رواية رحلة الآثام الفصل الرابع والثلاثون 34 بقلم منال سالم
الفصل الرابع والثلاثون
(خلل)
بمجرد أن اختلى به في غرفته، ألقاه أرضًا بخشونة واضحة، لتصطدم رأسه بالأرضية الصلبة، ربما لم يفكر في إيذائه بدنيًا، لكن فكرة إرهــابه في حد ذاتها، وترويض تمرده إن لزم الأمر بأي وسيلة يراها مناسبة، كانت وحدها كفيلة بجعل ذلك الشعور الممتع بالسيطرة يغمره بقوةٍ. ارتسم على وجه "ممدوح" ابتسامة شيطانية عريضة، بينما بادله "أوس" بنظرة نارية مغتاظة منه، سرعان ما تحولت لشيء من الخوف عندما هدده علنًا:
-محدش يقدر يحميك مني مهما كان مين..
ضغط على كل كلمة تفوه بها حين واصل الكلام، وهو يسدد له تلك النظرة القاتمة:
-حتى أبوك...
التمعت عيناه بهذا الشيء الخبيث، والصغير ينظر إليه بتوترٍ مذعور، خاصة عندما أخبره بثقةٍ غير مشكوك فيها:
-أنا عرفت أضحك عليه إزاي، وأخليه يبقى في صفي، لأن ببساطة أنا فاهمه كويس، وكل مفاتيحه معايا.
تزَّحف "أوس" للخلف على مرفقيه حين خطا تجاهه، لينأى بنفسه عن أي حركة غدر غير متوقعة منه، قد يقوم بها لاستثارة رعبه أكثر. استمر "ممدوح" في اقترابه قائلًا بصوتٍ خفيض كان أشبه بالفحيح:
-من هنا ورايح روحك بقت في إيدي.
لحظتها ارتفع الخفقان في قلب الصغير كردة فعل على تهديده، تحول صوت شهقته لصرخة مكتومة وقد بلغه فجأة، لينقض عليه قابضًا على ذقنه، رفعه منها ليجبره على النهوض، فتأوه الصغير من الألم، لم يتركه "ممدوح" بل زاد من ضغطه وهو يتوعده بلا هوادةٍ:
-وحياتك جـــحيـــم معايا!
حاول "أوس" انتزاع أصابعه من على فكيه بأقصى طاقته؛ لكنه عجز أمام قوته الجسمانية المتحكمة به، كان كالدمية تحت قبضته، يطوحه هنا وهناك كيفما يشاء، آنئذ تزعزعت الثقة التي كانت تسود داخله، بأنه قادرٌ على كبحه، والتصدي له حين يفكر بالبطش به. مرة ثانية دفعه "ممدوح" أرضًا لينكب على ظهره، قبل أن تأتيه ركلة متوسطة القوة في ساقه، أتبعها وعيده القاسي:
-مش هرحمك، سامعني؟ هخليك ماتدوقش طعم النوم...
جحظت عيناه ارتعابًا، فانتشى لأنه نجح بأقل مجهود في تخويفه، وأكمل على نفس النهج المثير للارتياع:
-ومش هتقدر تنطق بحرف من اللي هعمله فيك!
ثم رفع إصبعه أمام وجهه ليأمره بعدئذ بصرامةٍ غلفت نبرته وملامحه:
-خليك هنا، مش هتخرج غير بأمر مني.
ألحق بجملته هذه نظرة هازئة به، ليشرع بالتحرك مرددًا في قدرٍ من التهكم:
-سلام يا ابن "مهاب"!
ظلت عينا "أوس" معلقتين بآثار طيفه، رغم انصرافه، وغلقه للباب من الخارج بالمفتاح، ليظل بمفرده حبيس غرفته، للغرابة وجد جسده يرتجف، وكأن عالم الأمان الذي ظن أنه محاط به قد تبخر في غمضة عين، انكمش على نفسه، ونكس رأسه بين ركبتيه المضمومتين إلى صدره، حاوط جسده بذراعيه، محاولًا التغلب على ذلك الشعور الغريب الذي لم يعتد عليه بعد، أن تصبح ضعيفًا!
......................................................
