رواية رحلة الآثام الفصل الواحد والثلاثون 31 بقلم منال سالم
الفصل الحادي والثلاثون
(لا تعبث مع غريمك)
لم تدخر وسعها في إبداء مظاهر فرحتها بمولودة جارتها العزيزة، وتولت بنفسها مهمة إعداد مشروب المُغات الساخن، لتوزعه على الجيران، وأهالي المنطقة احتفاءً بمرور أسبوع على ميلاد الصغيرة "تقى". أحضرت "إجلال" الأوعية الفخارية التي تحتفظ بها والدتها، وملأتها بالمزيد، لتقوم برصها بحرصٍ في صينية واسعة، وأعطتها لأخرى وهي توصيها:
-شوفي مين ماخدش وقوليلي، عاوزة الحتة كلها تفرح.
حملته الجارة في حرصٍ واضح وهي ترد:
-من عينيا.
نظرت "فردوس" لرفيقتها بامتنانٍ، وقالت بتحرجٍ:
-والله ما كان ليه لازمة ده كله.
ردت عليها باسمة:
-ما تقوليش كده يا "دوسة"، إنتي مش متخيلة أنا فرحانة بيها إزاي، والله ولا كأنها بنتي.
زمت شفتيها في شيءٍ من العبوس قبل أن تخبرها:
-خسارة المصاريف والتكاليف، هو إنتي ناقصة؟!
عاتبتها بنظرتها أولًا لتعلق عليها بعدها:
-والله أزعل منك ...
ما لبث أن عادت لابتسامتها اللطيفة وهي تكمل جملتها:
-ما تشليش هم حاجة، وبعدين سبيني على راحتي، أنا عاوزة أفرح الناس كلها، وزي ما بيقولوا، الخير على قدوم الواردين.
مجددًا شكرتها "فردوس" بلا ابتســام، وهي تسلط نظرة فاترة إلى رضيعتها:
-ربنا يخليكي ليا.
................................................
السعادة التي شعر بها منذ اللحظة الأولى التي حملها فيها بين ذراعيه كانت لا توصف ولا تقارن بأي فرحة أخرى مرت عليه طوال سنوات عمره، كان كمن وُهب سعادة أبدية. ولج "عوض" إلى المسجد، وباشر عمله وهو في قمة نشاطه وسعادته، انهالت عليه المباركات والتهنئات من كل من يعرف ومن لا يعرف، التقى بإمام المسجد الشيخ "عبد الستار"، فاستطرد في وقارٍ ممزوج ببسمة هادئة:
-مبروك يا عم "عوض" تتربى في عزك.
احتضنه الأخير في سرورٍ وهو يرد عليه:
-الله يبارك فيك.
ربت الشيخ على ظهره مرددًا بنفس الصوت الهادئ، والملامح المبتسمة:
-جعلها المولى مُباركة عليك يا "عوض".
عقب عليه مبتهجًا:
-الله يكرمك يا شيخنا.
خفض "عوض" من ناظريه عندما وجده يمد يده بمظروف أصفر مطوي ناحيته وهو يخبره:
-اتفضل.
سأله مندهشًا، والحيرة تسيطر أيضًا على نظراته:
-إيه ده؟
احتفظ الشيخ بملامحه المسترخية وهو يجيبه:
-نقوط المولودة.
في قدرٍ من الحرج اعترض عليه رافعًا المظروف تجاهه:
-ليه بس يا شيخنا؟ مالوش لازمة ده كتير وآ...
قاطعه بإصرارٍ وهو يشدد على قبضة يده المضمومة:
-ده رزق ربنا ليها، خده وماتكسفش.
لم يجد بدًا من مواصلة رفضه أمام إلحاحه الكريم، وقال ممتنًا:
-الله يباركلنا في عمرك يا شيخنا.
أضاف عليه الشيخ بتضرعٍ:
-ويجعلها نعم السند ليك في الدنيا، وسبب دخولك الجنة في الآخرة.
في التو أمن على دعائه:
-يا رب أمين.
دس "عوض" المظروف داخل جيبه، وتابع أداء عمله، كما هو دأبه، وهو لا يكف عن الدعاء بالشكر للمولى عز وجل، راجيًا منه أن يرزقه المقدرة والعون على تربية رضيعته التربية الصحيحة.
............................................
في الفترة التي رحل فيها عن المنزل، كانت والدته الأقرب إليه عن أي وقتٍ مضى، حيث كانت تلازمه ليل نهار وفي كل نشاط يقوم به، تشاركه لهوه، واستذكاره، وفسحته، وحتى تناوله للطعام، وكأنها تعوض عن شوقها إليه بالانخراط أكثر معه في كل تفصيلة دقيقة تخص حياته، ولم يمانع ذلك مطلقًا، أصبحت هذه الأيام هي الأكثر سعادة بالنسبة له، آنئذ شعر بمدى عمق الارتباط الوثيق بينهما، بدا وقتها وكأنه استعادها بعدما سلبها غيره، كم تمنى أن تدوم هذه اللحظات الثمينة للأبد، وألا يوجد من ينزع أو يفسد هذه الصلة القائمة لأي سبب كان! أنهى "أوس" مسألته الحسابية، وأعطاها لوالدته لتراجع طريقة حله، ظل يتأملها بعينين حانيتين، قبل أن يخبرها في نزقٍ:
-أنا بحبك أوي يا ماما.
