رواية رحلة الآثام الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم منال سالم
الفصل السادس والثلاثون
(بذرة الشـــــــرور)
بحركة اهتزازية رتيبة، ظل الصغير "أوس" يحرك ساقه اليسرى للأمام والخلف، وهو ينتظر خارج مكتب مدير مدرسته الداخلية، حيث تلتقي والدته به بعدما تم استدعائها لاستلام أوراقه لنقله من هذا الصرح التعليمي. للغرابة تفاجأ بها تدافع عنه بضراوة، وتختلق له الحجج والأعذار لتبرر سلوكياته وتصرفاته المتجاوزة، فصوتها المرتفع قد وصل إليه، وجعله على دراية بما يدور بالداخل، دون الحاجة للتواجد فعليًا معهما. لم يتوقع منها أن تفعل ذلك خاصة بعد أن ازدادت الفجوة بينهما، وأصبح تواصلهما كأم مع ابنها محدودًا ومقتضبًا، حينئذ شعر بشيء من السرور ينتعش بداخله، يا ليتها استمرت على ذلك النهج، لما صار بهذا العِناد!
تصلب في جلسته، وتوقف عن هز ساقه عندما فُتح الباب فجــأة، نظر إلى الجانب فوجد والدته تخاطب المدير في لهجة متشددة:
-أكيد مش هغلب وهلاقي لابني مكان يقدر يفهم طبيعة شخصيته، ويساعده يبقى أفضل، مش يحمله الذنب ويرميه كأنه نكرة.
جاء صوته جادًا حينما علق عليها بما يشبه النصيحة:
-اللي بنعمله ده لمصلحته، والأهم إن سلوكه يتغير، لأنه لو فضل على كده صدقيني مافيش مكان محترم هيقبل بيه.
تحدته قائلة بضيقٍ:
-هنشوف...
ثم استدارت برأسها نحو ابنها لتنظر إليه وهي تأمره:
-يالا يا "أوس" علشان نمشي.
نهض من مكانه ساحبًا معه حقيبته التي امتلأت بكافة متعلقاته الشخصية، أخذتها منه والدته، وقالت كنوعٍ من المواساة:
-معلش يا حبيبي، هما خسروك.
لم يبدُ مباليًا بالمرة بشـأن فصله، بل شعر وكأنه أزاح ثقلًا عن صدره بالتخلص من ذلك المكان، استمع إليها وهي تؤكد له:
-بكرة تروح مدرسة تانية أحسن من دي بمليون مرة.
اكتفى بالإيماء برأسه، فطلبت منه بصوتٍ ترقرق إلى حدٍ ما:
-بس ممكن أطلب منك طلب؟
نظر لها بعينين متسائلتين، فأوضحت له وهي تضع على شفتيها ابتسامة صغيرة:
-يا ريت ماتحكيش عن اللي حصل ده لعمو "ممدوح"؟
تعكرت ملامحه وأشاح بوجهه بعيدًا عن نظرتها المهتمة، فاستمرت في سرد أسبابها:
-مش حباه يفضل فاكر إنك لسه مشاغب وبتعمل مشاكل، وده مش حلو علشان علاقتكم سوا، أنا عايزاكم تبقوا زي الأصحاب، كأب وابنه.
وكأنها لم تقل شيئًا، ألقى ما فاهت به وراء ظهره، وواصل السير دون كلامٍ، بينما "تهاني" لا تزال تخاطبه في وديةٍ:
-وبعدين أنا زمايلي قالولي عن مدرسة لطيفة أحسن من دي، وهتكون قريبة من البيت.
ظل على صمته معها، فحاولت كسر حاجز السكوت الذي يضعها معها بإشراكه في الحوار:
-ها إيه رأيك؟
رد بغير اكتراثٍ وهو يهز كتفيه:
-عادي.
انتقلت لسؤال آخر محاولة استطالة الحديث معه:
-مانفسكش تشوف إخواتك؟
نظر إليها باهتمامٍ لا يمكن إنكاره، فأضافت في حماسٍ:
-دول كبروا شوية، ولما حد بيكلمهم بيضحكوا.
ثم حاوطته من كتفيه بذراعها، وتابعت بنفس النبرة النشطة:
-هتتبسط أوي لما تجرب تعمل كده.
ظل واضعًا لقناع الجمود على محياه، رغم ذلك الشعور اللطيف بالمرح الذي تخلله لمجرد تخيله مشاركتهما اللعب واللهو بلا مراقبة أو سُلطة.
...........................................................
جراء ما تعرضت له مؤخرًا من تطورات صحية مفاجئة، تخلت عن فكرة إقامة حفل زفاف أسطوري، يتحاكى عنه الجميع لأشهر، وربما لسنواتٍ، مثلما حلمت طوال عمرها، لتكتفي بتنظيم حفل ذي مستوى راقٍ، بالكاد يرتقي لتطلعاتها، دعت للحضور إليه قلة معدودة، ممن تربطهم الصلة الوثيقة بالعائلتين، تجنبًا للقيل والقال، وتناثر الأخبار والشائعات المغلوطة، لتسافر بعدها إلى الخارج، مستمتعة بالأيام الأولى في زواجها.
شعرت "ناريمان" بالغرابة والقلق، ولم تستطع مغالبة هذه المشاعر المضطربة رغم بذل "مهاب" كل الجهد لإسعادها وإشعارها بالتميز والاختلاف، لن تنكر أنها ذاقت معه أشهى ألوان الهوى، واستمتعت بالمفهوم العميق والمؤثر للوقوع في شباك الحب، ومع هذا بقيت مترددة، مستحوذ على تفكيرها الخوف من المجهول والحيرة من اختيار هذه الزيجة الغامضة، فكانت معظم لقائتهما تنتهي قبل أن يصل تلاحمهما الجسدي لذروة الرضا والانتشاء.
