اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم منال سالم


الفصل الثاني والثلاثون
(التوأم)
منذ أن عاد إلى المنزل، وكل شيء تغير، أو الأحرى أن يوصف الوضع بأنه بات كما كان من قبل، حتى الوقت الذي كان يقضيه بصحبة والدته تقلص للغاية، وأصبح لبضعة دقائق، تكاد تعد على أصابع اليد، لتشرع بعدها في الالتصاق بزوجها وكأنها ظله، تخشى مفارقته فيهجرها، مجددًا تحول إلى كتلة مهملة، وغير مرئي. انزوى "أوس" في غرفته، مشحونًا بغضبه الداخلي، ومحاولًا تفريغ هذه الشحنات الحانقة في ممارسة لعبة الرماية بالأسهم. في كل مرة يخطئ في إصابة الهدف، كان يجبر نفسه على المران أكثر لإتقانها.
في خضم تركيزه، اقتحم "ممدوح" غرفته لافتعال المشاكل معه كعهده مؤخرًا، من أجل الاستمتاع بتقريعه، وتوبيخه، وكأنه ينفث عن طاقته الانتقامية به. هدر به عاليًا وهو يقف مستندًا بذراعه على الإطار الباب الخشبي:
-مش بنادي عليك؟
لم ينظر "أوس" تجاهه، وعامله بتكبرٍ حين خاطبه:
-ماسمعتش.
رد عليه "ممدوح" في تحفزٍ، قاصدًا تصيد الأخطاء له:
-ولا قاصد تطنشني؟
تجاهله الصغير متابعًا ما يقوم به، فألقى بالسهم تجاه اللوح الخشبي، وأصاب المنتصف، فابتسم في انتشاء لنجاحه في التسديد، اشتاط "ممدوح" غضبًا مما اعتبرها عجرفته المستفزة، وانفـــــجر صائحًا فيه بعدما اندفع تجاهه ليمسك به من تلابيبه:
-شوف يا ابن "مهاب"، إنت هنا موجود بأمر مني، ولو حبيت أزيحك مش هتاخد في إيدي تكة.
دفعه الصغير بعيدًا عنه، وهدده علنًا بتحدٍ:
-وأنا لو قولت لبابا عنك هتزعل.
ازداد غضبًا من جملته تلك، وهدر به:
-هي حصلت بتهددني بأبوك؟
ثم خفض من يده لينتزع حزام بنطاله الجلدي، قاصدًا تقريعه به، ما إن جذبه حتى ثنى طرفيه معًا ليبدو كالسوط، ثم رفعه وفرقع الهواء به مكملًا تهديده بابتسامةٍ خبيثة:
-إنت فعلًا محتاج تتربى.
قبل أن يدنو منه، صوب "أوس" بالسهم تجاهه، فأصابه في معصمه، فانفلت الحزام من يده، وصرخ "ممدوح" من الألم الشديد، ليلعنه بعدها في غيظٍ:
-يا ابن الـ ....
على إثر صرخته جاءت "تهاني"، ووزعت نظراتها القلقة بين الاثنين وهي تتساءل بتوترٍ متحير:
-في إيه اللي بيحصل هنا؟
وقبل أن يبادر "أوس" بالتفسير ادعى عليه زوجها كذبًا:
-شايفة ابنك؟ بكلمه بالعقل بيعورني بالزفت اللي معاه.
في التو اندفعت تجاه زوجها لتتفقد موضع الإصابة، معتذرة منه عن سوء تصرفه، مما جعل دماء ابنها تحتقن، بصوت مرتفع ونظرة نارية صاح "أوس" في وقاحةٍ:
-اطلعوا برا.
تفاجأت "تهاني" من سلوكه غير اللائق، ونهرته في نظرة صارمة:
-"أوس"! إيه الأسلوب ده؟
رد عليها في تحيزٍ، وشرارات الغضب تنتفض في حدقتيه:
-مش عاوز الراجل ده هنا.
حذرته في جديةٍ:
-اتكلم كويس، ده في مقام بابا.
أخبرها باعترافٍ صريح:
-أنا بكرهه، مش بحبه.
لم يتحمل "ممدوح" طريقته المماثلة لأبيه، فلكز زوجته ليمر وهو يخاطبها باستياءٍ عارم:
-أنا تعبت مع ابنك، اتصرفي.
استوقفته قبل أن يخرج بكلامها الصادم:
-لأ يا "ممدوح"، احنا متفقين، اللي إنت شايفه صح اعمله.