ابتسمت لاعترافه المتكرر دومًا على مسامعها، انحنت عليه، وضمته إلى صدرها في عاطفة أمومية جياشة، رمقته بنظرتها الدافئة قائلة:
-وأنا أكتر يا "أوس"...
ثم أشارت إلى بطنها الذي برز بشكلٍ واضح متابعة كلامها:
-وبكرة لما يبقى عندك أخ أو أخت عايزاك تحبه زيي.
سألها في عبوس طفولي:
-إنتي هتحبيه أكتر مني؟
ردت نافية وهي تهز رأسها:
-لأ، إنتو الاتنين زي بعض، في نفس الحب والغلاوة...
ثم وضعت بسمة رقيقة على وجهها وهي توصيه:
-وبعدين إنت هتبقى الكبير، ومسئول عنه، يعني هيسمع كلامك ويعمل اللي إنت عاوزه.
وكأنه استساغ الأمر، فصمت مليًا ليستغرق في التفكير، قبل أن يتساءل بقدرٍ من الحيرة:
-والنونو ده هيعيش معايا عند بابا؟
في التو نفت، وقد غامت تعبيراتها:
-لأ طبعًا...
استغرب لهذا التجهم المريب الذي كسا تعبيراتها، فحاولت "تهاني" التبرير له باختلاق كذبة لحظية:
-حبيبي، أنا مش عايزاك تنسى اللي اتفقنا عليه، ماتجيبش سيرة لباباك إني حامل، دي مفاجأة، خلاص؟
حرك رأسه إيجابًا وهو يرد:
-طيب.
مسدت على رأسها باسمة، قبل أن تواصل مراجعة الجزئية التالية في واجبه الدراسي، وداخلها لا يزال يلتاع لغياب من امتلك قلبها، وارتحل عنها بلا محاولة واحدة للاتصال أو التواصل معها.
...............................................
كأفعى تفح وتلدغ سمها الفتـــاك في دماء أحدهم، أخبر "بدري" والدة "عوض" بالمستجد من الأحداث، بعدما زارها في بيتها ببلدتها القاصية. تضرج وجهها بحمرة الغضب، واشتعلت نظراتها وهي لا تكاد تصدق أن تلك المشؤومة نجت، بل وأتت بقطعة منها لهذه الحياة، ظلت تردد في استنكارٍ جلي:
-ولدت؟ طب إزاي؟!
بتلقائية، وبفمٍ ملتوٍ أجابها:
-مشيئة ربنا.
سألته في نوعٍ من الفضول، وداخلها ما زال مستعرًا:
-وجابت إيه على كده؟
بنفس الملامح المتجهمة أخبرها:
-بت.
علقت في ازدراءٍ حاقد:
-يا مجاب الغراب لأمه!
تأهب "بدري" للذهاب، فنهض من مقعده مرددًا:
-أنا جيت أعرفك يا خالة بده، بدل ما تسمعي من الغريب!
قامت بدورها، لتصحبه لباب المنزل، هاتفة في وجومٍ أشد:
-وهيفيد بإيه؟ لا عمره "عوض" هيرجع، ولا أنا هرضى بيها!
أوصلته إلى عتبته متابعة شكواها الحانقة:
-كانت وش نحس من يوم ما دخلت حياتنا، أنا عارفة ربنا مخدهاش ليه وريحنا منها.
نجح في مسعاه، وملأ نفسها بالشرور ناحية زوجة ابنها، وكأنه بذلك يقتص لما أصاب كرامته من إهانة وتحقير، فرغم مضي السنوات إلا أنه لا يزال يكن في نفسه ذلك الشعور البغيض تجاه كل من له صلة بـ "تهاني"، وضع على وجهه قناع الوداعة، ليقول في براءة خبيثة:
-عاوزة حاجة تانية مني يا خالة؟
ردت عليه بما يشبه التوصية:
-تعيش، ولو عرفت حاجة تانية بلغني يا "بدري"، أو اتصل على الرقم اللي معاك.
ألصق بثغره ابتسامته اللئيمة قبل أن يرد:
-أكيد يا خالة، سلام عليكم.
اقتضب في الرد عليه بعدما انصرف:
-وعليكم...
أغلقت الباب من ورائه، وصفقت بيديها قبل أن ترفعهما للأعلى صائحة فيما يشبه الدعاء:
-إلهي يجيني خبرك يا "فردوس" يا بنت "عقيلة"!
..............................................
قفز قلبها بين ضلوعها، ورقص طربًا، كما غمرتها موجات متدفقة من السعادة، عندما نما إلى مسامعها عودة زوجها من بعد سفر طويل، وغياب موجع، ظنت خلال مدة بُعاده أنه هجرها بعدما نجح "مهاب" في التأثير عليه، وجعله يُفارقها جبرًا. هرولت "تهاني" بين الأروقة في خطواتٍ أقرب للركض، لا تتناسب مع انتفاخ بطنها، وآلام الحمل المسيطرة عليها، اتجهت في الحال إلى مكتبه، نادته قبل أن تفتح الباب وتقتحم غرفته دون استئذانٍ:
-"ممدوح"!
في تعابير شبه ذاهلة، حملق ناحيتها زوجها، وكأنه لا يستوعب ما يراه، شلت المفاجأة تفكيره، وتخشب في موضعه بلا أدنى ردة فعل، ارتمت دون مقدماتٍ في أحضانه، منحته ضمةً عبرت عن شوقها واشتياقها، اختنق صوتها وهي تكلمه في صوت مهموس:
-حبيبي...