لم تستطع البقاء في غرفتها الفندقية الفاخرة، وارتدت ثياب السباحة، واضعة حول جسدها وشاحًا من قماش الشيفون، لتستلقي على واحدة من الأرائك البلاستيكية المرصوصة أمام المسبح، محاولة تصفية ذهنها، والتوقف عن ذلك الأرق الذي يزعجها، حينما لم يجدها زوجها بالأعلى، توجه إلى المسبح حيث توقع أن تتواجد. جلس ملاصقًا لها، وداعب ذراعها بأصابعه في خفة، فاقشعرت من لمساته، حاول التودد إليها بحميميةٍ، فصدته بجمود، استنكر ما قامت به، وعبس متسائلًا:
-في إيه يا حبيبتي؟
فردت المنشفة على جسدها لتغطي مفاتنها الظاهرة، وأخبرته بعزوفٍ صريح:
-ماليش مزاج يا "مهاب".
استاء للغاية من تمنعها عليه، وقال في استهجانٍ مشوبٍ باللوم:
-وأنا مش عايز منك غير إنك تحسي بيا، وتقدري مشاعري.
نفخت في سأمٍ، وقالت بصبر نافد:
-من فضلك، أنا تعبانة ومش قادرة.
للحظة توهم أنه تشكو من عِلة مرضية بجسدها، فتساءل بلهجة الطبيب المتمرس:
-في حاجة بتوجعك؟ قولي ماتتكسفيش!
رمقته بهذه النظرة الغريبة قبل أن تباعد عينيها عنه لتعلق بكلامٍ موحية:
-مش لازم يكون كل التعب في الجسم!
فهم ما ترمي إليه دون الحاجة للتوضيح، فأخبرها مباشرة:
-أنا حاسس إنك متغيرة من بعد جوازنا، أو خليني أقول بصراحة إنك ندمانة على جوازك مني.
وكأنه قرأ ما يجول في رأسها من خواطر متخبطة، صمتها أكد لها ظنونه، وأفصح عن ذلك بترديده:
-كلامي صح طالما سكتي.
حاولت تبرير موقفها الحرج بقولها المرتبك:
-الحكاية مش كده.
نهض من جوارها قائلًا بسحنةٍ مقلوبة للغاية:
-مش محتاج أسمع أكتر من كده، وصلني اللي جواكي، ومش عاوزة تقوليه.
كادت تنطق بشيء لتصحح من سوء الفهم؛ لكنه حسم أمره هاتفًا بجدية:
-جهزي نفسك عشان هنرجع.
لم يمهلها الفرصة للاعتراض، وغادر المسبح بخطواتٍ شبه سريعة، مستحضرًا في ذاكرته، تصرفات زوجته السابقة الخانعة له، رغمًا عنه عقد عقله مقارنة سريعة بين الاثنتين، مرجحًا كفة الأخيرة لصالحها، فقد كانت طوع بنانه، يشكل عجينتها الطرية كيفما يشاء، ودون أن تجرؤ على الشكاية أو مخالفته، أبقى على ملامحه واجمة مدمدمًا مع نفسه في تبرمٍ:
-دي "تهاني" كانت برقبتك!
...................................................
كعادته كلما يعود من سفرة طويلة، يتقابل معه ليلًا بغرفته بالمشفى، قبل أن يستكملا سهرتهما بأحد المطاعم الشهيرة. التعابير التي كان عليها "مهاب" أكدت لرفيقه أنه لم يكن مسرورًا، وكانت الزيجة محفوفة بعناصر الهم والنكد، وإلا لما كف عن استعراض مدى كفاءته الذكورية في إيقاع فريسته الجديدة. ضحك "ممدوح" في سخرية، ليأتي تعقيبه مغيظًا له:
-أوام كده يومين العسل خلصوا؟
رد عليه بضيقٍ:
-مش ناقصك يا "ممدوح"، في شغل كتير متعطل وعايز أرتب جدولي من الأول.
سأله مستفهمًا في فضول:
-وعلى كده المدام راجعة امتى؟
أجابه بعد زفرة سريعة:
-لما أظبط حوار السكن.
استغرب لتفكيره في تبديل بيته مجددًا، واستخبر منه بتطفلٍ واضح:
-مش عاجبها الفيلا بتاعتك؟
أتى رده على مضضٍ:
-لأ، عايزة حاجة في أدوار عالية، تشوف بيها السماء.
تصنع الضحك السخيف، وعلق:
-واضح إن مراتك ليها دماغ.
ضجر "مهاب" من الحديث عن زوجته غالبية الوقت، وسأله في جديةٍ:
-سيبك من سيرتها، وقولي "أوس" عامل إيه؟
مط فمه للحظةٍ قبل أن يجيبه مقتضبًا:
-كويس..
ما لبث أن مازحه في استخفافٍ، وبكلمات مفهومة المغزى:
-أبعتهولك يومين ياخد بحسك بدل ما إنت قاعد لوحدك مقطوع؟
تغاضى عن مضمون تلميحاته المشيرة إلى هجر زوجته له، ورد بنفس الصوت الجاد:
-لما أظبط السكن.