وكأنه نجح مرة ثانية في نيل مآربه، فاستدار ناظرًا إليه بنظرة متشفية شامتة، ثم أطلق سلسلة أوامره المتشددة:
-الولد ده هيفضل محبوس، ومالوش أكل، لحد ما يجي يعتذر ليا.
في التو وافقته دون جدالٍ، وعيناها توجهان نفس النظرة المؤيدة لزوجها:
-تمام، طالما ده اللي يريحك.
غادر "ممدوح" منتشيًا بانتصاره الزهيد، في حين ظلت "تهاني" واقفة لهنيهةٍ قبل أن توجه أمرها لابنها بغير مساهلة، رافضة حتى الإصغاء إليه:
-اقعد مع نفسك وشوف غلطك، وأحسنلك تعتذر، لأنك غلطان.
سدد لها نظرة نارية قبل أن يحيد ببصره عنها ليواصل اللعب، وكأنه لم يفعل شيئًا، مما استفزها هي الأخرى، فانصرفت من الغرفة، قاصدة إغلاق الباب عليه من الخارج بالمفتاح، ليبقى حبيس غرفته حتى يدرك فداحة تصرفه، ويأتي للاعتذار، وهذا ما لن يفعله، وإن ظل هنا أبد الأبدين!
...............................................
تابعت من فرجة شباك منزلها حركة سير المارة، إلى أن لمحت إحدى جاراتها المقربات تدني من بيتها، لحظتها تحركت من موضع جلوسها، وأسرعت تجاه الباب لتستقبلها في الحال، فقد أوصتها في لقاءٍ سابق بها بإحضار إحدى هذه المواد الكاوية، تلك التي تستخدم في إلهاب الجلد، وحـــرقه، لتستخدمها في إلحاق الضرر الجسيم بزوجة ابنها، وذلك بعدما تنجح في إقناع "بدري" بتولي هذه المهمة، تأكدت المرأة من عدم مراقبة أحدهم لها قبل أن تلج للداخل، ثم نظرت إلى "أم عوض" بنظرات مرتابة وقلقة، فسألتها الأخيرة في صوتٍ خفيض حذر:
-جبتي الأمانة ياختي؟
دست المرأة يدها في جيب عباءتها النسائية، وأخرجت من فتحة صدرها علبة زجاجية صغيرة، ملفوفة في قطعة قماشية بالية، ناولتها إياها وهي تجيبها:
-أيوه يا ست "أم عوض"...
التقطتها منها في الحال، وتأملتها بعينين متسعتين في سرور، فأضافت المرأة في كلماتٍ موحية:
-بس دي كلفتني كتير.
حينئذ تجهمت قسمات وجهها، وقالت بفمٍ ملتوٍ:
-احمدي ربنا على اللي خدتيه، بلاش طمع!
اعترضت عليها المرأة بعبوسٍ:
-بس آ...
لتسلم من إصرارها السمج، أعطتها ورقة نقدية صغيرة، وهتفت في حدةٍ:
-مش هزود عن كده.
ارتضت بما ظفرت به منها قائلة بقليلٍ من الابتهاج:
-ماشي، كله نعمة من عند الله.
تأملت "أم عوض" الزجاجة الصغيرة بنظرة براقة تنم عن شيء خطير، تشتت نظرتها عنها عندما خاطبتها المرأة بتحذيرٍ صريح:
-خدي بالك بس لأحسن غطاها مفوت شوية.
غامت تعبيراتها إلى حدٍ ما، وعنفتها:
-ملاقتيش حاجة تانية عدلة عندك بدل دي؟
على مضضٍ أخبرتها:
-أهوو اللي كان موجود.
نفخت في سأمٍ، واقتضبت في الرد وهي تقبض على الزجاجة براحتها:
-طيب.
مثلما فعلت مع الزجاجة دست المرأة المال في جيبها النسائي الخاص، وتساءلت في قدرٍ من الفضول:
-بس مقولتيش إنتي محتاجاه في إيه؟
نهرتها "أم عوض" بنظرة صارمة من عينيها:
-إنتي ليكي أكل ولا بحلقة؟
ثم صرفتها بعدها لتغلق الباب من ورائها، وتسير بتؤدةٍ تجاه المطبخ، وعيناها تتفحصان محتويات الزجاجة بوهجٍ خبيث. اشتدت قبضتها عليها، وراحت تُحادث نفسها بوعيدٍ شيطاني لئيم:
-أهوو ده بقى اللي هيخلصني منك يا "فردوس"!!