ظلت باقية في أحضانه، وصوتها شبه الباكي يردد:
-أنا مش مصدقة إنك موجود هنا.
لم يبدُ بمثل شغفها وتلهفها، كان فاترًا في لقائه بها، لم تشعر بذراعيه يطوقاها، بل كان جامدًا كالصخر، مصدومًا، في حالة من الدهشة والتعجب، تراجعت عنه لتنظر إليه ملء عينيها، ويداها تنخفضان لتمسك براحتيه، بكت دموع الفرحة وهي تخاطبه بأنفاسٍ منفعلة:
-حمد لله على السلامة.
وضعت يديه على بطنها المتكور وهي تسأله في ترقبٍ متحمس:
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟
كان لا يزال على دهشته المصدومة حين سألها:
-إنتي حامل؟
ضحكت لسؤاله الساذج، وكأنه لا يرى حجم بطنها المنتفخ، وصححت له:
-قول قربت أولد.
سألها في صوتٍ شبه جاد، ويداه تتحسسان بطنها في حذرٍ:
-ليه ما عرفتنيش؟
أجابته بعد تنهيدة عميقة:
-كنت عايزاك تشوف بنفسك.
صمت للحظاتٍ، قبل أن يعقب بشيءٍ من الغموض:
-حاجات كتير كده هتتغير!
لم تكترث بالمغزى وراء عبارته هذه، بل ولم تهتم على الإطلاق بما قرر فعله أثناء أشهر غيابه، المهم لديها الآن أنها استعادته، وأصبح معها من جديد.
................................................
بناءً على ميعادٍ مسبق ومرتب له، التقى بها في غرفة مكتبه التي بدت أصغر من تلك التي يشغلها شقيقه الأكبر، في المقر الرئيسي لشركات "الجندي"، ومع ذلك لم يكن ممانعًا من هذه المظاهر الفارغة، فحينما تأتي اللحظة المناسبة، سيقوم بتغيير الأوضــاع، وإعادة الأمور لنصابها الصحيح. انتظر "مهاب" ذهاب سكرتيرته الخاصة بعدما وضعت فنجاني القهوة الساخنة أمامه وكذلك أمام ضيفته، ليصغي إليها مجددًا في انتباه كامل، وهذه البسمة العذبة تحتل شفتيه:
-تعرف، أنا مش من السهل أتعود على حد.
داعبت "ناريمان" خصلة شعرها المتطايرة على جبينها، وطرحتها للخلف قبل أن تستأنف استرسالها بنبرتها المرحة:
-بس إنت فيك حاجة غريبة، غامضة، مش مفهومة، هي اللي دايمًا بتشدني ليك.
طالعها بهذه النظرة المزهوة السعيدة بقرب تحقيق واحدٍ من أكبر انتصاراته، فبعد أشهر من التخطيط والترتيب، وعدم التعجل، استطاع بمهاراته إيقاع هذه الطريدة الجديدة، ذات الطباع المستعصية، وجرها إلى حبائل وهم عشقه. بهدوء الصياد المحنك علق عليها مقتضبًا، وفي جدية مشوبة بالاحترام:
-ده شرف ليا.
ارتشفت القليل من قهوتها، وأضافت في تحمسٍ وهي تعيد وضع فنجانها في موضعه:
-صحيح في دمج جديد هيحصل ما بين فرع شركتنا وشركتكم.
حرك رأسه معقبًا:
-"سامي" بلغني بده.
سألته في فضولٍ، ونظرة حيرى تطل من عينيها إليه:
-إنت ليه مش ماسك معاه الإدارة؟ أو زي ما بيقولوا صلاحياتك تعتبر أقل منه!
جاء رده مثل تعابيره هادئَا:
-الفترة دي مش فاضي، ورايا حاجات تانية أهم.
أبدت اهتمامها بما قاله، فسألته بلطافةٍ لائقة على تدللها:
-زي إيه؟
كالعادة حينما يحب استطالة الحديث مع إحداهن، وإظهار مدى تفرده عن غيره من الرجال، أتى جوابه في صيغة تساؤلية:
-كدكتور ولا كرجل أعمال؟
مطت فمها قليلًا، ثم هزت كتفيها هاتفة:
-زي ما تحب.
رفع يده ليمررها في خصلات شعره، ثم أخبرها بما صدمها تمامًا:
-بالمناسبة، أنا مسافر تاني، واحتمال أغيب فترة.
لاحظ بعينيه الثاقبتين تبدل تعبيراتها المرحة إلى قليلٍ من الضيق، رغم محاولتها لإخفاء ذلك، لم تتوقع "ناريمان" مثل ذلك الرد، ابتلعت غصة في حنقها، وسألته كنوعٍ من المزاح لتغطي على شعور الانزعاج الذي تسلل إليها:
-ناوي تتجوز ولا إيه؟
نظر إليها بعمقٍ، فتوردت بشرتها من طريقة تطلعه، ليقول بعدها في مكرٍ، وبكلمات موحية، ذات مدلولٍ خطير:
-لو نويت، مش هيكون غير عشان واحدة وبس، ده لو وافقت.