ثم عاد لصمته، محاولًا مطالعة ما لديه من ملفات متراكمة تخص أهم الحالات المرضية، رفع بصره عن الأوراق عندما ألح عليه "ممدوح" في مكرٍ:
-إنت حالك مش عاجبني، إيه رأيك في اللي يعدلك مزاجك؟
ظل رفيقه على تبرمه، فهتف به بانزعاجٍ:
-"ممدوح"! خف عني!
رد عليه بتصميمٍ:
-يا عم ده أنا بعوضك عن يومين الكآبة اللي كنت فيهم، جرب بس ومش هتندم، ده إنت أستاذ الدلع والمريسة!
زفر عاليًا قبل أن يرد:
-بعدين.
مجرد قبوله ضمنيًا بالعودة إلى ما كان عليه، أعطاه الوسيلة لجره لأعماق المستنقع الذي كان يشاركه فيه بكل شيء، لهذا لم يتورع عن ملاحقته كظله حتى يضمن عدم تراجعه. في خبثٍ لا يمكن إنكاره خاطبه، وهذه اللمعة الشيطــــانية تتراقص في مقلتيه:
-اتفقنا يا صاحبي، وأنا مش عاوزك تشيل هم حاجة نهـــائي، أومال أنا موجود ليه؟!
ارتخى في جلسته أكثر، وبدأ في إعمال عقله بكامل طاقته، للتفكير فيما يعيدهما للأمجاد السابقة.
..........................................
هذه المرة أصـــر "ممدوح" على إرســـال الصغير "أوس" في وقت باكر مع مربيته إلى مسكن أبيه الجديد، حتى توضب متعلقاته بغرفته هناك، وفي نفس الآن يعتاد على المكان، ويتفقده بأريحية، إلى أن يعود "مهاب" من عمله متأخرًا، خاصة مع جدوله المشحون بعشرات العمليات الجراحية. لم تمانع "تهاني" ذلك، ورحبت باقتراح زوجها المهتم، فقد كانت مشغولة هي الأخرى بعملها، ولن تستطع القدوم مبكرًا لبيتها، لذا بدا من المناسب إبقائه هناك، واكتفت فقط بالذهاب لاصطحابه ليلًا إن أراد العودة معها والمكوث مع شقيقتيه التوأم.
بالنسبة له كان النهار طويلًا، ممتدًا، يكاد لا يمضي أبدًا، شعر "أوس" بالملل والفتور لبقائه بمفرده في هذا المسكن المتسع دون أن يفعل ما يفيد، وخصوصًا بعد رحيل مربيته، ليظل باقيًا مع تلك الأخرى المتواجدة من أجل القيام على كافة متطلبات أبيه، وأيضًا رعايته في حالة تواجده. كان ممتنًا لأنه أحضر كرته معه، فراح يركلها هنا وهناك، في بعض الأحيان كان يتوقف عن اللعب ليقوم بإزعاج المربية بأي طلبات فارغة، لتبدد بداخله هذا الشعور بالرتابة والوحدة. لدهشته كانت الأخيرة تهتم بمظهرها على غير العادة، أفرطت في تلطيخ وجهها بمساحيق التجميل، وبدلت زي عملها بآخر مماثل له في اللون؛ لكنه أقصر في الطول، حيث استطاع أن يرى غالبية ساقيها للمرة الأولى، فانتابه الفضول لمعرفة ذلك التحول العجيب في هيئتها، ورغم هذا لم يترك الأمر ليحيره أو يشغل باله كثيرًا، حيث عاود اللعب بكرته، فركلها بقوةٍ للأمام، فانطلقت إلى داخل غرفة أبيه، في البداية تردد في الذهاب، ثم حسم أمره بإحضارها، عندما تذكر الأمر الواضح بأنه غير محظورٍ عليه التواجد بها طالما أنها شاغرة.
ضحك في استمتاع وهو يرى المربية تشاركه اللعب بعدما أحضرها، فراوغها، وأحرز ما اعتبره هدفًا في المنطقة التي خصصها لتسجيل الأهداف، مرة ثانية ركل الكرة بقوةٍ، فتسربت إلى داخل الغرفة، وثب عاليًا في براءة، والتفت برأسه محدثًا المربية:
-أنا هجيبها، وهكسبك.
هذه المرة اختفت الكرة أسفل الفراش، فانحنى بجسده بعد أن جثا على ركبتيه ليتمكن من تمرير ذراعه والتقاطها، لم يستطع بلوغها، فتمدد على بطنه، وزحف ببطءٍ لأسفله حتى يمسك بها. تسمر في موضعه عندما سمع بعض الهمهمات المتداخلة تأتي من الخارج، أرهف السمع محاولًا تبين صاحبه، الصرخة المكتومة التي نمت إلى مسامعه جعلته يتخشب، ظن أن أحد اللصوص قد اقتحم المنزل، ويحاول سرقته بالإكراه، تكررت الصرخة الأنثوية، فارتعب أكثر، ورغمًا عنه بلل ثيابه التحتية.
في قرارة نفسه تمنى لو كان ما يمر به كابوسًا لحظيًا، لكنه لم يكن يحلم، ارتعدت فرائصه أكثر مع اقتراب الأصوات من الغرفة، جاهد ألا يصدر صوتًا فلا يعرف أحد اللصوص بوجوده، وبالتالي لن يتعرض له بالأذى.
استطاع "أوس" من موضعه أن يرى أقدامًا تتحرك من جانب الفراش الأيمن، ميَّز طبيعة أصحابها بسهولة، فالمتواجدون بالغرفة حاليًا رجلان وامرأة، خمن من حركة المرأة أنها تقاوم بشدة جذبها، تمكن من معرفة هويتها من صوتها المألوف، إنها المربية المتواجدة بالمنزل، لصدمته استطاع تبين صوت والده، فانتابته موجة أخرى من الفزع، وراح عقله الصغير بتفكيره المحدود يتساءل عن سبب صدامه معها، والذي لا يبدو مسالمًا على الإطلاق!