طافت بناظريها على أدراج ورفوف مطبخها القديم متسائلة في تحيرٍ:
-بس أخبي الإزازة دي فين؟
وقعت عيناها على واحدة من علب الحلاوة القديمة، الموضوعة على رفٍ علوي، به بعض الأشياء القديمة المهملة، ففكرت في وضع الزجاجة بداخلها؛ لكن لسوء حظها حينما رفعت يدها للأعلى لتسحبها، كادت تسقط الأشياء المجاورة للعلبة عليها، فدمدمت بتوترٍ:
-يا نصيبتي، هو أنا ناقصة.
كردة فعل طبيعية حاولت منعهم من السقوط، بإعادتهم إلى مكانهم، مستخدمة كلتا يديها، فانفلتت الزجاجة من بين أصابعها، وسقط الغطاء غير المحكوم، لتنسكب محتوياتها الكـــــاوية وتتناثر على وجهها وصدرها، وقتئذ صدحت من أعماقها صرخة مدوية، رن صداها المفزع في الأرجاء، قبل أن ترتمي بجسدها على الأرضية وهي تتلوى من الألم الرهيب.
..................................................
نفس نظرة التشاؤم والعبوس، كانت تمنحها لها، كلما نظرت تجاهها، أو حملتها بين ذراعيها. فمنذ أن وضعتها أنثى وهي تشعر بعدم الرضا، وكأنها أنجبت عبئًا، لا رزقت هبةً من الله، يدعوه بها الناس لينالوها! تململت الرضيعة في غطائها، ومطت أطرافها الضئيلة، كأنما تبحث عن حنان أمها بلمسة منها، فأبعدت "فردوس" يدها عنها، رافضة منحها ما تريده، لتشيح بعدها بوجهها، وتردد في إحباطٍ بائس:
-ما إنتي لو كنتي ولد كنت فرحت بيكي، على الأقل كنتي هتبقي سندي لما أعجز وأكبر.
مجددًا التفتت محدقة في رضيعتها بنظرة ناقمة وهي تخبرها:
-بس خلفتك بنت، يعني هفضل شايلة همك للممات، ويا عالم ممكن يحصلك إيه.
أحست "فردوس" باختناقٍ صدرها، بغصة تنـــهش داخلها، فواصلت الكلام:
-أنا اتبهدلت عشان ماليش لا سند، ولا عزوة ولا ضهر.
أدمعت عيناها وذلك الشعور القوي بالقهر يسيطر عليها، باعدت عينيها عنها وهي لا تزال تندب ما اعتبرته تعاستها الأبدية:
-مش مكتوبلي أبدًا أرتاح، لا في جوازة ولا في خلفة!
...................................................
ابتلعت ما تبقى من ثمرة التفاح قبل أن تلقي بالبقايا غير الصالحة في سلة المهملات، مسحت "تهاني" طاولة المطبخ، ووضعت المنشفة جانبًا، كانت على وشك الذهاب إلى غرفة نومها لتبديل ثيابها لولا أن سمعت قرع جرس الباب، ظنت أن زوجها قد فرغ من عمله، فمشت بدلال لتستقبله في ترحاب ولهفة، سرعان ما تشتت ابتسامتها وتبددت ملامح الوداعة من على وجهها عندما رأته واقفًا قبالتها بطلته التي تخشاها، ونظراته التي تثير فزعها، ارتجفت شفتاها ناطقة باسمه:
-"مهاب"!
دفع الأخير الباب بيده ليلج قسرًا وهو يخاطبها في نبرة زادت من شعورها بالفزع:
-عرفتي تلعبيها صح يا "تهاني"!
تراجعت للخلف في ذعرٍ مبرر، محاولة أن تخلق مسافة آمنة بينها وبينه، وهتفت بصوت مرتعش، ويدها تحاوط بطنها المنتفخ:
-إنت إيه اللي جايبك هنا؟ "ممدوح" مش موجود.
نظر لها شزرًا، وباستحقارٍ صريح قبل أن يخبرها بأسلوبه الوضيع:
-ده على أساس إنه هيمنعني أدخل مثلًا؟
كبتت حنقها منه، كانت تعلم جيدًا أنه يحاول استفزازها بطريقته هذه، فلاذت بالصمت تجنبًا لبطشه الأهوج، تحفزت أكثر عندما سألها وهو يتجول في صالة منزلها بأريحية تامة:
-فين ابني؟
أجابته باقتضابٍ وهي تشير بيدها:
-جوا.
أمرها بلهجته المعتادة معها:
-هاتيه.
لم تكن قد تحركت بعد عندما هرع صغيرها إليه، ارتمى في حضنه مرددًا في صوتٍ أقلقه:
-بابا.