أتت نتائج الفحوصات الدقيقة، والإشاعات المطلوبة، ولم تكن مبشرة على الإطلاق، بل تضمنت أمرًا خشي الإفصـــاح عنه، إذ من المحتمل أن يُخرب كل شيء أعد له مسبقًا ليخطط مستقبل حياته، إن لم يتعامل معه بحرفيةٍ وروية. جلست "ناريمان" في مواجهة "مهاب" بالمشفى، وعلى وجهها ابتسامتها المتألقة، تدللت وهي تعبث بشعرها أثناء حديثها اللطيف معه؛ لكنه علق بجديةٍ مريبة:
-أنا مش عاوزك تتخضي.
اندهشت لطريقته، واستطردت:
-في إيه يا "مهاب"؟
صمت ولم يقل كلمة، فظهر الذعر عليها، وبهتت ملامحها، تقطعت أنفاسها وهب تخاطبه في نبرة مُلحة:
-من فضلك اتكلم، إنت كده قلقتني.
تنحنح موضحًا بنوعٍ من الحذر:
-للأسف الأشعة مبينة ورم على المبيض اليمين.
شعرت أن أعصابها قد تجمدت، وجف جلدها، استفاقت من لحظة جمودها، فبرزت عيناها على اتساعهما وهي تردد في ذهول مفزوع:
-ورم!
ظلت تكرر الكلمة لبضعة مرات بلا صوت، بدت وكأنها غير قادرة على استيعاب ما يقول، شل تفكيرها لهنيهة، فتشتت، وشردت، وباتت في عالم آخر، بالكاد انتبهت له وهو يخبرها بكلمات منتقاة بعناية:
-وجوده خطر، ولازم يتم استئصاله في أقرب وقت.
حين أدركت حجم الكارثة التي حلت بها، صرخت في هلعٍ بعدما انتفضت واقفة:
-مش ممكن؟ أنا عندي ورم؟
ارتجف كامل بدنها، كانت على وشك الإغماء من هول الصدمة، في التو قام "مهاب" من موضع جلوسه، والتف ناحيتها ليضع يديه على ذراعيها، شعر بهذه الرعشة التي تسود جسدها، فحاول بث الطمأنينة فيها بقوله:
-"ناريمان" متخافيش، دي حاجة بسيطة...
نظر في عينيها مباشرة؛ لكنها لم تكن تراه، غرقت في موجة من الأفكار السوداوية المهلكة، هزها بخفةٍ ليستعيد مداركها وهو لا يزال يكلمها بنبرته الهادئة:
-وبعدين، أنا بنفسي اللي هعملك العملية دي.
وكأنه انتشلها من ضلالات الخوف التي استحوذت عليها بتأكيده الهادئ:
-إنتي في إيد أمينة معايا.
لم يصفُ عقلها بعد بهذه البساطة، فما تمر به ليس مجرد وعكة عادية، ستنتهي بمجرد تناول حبة الدواء، في عصبية مبررة نفضت قبضتيه عنها، ثم دفعته من صدره، وهتفت بلا وعيٍ، وكأنها عادت لتغوص بقوةٍ في دوامة فزعها:
-أنا لازم أمشي.
التقطت حقيبتها، وألقتها على كتفها، لتهرول خارجة من غرفته، وأنهر من الدموع تجري على صفحة وجهها بتدافعٍ، في الحال جمع "مهاب" أشيائه الخاصة، وركض خلفها هاتفًا:
-استني يا "ناريمان"، أنا جاي معاكي.
...............................................