تحفزت في جلستها بشكلٍ مربك، وسألته وهي ترمش بعينيها:
-مين دي؟
في بطءٍ وتمهل أرجع ظهره للخلف، وقال في غموض مثير:
-أفضل أحتفظ بالجواب لنفسي حاليًا، مش حابب أخسرها، وخصوصًا بعد ما بقت أقرب واحدة ليا.
تلميحاته المفهومة لها، جعلتها تزداد اهتمامًا به، حاولت مواراة ما تكنه ناحيته، وردت في ابتسامة رقيقة كعادتها مؤخرًا معه:
-قبل ما تسافر عرفني، جايز أودعك في المطار.
بادلها الابتسام الماكر، وأومئ برأسه مؤكدًا لها:
-حاضر، بالعكس أنا حابب ده.
استمرت على تبسمها الخجل، قبل أن تمسك بفنجان قهوتها لتكمل ارتشاف ما تبقى منه، ونظرات "مهاب" تتفرس فيها كحيوانٍ ضارٍ يتربص بطريدته الشهية.
.............................................
بشكلٍ غير اعتيادي، انتفخت عروق وجهه، واسودت كامل ملامحه، حتى عينيه تحولتا للون القاتم عندما أبلغه رفيقه بعد عودته من سفره بمسألة حمل "تهاني"، أحس "مهاب" بالغباء، لكونها نجحت في إخفاء هذا الأمر الجلل عنه تمامًا، فلم يشك للحظة بها، ولم يشعر بأنها تحيك مكيدة من خلفه، اشتاط غضبًا لوضعه في موقف الأحمق الجاهل، وصاح معنفًا صديقه في غيظٍ:
-وإنت إزاي تسمحلها تحمل؟ مش عامل احتياطاتك معاها ولا إيه؟
استغرب "ممدوح" من الانفعال الذي أصبح عليه، وسأله في برودٍ مناقض له، محاولًا سبر أغواره الغامضة:
-وده يضايقك في إيه؟
صاح في تشنج غريب، وكأنه اتخذ الأمر على محمل شخصي:
-أه طبعًا مضايقني، لأن المفروض نخلص من "تهاني"، وجودها مالوش لازمة في حياتنا دلوقتي.
للغرابة استمتع "ممدوح" للمرة الأولى برؤيته على هذه الحالة الحانقة، بدا وكأنه تفوق عليه بعد صراع ممتد معه، استرخى في جلسته، ونظر إليه بقدرٍ من العجرفة قبل أن يخبره:
-بس هي أمرها يهمني.
رمقه بهذه النظرة النارية وهو يسأله في تحفزٍ:
-وده من إمتى؟
ادعى "ممدوح" تثاؤبه، وقال:
-من زمان، بس مكونتش متأكد.
استفزته طريقته في التعامل مع جدية الوضع بهذا القدر من اللامبالاة والاستهتار، فرغبته في التخلص منها ازدادت بعدما توطدت صلته بـ "ناريمان"، وبطبيعة الحال لم يحبذ أبدًا أن تكون على أي نوعٍ من الصداقة معها، وإلا لكشفت لها الصندوق الأسود لشخصيته الســـــادية، لهذا علق عليه في تعصبٍ أكبر:
-ودلوقتي بقيت مش قادر تستغنى عنها؟ إنت بتستهبل يا "ممدوح"؟
كان الأخير في أوج نشوته، أخبره في لؤمٍ مغيظٍ له:
-أيوه، وخصوصًا بعد ما بقت حامل في ابني...
ثم تصنع الضحك بعدما رأى هذا التعبير الغاضب متجسدًا على وجهه، ليزيد من سوء الأمر بإتمام جملته:
-كده عيالنا هيبقوا إخوات.
لم يتحمل سخافاته المستفزة، فهدر به في انفعالٍ جلي:
-ما تسكت بقى يا "ممدوح"!
لم يكف عن مضايقته، واستمر يقول في تسلية:
-شوف الزمن والحظ، مين كان يصدق.
حذره "مهاب" بلهجةٍ غير متساهلة حينما ظل على طريقته المستثيرة للأعصاب:
-"ممـــــدوح"!!!
توقف عن إغاظته، فقد نال مبتغاه منه، نهض من مقعده قائلًا بوجه مبتسم على الأخير:
-واضح إن أعصابك تعبانة، أسيبك ترتاح من السفر، وأروح أنا لمراتي وابني...
وقبل أن يغادر أخبره:
-لو عايز أبعتلك "أوس" يومين، خده...
ثم غمز له بطرف عينه متابعًا كلامه العبثي:
-ما إنت عارف الحوامل، بيحبوا الحنية والدلع، وأنا سيد من يدلع!
بالكاد ضبط "مهاب" أعصابه لئلا يستفز أكثر من ذلك، وانتظر انصرافه ليطيح بكل ما على سطح مكتبه في عصبيةٍ مبررة. لم يهدأ داخله، وظل متقدًا ومستثار في انفعالاته، هب واقفًا بعدما دفع مقعده للخلف، واتجه إلى النافذة محادثًا نفسه في توعدٍ:
-أما إنك ماطلعتيش سهلة يا "تهاني"، بس نهاية الموضوع ده عندي!!!
.....................................................