أبعده عنه ليحتضن وجهه بين راحتيه، فحصه بنظراته الثاقبة، كأنما يفتش عن إصابة خفية به وهو يسأله:
-مالك؟
أجابه بوجه ممتعض، ونظرات قاتمة:
-مش عاوز أفضل هنا.
شعر "مهاب" بالارتياب من طريقته، لم يترك الأمر يحيره كثيرًا، حيث اندفع تجاه "تهاني" لينقض عليها بغتة، أمسك بها من عنقها، ضاغطًا بقساوة على فقرات رقبتها، تفاجأت من هجومه العنيف عليها، ولم تستطع الزود عن نفسها أو الإفلات منه، نظرته المشتعلة المسلطة عليها أرعبتها، سألها من بين أسنانه في أنفاسٍ محمومة مهددة:
-إنتي ضايقتيه ولا إيه؟
توسلته في ارتياعٍ متزايد، وهي تجاهد لتحرير عنقها من قبضته المحكمة:
-سيبني يا "مهاب"، هتخنق.
هز كامل جسدها منه بشراسةٍ وهو يسألها:
-انطقي، عملتي فيه إيه؟
رؤيتها تصارع الموت بين براثنه أفزعه، انطلق "أوس" تجاههما، محاولًا الفصل بينهما وهو يدافع عن والدته في خوفٍ غريزي:
-هي ماعملتش حاجة.
توقف "مهاب" عن إيذائها، وأرخى قبضته عنها، لتتمكن "تهاني" من الفرار منه، والتراجع للخلف، تابع الصغير كلامه في صوت شبه مرتجف:
-أنا عاوز أمشي من هنا، زهقت.
لم يكن مقتنعًا بما فاه به، ومع ذلك أشار بإصبعه إليها قائلًا في لهجةٍ ما زالت مهددة:
-حظك، ابنك رحمك مني.
سحبت "تهاني" الهواء بعمق لتعيد انضباط أنفاسها المنقطعة، تلقائيًا انخفضت يدها نحو بطنها لتحميه من بطشه، ونظرت إليه في ترقب خائف وهو يوجه أمره التالي إلى ابنهما:
-تعالى معايا.
انتفض كامل جسدها رهبة منه عندما خاطبها مجددًا:
-اعملي حسابك هو مسافر معايا المرادي.
سألته بحذرٍ، وهي تخشى من وقع السؤال عليه:
-ليه؟
صاح بها في وجوم:
-مايخصكيش.
راودها ذلك الهاجس المخيف بأنه على وشك انتزاعه منها، فسألته بقلب الأم الوجل:
-"مهاب"، إنت عاوز تحرمني من ابني؟
نظر لها بتعالٍ قبل أن يأتيه رد محقرًا كعادته من شأنها:
-لو هعمل كده مش هستنى أخد رأيك...
اِربد وجهها بحمرة الغضب، ورمقته بنظرة مغتاظة، فما كان منه إلا أن زاد من استثارة غليل نفسها:
-هو عنده عيلة كبيرة، لازم يبقى عارفها، مش زيك، مالوش أصل!
وكأنه قتـــــلها بخنجر كلماته المسمومة، شعرت بالخواء والخوار من داخلها، فقد نجح في إجبارها على قطيعة أهلها، ونسيانهم تمامًا، وكأنها وُلدت في هذا العالم وحيدة، لا جذور لها. انتشلها من شرودها المهموم صوته المخاطب لابنه:
-إنت جاهز يا "أوس".
رد عليه في طاعة:
-أيوه.
أمره بالتحرك معه قائلًا:
-يالا بينا.
ظلت "تهاني" متسمرة في مكانهما، تُطالعهما بنظرات تحبس الدموع فيهما، بعد انصرافهما أطلقت العنان لأنهر العبرات، وهتفت تلومه في تأنيبٍ:
-إنت اللي أجبرتني أقطع مع عيلتي.
كفكفت ما انساب من دمعها بظهر كفها، وأبدت ندمها الكامل:
-يا ريتني ما سمعت كلامك!
جرفها الحنين إلى إعادة التواصل مع أحبائها، فقررت أن تنكث بهذا العهد المشين الذي قطعته على نفسها، وتعيد الوصــال مع أهلها، لعل وعسى يُغفر لها هجرها، وتنال مصافحة والدتها وعفوها.
................................................