من شدة توتره الخائف اختلط عليه الأمر، فلم يتمكن من تمييز صوت رفيق السوء، ذاك البغيض إلى قلبه. حاول بمداركه البسيطة تفسير ما يحدث، فخمن أن المربية واقعة في مأزق، جراء خطأ ارتكبته بغير قصد، وعاجزة عن الهرب من عقاب والده. صرخة أخرى صدرت منها مصحوبة بدفعة عنيفة على الفراش جعلته يهتز من أعلاه، فخشي أن تسقط عليه الألواح الخشبية، سرعان ما اشتدت حدة الاهتزازات وامتزجت بتأوهات غريبة لم تألفها أذناه، فظن أن الأمر أصبح أكثر سوءًا، لهذا -وبشكل عفوي- انفلتت منه صرخة خافتة، ندم بعدها أشد الندم لأنه كشف بها عن أمر وجوده.
توقفت الاهتزازات فجــأة، وظهرت الأقدام الرجالية من جانب الفراش الأيمن، ليطل بعدها وجهًا كان أقـــرب للشيطان بسبب الظلام السائد عليه. حدق بعينين متسعتين في رعبٍ أكبر لصاحب زوج الأعين الشرستين، تلك التي ترمقاه بغلٍ وحقد. خفق قلبه بقوةٍ، حتى كاد يشعر به يُقتلع من بين ضلوعه، ليعقب ذلك جذبة عنيفة من قبضتين محكمتين نجحتا في الإمساك به من قدميه وجره للخارج.
هربت شجاعته التي ظن ليومٍ أنه يملكها، فالموقف برمته غريب عليه، ومليء بكل ما هو باعث على الخوف، لم يجرؤ على فتح عينيه، وأطبق على جفنيه بقوةٍ، رافضًا النظر إلى من قبض عليه، ورفعه عن الأرضية، ومع ذلك ظل يركل بقدميه في الهواء محاولًا التحرر من أسره المؤقت، تسلل إلى أذنيه صوت أبيه المعنف:
-بتعمل إيه هنا؟
لحظتها فقط تجرأ على فتح جفنيه، والنظر إليه، فوجد ملامحه غاضبة، ونظراته محتقنة، كرر عليه "مهاب" سؤاله بلهجةٍ أكثر حدة:
-مش أنا منبه عليك ما تجيش هنا إلا بأمر مني؟
ثم أنزله على قدميه دون أن يفلته لتتحول نظراته المرتاعة إلى "ممدوح" الذي وقف يشاهد ما يحدث بتسلية واضحة، لفظ ما تبقى من دخان سيجارته المشتعلة، وقال في مزاح سخيف:
-شكله عايز يطلع خلبوص زي أبوه.
لم يبدُ "مهاب" راضيًا عن استهتار رفيقه بالأمر، وحذره بصوتٍ غير متسامح:
-مش وقتك يا "ممدوح"!
شتت "أوس" نظراته المفزوعة عن وجه ذلك المقيت الذي لم يتوقف عن رمقه بخبثٍ مشوب بالكره، لتقع عيناه على المربية التي تتمدد على الفراش، وهي شبه متجردة من الثياب، ويداها مقيدتان إلى حافته، أذهله المنظر، وأصابه بالمزيد من الرعب.
عندما رأى "مهاب" نظرات ابنه إلى المربية اشتاط غضبًا على غضب، وصرخ فيها بتأنيبٍ لاذع:
-إزاي ما تبلغنيش إنه لسه صاحي؟ لأ وكمان تخليه مستخبي هنا في أوضتي؟
حاولت التحرر من القيد القماشي الذي يمنعها من النهوض وتغطية ما انكشف من مقوماتها المغرية؛ لكنها لم تنجح، فاسترخت في نومتها، وبررت بدلالٍ متصنعة البراءة:
-ما أنا ملحقتش، وإنت خدتني على مشمي يا باشا.
استنكر حجتها السمجة، وقال في نبرة لا تزال مهاجمة:
-يا سلام، إنت بتستعبطي؟
أصبحت نبرته أكثر تشددًا وهو يهددها:
-هتتحاسبي على الغلط ده!
حينئذ تدخل "ممدوح" في مكر عابث، كأنما يدير دفة ما حدث لشيء محفز، وأكثر مجونًا:
-حاسبها زي ما إنت عايز، ما هي قدامك، هتروح منك فين، وإنت سيد من يعلم الأخلاق ويربي المنفلت!
كانت له طريقته الملتوية في اللعب بالألفاظ، واستثارة الحواس، عرف كيف يجعل رفيقه يخنع، ويتخلى عن العصبية الغريبة لاكتشاف ابنه عبثه مصادفة، وإن رتب لذلك عمدًا، ليضمن بذلك التدخل دومًا في شأنه بأسهل الحجج وأقصرها. لئلا يترك له الفرصة لإفســـاد ما خطط ورتب، أخبره أيضًا في هدوءٍ:
-بقولك إيه، الواد أهبل ومش هياخد باله من حاجة...
نظر إليه "مهاب" بتردد، فحاصره رفيق الســــوء بهسيسه الخبيث، وقد تحولت نظرته الغامضة لترتكز على ذلك الضعيف المصدوم:
-سيبهولي، وأنا هتصرف معاه ............................... !!