بعد ليلة حميمة عاصفة، محملة بكل ما كانت تتوق إليه، لتروي ظمأ جسدها، وتطفئ لهيب مشاعرها المتأججة، أراحت "تهاني" رأسها على صدر زوجها، وخللت أناملها في أصابعه لتتشابك يداهما معًا، تأوهت في صوت خافت وهي تشعر بلمسة يده الأخرى على جلد بطنها الناعم، استمتعت بهذه المداعبات الدافئة، وهي غارقة في أحضانه، رفعت رأسها لتنظر إليه عندما همس لها بما يشبه التحذير:
-عايزك تاخدي بالك كويس من نفسك الفترة الجاية.
سألته في استغرابٍ، وقد تقلصت المسافة بين حاجبيها:
-ليه بتقول كده يا "ممدوح"؟
أجاب بعد زفرة بطيئة، ليوحي لها بأنه يستصعب الأمر:
-"مهاب" عرف إنك حامل، وده مجننه على الآخر.
تصلب جسدها، وارتفعت بكتفيها عن مستوى رقودها لتتساءل في ضيقٍ:
-وهو ماله؟
أعادها إلى موضع استرخائها الأول، ومرر طرف إصبعه على ذراعها صعودًا وهبوطًا في رقةٍ وخفة، قبل أن يجاوبها:
-غيران يا حبيبتي، إن بقى عندك عيلة، وحياتك مستقرة، مع الشخص اللي بتحبيه.
استسلمت للخدر المغري المصاحب للمساته الرقيقة، واعترفت له بتقاسيمٍ عابسة:
-أنا ما بكرهش في حياتي أد "مهاب"، أبشع إنسان في الكون.
استغل الفرصة ليقول في مكرٍ، قاصدًا بذلك تعميق العداء بينهما:
-ده ممكن يقلب ابنك عليكي.
مرة ثانية انتفض جسدها، وتحفزت وهي تسأله:
-معقولة؟
رفع يده ليحيط بمنحنى عنقها مداعبًا إياه في نعومة وهو يضيف:
-إنتي مش عارفاه زيي.
عاد ذلك الشعور الممتع ليراودها، فاستسلمت إليه وكأنها خدرت، ومع ذلك أتى صوتها منزعجًا:
-استحالة، ده بقى متعلق بيا أكتر من الأول.
نظر إليها قائلًا في لهجة اكتسبت طابعًا جديًا:
-شوفي يا حبيبتي، لو مافيش شوية حزم مننا معاه، صدقيني عياره هيفلت.
دون تفكيرٍ منحته الإذن ليفعل ما يريد بتأكيدها:
-اللي إنت شايفه صح اعمله، إنت ليك كل الصلاحيات معاه!
ثم تقوست شفتاها عن ابتسامة طامعة، بها دعوة مرحبة باستقبال ما يقدمه لها من إغراء احترافي، لتشرئب بعنقها لتقبله قائلة:
-أنا مابقتش بثق في حد غيرك.
برقت عيناه بهذا الوهج الشيطاني الخبيث، وخاطبها بعدما استدار في خفةٍ لتصبح ممددة أسفل منه، مسح على شعرها بنعومة، وانحنى على شفتيها ليبادلها بأخرى أكثر تأثيرًا، وعمقًا، وشهوانية، ثم همس بأنفاس حارة لفحت شحمة أذنها:
-وأنا هكون أد الثقة دي يا حياتي .................................... !!
(لا تعبث مع غريمك)
لم تدخر وسعها في إبداء مظاهر فرحتها بمولودة جارتها العزيزة، وتولت بنفسها مهمة إعداد مشروب المُغات الساخن، لتوزعه على الجيران، وأهالي المنطقة احتفاءً بمرور أسبوع على ميلاد الصغيرة "تقى". أحضرت "إجلال" الأوعية الفخارية التي تحتفظ بها والدتها، وملأتها بالمزيد، لتقوم برصها بحرصٍ في صينية واسعة، وأعطتها لأخرى وهي توصيها:
-شوفي مين ماخدش وقوليلي، عاوزة الحتة كلها تفرح.
حملته الجارة في حرصٍ واضح وهي ترد:
-من عينيا.
نظرت "فردوس" لرفيقتها بامتنانٍ، وقالت بتحرجٍ:
-والله ما كان ليه لازمة ده كله.
ردت عليها باسمة:
-ما تقوليش كده يا "دوسة"، إنتي مش متخيلة أنا فرحانة بيها إزاي، والله ولا كأنها بنتي.
زمت شفتيها في شيءٍ من العبوس قبل أن تخبرها:
-خسارة المصاريف والتكاليف، هو إنتي ناقصة؟!
عاتبتها بنظرتها أولًا لتعلق عليها بعدها:
-والله أزعل منك ...
ما لبث أن عادت لابتسامتها اللطيفة وهي تكمل جملتها:
-ما تشليش هم حاجة، وبعدين سبيني على راحتي، أنا عاوزة أفرح الناس كلها، وزي ما بيقولوا، الخير على قدوم الواردين.
مجددًا شكرتها "فردوس" بلا ابتســام، وهي تسلط نظرة فاترة إلى رضيعتها:
-ربنا يخليكي ليا.
................................................
السعادة التي شعر بها منذ اللحظة الأولى التي حملها فيها بين ذراعيه كانت لا توصف ولا تقارن بأي فرحة أخرى مرت عليه طوال سنوات عمره، كان كمن وُهب سعادة أبدية. ولج "عوض" إلى المسجد، وباشر عمله وهو في قمة نشاطه وسعادته، انهالت عليه المباركات والتهنئات من كل من يعرف ومن لا يعرف، التقى بإمام المسجد الشيخ "عبد الستار"، فاستطرد في وقارٍ ممزوج ببسمة هادئة:
-مبروك يا عم "عوض" تتربى في عزك.