عندما بلغه ذلك الخبر المأساوي من "بدري"، والذي علم عنه من أحد معارفه بالبلدة، جاء على وجه السرعة، والألم يعتصر قلبه، انتابه ذلك الشعور الشديد بالحزن والممزوج بالرعب، استطاع أن يستعلم عن مكان احتجازها من موظفة الاستقبال بالمشفى المتواضع الذي نُقلت إليه، كانت متواجدة بغرفة الرعاية الحرجة، ووضعها كاسم الحجرة، في غاية الحرج والخطورة، فالمادة الكاوية التي تناثرت على جسدها سببت لها تشوهًا شديدًا، وآلامًا متفرقة، ناهيك عن اعتلال صحتها. ولج "عوض" إلى الداخل بقدمين مرتعشتين، وقلب وجل ومذعور. دنا من سريرها المستلقية عليه، وهو بالكاد يحبس دموعه، رغمًا عنه تسرب من طرفيه بعض العبرات الغادرة عندما وجد ملامحها مخبأة تحت قماش الشاش الأبيض، وكذلك النصف العلوي من جسدها، تمزق داخله تأثرًا بحالتها. تنفس بعمق ليضبط انفعالاته، ثم ناداها بصوتٍ شبه هامس مختنق:
-أنا هنا يامه.
على ما يبدو تنبهت لصوته المألوف، فأخذت تحرك ذراعها بتمهلٍ، سرعان ما مد يده ليحتضن كفها المسنود إلى جوار جسدها الواهن، أحست بوجوده، فأدارت رأسها ببطءٍ تجاهه، حاولت الحديث لكن صوتها انقطع وتحشرج، فهتف يرجوها في التياعٍ:
-ارتاحي يامه.
نظرت إليه بعينين زائغتين، وخاطبته في صعوبةٍ:
-ربنا انتقم مني.
ظهر الندم في نبرتها الضعيفة، قاطعها قبل أن تنهي جملتها متوسلًا إليها:
-ما تكلميش يامه.
تجاهلت مطلبه، وتابعت بخفوتٍ:
-كل ما أنوي أذية مراتك يترد في غالي عندي، لحد ما ربنا خلص مني.
استصعب البحث عن الكلمات المناسبة للتعليق عليها، وهو يراها على تلك الحالة الخطيرة، ومع ذلك استمرت والدته تقول، وكأنه تمنحه طلبها الأخير بالصفح:
-سامحني يا ابني، سامحني يا "عوض"، أنا جيت عليك كتير.
رد عليها في لوعةٍ:
-إن شاء الله هتخفي وتبقي أحسن.
انحشرت أنفاسها، وتحشرج صوتها وهي تكرر عليه ندمها:
-سامحني..
رجاها لتصمت، لتستريح من عناء المجهود الذي تبذله في الكلام؛ لكنها أبت الإنصات إليه، حشرجة أخيرة انفلتت من جوفها، قبل أن تسكن للأبد، وتفارق روحها الجسد، لحظتها صرخ "عوض" في حرقــــة عظيمة، باكيًا رحيلها المؤلم:
-يـــامه!
...............................................
في الوقت الذي كانت تعلق فيه الثياب المبتلة على حبال الغسيل، ناداها أحد الصغار وهو يركض تجاه بنايتها ليخبرها عن هذه المكالمة الغريبة التي وردت إليها بمحل البقالة، فما كان منها إلا أن وضعت على جسدها ما يستره، ولفت حجابها المنزلي حول رأسها، لتخرج في التو حاملة رضيعتها معها، دقت على جارتها "إجلال"، وطلبت منها العناية بالرضيعة إلى أن تعود، ثم انطلقت ركضًا تجاه البقالة، والترقب المخلوط بالحيرة مستحوذ على تفكيرها، أمسكت بسماعة الهاتف، وذلك الشعور الغريب يناوشها، تكلمت بصوتٍ شبه متقطع جراء هرولتها المتواصلة:
-ألو، مين عاوزني؟
أتاها ذلك الصوت المألوف المنادي باشتياقٍ حقيقي:
-"فردوس".
لحظتها خفق قلبها، وانتفض، عرفت صاحبته في الحال، ومع ذلك أنكرت هويتها، وتعاملت معها بجفاءٍ، كأنما تستحق ذلك لهجرها القاسي، وبُعدها الموحش عنها لسنواتٍ عجاف. تجمدت في موضعها، وتساءلت بصوتٍ جاف:
-مين معايا؟
ردت عليه في رنة من العتاب:
-إنتي مش عارفاني ولا إيه؟
طغت مشاعر الكراهية على أي مشاعر أخرى شبه متعاطفة، بل ودعستها بلا شفقة، فظلت على وجومها، وشقيقتها تكلمها:
-أنا "تهاني"، أختك.
صمتت ولم تنطق بشيءٍ، فسألتها محاولة حثها على الحديث معها:
-عاملة إيه؟
أبقت على سكوتها المرير، فاستمرت "تهاني" في إخبارها بشيءٍ من الندم:
-ليكي حق تزعلي مني عشان بقالي كتير مسألتش عليكم.