تأملت بتركيزٍ كبير ما احتواه الأنبوب الطبي وهي تحمله بإصبعيها، قبل أن تدون في الكتيب الصغير الذي بحوزتها بعض المعلومات عنه، أعادت الأنبوب لموضعه في عنايةٍ بالحامل، وانتقلت لآخر لتنظر لما به بانتباهٍ. أدارت "تهاني" رأسها للجانب عندما انضم إليها زوجها بالمعمل، منحته ابتسامة ناعمة، مصحوبة بقبلة صغيرة على وجنته، لتتبدل تعبيراتها المسترخية للجدية عندما استطرد بلا مقدمات في غموضٍ محير:
-عرفتي اللي حصل؟
زوت ما بين حاجبيها متسائلة في اهتمامٍ:
-خير؟
سحب من يدها الكتيب، ونظر إلى ما توصلت إليه، مط فمه في إعجابٍ، ثم تكلم في صيغة تساؤلية:
-وصلك خبر إن خطيبة "مهاب" بتعمل عندنا عملية كبيرة هنا؟
تدلى فكها للأسفل، وهتفت في غير تصديقٍ:
-معقولة؟
أكد لها بإيماءة من رأسه قبل أن يناولها الكتيب:
-أيوه، عندها ورم ليفي على المبيض.
عندما علمت بتفاصيل مرضها تعاطفت معها، ووضعت يدها على فمها للحظةٍ، وأخبرته في إشفاقٍ:
-أوف، دي عملية خطيرة، مش سهلة أبدًا، الغلطة فيها ممكن تكلفها كتير.
رد مومئًا برأسه:
-طبعًا..
ساد السكوت بينهما للحظات قبل أن يضيف "ممدوح" في صوتٍ مال للحقد، رغم أنه كان هادئًا:
-و"مهاب" بنفسه عامل طاقم جراحة متخصص وعلى أعلى مستوى عشان خاطرها.
تعجبت "تهاني" من اهتمامه الزائد بها، وأبدت تعليقها في شيء من التخمين مبتسمة بخفةٍ:
-واضح إنه بيحبها، وإلا مكانش عمل ده كله ليها.
على ما يبدو اغتاظ "ممدوح" من طريقة تفسيرها للوضع، وإن كانت بشكلٍ عابر، فهتف في تحيزٍ متحامل:
-ما أنا قايلك ده جواز مصلحة من الأول.
لاحظت ذلك التعبير الغاضب الذي تجسد على وجهه، فاهتزت ابتسامتها، وحاولت تغيير الموضوع، فقالت بلا ترتيب:
-المفروض نطمن عليها بعد ما تخرج بالسلامة، ولا إنت رأيك إيه؟
استحسن فكرتها، فأردف بعد تنهيدة بطيئة:
-أيوه.
تصنعت "تهاني" الضحك، وتابعت ممازحة:
-فرصة أشوف مين اللي قدرت على "مهاب".
وكأنه أيد فكرتها، فثمة شيء يدور في عقله، لم يفصح عنه بعد، نظر "ممدوح" تجاهها، وقال بعدما ألصق بزاوية فمه ابتسامة غامضة:
-وماله! زيارة المريض واجبة!
ثم حاوط زوجته من كتفيها متسائلًا:
-لسه وراكي شغل؟
أجابته نافية:
-لأ، خلاص.
خفض من ذراعه، ليمررها على ظهرها متسائلًا:
-البنات مع المربية؟
كان ردها مختصرًا:
-أيوه.
بدت ملامحه هادئة؛ لكن نظراته تحولت للقساوة وهو ينتقل للسؤال التالي:
-و"أوس"؟ عملتي معاه إيه؟
رغم أنها لم تكن مقتنعة تمامًا بتقريعه، أو فرض المزيد من الضوابط الصارمة لسلوكه، لكونه لم يفعل ما يستحق ذلك، إلا أن خالفت شعورها الأمومي، وانصاعت لرغبات زوجها، فرمشت بعينيها قائلة:
-عاقبته تاني، ومحروم من الألعاب بتاعته، أو الفسح.
وكأنه ينتظر منها هذه البادرة، ليستمر في وصلة فرض سيطرته وسطوته، استراح لتصرفها ومدحها:
-برافو عليكي، خليه يتأدب.
في سعيه للانتقام من رفيقه، وجه "ممدوح" ذلك الشعور المهلك تجاه من لا ذنب له؛ هذا الصغير المضطهد والمغلوب على أمره!
...............................................
استخدمت نصل سكــــين مطبخها غير المشذب في قـــطع طرفي حبة الفاصولياء، قبل أن تقطعها إلى أجزاء متفاوتة في حجمها، لتلقي بها في الوعاء البلاستيكي، ثم مدت يدها والتقطت أخرى من حجرها، لتدير بعدها رأسها تجاه جارتها التي جاءت لمشاركتها نهارها بالثرثرة معها. هدهدت "إجلال" الرضيعة في ترفقٍ، وداعبتها باصطناع الأصوات المرحة لترفع بصرها نحو "فردوس" عندما واصلت شكواها إليها:
-المصاريف كتير، والواحد مبقاش لاقي اللي يكفيه.
أرادت دعمها معنويًا، حتى لو لم تفعل شيئًا، فردت بتفاؤلٍ:
-بكرة ربنا يفتحها على سي "عوض"، والقرش يجري في إيده.
مصمصت شفتيها بصوت هازئ، وقالت بنبرتها المتهكمة دومًا:
-قلبك أبيض...
وشت نظرتها إلى جارتها في هذه اللحظة بسخطٍ عظيم، أعقبه ترديدها:
-ده زي ما بيكون فيه بينه وبين الفلوس عداوة، لا هي بتقرب منه، ولا هو بيسعى يجيبها.
حاولت البحث عن طرق لمساعدتها في متناول قدرتها، لهذا اقترحت عليها "إجلال" في جديةٍ:
-طب مابتفكريش تشتغلي يا "دوسة"؟
حدجتها بهذه النظرة الساخطة وهي تخبرها بتأففٍ:
-والمنيلة دي أوديها فين؟
شهقت معترضة على نعتها المسيء، وعاتبتها:
-ماتقوليش عليها كده، دي ملاك.
استمرت "فردوس" على نقمها هاتفة:
-ما أديكي شايفة، هي هادة حيلي طول اليوم، ولا بأرتاح ولا بتريحني.
عاودت "إجلال" النظر إلى الرضيعة بمحبةٍ كبيرة، وخاطبت رفيقتها دون أن تتطلع إليها:
-عمومًا لو وقع تحت إيدي حاجة كويسة هعرفك.
اكتفت بالرد المقتضب وهي تكمل تقطيع الفاصولياء، وامتعاض كبير يغلف كامل تقاسيم وجهها:
-طيب.
.............................................
حينما استفاقت من تأثير المخدر، وبدأ عقلها يتيقظ ويدرك ما يحيط بها، وجدت نفسها مستلقية، وهامدة، على فراشٍ طبي، في غرفة غارقة في اللون الأبيض، في البداية ظنت أنها فارقت الحياة، وانتقلت للعالم الآخر، إلى أن بدأت تطوف ببصرها على ما حولها، فرأت محلولًا ما يتدلى من حامل مجاور لها، تنزل قطراته وتنتقل عبر أنبوب شفاف ممتد حتى رسغها، وموصول به عن طريق هذه الإبرة الطبية. تنشطت ذاكرتها بما حدث في الساعات الأخيرة، هي خضعت مرغمة لعملية جراحية طارئة للتخلص من ذلك الورم البشع الذي احتل جسدها، تأوهت "ناريمان" في ألم عندما شعرت بوخزة طفيفة في جانبها، واغرورقت عيناها بالدموع تأثرًا بصدمة استئصال جزءًا من كيانها كأنثى. صوته المخملي المنادي باسمها، والذي تسلل إلى أذنها جعلها تدير رأسها ناحيته، شعرت بملمس يده على جبينها المتعرق بهذا العرق البارد، تعلقت عيناها الدامعتان به وهو يخاطبها:
-حمدلله على سلامتك.
سألته بشكلٍ ساذج:
-أنا فين؟
أجابها باسمًا في عذوبة، وبرسميةٍ غريبة:
-إنتي عندي في المستشفى يا آنسة "ناريمان".
أدركت سخافة سؤالها، وأصغت إليه وهو لا يزال يتابع حديثه الهادئ إليها:
-في طاقم طبي موجود هنا بس لرعايتك ومتابعة حالتك.
حركت بصرها للجانب الآخر، فرأت عدة أشخاص مجتمعين، وفي حالة تأهب واضحة، عند حافة فراشها، وكأنهم ينتظرون الأمر لمباشرة عملهم. تلقائيًا خفضت يدها لتلمس موضع جرحها، فأمسك بها "مهاب" قبل أن تمسه قائلًا:
-العملية نجحت، وإنتي هتبقي كويسة.