احتضنه الأخير في سرورٍ وهو يرد عليه:
-الله يبارك فيك.
ربت الشيخ على ظهره مرددًا بنفس الصوت الهادئ، والملامح المبتسمة:
-جعلها المولى مُباركة عليك يا "عوض".
عقب عليه مبتهجًا:
-الله يكرمك يا شيخنا.
خفض "عوض" من ناظريه عندما وجده يمد يده بمظروف أصفر مطوي ناحيته وهو يخبره:
-اتفضل.
سأله مندهشًا، والحيرة تسيطر أيضًا على نظراته:
-إيه ده؟
احتفظ الشيخ بملامحه المسترخية وهو يجيبه:
-نقوط المولودة.
في قدرٍ من الحرج اعترض عليه رافعًا المظروف تجاهه:
-ليه بس يا شيخنا؟ مالوش لازمة ده كتير وآ...
قاطعه بإصرارٍ وهو يشدد على قبضة يده المضمومة:
-ده رزق ربنا ليها، خده وماتكسفش.
لم يجد بدًا من مواصلة رفضه أمام إلحاحه الكريم، وقال ممتنًا:
-الله يباركلنا في عمرك يا شيخنا.
أضاف عليه الشيخ بتضرعٍ:
-ويجعلها نعم السند ليك في الدنيا، وسبب دخولك الجنة في الآخرة.
في التو أمن على دعائه:
-يا رب أمين.
دس "عوض" المظروف داخل جيبه، وتابع أداء عمله، كما هو دأبه، وهو لا يكف عن الدعاء بالشكر للمولى عز وجل، راجيًا منه أن يرزقه المقدرة والعون على تربية رضيعته التربية الصحيحة.
............................................
في الفترة التي رحل فيها عن المنزل، كانت والدته الأقرب إليه عن أي وقتٍ مضى، حيث كانت تلازمه ليل نهار وفي كل نشاط يقوم به، تشاركه لهوه، واستذكاره، وفسحته، وحتى تناوله للطعام، وكأنها تعوض عن شوقها إليه بالانخراط أكثر معه في كل تفصيلة دقيقة تخص حياته، ولم يمانع ذلك مطلقًا، أصبحت هذه الأيام هي الأكثر سعادة بالنسبة له، آنئذ شعر بمدى عمق الارتباط الوثيق بينهما، بدا وقتها وكأنه استعادها بعدما سلبها غيره، كم تمنى أن تدوم هذه اللحظات الثمينة للأبد، وألا يوجد من ينزع أو يفسد هذه الصلة القائمة لأي سبب كان! أنهى "أوس" مسألته الحسابية، وأعطاها لوالدته لتراجع طريقة حله، ظل يتأملها بعينين حانيتين، قبل أن يخبرها في نزقٍ:
-أنا بحبك أوي يا ماما.
ابتسمت لاعترافه المتكرر دومًا على مسامعها، انحنت عليه، وضمته إلى صدرها في عاطفة أمومية جياشة، رمقته بنظرتها الدافئة قائلة:
-وأنا أكتر يا "أوس"...
ثم أشارت إلى بطنها الذي برز بشكلٍ واضح متابعة كلامها:
-وبكرة لما يبقى عندك أخ أو أخت عايزاك تحبه زيي.
سألها في عبوس طفولي:
-إنتي هتحبيه أكتر مني؟
ردت نافية وهي تهز رأسها:
-لأ، إنتو الاتنين زي بعض، في نفس الحب والغلاوة...
ثم وضعت بسمة رقيقة على وجهها وهي توصيه:
-وبعدين إنت هتبقى الكبير، ومسئول عنه، يعني هيسمع كلامك ويعمل اللي إنت عاوزه.
وكأنه استساغ الأمر، فصمت مليًا ليستغرق في التفكير، قبل أن يتساءل بقدرٍ من الحيرة:
-والنونو ده هيعيش معايا عند بابا؟
في التو نفت، وقد غامت تعبيراتها:
-لأ طبعًا...
استغرب لهذا التجهم المريب الذي كسا تعبيراتها، فحاولت "تهاني" التبرير له باختلاق كذبة لحظية:
-حبيبي، أنا مش عايزاك تنسى اللي اتفقنا عليه، ماتجيبش سيرة لباباك إني حامل، دي مفاجأة، خلاص؟
حرك رأسه إيجابًا وهو يرد:
-طيب.
مسدت على رأسها باسمة، قبل أن تواصل مراجعة الجزئية التالية في واجبه الدراسي، وداخلها لا يزال يلتاع لغياب من امتلك قلبها، وارتحل عنها بلا محاولة واحدة للاتصال أو التواصل معها.
...............................................
كأفعى تفح وتلدغ سمها الفتـــاك في دماء أحدهم، أخبر "بدري" والدة "عوض" بالمستجد من الأحداث، بعدما زارها في بيتها ببلدتها القاصية. تضرج وجهها بحمرة الغضب، واشتعلت نظراتها وهي لا تكاد تصدق أن تلك المشؤومة نجت، بل وأتت بقطعة منها لهذه الحياة، ظلت تردد في استنكارٍ جلي:
-ولدت؟ طب إزاي؟!