وكأنها تُجري مكالمة أحادية الجانب، لم تنبس "فردوس" بكلمةٍ، في حين تساءلت شقيقتها في اهتمامٍ صادق:
-إنتي كويسة؟ وماما إزيها؟ طمنوني عليكم؟ عايزة أسمع صوتها.
لحظتها فقط تفجــــرت بداخلها مشاعر الحنق والحقد، كيف لها بهذه الوقاحة الفجة أن تسأل عنها بعدما فنيت من الحياة؟ ألهذه الدرجة بقيت على جهلها بوفاتها؟ لهذا كانت المفاجأة الصادمة على كافة الأصعدة عندما أخبرتها دون تمهيدٍ، وبغلٍ متعاظم:
-أمي ماتت وهي متحسرة عليكي.
شهقت "تهاني" في ذهول فزع، ووصل "فردوس" صوت انحباس أنفاسها، فأكملت على نفس المنـــوال القــــاسي، كأنما تزيد من عقابها لها بكلماتها اللاذعة:
-سامعة؟ ماتت وقلبها موجوع منك!
ارتعش صوتها واندمج بنهنهات بكائها عندما رددت عليها:
-إنتي بتقولي إيه؟
بنفس الجمود المتجافي أخبرتها في غير رأفة:
-ويا ريت تنسي إن ليكي أخت.
لم تمهلها الفرصة للإيضــاح، أو شرح ملابسات ما حدث، بل وضعت السماعة، وأنهت المكالمة معها، لتخبر نفسها في تعصبٍ:
-لسه جايين على بالك دلوقتي؟
غادرت محل البقالة وهي تجرجر قدميها، لم تصدق أنها أصبحت بهذه القساوة معها، وهي التي كانت تعيش في ظلها، تتحين منها لحظات الرضا، وتسعد بمدحها الساخر، حقًا بدلتها الأيام، وغيرتها الحياة، فباتت واحدة أخرى غير تلك الذليلة الكسيرة، فلم تعد كما كانت معها أو مع غيرها، مشت وهي لا تزال تردد لنفسها في غير تسامحٍ:
-بعد إيه يا "تهاني"؟ بعد إيه؟!!
.............................................
تبعثرت دموعها هنا وهناك بعدما تلقت هذه الصدمة المفجعة، أحست وكأن طاقة صمودها قد تبددت بالكامل، فصارت غير قادرة على الوقوف، أو الحركة، انخرطت في نوبات بكاء أعنف، متذكرة كيف أضاعت عشرات الفرص سدى لتتواصل مع أمها، لطمت "تهاني" على فخذيها، وراحت تنوح بكبدٍ محتــــرق من الندم والحزن:
-أمي ماتت وأنا معرفش؟
رفعت كلتا يديها أعلى رأسها، وذلك السؤال ينخر في عقلها، كيف أصبحت بتلك الدرجة من السوء مع رحمها؟ حركت جسدها يمينًا ويسارًا وهي تعنف نفسها:
-جبت جحود القلب ده منين؟ أنا مكونتش كده.
بلغ بها القهر مبلغه، فظلت تولول فجيعة فقدانها:
-ليه فضلت مقطعاهم لدرجة إني أعرف بالصدفة عن موتها؟
خرجت منها شهقة بدت أقرب للصرخة وهي تكمل:
-حقك عليا يامه..
أحست بنغزات عنيفة تضرب في بطنها وظهرها، وكأن ما في أحشائها يشاطرها حزنها، تحسست أسفل معدتها، انطلقت منها صرخة أخرى أكثر فجيعة وآلمًا:
-آه، يا وجع قلبي عليكي، آه!
..................................................
كانت هذه هي مرته الأولى التي يرى فيها قصرًا بهذا الحجم الكبير، جلَّ ما دار في خلده أن يكون منزلًا عاديًا، يملأه الخدم والحشم، طرازه المتفرد، وتصميمه الدقيق منحاه سمة من المهابة والرقي، لاقت باسم العائلة العريق. كذلك لم يخطر بباله أن تكون مساحة غرفته هنا عشرة أضعاف تلك التي يمكث بها، سواء في منزل أمه، أو منزل أبيه. تعجب "أوس" كذلك من معاملة جميع الخدم له بتوقيرٍ واحترام زائدين عن الحد، على عكس مربيته المائعة، وزوج أمه السخيف. للغرابة استلذ ذلك الشعور الممتع بفرض السلطة، وامتلاك القوة، وعزز لديه من ذلك الإحساس تأكيدات والده المتواصلة بألا تأخذه شفقة بمن هم أقل شأنًا حينما يخطئون، فهو من علية القوم وعليه أن يتعامل وفق هذه القواعد الأرستقراطية الصارمة.
