرة، تسببت في تعريض بعض المرضى للأذى، ومن ضمنهم واحد من الشخصيات الهامة. اكتشف "ممدوح" الأمر، ورفض التستر عليه صائحًا بغضب، وقد ألقى بالأوراق جانبًا:
-إنت عاوزني أسكت إزاي؟ ده ممكن كلنا نروح في داهية لو اتكشفت الكارثة دي!
أبقى "مهاب" نظراته ثابتة على رفيقه، ثم خاطبه في مكرٍ:
-أومال أنا جايلك ليه؟ ما إنت اللي بتظبطلنا كل حاجة.
ضم الأخير شفتيه في تردد لا يخلو من الحنق، فواصل "مهاب" الكلام بجديةٍ:
-وبعدين اعتبرها خدمة قصاد خدمة!
انتفض ذلك العرق النابض في وجهه، وصاح معترضًا بتبرمٍ ممزوج بالسخرية، ويده تطرق بغيظٍ على سطح المكتب:
-بالبساطة دي؟ ده حتى خدمة تودي ورا الشمس!
أكد له بثقةٍ، وبتعبير هادئ مرسوم على قسماته، وهو لا يزال جالسًا باسترخاء على المقعد المواجه له:
-ما احنا في إيدنا كل حاجة، هنظبط الوضع بحيث لو حد شم خبر، يلاقوا اللي يشيل.
رمقه "ممدوح" بهذه النظرة المتشككة قبل أن يسأله من موضعه مستفهمًا:
-شكل دماغك فيها حد معين، مظبوط؟
أجابه مومئًا برأسه:
-أيوه، مافيش إلا هي!
تحفز في جلسته، وسأله:
-قصدك مين؟
بعد سكوت لحظي أجاب دون تمهيدٍ:
-"تهاني"!
انصدم بما قال، فردد بعفويةٍ:
-مراتي؟
اعتلى فمه ابتسامة خبيثة قبل أن يرد:
-هو في غيرها.
شرد بنظرته لهنيهةٍ، وكأنه يفكر في اقتراحه اللئيم، ليحتج بعدها:
-بس اللي إنت طلبه صعب!
زوى "مهاب" ما بين حاجبيه قائلًا في لهجة صريحة:
-هنضحك على بعض؟ إنت جبت أخرك منها، وعايز تخلص من الجوازة دي وتشوفلك سكة أحسن.
ادعى اهتمامه بشأنها، فقال بتحيزٍ:
-بس مش بالشكل ده، مهما كان دي أم بناتي، عايزهم يتربوا من غير أم؟
عقب عليه في تهكمٍ مستفز:
-إذا كان هما طول اليوم أعدين مع المربية، صح ولا أنا غلطان؟
وقبل أن يحتج أكثر كنوعٍ من حفظ ماء الوجه، بادر بالاقتراح المغري ليضمن التأثير عليه:
-وبعدين أنا هجيبلك أحسن واحدة تربيهم، وإنت تعيش حياتك، ده غير المميزات التانية اللي هتاخدها، وإنت عارفني يا إما برفع اللي معايا لسابع سما، أو أمحيه من على وجه الأرض.
النظرة الغامضة التي سادت وجه "ممدوح" أكدت اقتناعه بتنفيذ فكرته الشيطانية للخلاص منها، فقد كان ضعيفًا أمام وسائل الإغراء أيًا كانت نوعها، طالما أنها تخدم مصالحه الشخصية وتأتي عليه بالنفع في الأخير. ليبدو وكأنه يفكر في الأمر ادعى بعد صمته المدروس:
-طيب سيبلي الورق ده وأنا هشوف هتصرف إزاي.
اتسعت ابتسامته المنتصرة أكثر وهو يمتدحه:
-تعجبني.
صحح له مشيرًا بإصبعه قبل أن يجمع الأوراق المتناثرة هنا وهناك ليسويها:
-ما هو كله بحسابه في الآخر!
بعدئذ نهض "مهاب" من موضع جلوسه، زرر سترته، ثم مد يده ناحيته ليصافحه، كتأكيد صريح ونهائي على اتفاقهما في المضي معًا في وضع تفاصيل هذه الخطة الخبيثة، وإن كان في تنفيذها تدمير الأبرياء

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close