بتلقائية، وبفمٍ ملتوٍ أجابها:
-مشيئة ربنا.
سألته في نوعٍ من الفضول، وداخلها ما زال مستعرًا:
-وجابت إيه على كده؟
بنفس الملامح المتجهمة أخبرها:
-بت.
علقت في ازدراءٍ حاقد:
-يا مجاب الغراب لأمه!
تأهب "بدري" للذهاب، فنهض من مقعده مرددًا:
-أنا جيت أعرفك يا خالة بده، بدل ما تسمعي من الغريب!
قامت بدورها، لتصحبه لباب المنزل، هاتفة في وجومٍ أشد:
-وهيفيد بإيه؟ لا عمره "عوض" هيرجع، ولا أنا هرضى بيها!
أوصلته إلى عتبته متابعة شكواها الحانقة:
-كانت وش نحس من يوم ما دخلت حياتنا، أنا عارفة ربنا مخدهاش ليه وريحنا منها.
نجح في مسعاه، وملأ نفسها بالشرور ناحية زوجة ابنها، وكأنه بذلك يقتص لما أصاب كرامته من إهانة وتحقير، فرغم مضي السنوات إلا أنه لا يزال يكن في نفسه ذلك الشعور البغيض تجاه كل من له صلة بـ "تهاني"، وضع على وجهه قناع الوداعة، ليقول في براءة خبيثة:
-عاوزة حاجة تانية مني يا خالة؟
ردت عليه بما يشبه التوصية:
-تعيش، ولو عرفت حاجة تانية بلغني يا "بدري"، أو اتصل على الرقم اللي معاك.
ألصق بثغره ابتسامته اللئيمة قبل أن يرد:
-أكيد يا خالة، سلام عليكم.
اقتضب في الرد عليه بعدما انصرف:
-وعليكم...
أغلقت الباب من ورائه، وصفقت بيديها قبل أن ترفعهما للأعلى صائحة فيما يشبه الدعاء:
-إلهي يجيني خبرك يا "فردوس" يا بنت "عقيلة"!
..............................................
قفز قلبها بين ضلوعها، ورقص طربًا، كما غمرتها موجات متدفقة من السعادة، عندما نما إلى مسامعها عودة زوجها من بعد سفر طويل، وغياب موجع، ظنت خلال مدة بُعاده أنه هجرها بعدما نجح "مهاب" في التأثير عليه، وجعله يُفارقها جبرًا. هرولت "تهاني" بين الأروقة في خطواتٍ أقرب للركض، لا تتناسب مع انتفاخ بطنها، وآلام الحمل المسيطرة عليها، اتجهت في الحال إلى مكتبه، نادته قبل أن تفتح الباب وتقتحم غرفته دون استئذانٍ:
-"ممدوح"!
في تعابير شبه ذاهلة، حملق ناحيتها زوجها، وكأنه لا يستوعب ما يراه، شلت المفاجأة تفكيره، وتخشب في موضعه بلا أدنى ردة فعل، ارتمت دون مقدماتٍ في أحضانه، منحته ضمةً عبرت عن شوقها واشتياقها، اختنق صوتها وهي تكلمه في صوت مهموس:
-حبيبي...
ظلت باقية في أحضانه، وصوتها شبه الباكي يردد:
-أنا مش مصدقة إنك موجود هنا.
لم يبدُ بمثل شغفها وتلهفها، كان فاترًا في لقائه بها، لم تشعر بذراعيه يطوقاها، بل كان جامدًا كالصخر، مصدومًا، في حالة من الدهشة والتعجب، تراجعت عنه لتنظر إليه ملء عينيها، ويداها تنخفضان لتمسك براحتيه، بكت دموع الفرحة وهي تخاطبه بأنفاسٍ منفعلة:
-حمد لله على السلامة.
وضعت يديه على بطنها المتكور وهي تسأله في ترقبٍ متحمس:
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟
كان لا يزال على دهشته المصدومة حين سألها:
-إنتي حامل؟
ضحكت لسؤاله الساذج، وكأنه لا يرى حجم بطنها المنتفخ، وصححت له:
-قول قربت أولد.
سألها في صوتٍ شبه جاد، ويداه تتحسسان بطنها في حذرٍ:
-ليه ما عرفتنيش؟
أجابته بعد تنهيدة عميقة:
-كنت عايزاك تشوف بنفسك.
صمت للحظاتٍ، قبل أن يعقب بشيءٍ من الغموض:
-حاجات كتير كده هتتغير!
لم تكترث بالمغزى وراء عبارته هذه، بل ولم تهتم على الإطلاق بما قرر فعله أثناء أشهر غيابه، المهم لديها الآن أنها استعادته، وأصبح معها من جديد.
................................................
بناءً على ميعادٍ مسبق ومرتب له، التقى بها في غرفة مكتبه التي بدت أصغر من تلك التي يشغلها شقيقه الأكبر، في المقر الرئيسي لشركات "الجندي"، ومع ذلك لم يكن ممانعًا من هذه المظاهر الفارغة، فحينما تأتي اللحظة المناسبة، سيقوم بتغيير الأوضــاع، وإعادة الأمور لنصابها الصحيح. انتظر "مهاب" ذهاب سكرتيرته الخاصة بعدما وضعت فنجاني القهوة الساخنة أمامه وكذلك أمام ضيفته، ليصغي إليها مجددًا في انتباه كامل، وهذه البسمة العذبة تحتل شفتيه:
-تعرف، أنا مش من السهل أتعود على حد.