(بذرة الشـــــــرور)
بحركة اهتزازية رتيبة، ظل الصغير "أوس" يحرك ساقه اليسرى للأمام والخلف، وهو ينتظر خارج مكتب مدير مدرسته الداخلية، حيث تلتقي والدته به بعدما تم استدعائها لاستلام أوراقه لنقله من هذا الصرح التعليمي. للغرابة تفاجأ بها تدافع عنه بضراوة، وتختلق له الحجج والأعذار لتبرر سلوكياته وتصرفاته المتجاوزة، فصوتها المرتفع قد وصل إليه، وجعله على دراية بما يدور بالداخل، دون الحاجة للتواجد فعليًا معهما. لم يتوقع منها أن تفعل ذلك خاصة بعد أن ازدادت الفجوة بينهما، وأصبح تواصلهما كأم مع ابنها محدودًا ومقتضبًا، حينئذ شعر بشيء من السرور ينتعش بداخله، يا ليتها استمرت على ذلك النهج، لما صار بهذا العِناد!
تصلب في جلسته، وتوقف عن هز ساقه عندما فُتح الباب فجــأة، نظر إلى الجانب فوجد والدته تخاطب المدير في لهجة متشددة:
-أكيد مش هغلب وهلاقي لابني مكان يقدر يفهم طبيعة شخصيته، ويساعده يبقى أفضل، مش يحمله الذنب ويرميه كأنه نكرة.
جاء صوته جادًا حينما علق عليها بما يشبه النصيحة:
-اللي بنعمله ده لمصلحته، والأهم إن سلوكه يتغير، لأنه لو فضل على كده صدقيني مافيش مكان محترم هيقبل بيه.
تحدته قائلة بضيقٍ:
-هنشوف...
ثم استدارت برأسها نحو ابنها لتنظر إليه وهي تأمره:
-يالا يا "أوس" علشان نمشي.
نهض من مكانه ساحبًا معه حقيبته التي امتلأت بكافة متعلقاته الشخصية، أخذتها منه والدته، وقالت كنوعٍ من المواساة:
-معلش يا حبيبي، هما خسروك.
لم يبدُ مباليًا بالمرة بشـأن فصله، بل شعر وكأنه أزاح ثقلًا عن صدره بالتخلص من ذلك المكان، استمع إليها وهي تؤكد له:
-بكرة تروح مدرسة تانية أحسن من دي بمليون مرة.
اكتفى بالإيماء برأسه، فطلبت منه بصوتٍ ترقرق إلى حدٍ ما:
-بس ممكن أطلب منك طلب؟
نظر لها بعينين متسائلتين، فأوضحت له وهي تضع على شفتيها ابتسامة صغيرة:
-يا ريت ماتحكيش عن اللي حصل ده لعمو "ممدوح"؟
تعكرت ملامحه وأشاح بوجهه بعيدًا عن نظرتها المهتمة، فاستمرت في سرد أسبابها:
-مش حباه يفضل فاكر إنك لسه مشاغب وبتعمل مشاكل، وده مش حلو علشان علاقتكم سوا، أنا عايزاكم تبقوا زي الأصحاب، كأب وابنه.
وكأنها لم تقل شيئًا، ألقى ما فاهت به وراء ظهره، وواصل السير دون كلامٍ، بينما "تهاني" لا تزال تخاطبه في وديةٍ:
-وبعدين أنا زمايلي قالولي عن مدرسة لطيفة أحسن من دي، وهتكون قريبة من البيت.
ظل على صمته معها، فحاولت كسر حاجز السكوت الذي يضعها معها بإشراكه في الحوار:
-ها إيه رأيك؟
رد بغير اكتراثٍ وهو يهز كتفيه:
-عادي.
انتقلت لسؤال آخر محاولة استطالة الحديث معه:
-مانفسكش تشوف إخواتك؟
نظر إليها باهتمامٍ لا يمكن إنكاره، فأضافت في حماسٍ:
-دول كبروا شوية، ولما حد بيكلمهم بيضحكوا.
ثم حاوطته من كتفيه بذراعها، وتابعت بنفس النبرة النشطة:
-هتتبسط أوي لما تجرب تعمل كده.
ظل واضعًا لقناع الجمود على محياه، رغم ذلك الشعور اللطيف بالمرح الذي تخلله لمجرد تخيله مشاركتهما اللعب واللهو بلا مراقبة أو سُلطة.
...........................................................
جراء ما تعرضت له مؤخرًا من تطورات صحية مفاجئة، تخلت عن فكرة إقامة حفل زفاف أسطوري، يتحاكى عنه الجميع لأشهر، وربما لسنواتٍ، مثلما حلمت طوال عمرها، لتكتفي بتنظيم حفل ذي مستوى راقٍ، بالكاد يرتقي لتطلعاتها، دعت للحضور إليه قلة معدودة، ممن تربطهم الصلة الوثيقة بالعائلتين، تجنبًا للقيل والقال، وتناثر الأخبار والشائعات المغلوطة، لتسافر بعدها إلى الخارج، مستمتعة بالأيام الأولى في زواجها.
شعرت "ناريمان" بالغرابة والقلق، ولم تستطع مغالبة هذه المشاعر المضطربة رغم بذل "مهاب" كل الجهد لإسعادها وإشعارها بالتميز والاختلاف، لن تنكر أنها ذاقت معه أشهى ألوان الهوى، واستمتعت بالمفهوم العميق والمؤثر للوقوع في شباك الحب، ومع هذا بقيت مترددة، مستحوذ على تفكيرها الخوف من المجهول والحيرة من اختيار هذه الزيجة الغامضة، فكانت معظم لقائتهما تنتهي قبل أن يصل تلاحمهما الجسدي لذروة الرضا والانتشاء.
لم تستطع البقاء في غرفتها الفندقية الفاخرة، وارتدت ثياب السباحة، واضعة حول جسدها وشاحًا من قماش الشيفون، لتستلقي على واحدة من الأرائك البلاستيكية المرصوصة أمام المسبح، محاولة تصفية ذهنها، والتوقف عن ذلك الأرق الذي يزعجها، حينما لم يجدها زوجها بالأعلى، توجه إلى المسبح حيث توقع أن تتواجد. جلس ملاصقًا لها، وداعب ذراعها بأصابعه في خفة، فاقشعرت من لمساته، حاول التودد إليها بحميميةٍ، فصدته بجمود، استنكر ما قامت به، وعبس متسائلًا:
-في إيه يا حبيبتي؟
فردت المنشفة على جسدها لتغطي مفاتنها الظاهرة، وأخبرته بعزوفٍ صريح:
-ماليش مزاج يا "مهاب".
استاء للغاية من تمنعها عليه، وقال في استهجانٍ مشوبٍ باللوم:
-وأنا مش عايز منك غير إنك تحسي بيا، وتقدري مشاعري.
نفخت في سأمٍ، وقالت بصبر نافد:
-من فضلك، أنا تعبانة ومش قادرة.
للحظة توهم أنه تشكو من عِلة مرضية بجسدها، فتساءل بلهجة الطبيب المتمرس:
-في حاجة بتوجعك؟ قولي ماتتكسفيش!
رمقته بهذه النظرة الغريبة قبل أن تباعد عينيها عنه لتعلق بكلامٍ موحية:
-مش لازم يكون كل التعب في الجسم!
فهم ما ترمي إليه دون الحاجة للتوضيح، فأخبرها مباشرة:
-أنا حاسس إنك متغيرة من بعد جوازنا، أو خليني أقول بصراحة إنك ندمانة على جوازك مني.
وكأنه قرأ ما يجول في رأسها من خواطر متخبطة، صمتها أكد لها ظنونه، وأفصح عن ذلك بترديده:
-كلامي صح طالما سكتي.
حاولت تبرير موقفها الحرج بقولها المرتبك:
-الحكاية مش كده.
نهض من جوارها قائلًا بسحنةٍ مقلوبة للغاية:
-مش محتاج أسمع أكتر من كده، وصلني اللي جواكي، ومش عاوزة تقوليه.
كادت تنطق بشيء لتصحح من سوء الفهم؛ لكنه حسم أمره هاتفًا بجدية:
-جهزي نفسك عشان هنرجع.
لم يمهلها الفرصة للاعتراض، وغادر المسبح بخطواتٍ شبه سريعة، مستحضرًا في ذاكرته، تصرفات زوجته السابقة الخانعة له، رغمًا عنه عقد عقله مقارنة سريعة بين الاثنتين، مرجحًا كفة الأخيرة لصالحها، فقد كانت طوع بنانه، يشكل عجينتها الطرية كيفما يشاء، ودون أن تجرؤ على الشكاية أو مخالفته، أبقى على ملامحه واجمة مدمدمًا مع نفسه في تبرمٍ:
-دي "تهاني" كانت برقبتك!
...................................................
كعادته كلما يعود من سفرة طويلة، يتقابل معه ليلًا بغرفته بالمشفى، قبل أن يستكملا سهرتهما بأحد المطاعم الشهيرة. التعابير التي كان عليها "مهاب" أكدت لرفيقه أنه لم يكن مسرورًا، وكانت الزيجة محفوفة بعناصر الهم والنكد، وإلا لما كف عن استعراض مدى كفاءته الذكورية في إيقاع فريسته الجديدة. ضحك "ممدوح" في سخرية، ليأتي تعقيبه مغيظًا له:
-أوام كده يومين العسل خلصوا؟
رد عليه بضيقٍ:
-مش ناقصك يا "ممدوح"، في شغل كتير متعطل وعايز أرتب جدولي من الأول.
سأله مستفهمًا في فضول:
-وعلى كده المدام راجعة امتى؟
أجابه بعد زفرة سريعة:
-لما أظبط حوار السكن.
استغرب لتفكيره في تبديل بيته مجددًا، واستخبر منه بتطفلٍ واضح:
-مش عاجبها الفيلا بتاعتك؟
أتى رده على مضضٍ:
-لأ، عايزة حاجة في أدوار عالية، تشوف بيها السماء.
تصنع الضحك السخيف، وعلق:
-واضح إن مراتك ليها دماغ.
ضجر "مهاب" من الحديث عن زوجته غالبية الوقت، وسأله في جديةٍ:
-سيبك من سيرتها، وقولي "أوس" عامل إيه؟
مط فمه للحظةٍ قبل أن يجيبه مقتضبًا:
-كويس..
ما لبث أن مازحه في استخفافٍ، وبكلمات مفهومة المغزى:
-أبعتهولك يومين ياخد بحسك بدل ما إنت قاعد لوحدك مقطوع؟
تغاضى عن مضمون تلميحاته المشيرة إلى هجر زوجته له، ورد بنفس الصوت الجاد:
-لما أظبط السكن.
ثم عاد لصمته، محاولًا مطالعة ما لديه من ملفات متراكمة تخص أهم الحالات المرضية، رفع بصره عن الأوراق عندما ألح عليه "ممدوح" في مكرٍ:
-إنت حالك مش عاجبني، إيه رأيك في اللي يعدلك مزاجك؟
ظل رفيقه على تبرمه، فهتف به بانزعاجٍ:
-"ممدوح"! خف عني!
رد عليه بتصميمٍ:
-يا عم ده أنا بعوضك عن يومين الكآبة اللي كنت فيهم، جرب بس ومش هتندم، ده إنت أستاذ الدلع والمريسة!
زفر عاليًا قبل أن يرد:
-بعدين.
مجرد قبوله ضمنيًا بالعودة إلى ما كان عليه، أعطاه الوسيلة لجره لأعماق المستنقع الذي كان يشاركه فيه بكل شيء، لهذا لم يتورع عن ملاحقته كظله حتى يضمن عدم تراجعه. في خبثٍ لا يمكن إنكاره خاطبه، وهذه اللمعة الشيطــــانية تتراقص في مقلتيه:
-اتفقنا يا صاحبي، وأنا مش عاوزك تشيل هم حاجة نهـــائي، أومال أنا موجود ليه؟!
ارتخى في جلسته أكثر، وبدأ في إعمال عقله بكامل طاقته، للتفكير فيما يعيدهما للأمجاد السابقة.
..........................................
هذه المرة أصـــر "ممدوح" على إرســـال الصغير "أوس" في وقت باكر مع مربيته إلى مسكن أبيه الجديد، حتى توضب متعلقاته بغرفته هناك، وفي نفس الآن يعتاد على المكان، ويتفقده بأريحية، إلى أن يعود "مهاب" من عمله متأخرًا، خاصة مع جدوله المشحون بعشرات العمليات الجراحية. لم تمانع "تهاني" ذلك، ورحبت باقتراح زوجها المهتم، فقد كانت مشغولة هي الأخرى بعملها، ولن تستطع القدوم مبكرًا لبيتها، لذا بدا من المناسب إبقائه هناك، واكتفت فقط بالذهاب لاصطحابه ليلًا إن أراد العودة معها والمكوث مع شقيقتيه التوأم.
بالنسبة له كان النهار طويلًا، ممتدًا، يكاد لا يمضي أبدًا، شعر "أوس" بالملل والفتور لبقائه بمفرده في هذا المسكن المتسع دون أن يفعل ما يفيد، وخصوصًا بعد رحيل مربيته، ليظل باقيًا مع تلك الأخرى المتواجدة من أجل القيام على كافة متطلبات أبيه، وأيضًا رعايته في حالة تواجده. كان ممتنًا لأنه أحضر كرته معه، فراح يركلها هنا وهناك، في بعض الأحيان كان يتوقف عن اللعب ليقوم بإزعاج المربية بأي طلبات فارغة، لتبدد بداخله هذا الشعور بالرتابة والوحدة. لدهشته كانت الأخيرة تهتم بمظهرها على غير العادة، أفرطت في تلطيخ وجهها بمساحيق التجميل، وبدلت زي عملها بآخر مماثل له في اللون؛ لكنه أقصر في الطول، حيث استطاع أن يرى غالبية ساقيها للمرة الأولى، فانتابه الفضول لمعرفة ذلك التحول العجيب في هيئتها، ورغم هذا لم يترك الأمر ليحيره أو يشغل باله كثيرًا، حيث عاود اللعب بكرته، فركلها بقوةٍ للأمام، فانطلقت إلى داخل غرفة أبيه، في البداية تردد في الذهاب، ثم حسم أمره بإحضارها، عندما تذكر الأمر الواضح بأنه غير محظورٍ عليه التواجد بها طالما أنها شاغرة.
ضحك في استمتاع وهو يرى المربية تشاركه اللعب بعدما أحضرها، فراوغها، وأحرز ما اعتبره هدفًا في المنطقة التي خصصها لتسجيل الأهداف، مرة ثانية ركل الكرة بقوةٍ، فتسربت إلى داخل الغرفة، وثب عاليًا في براءة، والتفت برأسه محدثًا المربية:
-أنا هجيبها، وهكسبك.
هذه المرة اختفت الكرة أسفل الفراش، فانحنى بجسده بعد أن جثا على ركبتيه ليتمكن من تمرير ذراعه والتقاطها، لم يستطع بلوغها، فتمدد على بطنه، وزحف ببطءٍ لأسفله حتى يمسك بها. تسمر في موضعه عندما سمع بعض الهمهمات المتداخلة تأتي من الخارج، أرهف السمع محاولًا تبين صاحبه، الصرخة المكتومة التي نمت إلى مسامعه جعلته يتخشب، ظن أن أحد اللصوص قد اقتحم المنزل، ويحاول سرقته بالإكراه، تكررت الصرخة الأنثوية، فارتعب أكثر، ورغمًا عنه بلل ثيابه التحتية.
في قرارة نفسه تمنى لو كان ما يمر به كابوسًا لحظيًا، لكنه لم يكن يحلم، ارتعدت فرائصه أكثر مع اقتراب الأصوات من الغرفة، جاهد ألا يصدر صوتًا فلا يعرف أحد اللصوص بوجوده، وبالتالي لن يتعرض له بالأذى.
استطاع "أوس" من موضعه أن يرى أقدامًا تتحرك من جانب الفراش الأيمن، ميَّز طبيعة أصحابها بسهولة، فالمتواجدون بالغرفة حاليًا رجلان وامرأة، خمن من حركة المرأة أنها تقاوم بشدة جذبها، تمكن من معرفة هويتها من صوتها المألوف، إنها المربية المتواجدة بالمنزل، لصدمته استطاع تبين صوت والده، فانتابته موجة أخرى من الفزع، وراح عقله الصغير بتفكيره المحدود يتساءل عن سبب صدامه معها، والذي لا يبدو مسالمًا على الإطلاق!