في وقت لاحق التقى "أوس" مع عمه بحضور والده في الحديقة الشاسعة، كان أغلب الحديث عن المستجد في سوق المال والأعمال، وكذلك الترتيب لخطبة "مهاب" من ابنة الشريك الجديد، ليتجه بعدها الحوار نحو الصغير، حيث سأله "سامي" وهو يلفظ دخان سيجاره في الهواء:
-مبسوط هنا؟
رد الصغير باقتضابٍ وهو يتفرسه بنظرته الثاقبة:
-أيوه.
علق عليه "سامي" في شيءٍ من الاستخفاف قبل أن يدير وجهه عنه:
-لطيف.
ارتكزت نظراته على شقيقه الأصغر متابعًا كلامه إليه:
-ابنك شبهك يا "مهاب".
ضحك في تفاخر، وأخبره في نبرة موحية:
-طبعًا، ده كله مني، وماتنساش إنه حفيد "فؤاد" باشا.
في حمئة شبه مغتاظة هتف "سامي"، ونظرة حاقدة موجهة للصغير "أوس":
-ما أنا عندي "رغد"، ولا نسيتها دي كمان؟
تجاهل سخافة أسلوبه، وأخبره بما أغاظه أكثر:
-أكيد لأ، بس اسم العيلة هيمتد منه...
ثم أطلق ضحكة هازئة، قبل أن يضيف:
-اتجدعن وهات لنا ولد تاني.
ارتفعت وتيرة الضيق في صوت "سامي" حينما رد عليه، وقد هب واقفًا:
-هيحصل، أنا ماشي.
علق عليه ببرود تام:
-ما بدري.
نظر ناحيته في حنق، وقال:
-ورايا شغل.
لحظتها أمر "مهاب" ابنه في هدوء:
-سلم على عمك يا "أوس".
أشار له "سامي" بالتوقف صائحًا:
-خليه، مش عاوز.
استوقفه "مهاب" برفع نبرته، كأنما يعلمه بالمسألة التي خطط لها منذ وقت طويل:
-ماتنساش ميعاد الخطوبة، ما يصحش أعملها وإنت مش موجود معايا.
التفت برأسه لينظر إليه معقبًا في شيءٍ من الحقد:
-دايمًا بتقع واقف يا "مهاب"!
أطلق ضحكة مغترة قبل أن يخبره في غطرسةٍ:
-إنت عارفني، طول عمري حاطط عيني على الأفضل وبس!
أضاف عليه "سامي" بنفس نبرة الحقد:
-ودي بنت شريكنا "شوقي"، حوت السوق.
استمر "مهاب" على تفاخره قائلًا:
-يا ريت تتعلم مني.
تحولت أنظار شقيقه الأكبر تجاه الصغير معلقًا بوجه تسوده تكشيرة عظيمة:
-كفاية تعلم ابنك، سلام.
ثم غادر متعجلًا ليتساءل "أوس" بغرابةٍ:
-هو زعلان ولا حاجة يا بابا؟
قال "مهاب" في ملامح جدية، لا تقبل بالمزح:
-ماتخدش في بالك، المهم عاوزك تفتكر دايمًا إن العز ده كله بتاعك إنت، إمبراطورية "الجندي" هتستمر بيك إنت وبس.
رغم أن عقله لم يستوعب بعد مدى أهمية ما يقوله، إلا أن طريقته الصارمة أوحت بضرورة الالتزام بما أوصاه به، وإلا لنال عقوبة مخالفته.
.....................................................
ساءت حالتها كثيرًا، وحملت نفسها كامل اللوم على ما حدث، وحينما اختلت بنفسها في منزلها، غرقت في هذه المشاعر النادمة، عجز جسدها عن التعامل مع هذا الضغط الهائل، خاصة مع تقدم حملها، فتمددت على جانبها على الأريكة، ويدها تمسك ببطنها، وكأنها تخشى سقوط ما به إن أبدت أي حركة فجائية. لبثت في مكانها هكذا بلا حراك إلى أن عاد زوجها، فاندهش لرؤيتها في هذه الحالة، هرع إليها هاتفًا متسائلًا باستغرابٍ:
-"تهاني"! مالك؟
حركت يدها من على بطنها لتتشبث بمعصمه وهي ترجوه في صوتٍ باكٍ:
-الحقني يا "ممدوح"، مش قادرة، تعبانة...
وقبل أن ينتقل لسؤاله التالي أتمت جملتها:
-أنا الظاهر بولد.
انتفض كل ما فيه، وعاونها على النهوض من مكانها قائلًا:
-طب اسندي عليا.
تعلقت به مرددة بنحيبٍ، وكأنه الأمل الأخير المتبقي لها:
-أنا خايفة أوي، ما تسبنيش.
حاوطها من ذراعه الآخر، لئلا تسقط، بعدما تعثرت وهي تخطو للخارج، نظر إليها بقلقٍ حقيقي مؤكدًا لها وهو يصحبها نحو سيارته المرابطة بالأسفل:
-اطمني، أنا هفضل جمبك.
.............................................
وفيما كان جالسًا، بأعصابٍ مشدودة، وقسماتٍ غير مرتخية، بمنطقة الانتظار المخصصة لأهالي المرضى، التقطت عيناه ذلك الطبيب الذي خرج من غرفة العمليات، قفز واقفًا من موضع جلوسه، ليسرع في خطاه تجاهه متسائلًا عن الأخبار، فأعطاه البشرى بمولد طفليتين رقيقتين كالنسمات اللطيفة، ابتسم في غير تصديقٍ، وابتهج كليًا، للدرجة التي جعلته يحتضنه بقوةٍ وهو يردد:
-أنا عندي توأم.
أكد له بإيماءة من رأسه:
-أيوه يا دكتور "ممدوح"، مبروك عليك، يتربوا في عزك.
شكره على عبارته المجاملة، وانتظر على أحر من الجمر خروج رضيعتيه، وكذلك زوجته من الداخل ليراهن معًا. حينما انتقل الثلاثة إلى غرفة مستقلة، ذهب إليهن، والفرحة تملأ محياه، ظهرت ابتسامته المشرقة على الأخير، وخاطب "تهاني" بعد أن قبل جبينها:
-حمد له على سلامتك.
نظرت له من بين دموعها المنسابة، واكتفت بادعاء الابتسام، فتابع مهنئًا إياها:
-مبروك يا حبيبتي.
علق في حواف رأسها إخباره عما تسبب لها في الحزن؛ لكنها تراجعت، ارتاعت من فكرة إثارة حنقه، وهي تراه في قمة سعادته، عدلت عن رأيها، وحافظت على ابتسامتها المهزوزة وهي تكلمه:
-بقى عندك بنتين زي القمر.
قال وقد انتقل للفراش الصغير المخصص للرضيعتين النائمتين كالملائكة:
-أيوه، أنا مش مصدق.
نظر "ممدوح" ناحيتها قبل أن يعاود التحديق فيهما متابعًا حديثه المتفاخر:
-في يوم وليلة بقى عندي عيلة من صلبي أنا...
ما لبث أن انخفضت نبرته وهو يختتم باقي جملته:
-مش بربي في الغريب!
لم تسمع "تهاني" ما نطق به بوضوحٍ، ولم تهتم لذلك، اكتفت بسؤاله:
-ها، ناوي تسميهم إيه؟
مط فمه لهنيهةٍ، وكأنه استغرق في التفكير، ليردد بعدها:
-جاي على بالي اسمين مميزين.
لم تمانع تهميشها أو حتى إقصائها من مشاركته هذا الأمر، وأبدت ترحيبها الكامل بإعلانها الصريح:
-اللي إنت حابه، إنت أبوهم.
داعب "ممدوح" يدي الرضيعتين بإصبعيه، واستطرد في عزمٍ:
-هسميهم "ليان"، و"بيسان".
أثار اختياره المميز إعجابها، فاستحسنته، وأيدته دون نقاشٍ:
-الله! حلوين أوي.
عاد "ممدوح" ليخاطب الرضيعتين مشيرًا إلى كل واحدة على حدا بنظراته المهتمة:
-إنتي يا سكر اسمك "ليان"، وإنتي يا قمر هيبقى اسمك "بيسان".
التفت مرة أخرى متسائلًا في مرحٍ:
-شبهي صح؟
وضعت يدها على جبينها، وردت بعدما أغمضت عينيها لتستريح:
-حتة منك، ما إنت أبوهم.
لم يعد يساوره أي شك في هذه اللحظات الفريدة أنه أحرز تقدمًا يستحق الثناء عليه في لعبة التنافس الذكوري والتي ما زال معتقدًا باستمرارها بينه وبين رفيقه، انتشى على الأخير، وردد في زهوٍ، وعيناه اللامعتان ببريق السعادة لا تفارقان طفلتيه:
-أهوو بكده أبقى أنا البريمو يا "مهاب" ............................... !!


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close