داعبت "ناريمان" خصلة شعرها المتطايرة على جبينها، وطرحتها للخلف قبل أن تستأنف استرسالها بنبرتها المرحة:
-بس إنت فيك حاجة غريبة، غامضة، مش مفهومة، هي اللي دايمًا بتشدني ليك.
طالعها بهذه النظرة المزهوة السعيدة بقرب تحقيق واحدٍ من أكبر انتصاراته، فبعد أشهر من التخطيط والترتيب، وعدم التعجل، استطاع بمهاراته إيقاع هذه الطريدة الجديدة، ذات الطباع المستعصية، وجرها إلى حبائل وهم عشقه. بهدوء الصياد المحنك علق عليها مقتضبًا، وفي جدية مشوبة بالاحترام:
-ده شرف ليا.
ارتشفت القليل من قهوتها، وأضافت في تحمسٍ وهي تعيد وضع فنجانها في موضعه:
-صحيح في دمج جديد هيحصل ما بين فرع شركتنا وشركتكم.
حرك رأسه معقبًا:
-"سامي" بلغني بده.
سألته في فضولٍ، ونظرة حيرى تطل من عينيها إليه:
-إنت ليه مش ماسك معاه الإدارة؟ أو زي ما بيقولوا صلاحياتك تعتبر أقل منه!
جاء رده مثل تعابيره هادئَا:
-الفترة دي مش فاضي، ورايا حاجات تانية أهم.
أبدت اهتمامها بما قاله، فسألته بلطافةٍ لائقة على تدللها:
-زي إيه؟
كالعادة حينما يحب استطالة الحديث مع إحداهن، وإظهار مدى تفرده عن غيره من الرجال، أتى جوابه في صيغة تساؤلية:
-كدكتور ولا كرجل أعمال؟
مطت فمها قليلًا، ثم هزت كتفيها هاتفة:
-زي ما تحب.
رفع يده ليمررها في خصلات شعره، ثم أخبرها بما صدمها تمامًا:
-بالمناسبة، أنا مسافر تاني، واحتمال أغيب فترة.
لاحظ بعينيه الثاقبتين تبدل تعبيراتها المرحة إلى قليلٍ من الضيق، رغم محاولتها لإخفاء ذلك، لم تتوقع "ناريمان" مثل ذلك الرد، ابتلعت غصة في حنقها، وسألته كنوعٍ من المزاح لتغطي على شعور الانزعاج الذي تسلل إليها:
-ناوي تتجوز ولا إيه؟
نظر إليها بعمقٍ، فتوردت بشرتها من طريقة تطلعه، ليقول بعدها في مكرٍ، وبكلمات موحية، ذات مدلولٍ خطير:
-لو نويت، مش هيكون غير عشان واحدة وبس، ده لو وافقت.
تحفزت في جلستها بشكلٍ مربك، وسألته وهي ترمش بعينيها:
-مين دي؟
في بطءٍ وتمهل أرجع ظهره للخلف، وقال في غموض مثير:
-أفضل أحتفظ بالجواب لنفسي حاليًا، مش حابب أخسرها، وخصوصًا بعد ما بقت أقرب واحدة ليا.
تلميحاته المفهومة لها، جعلتها تزداد اهتمامًا به، حاولت مواراة ما تكنه ناحيته، وردت في ابتسامة رقيقة كعادتها مؤخرًا معه:
-قبل ما تسافر عرفني، جايز أودعك في المطار.
بادلها الابتسام الماكر، وأومئ برأسه مؤكدًا لها:
-حاضر، بالعكس أنا حابب ده.
استمرت على تبسمها الخجل، قبل أن تمسك بفنجان قهوتها لتكمل ارتشاف ما تبقى منه، ونظرات "مهاب" تتفرس فيها كحيوانٍ ضارٍ يتربص بطريدته الشهية.
.............................................
بشكلٍ غير اعتيادي، انتفخت عروق وجهه، واسودت كامل ملامحه، حتى عينيه تحولتا للون القاتم عندما أبلغه رفيقه بعد عودته من سفره بمسألة حمل "تهاني"، أحس "مهاب" بالغباء، لكونها نجحت في إخفاء هذا الأمر الجلل عنه تمامًا، فلم يشك للحظة بها، ولم يشعر بأنها تحيك مكيدة من خلفه، اشتاط غضبًا لوضعه في موقف الأحمق الجاهل، وصاح معنفًا صديقه في غيظٍ:
-وإنت إزاي تسمحلها تحمل؟ مش عامل احتياطاتك معاها ولا إيه؟
استغرب "ممدوح" من الانفعال الذي أصبح عليه، وسأله في برودٍ مناقض له، محاولًا سبر أغواره الغامضة:
-وده يضايقك في إيه؟
صاح في تشنج غريب، وكأنه اتخذ الأمر على محمل شخصي:
-أه طبعًا مضايقني، لأن المفروض نخلص من "تهاني"، وجودها مالوش لازمة في حياتنا دلوقتي.
للغرابة استمتع "ممدوح" للمرة الأولى برؤيته على هذه الحالة الحانقة، بدا وكأنه تفوق عليه بعد صراع ممتد معه، استرخى في جلسته، ونظر إليه بقدرