رواية رحلة الآثام الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم منال سالم
الفصل الثالث والثلاثون
(الضــــحية)
عند المقابر، وقبيل وقت الظهيرة تقريبًا، في موعده الشهري، كان متواجدًا هناك، أبقى على ذراعيه مرفوعين للسماء، وهو لا يزال يدعو بأدعيته المهموسة، لعل وعسى يستجيب المولى له، ويغفر لها ما اقترفت من ذنوب، فمنذ أن فارقت الحياة قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر، وقلبه يلتـــاع لرحيلها بهذا الشكل المأساوي، ظلت الأسئلة والخواطر تطوف في رأسه بلا أجوبة محددة، ولم يسعَ لتحري الحقيقة، اكتفى بتذكر آخر كلماتها، وهي رغبتها في نيل غفرانه. مسح "عوض" على وجهه براحتيه، وتأهب للذهاب؛ لكن استوقفته إحدى السيدات بالنداء عليه، أخفض بصره، وسألها:
-خير يا ست في حاجة؟
بحركة لا إرادية شدت المرأة من حجابها على رأسها، وخاطبته في حزنٍ مبالغ فيه:
-قلبي عندك يا سي "عوض"، المرحومة كانت غالية عندي، ومكونتش بتأخر عنها في حاجة.
رد عليها بحذرٍ، ودون أن ينظر تجاهها:
-ربنا يكرمك.
همَّ بالتحرك؛ لكنها استوقفته بجملتها المريبة:
-هي في بس حاجة مضايقاني، ومحسساني بالذنب، ومش مخلياني أتهنى في نومة أبدًا.
لحظتها اضطر أن ينظر إليها متسائلًا بقلق:
-خير؟
أجابته بشيءٍ من التردد وهي تشير بيدها:
-والله العظيم، ولأجل الحلفان لو كنت أعرف إنها عايزة الزفـــــت ده عشان نفسها ما كنت جبتهولها.
حديثها إليه كان أشبه بحل قطعة من الأحجية، فسألها مستفهمًا:
-بتاع إيه؟
تلفتت حولها بنظرات قلقة، قبل أن تستجمع جأشها لتقول، في صوتٍ خافت، وكأنها تخشى سماع أحدهم لها:
-مياه النـــــار!
برقت عيناه ذهولًا من الصدمة غير المتوقعة، فاستمرت تستفيض في الشرح:
-أصل المرحومة، ربنا يبشبش الطوبة اللي تحت راسها، كانت طلبته قبل ما يجرالها اللي جرى بكام يوم، ومكونتش عارفة هي عايزاه ليه، فكرتها ناوية تنضف بيه البوتجاز ولا تشيل بيه جلخ الأرضيات.
من هول صدمته، لم يحاول "عوض" البحث عن تفسير آخر لسبب ابتياعها لتلك المادة الكــــــاوية، واكتفى بتصديق أنها كانت بحاجة إليه لتستخدمه في التنظيف، أطرق رأسه للأسفل، وردد:
-قدر الله وما شاء فعل.
كانت على وشك الكلام مرة ثانية، فرفع كفه ليمنعها من التفوه بشيء، وطلب منها في صوتٍ هادئ لكنه جاد:
-هي عند اللي خالقها، ادعيلها بالرحمة والغفرة.
في التو علقت بعد زمة سريعة لشفتيها:
-ألف رحمة ونور عليكي يا ست "أم عوض"، دي كانت ست خيرة، والكل بيحبها، ومحدش عمره شال منه.
لم يحبذ البقاء مطولًا معها، فقال منصرفًا:
-معلش هستأذنك أنا.
تنحت للجانب، وقالت وهي تطالعه بنظرة آسفة ومتعاطفة:
-اتفضل يا سي "عوض".
خطا مبتعدًا عنها، ورأسه يعج بعشرات الأسئلة، طغى عليهم جميعًا واحد بعينه، فتساءل، كأنما يكلم نفسه:
-يا ترى كنتي ناوية تأذينا بيه والحق خد حقه قبل ما ده يحصل؟
ظل على حيرته المهلكة، فتابع في يأسٍ:
-ربنا وحده اللي عالم بنيتك يامه!
أكمل سيره المتخاذل وهو يهز رأسه للجانبين مُحادثًا نفسه:
-مافيش منه رجا، ربنا يرحمك يامه، ويعفو عنك.
...........................................................
فــــتكت بها موجات الصداع المتواترة، وكأنها تصـــارعها بلا معركة ظاهرية، جراء بكاء صغيرتها المتواصل، فمنذ مطلع النهار وهي على نفس الحالة الباكية، ورغم محاولتها بذل الجهد لتلبية احتياجاتها الأساسية، إلا أنها لم تكف أو تتوقف عن الصراخ، مما جعل أعصابها تتوتر للغاية، وتزداد انفعالًا وحنقًا منها. نظرت "فردوس" شزرًا لرضيعتها، وصاحت بها في استياءٍ عارم بعدما فاض بها الكيل وفشلت كل الطرق في إسكاتها:
-كفاية بقى، إيه مابتتعبيش؟
نهضت من جوارها، وتركتها بمفردها على الفراش، واستمرت تصرخ فيها:
-أنا دماغي صدعت، لا بقيت عارفة أنام، ولا أقعد، ولا أعمل أي حاجة؟
في لحظة طيش عابرة قذفتها بالوسادة، وهي تزيد من صياحها اللائم:
-عملت إيه في دنيتي عشان أفضل في الهم ده؟
تطلعت إلى نقطة بالفراغ، ودمدمت في صوتٍ محموم، وهذه الحمرة الناقمة تشتعل في حدقتيها:
-حتى "تهاني" من ساعة آخر مرة كلمتني فيها، ولا حس ولا خبر.
تحولت دفة العتاب تجاهها، فحملتها كل الذنب في كراهية راحت تتأصل في أعماقها:
-كأنها مصدقت تنساني زي ما نسيتنا زمان.
قست كامل تعبيراتها، واسودت نظراتها وهي تدعو في حــــرقـــة:
-ربنا يخلص منها، وتشوف الغلب والمرار في حياتها!
شعرت بوطأة حقدها عليها يتأصل بداخلها، وتركت تأثيره السيء يتغلغل فيها، مؤكدة لنفسها أنها تستحق هذه العداوة جراء ما ارتكبت من قطيعة وخصـــام.
......................................
كقطعتين من فاكهة الجنة، تململت الرضيعتان في رقة وهما مستلقيتان في سريرين متجاورين، تموءان في صوتٍ خفيض كاستجابة لملاطفة شقيقهما الأكبر لهما، مرر "أوس" ناظريه بينهما، تأملهما في صمت، وراح يداعب كل واحدة على حدا، وكأنه يستكشف طبيعة شخصيتيهما غير المفهومة له باللعب الحذر معهما. لم يشعر بمراقبة والدته له، كانت الأخيرة مستمتعة برؤية ابنها البكري يُبدي اهتمامه بالطفلتين، كانت تخشى من عدم تقبله لهما، تبددت مخاوفها مع ما تشهده في هذه اللحظات المميزة، تشجعت لتمضي تجاهه وهي تقول في صوتٍ أمومي مملوء بالفخر:
-ربنا يخليكم لبعض.
وضعت يدها حول كتفيه، وضمته إلى صدره، لتضيف بعدها في شيء من التوصية:
-إنت أخوهم الكبير، لازم تاخد بالك منهم دايمًا، ومتخليش حاجة تأذيهم.
أبقى "أوس" على نظراته الحائرة موزعة بينهما، ثم سألها فجأة، وكأن هناك سؤال ما علق في رأسه:
-هما ممكن يكرهوني؟
تخشب ذراعها على كتفيه، فالتفتت كليًا تجاهه، وأجبرته على الاستدارة ومواجهتها، اندهشت لتفكيره المريب، وسألته بشيءٍ من القلق والتخبط:
-ليه بتقول كده يا حبيبي؟
بلا تزييف أجابها:
-عشان أنا مش بحب باباهم.