من شدة توتره الخائف اختلط عليه الأمر، فلم يتمكن من تمييز صوت رفيق السوء، ذاك البغيض إلى قلبه. حاول بمداركه البسيطة تفسير ما يحدث، فخمن أن المربية واقعة في مأزق، جراء خطأ ارتكبته بغير قصد، وعاجزة عن الهرب من عقاب والده. صرخة أخرى صدرت منها مصحوبة بدفعة عنيفة على الفراش جعلته يهتز من أعلاه، فخشي أن تسقط عليه الألواح الخشبية، سرعان ما اشتدت حدة الاهتزازات وامتزجت بتأوهات غريبة لم تألفها أذناه، فظن أن الأمر أصبح أكثر سوءًا، لهذا -وبشكل عفوي- انفلتت منه صرخة خافتة، ندم بعدها أشد الندم لأنه كشف بها عن أمر وجوده.
توقفت الاهتزازات فجــأة، وظهرت الأقدام الرجالية من جانب الفراش الأيمن، ليطل بعدها وجهًا كان أقـــرب للشيطان بسبب الظلام السائد عليه. حدق بعينين متسعتين في رعبٍ أكبر لصاحب زوج الأعين الشرستين، تلك التي ترمقاه بغلٍ وحقد. خفق قلبه بقوةٍ، حتى كاد يشعر به يُقتلع من بين ضلوعه، ليعقب ذلك جذبة عنيفة من قبضتين محكمتين نجحتا في الإمساك به من قدميه وجره للخارج.
هربت شجاعته التي ظن ليومٍ أنه يملكها، فالموقف برمته غريب عليه، ومليء بكل ما هو باعث على الخوف، لم يجرؤ على فتح عينيه، وأطبق على جفنيه بقوةٍ، رافضًا النظر إلى من قبض عليه، ورفعه عن الأرضية، ومع ذلك ظل يركل بقدميه في الهواء محاولًا التحرر من أسره المؤقت، تسلل إلى أذنيه صوت أبيه المعنف:
-بتعمل إيه هنا؟
لحظتها فقط تجرأ على فتح جفنيه، والنظر إليه، فوجد ملامحه غاضبة، ونظراته محتقنة، كرر عليه "مهاب" سؤاله بلهجةٍ أكثر حدة:
-مش أنا منبه عليك ما تجيش هنا إلا بأمر مني؟
ثم أنزله على قدميه دون أن يفلته لتتحول نظراته المرتاعة إلى "ممدوح" الذي وقف يشاهد ما يحدث بتسلية واضحة، لفظ ما تبقى من دخان سيجارته المشتعلة، وقال في مزاح سخيف:
-شكله عايز يطلع خلبوص زي أبوه.
لم يبدُ "مهاب" راضيًا عن استهتار رفيقه بالأمر، وحذره بصوتٍ غير متسامح:
-مش وقتك يا "ممدوح"!
شتت "أوس" نظراته المفزوعة عن وجه ذلك المقيت الذي لم يتوقف عن رمقه بخبثٍ مشوب بالكره، لتقع عيناه على المربية التي تتمدد على الفراش، وهي شبه متجردة من الثياب، ويداها مقيدتان إلى حافته، أذهله المنظر، وأصابه بالمزيد من الرعب.
عندما رأى "مهاب" نظرات ابنه إلى المربية اشتاط غضبًا على غضب، وصرخ فيها بتأنيبٍ لاذع:
-إزاي ما تبلغنيش إنه لسه صاحي؟ لأ وكمان تخليه مستخبي هنا في أوضتي؟
حاولت التحرر من القيد القماشي الذي يمنعها من النهوض وتغطية ما انكشف من مقوماتها المغرية؛ لكنها لم تنجح، فاسترخت في نومتها، وبررت بدلالٍ متصنعة البراءة:
-ما أنا ملحقتش، وإنت خدتني على مشمي يا باشا.
استنكر حجتها السمجة، وقال في نبرة لا تزال مهاجمة:
-يا سلام، إنت بتستعبطي؟
أصبحت نبرته أكثر تشددًا وهو يهددها:
-هتتحاسبي على الغلط ده!
حينئذ تدخل "ممدوح" في مكر عابث، كأنما يدير دفة ما حدث لشيء محفز، وأكثر مجونًا:
-حاسبها زي ما إنت عايز، ما هي قدامك، هتروح منك فين، وإنت سيد من يعلم الأخلاق ويربي المنفلت!
كانت له طريقته الملتوية في اللعب بالألفاظ، واستثارة الحواس، عرف كيف يجعل رفيقه يخنع، ويتخلى عن العصبية الغريبة لاكتشاف ابنه عبثه مصادفة، وإن رتب لذلك عمدًا، ليضمن بذلك التدخل دومًا في شأنه بأسهل الحجج وأقصرها. لئلا يترك له الفرصة لإفســـاد ما خطط ورتب، أخبره أيضًا في هدوءٍ:
-بقولك إيه، الواد أهبل ومش هياخد باله من حاجة...
نظر إليه "مهاب" بتردد، فحاصره رفيق الســــوء بهسيسه الخبيث، وقد تحولت نظرته الغامضة لترتكز على ذلك الضعيف المصدوم:
-سيبهولي، وأنا هتصرف معاه ............................... !!