قبل أن تنطق بشيء، ولج إلى الغرفة "ممدوح"، ألقى عليها نظرة متأملة، ومتفرسة في ملامحها مستطردًا:
-مساء النور.
انزعج "مهاب" من وجوده، وظهر ذلك على محياه، فأردف الأخير متسائلًا بتهذيبٍ مريب:
-ينفع أدخل؟
رد عليه باستهجانٍ:
-ما إنت موجود يا "ممدوح"؟!!
أخبره بنفس الطريقة اللبقة:
-لو حابب أمشي، فمافيش مشكلة عندي، أنا بس جاي أطمن على الهانم:
لئلا يبدو فظًا معه، قال على مضضٍ:
-خليك.
وضع "ممدوح" على شفتيه ابتسامة صغيرة، ليقول في أسلوب شبه مرح:
-ليك حق تحط المستشفى كلها في حالة طوارئ.
فرقع "مهاب" بإصبعيه ليصرف الطاقم الطبي، فغادروا تباعًا، و"ممدوح" لا يزال يتكلم بخبثٍ، وبعبارات غزلٍ صريحة:
-إنت خــــاطف القمر من السما وجايبه عندنا.
نظرت "ناريمان" بتحيرٍ إليه، فأوضح "مهاب" هويته بوجه مشدود:
-ده دكتور "ممدوح" صاحبي، ومعانا هنا في المستشفى.
استعتبه رفيقه بنظرة لئيمة، وعاد ليحدق في وجه هذه الفاتنة مسترسلًا في الحديث بشكل لم يسترح له رفيقه:
-بس كده؟ قولها احنا عِشرة عمر، نعرف بعض من واحنا أد كده، ونعتبر كل حاجة بنعملها سوا.
كان يعلم في قرارة نفسه أن قدومه لن يكون يسيرًا، بل مصحوبًا بالتلميحات والتوريات، وربما الإيحاءات المهددة، لهذا ضبط من أعصابه، وتعامل بهدوءٍ محاولًا عدم إبداء أدنى ردة فعل.
جاءت "تهاني" هي الأخرى، فأقبلت على المريضة لتتفقدها وهي تخاطبها في ودية عجيبة:
-حمد لله على السلامة يا آنسة "ناريمان".
استغل "ممدوح" فرصة وجودها ليقول بإطراءٍ مغيظ:
-وأدي مراتي الحلوة جت كمان.
تفقه "مهاب" للعبة السخيفة التي يديرها "ممدوح" بتمثيل اهتمامه بمتابعة حالتها، وتعامل برسمية بحتة مع كليهما:
-أعرفك بالدكتورة "تهاني"، مامت "أوس" ابني.
هزت "ناريمان" رأسها بخفةٍ كأنما تلقي عليها التحية بصمتٍ، بينما لاحقه "ممدوح" بإضافته المستفزة:
-وماتنساش هي أم بناتي الغاليين "ليان"، و"بيسان".
حينها حدجه رفيقه بنظرة محتدة، فلم يكترث "ممدوح" لأمره، كان متواجدًا فقط لاستثارة أعصابه، وإظهار الجانب الخفي الآخر من شخصيته الماكرة. تحول "مهاب" بناظريه ناحية "تهاني" عندما تحدثت هي الأخرى:
-إن شاءالله تخرجي من هنا في أسرع وقت، دكتور "مهاب" مش أي جراح، ده عبقري في مجاله.
افتعل "ممدوح" الضحك، وأبدى تأييدًا كبيرًا لما فاهت به في سخرية متوارية:
-أومال، مافيش حاجة بتستعصى عليه، ده احنا كلنا بنتعلم منه أصول الطب.
أنهى جملته وهو يغمز له بطرف عينه، مما جعل "مهاب" يهتف في صبر نافد:
-المريضة محتاجة ترتاح، اتفضلوا على أشغالكم.
عبس "ممدوح" بملامحه، وانتقل بعينيه إلى المريضة المرهقة شاكيًا إليها:
-شايفة؟ بيتعامل معانا إزاي بطريقة المدير؟ والمفروض احنا أصحاب وعيلة واحدة؟
لحظتها لم يتمالك أعصابه، وهدر به بصوته الآمر وهو يشير بإصبعه:
-خد مراتك وامشي.
بشكلٍ لا إرادي ارتاعت منه "تهاني"، وانسحبت مغادرة على الفور بعد ترديد تحية مقتضبة، بينما رفض "ممدوح" التحرك قبل أن يقول بغموضٍ مثير للريبة، وكأنه يظهر استمتاعه باللحظة الملتوية:
-مرة تانية حمدلله على سلامتك يا آنسة "ناريمان"، وأنا واثق إننا هنتقابل تاني قريب، ما احنا زي ما قولتلك نعتبر كلنا عيلة واحدة.
ظل "مهاب" متجهمًا، مشدود الوجه، تظهر في نظرته نحو رفيقه توعدًا قاسيًا، حافظ "ممدوح" على ثبات ابتسامته المستفزة، وانصرف وهو يدندن بصافرة خافتة، ما إن ابتعد حتى تساءلت "ناريمان" بفضول متعجب:
-هو ده فعلًا صاحبك؟
بعد زفرة بطيئة أخبرها في إيجازٍ:
-أيوه.
شعر من نظرتها إليه أن رأسها يعج بالأسئلة حول طبيعة علاقته به، لذا قطع عليها أي فرصة للاستخبار عنه، ولو بصورة مؤقتة، بقوله المهتم، وهو يمد يده ليمسح بنعومة على جانب وجهها:
-أنا عايزك ترتاحي دلوقت وماتفكريش في حاجة...
راح يطالعه بنظراته الدافئة الحنون وهو يتم جملته:
-كل اللي يهمني إنتي وبس.
ابتسمت لمعاملته الحانية معها، وأغمضت جفنيها مستسلمة لشعور الخدر الذي أخذ يداعبها مجددًا، لتنجرف مع موجات النوم التي حاصرتها من كل اتجاه.
............................................
للمرة العاشرة أعاد في ذاكرته استحضار ما حدث من تطورات فجائية في حالة "ناريمان" الصحية، خاصة أثناء إجرائه لهذه الجراحة الخطيرة، وما نجم عنها من مضاعفات أدت لاستئصال رحمها. لم يرغب في إطلاعها على الحقيقة المفجعة، وإلا لخرجت الأمور عن السيطرة.
في سيرة تامة، التقى "مهاب" بأفراد طاقمه الطبي المشاركين في الأمر، في غرفة الاجتماعات، مانعًا أي أحد من اقتحام مجلسهم إلى أن ينتهي منه. طأطأ جميعهم رؤوسهم في ارتباك وتوتر، وهم يقفون متجاورين في صفٍ واحد بمؤخرة القاعة. تجول بينهم بثباتٍ، ثم خاطبهم في لهجة غير متساهلة، تحوي تهديدًا صريحًا:
-لو أي حاجة من اللي حصلت جوا اتعرفت مستقبلكم هيتمحى، إنسوا إنكم تمارسوا الطب تاني في أي مكان.
لم يجرؤ أي فرد منهم على الاعتراض، أذعنوا إليه تمامًا وهو يزيد في تهديده:
-ومش بس كده، هخرب بيوتكم، وهسجنكم.
ارتفعت نبرته إلى حد ما وهو يسألهم:
-كلامي مش بيتعاد مرتين، مفهوم؟
اختلفت إيماءات رؤوسهم؛ لكنها اتفقت في إظهار كامل الطاعة له، بعدما فرغ من تلقينهم جديد أوامره، صرفهم بقوله الصارم:
-اتفضلوا.
استجابوا في الحال، وغادروا دون أن يتفوهوا بكلمة واحدة، حتى بين أنفسهم، ليسير بعدها "مهاب" بتمهلٍ متجهًا إلى رأس الطاولة. تنهد في ارتياحٍ، وسحب المقعد بهدوءٍ، ليجلس عليه مسترخيًا، قبل أن يوسد ذراعيه خلف مؤخرة عنقه، ابتسم لشعوره بالنصر، وقال محادثًا نفسه:
-كده أحسن للكل ...