لن تنكر أنها أحست بالضيق لجوابه الصريح، والذي أصابها بالكدر، لفظت دفعة من الهواء، وتكلمت في تحيزٍ، محاولة إظهار عدم صواب تفكيره ناحيته:
-"أوس"، إنت ليه بتكره عمو "ممدوح"؟ ده هو بيعمل كل حاجة عشان يشوفك مبسوط.
أصر على كراهيته له بقول المزيد، وكأنه يفضح عيوبه التي تتغاضى عنها:
-هو كداب.
وقتئذ ثارت لما اعتبرتها إهانة وقحة موجهة لزوجها، فاشتدت قبضتيها على منبتي كتفيه، وعنفته في غضبٍ منفعل، وقد راحت تهزه بعصبيةٍ:
-عيب تقول كده عليه؟ ده ليه مقامه واحترامه، وأنا مش هسمحلك تقل منه.
بقوة غريبة سرت في عروقه، دفع قبضتيها عنه ليتحرر منها، ثم اندفع نحو الخارج متجاهلًا زعيقها:
-استنى هنا! إنت رايح فين؟
تجمدت في مكانها وقد بدأت الرضيعتان تبكيان لصوت صراخها المفزع، نظرت إليهما بتحيرٍ، وتساءلت بعدما تهدل كتفاها في إحباطٍ:
-أعمل معاك إيه بس يا "أوس"؟
لحظتها شعرت وكأنه يصعب عليها التعامل مع ما أسماه زوجها بتمرده الصريح على قواعد الأسرة، أطرقت رأسها في ضيقٍ، وظلت تقول بصوتٍ يائس:
-شكلك هتبقى واخد طريقة أبوك، متعب لكل اللي حواليك!
لم تلحق به، وأثرت إهماله إلى حين إدراكه مدى خطأه، إذ ربما يكف عن التصرف بطفولية معاندة، ويتحمل نتائج سلوكه غير المنضبط.
........................................
أرادت تحميله وزر تأخيره عن العودة للمنزل في وقت مبكر، وتركها هكذا غالبية الوقت بمفردها، تعافر لرعاية الرضيعة وهي تفتقر للرغبة في فعل ذلك. استقبلته "فردوس" عندما عاد بتقاسيمٍ عابسة، ونظرة وجه متجهمة، ألقى عليها التحية، فردت في صوتٍ متحفزٍ، ويدها موضوعة عند منتصف خصرها:
-ما لسه بدري يا "عوض"؟
تقدمت ناحيتها قائلًا في نبرة هادئة، مغلفة بالتعب:
-ما أنا قايلك مسافر البلد النهاردة أزور أمي في تُربتها.
وكأن الإتيان على سيرتها، في هذه اللحظة المشحونة، جعل زمام الأمور ينفلت، فانفجرت صارخة فيه دون مقدماتٍ:
-وأنا تعبت من كتر الزن، وإنت سايبني طول النهار لواحدي؟ ولا ليك شغلة ولا مشغلة!
اربد وجهه بالضيق، واستعتبها:
-مش وقت معايرة يا "فردوس"!
جاء ردها مثلها فظًا:
-ياخي حس بيا، هو إنت بتعمل حاجة أصلًا؟
ثم خفضت من نبرتها لتتم جملتها:
-ده إنت ناقص تشحت على باب الجامع!
لم يتبين ما قالته بوضوح، ولم يكترث، فقط هتف بها في وجه عابس:
-خلاص، هي "تقى" فين؟
طوحت بيدها للأمام وهي تجيبه:
-أهي موجودة على السرير.
اتجه نحو غرفة نومهما، وبكل حنان وترفق حمل رضيعته، وضمها بين ذراعيه، أخذ يهدهدها في لطافةٍ، حتى سكنت، وهدأت، ونامت في براءةٍ، سار بها للخارج ليجد زوجته لا تزال واقفة، ترمقه بنظرة حانقة، فقال كأنما يُعلمها:
-أنا هروح بيها الأوضة التانية.
لوت ثغرها مغمغمة:
-يكون أحسن.
قبل أن يسير مبتعدًا بها، لاحظ ذبول وجه رضيعته، فاستطرد مخاطبًا إياها في قلقٍ:
-البت شكلها ضعيف وهفتان.
في تذمرٍ متواصل أجابته:
-هعملها إيه إن كان لبني مش مكفيها؟
قطب جبينه معقبًا بجديةٍ:
-نوديها لدكتور يقولنا الحل، دي عطية ربنا لينا، ماينفعش نهملها.
في التو أظهرت سخريتها من حمئته الزائدة:
-اتصرف إنت، ولا عاوزني أشق الأرض تطلع بطيخ؟
كانت في واقع الأمر تكره التصرف بهذا القدر من التذمر والشكوى؛ ولكن مع المؤامرات المستمرة من حماتها، والخذلان المتواصل ممن حولها، تبدلت للنقيض، وأصبحت غير مراعية، ما لبث أن تحولت نبرتها لتهكمٍ فج عندما أتمت توبيخها:
-حط في عينك حصوة ملح، ده إنت راجل البيت يا راجل!!
كظم "عوض" غضبه في نفسه، فما أخبرته به وإن كان قاسيًا، لاذعًا، إلا أنها محقة، عكس وجهه الضيق الذي يتمرغ فيه، فتنفس بعمقٍ، ورد:
-حاضر يا "فردوس"، هشوف حل.
اندهشت من عدم إبدائه لأدنى ردة فعل جراء تعصبها الزائد عليه، وللغرابة استلذت بذلك الشعور الذي نجحت فيه ولو بقدر بسيط في فرض سيطرتها على أمر بعينه. ابتسمت لنفسها في نشوةٍ، وقالت بعزمٍ، وعيناها تلمعان بذلك الوميض الحاد:
-من هنا ورايح هتبقى المعاملة كده!
بالتدريج، لم تعد "فردوس" تلك الشابة المنطوية، والمقهورة التي تعيش في ظل الآخرين، بل بدأت في اكتساب صفات أخرى مناقضة لطبيعتها السابقة، ووسمت شخصيتها بشيء آخر، أكثر جفاءً، وغلظة.
................................................
منذ أن عاد إلى هنا وهو يتهرب منه بعشرات الحجج، حتى مسكنه الجديد الذي انتقل إليه، لم يخبره عنه، بل وأخفى عنوانه، لئلا يصبح مرغمًا على استضافته، فاضطر "ممدوح" لمقابلة رفيقه في غرفة مكتبه بالمشفى، بالطبع وصل إلى مسامعه الأخبار المتعلقة بخطبته لصاحبة الثراء والدلال، فامتلأت نفسه بالغيرة والحقد ناحيته، ما أغاظه حقًا أنه عرف بالأمر بالمصادفة، وليس كعهده معه حينما يطرأ المستجد لديه، يهاتفه أولًا ويتفاخر بما حقق من إنجازات غير مسبوقة، وكأنه ظفر بانتصارٍ ساحق. وقع "ممدوح" في حيرة من أمره من تصرفاته الأخيرة معه، وسأله في نوعٍ من المعاتبة الحذرة:
-وبقيت أنا آخر من يعلم؟
نظر له "مهاب" من طرف عينه، ولم يعلق عليه، مدعيًا انهماكه في مطالعة ما لديه من ملفاتٍ تخص مرضاه ذوي الحالات الطارئة، فاستأنف "ممدوح" كلامه السخيف إليه بطريقةٍ شبه هازئة:
-ده أنا حتى هفرح عشانك، إمبراطورية "الجندي" اندمجت مع آ..
ضجر من سماعه لنفس الحديث الرتيب، لهذا قاطعه في صوتٍ اتخذ شكلًا آمرًا:
-سبيك من الرغي اللي مالوش لازمة، دي مسائل عائلية تخصني أنا وبس.
رغم إحراجه المتعمد له، إلا أنه استمر محافظًا على ثبات ابتسامته المتكلفة، وقال:
-ماشي يا سيدي، مبروك، وعقبال الليلة الكبيرة.
رد مجاملًا باقتضابٍ، ووجهه يكسوه ذلك الطابع الجدي:
-الله يبارك فيك.
في خبثٍ ماكر سأله "ممدوح"، وهذه النظرة الغامضة تتراقص في مقلتيه:
-أومال ابنك عنده خبر؟
استغرب من طبيعة سؤاله، وأجابه بشكلٍ مباشر:
-طبعًا، ما هي دي هتبقى أمه الجديدة.
أرجع رأسه للخلف، مظهرًا استرخاءً أكبر على المقعد، ثم استطرد معقبًا بما بعث الشك في نفسه:
-طب خد بالك بدل ما يخربها عليك.
مجددًا حذره "مهاب" في رنة صوت صارمة، وقد رفع إصبعه أمام وجهه:
-"ممدوح"! إلزم حدودك! اللي بتتكلم عنه ده ابني!
أشار له الأخير بيده قائلًا بتعقلٍ، وكأنه يستدرجه بالحيلة ليقع في بئر الشكوك:
-اسمعني بس، ده أنا غرضي نصيحتك...
على مضض أصغى إليه رفيقه بترقبٍ، خاصة عندما أكمل بنفس الهدوء اللئيم:
-"أوس" ابنك متمرد، مش زي ما إنت مفكره، ممكن في لحظة يبوظلك كل حاجة، زي ما بيعمل تملي مع "تهاني".
هنا صاح به في غير تساهلٍ:
-أنا حاجة، ومراتك حاجة تانية خالص، أحسنلك ماتقارنش بينا.
تحدث من زاوية فمه قائلًا باستخفافٍ:
-خليك مصدق الحجة دي، إنت بس اللي بعيد ومش عارف تصرفاته.
أحس بالانتقاص من قدره، فهدر في تشنجٍ، ويده تطرق بعصبية على سطح مكتبه:
-وأنا قادر أوقفه لو غلط.
حينئذ انتصب في جلسته هاتفًا بابتسامة شريرة:
-زي الفل، اتفقنا على حاجة، إن ابنك محتاج توجيه.
أطبق "مهاب" على شفتيه ممتعضًا، فواصل رفيقه الحديث بسخريةٍ محسوسة:
-وأنا من جهتي هوصيه يعامل مرات أبوه المستقبلية بلطافة، زي ما بيتعامل معايا باحترام!
حدجه بنظرة مشتاطة قبل أن يعلق:
-ما هو واضح!
بتكاسلٍ نهض "ممدوح" من موضعه قائلًا في زهوٍ مغيظ:
-هسيبك لشغلك وأروح لجوز الكناريا حبايبي...
في البداية لم يفهم "مهاب" مقصده، واستشعر رفيقه ذلك من طريقة تحديقه الغريبة به، لهذا استرسل باسمًا:
-أصلي طول عمري بعشق البنات، وخلفتي لما طلعت بنات، بقيت حاسس إني ملك.
ظهر الضيق على محياه من طريقته اللعوب في استفزازه، ومع ذلك لم يمنحه الأفضلية بالشعور بانتصــاره في شيء يعتبره من السهل تحقيقه إن تزوج بأخرى. ظل يتابعه بنظرة غير مقروءة وهو يغادر حجرته، ليؤكد لنفسه في غرور:
-الشاطر هو بس اللي يضحك في الآخر يا "ممدوح"!
.............................................
عاشت لسنواتٍ وفق قواعد معينة، مرسومة منذ البداية لتخطط مصير حياتها، إلا أن ظهوره المصحوب بالنفوذ، والثراء، مع بعض الغموض المثير، جعله بالتدريج أحد اهتماماتها، إلى أن صار بعد فترة على قائمة أولوياتها، فثمة شيء في شخصه الواثق يدفعها للتقرب أكثر إليه. خطبتها إليه تمت لتعزيز روابط القوة والسلطة، وتوسيع الإمبراطورية العريقة بين اثنين من أكبر رجال الأعمال. لم يكن ليحدث أي من ذلك دون موافقتها. حجزت "ناريمان" في رحلة جوية مُرتب لها مسبقًا، والتقت بخطيبها في فيلته الصغيرة، دارت بعينيها في أرجاء حديقته ذات المساحة المحدودة، وقالت بعجرفةٍ طفيفة:
-مش حابة إنك تضايق مني عشان صممت أجي هنا، من حقي أشوف المكان اللي هعيش فيه.
أخبرها "مهاب" بنبرة مؤكدة، وهو يلصق بثغره هذه الابتسامة المنمقة:
-ده وضع مؤقت، احنا هنستقر تاني في مصر.
ردت في حبورٍ بعدما مدت ذراعها لتمسك بكأس مشروبها البارد:
-يكون أفضل، مش حابة أبوظ روتين حياتي.
قال في شيءٍ من المكر، ليضمن إبقاء تأثيره عليها:
-وأنا مقدرش أعمل حاجة تضايقك.
أعادت الكأس لموضعه على الطاولة وهي تنظر إليه، فقد استحسنت ذلك الشعور الذي يراودها بالرضا والتميز وهي في حضوره، وكان الأخير محترفًا بالقدر الذي استطاع بتمهلٍ التعامل مع طباعها الأرستقراطية، بالطريقة التي أوقعتها في شباك غرامه، وإن كانت لا تزال تُعاند، وتنكر أنها باتت تهواه. تنبه لها حينما تأوهت بصوتٍ خفيض، نظر إلى حيث وضعت يدها على جانبها، انتقل من مقعده المجاور لها ليصبح في مواجهتها وهو يسألها في صوتٍ قلق:
-مالك؟ إنتي كويسة؟
انحنت للأمام لتقاوم شعورها بالوخزات الحادة التي عصفت بجانبها، وكأنها خنجر يــطــــعنها بلا هوادة، لم تستطع التحمل، وأخبرته:
-مش عارفة، حاسة بنغزات جامدة كده في جنبي.
حاول فحصها ظاهريًا؛ لكنها لم تمنحه الفرصة، وبررت إليه سبب شعورها بهذا الإعياء المفاجئ:
-ممكن يكون القاولون تعبني شوية.
سألها بلهجة الطبيب المتمرس ليتحقق من شكوكٍ قد راحت تساوره:
-إنتي بتشتكي منه؟
أجابته بإيماءة من رأسها:
-الدكتور من فترة قالي كده، عندي قاولون عصبي.
جثا على ركبته أمامها، وطلب منها في إلحاحٍ:
-طيب أنا بصفتي دكتور، وخطيبك في نفس الوقت، أنا مضطر أفحصك من تاني.
رفضت بلباقةٍ:
-الموضوع مش مهم، دلوقتي هيروح الألم.
مد يده ليمسك بكفها، احتضنه بين راحتيه، فاقشعر بدنها للمسته الرقيقة، وأصر عليها مستخدمًا طريقته المعسولة في التأثير عليها:
-أرجوكي يا "ناريمان"، عشان أستريح، أنا بالي هيفضل كده مشغول عليكي.
أعطته هذه النظرة الجادة، فقابلها بأخرى راجية مثل نبرته:
-من فضلك.
استسلمت في النهاية مرددة:
-أوكي.
قام واقفًا، وسحبها من يدها نحو الخارج، ليستقلا معًا سيارته، حيث اتجه بها إلى المشفى للقيام بالإجراءات اللازمة لفحص حالتها في الحال.
...........................................
لم تمانع على الإطلاق تحمل عبء هذه النفقات الإضافية، وتوفير مربية ذات خبرة في التعامل مع الصغار، بجانب الخادمة، من أجل رفع مستوى معيشة أسرتها، وخصوصًا بعدما أصبحت فترات مكوث زوجها بالمنزل أكثر. طمحت في أن تكون حياتهما معًا تحوي كل ما كان يصبو إليه يومًا. بصعوبة تمكنت "تهاني" من بلع ما تبقى في صحنها لتعلق على زوجها الذي نقل إليها خبر خطوبة "مهاب"، وضعت يدها أمام فمها لتمنع تناثر البقايا، وهتفت في غير تصديقٍ:
-معقولة خطب؟ إنت متأكد من الكلام ده؟
أكد لها بإيماءة من رأسه، وقد مسح بالمنشفة الصغيرة فمه:
-أيوه يا "تهاني"، الحاجات دي مافيهاش هزار.
ابتسمت في سعادة غريبة، ورددت في قدرٍ من الشماتة:
-خليه يتلبخ بيها، علشان ما يركزش معانا، ويبوظ علينا حياتنا.
على ما يبدو لم يصغِ إلى ما قالته، وانشغل بالاستغراق في التفكير، فهسهس لنفسه في حقدٍ دفين:
-لأ وبيعمل ناصح عليا، فكره مش هعرف باللي رسمه من ورايا، أومال لو مكونتش حافظه زي كف إيدي!
لم تتبين ما يهمهم به، فسألته مستفهمة:
-بتقول إيه مش سمعاك؟
لم يجبها، ونهض عابسًا من على مقعده، فتبعته ثم فرقعت بإصبعيها لتستدعي الخادمة فتقوم بجمع الأطباق والصحون، وإعادة تنظيف وترتيب مائدة الطعام. لحقت به عندما جلس بالصالة ليشعل سيجارته، ونظرت إليه عندما تكلم في قدرٍ من التهكم الناقم:
-هيتجوز بنت بنوت، واحدة لسه بورقتها.
فاجأها اختياره، ورددت مصدومة:
-كمان؟!
اعتدلت في جلستها، ولاحقته بالأسئلة الفضولية:
-يعني هي وافقت وهي عارفة إنه كان متجوز، وعنده ولد؟
رمقها بنظرة ذات مدلول غير مفهومٍ لها، قبل أن يشبك كفيه معًا واصفًا الأمر:
-يا حبيبتي فلوس بتتجوز فلوس، الكلام ده مايفرقش معاهم.
استندت "تهاني" براحتيها على مسند الأريكة، وقالت في غنجٍ مشوب بالتسلط:
-المهم عندي تعامل ابني كويس.
رمقها بهذه النظرة المستخفة، ليعلق بعدها:
-ده إنتي المفروض تخافي عليها منه.
انزعجت من تلميحه المسيء، وهتفت في عبوسٍ متصنع:
-"ممدوح"!
تجاهل تحذيرها الضمني، واستمر في التحامل عليه:
-دي الحقيقة، ابنك هيخرب عليهم، وبكرة أفكرك.
تمسكت بتبرئة ساحة ابنها من اتهامه غير الحقيقي، فأردفت قائلة:
-مش للدرجادي، ده عيل صغير، مايفهمش حاجة.
سئم من الحديث عنه، ونهض ليقول بوجه ممتقع:
-أنا هشوف البنات.
انتصبت في جلستها، ونظرت إليه بضيقٍ طفيف، شعرت وكأنها قد بالغت في الدفاع عنه دون داعٍ، وصاحبت زوجها بنظراتها القلقة إلى أن اختفى عن محيطها.
............................................
في تلك الأثناء، كان "أوس" يجلس على الأرضية في غرفة التوأم، يلهو بلعبته، وفي نفس الآن يتسلى بصحبتهما. حينما سمع همهمة إحداهما، نهض من مكانه، وراح ينظر إليها في عطفٍ، رفع قبعة الرأس عن الرضيعة "بيسان" عندما وجدتها قد سقطت على عينيها وتسبب لها الإزعاج، ابتسم لها في وداعة، وتحرك تجاه النائمة "ليان"، تأكد من ثبات قبعتها هي الأخرى، قبل أن يستدير بجسده ليجد "ممدوح" واقفًا عند عتبة الغرفة، وينظر إليه بعينين تقدحان بالشر، لن ينكر أن داخله اهتز من طريقة تطلعه إليه، تجهم ليواري على خوفه، وتحفز في وقفته بارتباكٍ عندما هدر فيه بحدةٍ غاضبة:
-إنت بتعمل إيه؟
واتته الفرصة على طبق من ذهب ليدعي بالكذب عليه، فيفسد الود الذي كان قائمًا بينه وبين والدته، ويزرع في نفسها الشكوك ناحيته، فحينما يلجأ إليها ليشكوها من شيء ما، وجد تعنيفًا لا ترحيبًا! تقدم ناحيته مندفعًا وهو يكرر عليه سؤاله المشوب بالاتهام، فأنكره "أوس" بثباتٍ:
-ما عملتش حاجة!
انقض عليه ليمسك به من عنقه، ثم جذبه بعيدًا عن الرضيعتين، ليدفعه بعنفٍ نحو الدولاب وهو مستمر في صراخه الذي أوقظهما:
-إياك تقرب منهم!
بكت الرضيعتان في فزعٍ، وجاءت "تهاني" ركضًا وهي تتساءل في استرابة قلقة:
-إيه اللي حصل؟
في التو أجابها "ممدوح" وهو يشير بإصبع الاتهام إليه، ليقطع عليه أي وسيلة لكشف كذبه:
-الأخ الكبير شوفته وهو بيكتم نفسهم.
لوى "أوس" وجهه بغضبٍ، وصاح فيه مستهجنًا، وبعصبيةٍ تماثله:
-محصلش، ده كداب.
ارتفع صراخ الرضيعتان، فانتقلت "تهاني" لتجاورهما، وراحت توبخ ابنها بأسلوبٍ شبه لاذع دون منحه فرصة الدفاع عن نفسه:
-"أوس"! برضوه مصمم تعمل الغلط؟ مش أنا نبهت عليك؟
نظر لها مصدومًا، وبعينين ذاهلتين وهي لا تزال تلقي بكامل اللوم على ابنها:
-بجد إنت تعبتني، أعمل إيه بس معاك؟
اشتعل داخلها بغضبه المتأجج، وراح يهتف في حــــرقةٍ:
-صدقيني يا ماما، أنا معملتش حاجة!
توقف للحظة ليأخذ نفسه، ثم استأنف مشيرًا بسبابته نحو من يبغض بشدة:
-هو بيكدب!
وكأن تأثير كلمته الأخيرة قد أعطته التفويض ليتعامل معه مثلما أراد، بكل عدائية وقسوة، فاستغل تأزم الوضع ليقول بتشددٍ:
-المرادي أنا مش هسكت، كله إلا البنات يا "تهاني"!!
كانت على وشك النطق بشيء، فأخرسها بصرامته، وإصبعه مرفوع أمام وجهها:
-وإياكي تتدخلي، وإلا هنزعل من بعض.
ارتاعت من تهديده، وقفز قلبها بين ضلوعها، فرجته:
-"ممدوح"!
أمرها بصرامةٍ وهو يتحرك صوب "أوس" في انقضاضٍ واضح:
-خليكي هنا!
أمسك به من مؤخرة عنقه، فركله "أوس" بشراسةٍ في ركبته ليوجعه صارخًا به:
-ابعد عني، شيل إيدك.
تحمل ضربته العنيفة، وتصدى لمحاولاته للإفلات منه، ليتمكن في النهاية من اصطياده، فقام بتطويق عنقه بذراعه القوي، واستخدم الآخر في تقييد معصميه، ليصبح تحت رحمته، ثم دفعه دفعًا إلى الخارج، وهو يفح بالقرب من أذنه بوعيدٍ مخــــيف:
-وريني أبوك هيحميك إزاي مني ................................... !!
(الضــــحية)
عند المقابر، وقبيل وقت الظهيرة تقريبًا، في موعده الشهري، كان متواجدًا هناك، أبقى على ذراعيه مرفوعين للسماء، وهو لا يزال يدعو بأدعيته المهموسة، لعل وعسى يستجيب المولى له، ويغفر لها ما اقترفت من ذنوب، فمنذ أن فارقت الحياة قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر، وقلبه يلتـــاع لرحيلها بهذا الشكل المأساوي، ظلت الأسئلة والخواطر تطوف في رأسه بلا أجوبة محددة، ولم يسعَ لتحري الحقيقة، اكتفى بتذكر آخر كلماتها، وهي رغبتها في نيل غفرانه. مسح "عوض" على وجهه براحتيه، وتأهب للذهاب؛ لكن استوقفته إحدى السيدات بالنداء عليه، أخفض بصره، وسألها:
-خير يا ست في حاجة؟
بحركة لا إرادية شدت المرأة من حجابها على رأسها، وخاطبته في حزنٍ مبالغ فيه:
-قلبي عندك يا سي "عوض"، المرحومة كانت غالية عندي، ومكونتش بتأخر عنها في حاجة.
رد عليها بحذرٍ، ودون أن ينظر تجاهها:
-ربنا يكرمك.
همَّ بالتحرك؛ لكنها استوقفته بجملتها المريبة:
-هي في بس حاجة مضايقاني، ومحسساني بالذنب، ومش مخلياني أتهنى في نومة أبدًا.
لحظتها اضطر أن ينظر إليها متسائلًا بقلق:
-خير؟
أجابته بشيءٍ من التردد وهي تشير بيدها:
-والله العظيم، ولأجل الحلفان لو كنت أعرف إنها عايزة الزفـــــت ده عشان نفسها ما كنت جبتهولها.
حديثها إليه كان أشبه بحل قطعة من الأحجية، فسألها مستفهمًا:
-بتاع إيه؟
تلفتت حولها بنظرات قلقة، قبل أن تستجمع جأشها لتقول، في صوتٍ خافت، وكأنها تخشى سماع أحدهم لها:
-مياه النـــــار!
برقت عيناه ذهولًا من الصدمة غير المتوقعة، فاستمرت تستفيض في الشرح:
-أصل المرحومة، ربنا يبشبش الطوبة اللي تحت راسها، كانت طلبته قبل ما يجرالها اللي جرى بكام يوم، ومكونتش عارفة هي عايزاه ليه، فكرتها ناوية تنضف بيه البوتجاز ولا تشيل بيه جلخ الأرضيات.
من هول صدمته، لم يحاول "عوض" البحث عن تفسير آخر لسبب ابتياعها لتلك المادة الكــــــاوية، واكتفى بتصديق أنها كانت بحاجة إليه لتستخدمه في التنظيف، أطرق رأسه للأسفل، وردد:
-قدر الله وما شاء فعل.
كانت على وشك الكلام مرة ثانية، فرفع كفه ليمنعها من التفوه بشيء، وطلب منها في صوتٍ هادئ لكنه جاد:
-هي عند اللي خالقها، ادعيلها بالرحمة والغفرة.
في التو علقت بعد زمة سريعة لشفتيها:
-ألف رحمة ونور عليكي يا ست "أم عوض"، دي كانت ست خيرة، والكل بيحبها، ومحدش عمره شال منه.
لم يحبذ البقاء مطولًا معها، فقال منصرفًا:
-معلش هستأذنك أنا.
تنحت للجانب، وقالت وهي تطالعه بنظرة آسفة ومتعاطفة:
-اتفضل يا سي "عوض".
خطا مبتعدًا عنها، ورأسه يعج بعشرات الأسئلة، طغى عليهم جميعًا واحد بعينه، فتساءل، كأنما يكلم نفسه:
-يا ترى كنتي ناوية تأذينا بيه والحق خد حقه قبل ما ده يحصل؟
ظل على حيرته المهلكة، فتابع في يأسٍ:
-ربنا وحده اللي عالم بنيتك يامه!
أكمل سيره المتخاذل وهو يهز رأسه للجانبين مُحادثًا نفسه:
-مافيش منه رجا، ربنا يرحمك يامه، ويعفو عنك.
...........................................................
فــــتكت بها موجات الصداع المتواترة، وكأنها تصـــارعها بلا معركة ظاهرية، جراء بكاء صغيرتها المتواصل، فمنذ مطلع النهار وهي على نفس الحالة الباكية، ورغم محاولتها بذل الجهد لتلبية احتياجاتها الأساسية، إلا أنها لم تكف أو تتوقف عن الصراخ، مما جعل أعصابها تتوتر للغاية، وتزداد انفعالًا وحنقًا منها. نظرت "فردوس" شزرًا لرضيعتها، وصاحت بها في استياءٍ عارم بعدما فاض بها الكيل وفشلت كل الطرق في إسكاتها:
-كفاية بقى، إيه مابتتعبيش؟
نهضت من جوارها، وتركتها بمفردها على الفراش، واستمرت تصرخ فيها:
-أنا دماغي صدعت، لا بقيت عارفة أنام، ولا أقعد، ولا أعمل أي حاجة؟
في لحظة طيش عابرة قذفتها بالوسادة، وهي تزيد من صياحها اللائم:
-عملت إيه في دنيتي عشان أفضل في الهم ده؟
تطلعت إلى نقطة بالفراغ، ودمدمت في صوتٍ محموم، وهذه الحمرة الناقمة تشتعل في حدقتيها:
-حتى "تهاني" من ساعة آخر مرة كلمتني فيها، ولا حس ولا خبر.
تحولت دفة العتاب تجاهها، فحملتها كل الذنب في كراهية راحت تتأصل في أعماقها:
-كأنها مصدقت تنساني زي ما نسيتنا زمان.
قست كامل تعبيراتها، واسودت نظراتها وهي تدعو في حــــرقـــة:
-ربنا يخلص منها، وتشوف الغلب والمرار في حياتها!
شعرت بوطأة حقدها عليها يتأصل بداخلها، وتركت تأثيره السيء يتغلغل فيها، مؤكدة لنفسها أنها تستحق هذه العداوة جراء ما ارتكبت من قطيعة وخصـــام.
......................................
كقطعتين من فاكهة الجنة، تململت الرضيعتان في رقة وهما مستلقيتان في سريرين متجاورين، تموءان في صوتٍ خفيض كاستجابة لملاطفة شقيقهما الأكبر لهما، مرر "أوس" ناظريه بينهما، تأملهما في صمت، وراح يداعب كل واحدة على حدا، وكأنه يستكشف طبيعة شخصيتيهما غير المفهومة له باللعب الحذر معهما. لم يشعر بمراقبة والدته له، كانت الأخيرة مستمتعة برؤية ابنها البكري يُبدي اهتمامه بالطفلتين، كانت تخشى من عدم تقبله لهما، تبددت مخاوفها مع ما تشهده في هذه اللحظات المميزة، تشجعت لتمضي تجاهه وهي تقول في صوتٍ أمومي مملوء بالفخر:
-ربنا يخليكم لبعض.
وضعت يدها حول كتفيه، وضمته إلى صدره، لتضيف بعدها في شيء من التوصية:
-إنت أخوهم الكبير، لازم تاخد بالك منهم دايمًا، ومتخليش حاجة تأذيهم.
أبقى "أوس" على نظراته الحائرة موزعة بينهما، ثم سألها فجأة، وكأن هناك سؤال ما علق في رأسه:
-هما ممكن يكرهوني؟
تخشب ذراعها على كتفيه، فالتفتت كليًا تجاهه، وأجبرته على الاستدارة ومواجهتها، اندهشت لتفكيره المريب، وسألته بشيءٍ من القلق والتخبط:
-ليه بتقول كده يا حبيبي؟
بلا تزييف أجابها:
-عشان أنا مش بحب باباهم.
لن تنكر أنها أحست بالضيق لجوابه الصريح، والذي أصابها بالكدر، لفظت دفعة من الهواء، وتكلمت في تحيزٍ، محاولة إظهار عدم صواب تفكيره ناحيته:
-"أوس"، إنت ليه بتكره عمو "ممدوح"؟ ده هو بيعمل كل حاجة عشان يشوفك مبسوط.
أصر على كراهيته له بقول المزيد، وكأنه يفضح عيوبه التي تتغاضى عنها:
-هو كداب.
وقتئذ ثارت لما اعتبرتها إهانة وقحة موجهة لزوجها، فاشتدت قبضتيها على منبتي كتفيه، وعنفته في غضبٍ منفعل، وقد راحت تهزه بعصبيةٍ:
-عيب تقول كده عليه؟ ده ليه مقامه واحترامه، وأنا مش هسمحلك تقل منه.
بقوة غريبة سرت في عروقه، دفع قبضتيها عنه ليتحرر منها، ثم اندفع نحو الخارج متجاهلًا زعيقها:
-استنى هنا! إنت رايح فين؟
تجمدت في مكانها وقد بدأت الرضيعتان تبكيان لصوت صراخها المفزع، نظرت إليهما بتحيرٍ، وتساءلت بعدما تهدل كتفاها في إحباطٍ:
-أعمل معاك إيه بس يا "أوس"؟
لحظتها شعرت وكأنه يصعب عليها التعامل مع ما أسماه زوجها بتمرده الصريح على قواعد الأسرة، أطرقت رأسها في ضيقٍ، وظلت تقول بصوتٍ يائس:
-شكلك هتبقى واخد طريقة أبوك، متعب لكل اللي حواليك!
لم تلحق به، وأثرت إهماله إلى حين إدراكه مدى خطأه، إذ ربما يكف عن التصرف بطفولية معاندة، ويتحمل نتائج سلوكه غير المنضبط.
........................................
أرادت تحميله وزر تأخيره عن العودة للمنزل في وقت مبكر، وتركها هكذا غالبية الوقت بمفردها، تعافر لرعاية الرضيعة وهي تفتقر للرغبة في فعل ذلك. استقبلته "فردوس" عندما عاد بتقاسيمٍ عابسة، ونظرة وجه متجهمة، ألقى عليها التحية، فردت في صوتٍ متحفزٍ، ويدها موضوعة عند منتصف خصرها:
-ما لسه بدري يا "عوض"؟
تقدمت ناحيتها قائلًا في نبرة هادئة، مغلفة بالتعب:
-ما أنا قايلك مسافر البلد النهاردة أزور أمي في تُربتها.
وكأن الإتيان على سيرتها، في هذه اللحظة المشحونة، جعل زمام الأمور ينفلت، فانفجرت صارخة فيه دون مقدماتٍ:
-وأنا تعبت من كتر الزن، وإنت سايبني طول النهار لواحدي؟ ولا ليك شغلة ولا مشغلة!
اربد وجهه بالضيق، واستعتبها:
-مش وقت معايرة يا "فردوس"!
جاء ردها مثلها فظًا:
-ياخي حس بيا، هو إنت بتعمل حاجة أصلًا؟
ثم خفضت من نبرتها لتتم جملتها:
-ده إنت ناقص تشحت على باب الجامع!
لم يتبين ما قالته بوضوح، ولم يكترث، فقط هتف بها في وجه عابس:
-خلاص، هي "تقى" فين؟
طوحت بيدها للأمام وهي تجيبه:
-أهي موجودة على السرير.
اتجه نحو غرفة نومهما، وبكل حنان وترفق حمل رضيعته، وضمها بين ذراعيه، أخذ يهدهدها في لطافةٍ، حتى سكنت، وهدأت، ونامت في براءةٍ، سار بها للخارج ليجد زوجته لا تزال واقفة، ترمقه بنظرة حانقة، فقال كأنما يُعلمها:
-أنا هروح بيها الأوضة التانية.
لوت ثغرها مغمغمة:
-يكون أحسن.
قبل أن يسير مبتعدًا بها، لاحظ ذبول وجه رضيعته، فاستطرد مخاطبًا إياها في قلقٍ:
-البت شكلها ضعيف وهفتان.
في تذمرٍ متواصل أجابته:
-هعملها إيه إن كان لبني مش مكفيها؟
قطب جبينه معقبًا بجديةٍ:
-نوديها لدكتور يقولنا الحل، دي عطية ربنا لينا، ماينفعش نهملها.
في التو أظهرت سخريتها من حمئته الزائدة:
-اتصرف إنت، ولا عاوزني أشق الأرض تطلع بطيخ؟
كانت في واقع الأمر تكره التصرف بهذا القدر من التذمر والشكوى؛ ولكن مع المؤامرات المستمرة من حماتها، والخذلان المتواصل ممن حولها، تبدلت للنقيض، وأصبحت غير مراعية، ما لبث أن تحولت نبرتها لتهكمٍ فج عندما أتمت توبيخها:
-حط في عينك حصوة ملح، ده إنت راجل البيت يا راجل!!
كظم "عوض" غضبه في نفسه، فما أخبرته به وإن كان قاسيًا، لاذعًا، إلا أنها محقة، عكس وجهه الضيق الذي يتمرغ فيه، فتنفس بعمقٍ، ورد:
-حاضر يا "فردوس"، هشوف حل.
اندهشت من عدم إبدائه لأدنى ردة فعل جراء تعصبها الزائد عليه، وللغرابة استلذت بذلك الشعور الذي نجحت فيه ولو بقدر بسيط في فرض سيطرتها على أمر بعينه. ابتسمت لنفسها في نشوةٍ، وقالت بعزمٍ، وعيناها تلمعان بذلك الوميض الحاد:
-من هنا ورايح هتبقى المعاملة كده!
بالتدريج، لم تعد "فردوس" تلك الشابة المنطوية، والمقهورة التي تعيش في ظل الآخرين، بل بدأت في اكتساب صفات أخرى مناقضة لطبيعتها السابقة، ووسمت شخصيتها بشيء آخر، أكثر جفاءً، وغلظة.
................................................
منذ أن عاد إلى هنا وهو يتهرب منه بعشرات الحجج، حتى مسكنه الجديد الذي انتقل إليه، لم يخبره عنه، بل وأخفى عنوانه، لئلا يصبح مرغمًا على استضافته، فاضطر "ممدوح" لمقابلة رفيقه في غرفة مكتبه بالمشفى، بالطبع وصل إلى مسامعه الأخبار المتعلقة بخطبته لصاحبة الثراء والدلال، فامتلأت نفسه بالغيرة والحقد ناحيته، ما أغاظه حقًا أنه عرف بالأمر بالمصادفة، وليس كعهده معه حينما يطرأ المستجد لديه، يهاتفه أولًا ويتفاخر بما حقق من إنجازات غير مسبوقة، وكأنه ظفر بانتصارٍ ساحق. وقع "ممدوح" في حيرة من أمره من تصرفاته الأخيرة معه، وسأله في نوعٍ من المعاتبة الحذرة:
-وبقيت أنا آخر من يعلم؟
نظر له "مهاب" من طرف عينه، ولم يعلق عليه، مدعيًا انهماكه في مطالعة ما لديه من ملفاتٍ تخص مرضاه ذوي الحالات الطارئة، فاستأنف "ممدوح" كلامه السخيف إليه بطريقةٍ شبه هازئة:
-ده أنا حتى هفرح عشانك، إمبراطورية "الجندي" اندمجت مع آ..
ضجر من سماعه لنفس الحديث الرتيب، لهذا قاطعه في صوتٍ اتخذ شكلًا آمرًا:
-سبيك من الرغي اللي مالوش لازمة، دي مسائل عائلية تخصني أنا وبس.
رغم إحراجه المتعمد له، إلا أنه استمر محافظًا على ثبات ابتسامته المتكلفة، وقال:
-ماشي يا سيدي، مبروك، وعقبال الليلة الكبيرة.
رد مجاملًا باقتضابٍ، ووجهه يكسوه ذلك الطابع الجدي:
-الله يبارك فيك.
في خبثٍ ماكر سأله "ممدوح"، وهذه النظرة الغامضة تتراقص في مقلتيه:
-أومال ابنك عنده خبر؟
استغرب من طبيعة سؤاله، وأجابه بشكلٍ مباشر:
-طبعًا، ما هي دي هتبقى أمه الجديدة.
أرجع رأسه للخلف، مظهرًا استرخاءً أكبر على المقعد، ثم استطرد معقبًا بما بعث الشك في نفسه:
-طب خد بالك بدل ما يخربها عليك.
مجددًا حذره "مهاب" في رنة صوت صارمة، وقد رفع إصبعه أمام وجهه:
-"ممدوح"! إلزم حدودك! اللي بتتكلم عنه ده ابني!
أشار له الأخير بيده قائلًا بتعقلٍ، وكأنه يستدرجه بالحيلة ليقع في بئر الشكوك:
-اسمعني بس، ده أنا غرضي نصيحتك...
على مضض أصغى إليه رفيقه بترقبٍ، خاصة عندما أكمل بنفس الهدوء اللئيم:
-"أوس" ابنك متمرد، مش زي ما إنت مفكره، ممكن في لحظة يبوظلك كل حاجة، زي ما بيعمل تملي مع "تهاني".
هنا صاح به في غير تساهلٍ:
-أنا حاجة، ومراتك حاجة تانية خالص، أحسنلك ماتقارنش بينا.
تحدث من زاوية فمه قائلًا باستخفافٍ:
-خليك مصدق الحجة دي، إنت بس اللي بعيد ومش عارف تصرفاته.
أحس بالانتقاص من قدره، فهدر في تشنجٍ، ويده تطرق بعصبية على سطح مكتبه:
-وأنا قادر أوقفه لو غلط.
حينئذ انتصب في جلسته هاتفًا بابتسامة شريرة:
-زي الفل، اتفقنا على حاجة، إن ابنك محتاج توجيه.
أطبق "مهاب" على شفتيه ممتعضًا، فواصل رفيقه الحديث بسخريةٍ محسوسة:
-وأنا من جهتي هوصيه يعامل مرات أبوه المستقبلية بلطافة، زي ما بيتعامل معايا باحترام!
حدجه بنظرة مشتاطة قبل أن يعلق:
-ما هو واضح!
بتكاسلٍ نهض "ممدوح" من موضعه قائلًا في زهوٍ مغيظ:
-هسيبك لشغلك وأروح لجوز الكناريا حبايبي...
في البداية لم يفهم "مهاب" مقصده، واستشعر رفيقه ذلك من طريقة تحديقه الغريبة به، لهذا استرسل باسمًا:
-أصلي طول عمري بعشق البنات، وخلفتي لما طلعت بنات، بقيت حاسس إني ملك.
ظهر الضيق على محياه من طريقته اللعوب في استفزازه، ومع ذلك لم يمنحه الأفضلية بالشعور بانتصــاره في شيء يعتبره من السهل تحقيقه إن تزوج بأخرى. ظل يتابعه بنظرة غير مقروءة وهو يغادر حجرته، ليؤكد لنفسه في غرور:
-الشاطر هو بس اللي يضحك في الآخر يا "ممدوح"!
.............................................
عاشت لسنواتٍ وفق قواعد معينة، مرسومة منذ البداية لتخطط مصير حياتها، إلا أن ظهوره المصحوب بالنفوذ، والثراء، مع بعض الغموض المثير، جعله بالتدريج أحد اهتماماتها، إلى أن صار بعد فترة على قائمة أولوياتها، فثمة شيء في شخصه الواثق يدفعها للتقرب أكثر إليه. خطبتها إليه تمت لتعزيز روابط القوة والسلطة، وتوسيع الإمبراطورية العريقة بين اثنين من أكبر رجال الأعمال. لم يكن ليحدث أي من ذلك دون موافقتها. حجزت "ناريمان" في رحلة جوية مُرتب لها مسبقًا، والتقت بخطيبها في فيلته الصغيرة، دارت بعينيها في أرجاء حديقته ذات المساحة المحدودة، وقالت بعجرفةٍ طفيفة:
-مش حابة إنك تضايق مني عشان صممت أجي هنا، من حقي أشوف المكان اللي هعيش فيه.
أخبرها "مهاب" بنبرة مؤكدة، وهو يلصق بثغره هذه الابتسامة المنمقة:
-ده وضع مؤقت، احنا هنستقر تاني في مصر.
ردت في حبورٍ بعدما مدت ذراعها لتمسك بكأس مشروبها البارد:
-يكون أفضل، مش حابة أبوظ روتين حياتي.
قال في شيءٍ من المكر، ليضمن إبقاء تأثيره عليها:
-وأنا مقدرش أعمل حاجة تضايقك.
أعادت الكأس لموضعه على الطاولة وهي تنظر إليه، فقد استحسنت ذلك الشعور الذي يراودها بالرضا والتميز وهي في حضوره، وكان الأخير محترفًا بالقدر الذي استطاع بتمهلٍ التعامل مع طباعها الأرستقراطية، بالطريقة التي أوقعتها في شباك غرامه، وإن كانت لا تزال تُعاند، وتنكر أنها باتت تهواه. تنبه لها حينما تأوهت بصوتٍ خفيض، نظر إلى حيث وضعت يدها على جانبها، انتقل من مقعده المجاور لها ليصبح في مواجهتها وهو يسألها في صوتٍ قلق:
-مالك؟ إنتي كويسة؟
انحنت للأمام لتقاوم شعورها بالوخزات الحادة التي عصفت بجانبها، وكأنها خنجر يــطــــعنها بلا هوادة، لم تستطع التحمل، وأخبرته:
-مش عارفة، حاسة بنغزات جامدة كده في جنبي.
حاول فحصها ظاهريًا؛ لكنها لم تمنحه الفرصة، وبررت إليه سبب شعورها بهذا الإعياء المفاجئ:
-ممكن يكون القاولون تعبني شوية.
سألها بلهجة الطبيب المتمرس ليتحقق من شكوكٍ قد راحت تساوره:
-إنتي بتشتكي منه؟
أجابته بإيماءة من رأسها:
-الدكتور من فترة قالي كده، عندي قاولون عصبي.
جثا على ركبته أمامها، وطلب منها في إلحاحٍ:
-طيب أنا بصفتي دكتور، وخطيبك في نفس الوقت، أنا مضطر أفحصك من تاني.
رفضت بلباقةٍ:
-الموضوع مش مهم، دلوقتي هيروح الألم.
مد يده ليمسك بكفها، احتضنه بين راحتيه، فاقشعر بدنها للمسته الرقيقة، وأصر عليها مستخدمًا طريقته المعسولة في التأثير عليها:
-أرجوكي يا "ناريمان"، عشان أستريح، أنا بالي هيفضل كده مشغول عليكي.
أعطته هذه النظرة الجادة، فقابلها بأخرى راجية مثل نبرته:
-من فضلك.
استسلمت في النهاية مرددة:
-أوكي.
قام واقفًا، وسحبها من يدها نحو الخارج، ليستقلا معًا سيارته، حيث اتجه بها إلى المشفى للقيام بالإجراءات اللازمة لفحص حالتها في الحال.
...........................................
لم تمانع على الإطلاق تحمل عبء هذه النفقات الإضافية، وتوفير مربية ذات خبرة في التعامل مع الصغار، بجانب الخادمة، من أجل رفع مستوى معيشة أسرتها، وخصوصًا بعدما أصبحت فترات مكوث زوجها بالمنزل أكثر. طمحت في أن تكون حياتهما معًا تحوي كل ما كان يصبو إليه يومًا. بصعوبة تمكنت "تهاني" من بلع ما تبقى في صحنها لتعلق على زوجها الذي نقل إليها خبر خطوبة "مهاب"، وضعت يدها أمام فمها لتمنع تناثر البقايا، وهتفت في غير تصديقٍ:
-معقولة خطب؟ إنت متأكد من الكلام ده؟
أكد لها بإيماءة من رأسه، وقد مسح بالمنشفة الصغيرة فمه:
-أيوه يا "تهاني"، الحاجات دي مافيهاش هزار.
ابتسمت في سعادة غريبة، ورددت في قدرٍ من الشماتة:
-خليه يتلبخ بيها، علشان ما يركزش معانا، ويبوظ علينا حياتنا.
على ما يبدو لم يصغِ إلى ما قالته، وانشغل بالاستغراق في التفكير، فهسهس لنفسه في حقدٍ دفين:
-لأ وبيعمل ناصح عليا، فكره مش هعرف باللي رسمه من ورايا، أومال لو مكونتش حافظه زي كف إيدي!
لم تتبين ما يهمهم به، فسألته مستفهمة:
-بتقول إيه مش سمعاك؟
لم يجبها، ونهض عابسًا من على مقعده، فتبعته ثم فرقعت بإصبعيها لتستدعي الخادمة فتقوم بجمع الأطباق والصحون، وإعادة تنظيف وترتيب مائدة الطعام. لحقت به عندما جلس بالصالة ليشعل سيجارته، ونظرت إليه عندما تكلم في قدرٍ من التهكم الناقم:
-هيتجوز بنت بنوت، واحدة لسه بورقتها.
فاجأها اختياره، ورددت مصدومة:
-كمان؟!
اعتدلت في جلستها، ولاحقته بالأسئلة الفضولية:
-يعني هي وافقت وهي عارفة إنه كان متجوز، وعنده ولد؟
رمقها بنظرة ذات مدلول غير مفهومٍ لها، قبل أن يشبك كفيه معًا واصفًا الأمر:
-يا حبيبتي فلوس بتتجوز فلوس، الكلام ده مايفرقش معاهم.
استندت "تهاني" براحتيها على مسند الأريكة، وقالت في غنجٍ مشوب بالتسلط:
-المهم عندي تعامل ابني كويس.
رمقها بهذه النظرة المستخفة، ليعلق بعدها:
-ده إنتي المفروض تخافي عليها منه.
انزعجت من تلميحه المسيء، وهتفت في عبوسٍ متصنع:
-"ممدوح"!
تجاهل تحذيرها الضمني، واستمر في التحامل عليه:
-دي الحقيقة، ابنك هيخرب عليهم، وبكرة أفكرك.
تمسكت بتبرئة ساحة ابنها من اتهامه غير الحقيقي، فأردفت قائلة:
-مش للدرجادي، ده عيل صغير، مايفهمش حاجة.
سئم من الحديث عنه، ونهض ليقول بوجه ممتقع:
-أنا هشوف البنات.
انتصبت في جلستها، ونظرت إليه بضيقٍ طفيف، شعرت وكأنها قد بالغت في الدفاع عنه دون داعٍ، وصاحبت زوجها بنظراتها القلقة إلى أن اختفى عن محيطها.
............................................
في تلك الأثناء، كان "أوس" يجلس على الأرضية في غرفة التوأم، يلهو بلعبته، وفي نفس الآن يتسلى بصحبتهما. حينما سمع همهمة إحداهما، نهض من مكانه، وراح ينظر إليها في عطفٍ، رفع قبعة الرأس عن الرضيعة "بيسان" عندما وجدتها قد سقطت على عينيها وتسبب لها الإزعاج، ابتسم لها في وداعة، وتحرك تجاه النائمة "ليان"، تأكد من ثبات قبعتها هي الأخرى، قبل أن يستدير بجسده ليجد "ممدوح" واقفًا عند عتبة الغرفة، وينظر إليه بعينين تقدحان بالشر، لن ينكر أن داخله اهتز من طريقة تطلعه إليه، تجهم ليواري على خوفه، وتحفز في وقفته بارتباكٍ عندما هدر فيه بحدةٍ غاضبة:
-إنت بتعمل إيه؟
واتته الفرصة على طبق من ذهب ليدعي بالكذب عليه، فيفسد الود الذي كان قائمًا بينه وبين والدته، ويزرع في نفسها الشكوك ناحيته، فحينما يلجأ إليها ليشكوها من شيء ما، وجد تعنيفًا لا ترحيبًا! تقدم ناحيته مندفعًا وهو يكرر عليه سؤاله المشوب بالاتهام، فأنكره "أوس" بثباتٍ:
-ما عملتش حاجة!
انقض عليه ليمسك به من عنقه، ثم جذبه بعيدًا عن الرضيعتين، ليدفعه بعنفٍ نحو الدولاب وهو مستمر في صراخه الذي أوقظهما:
-إياك تقرب منهم!
بكت الرضيعتان في فزعٍ، وجاءت "تهاني" ركضًا وهي تتساءل في استرابة قلقة:
-إيه اللي حصل؟
في التو أجابها "ممدوح" وهو يشير بإصبع الاتهام إليه، ليقطع عليه أي وسيلة لكشف كذبه:
-الأخ الكبير شوفته وهو بيكتم نفسهم.
لوى "أوس" وجهه بغضبٍ، وصاح فيه مستهجنًا، وبعصبيةٍ تماثله:
-محصلش، ده كداب.
ارتفع صراخ الرضيعتان، فانتقلت "تهاني" لتجاورهما، وراحت توبخ ابنها بأسلوبٍ شبه لاذع دون منحه فرصة الدفاع عن نفسه:
-"أوس"! برضوه مصمم تعمل الغلط؟ مش أنا نبهت عليك؟
نظر لها مصدومًا، وبعينين ذاهلتين وهي لا تزال تلقي بكامل اللوم على ابنها:
-بجد إنت تعبتني، أعمل إيه بس معاك؟
اشتعل داخلها بغضبه المتأجج، وراح يهتف في حــــرقةٍ:
-صدقيني يا ماما، أنا معملتش حاجة!
توقف للحظة ليأخذ نفسه، ثم استأنف مشيرًا بسبابته نحو من يبغض بشدة:
-هو بيكدب!
وكأن تأثير كلمته الأخيرة قد أعطته التفويض ليتعامل معه مثلما أراد، بكل عدائية وقسوة، فاستغل تأزم الوضع ليقول بتشددٍ:
-المرادي أنا مش هسكت، كله إلا البنات يا "تهاني"!!
كانت على وشك النطق بشيء، فأخرسها بصرامته، وإصبعه مرفوع أمام وجهها:
-وإياكي تتدخلي، وإلا هنزعل من بعض.
ارتاعت من تهديده، وقفز قلبها بين ضلوعها، فرجته:
-"ممدوح"!
أمرها بصرامةٍ وهو يتحرك صوب "أوس" في انقضاضٍ واضح:
-خليكي هنا!
أمسك به من مؤخرة عنقه، فركله "أوس" بشراسةٍ في ركبته ليوجعه صارخًا به:
-ابعد عني، شيل إيدك.
تحمل ضربته العنيفة، وتصدى لمحاولاته للإفلات منه، ليتمكن في النهاية من اصطياده، فقام بتطويق عنقه بذراعه القوي، واستخدم الآخر في تقييد معصميه، ليصبح تحت رحمته، ثم دفعه دفعًا إلى الخارج، وهو يفح بالقرب من أذنه بوعيدٍ مخــــيف:
-وريني أبوك هيحميك إزاي مني ................................... !!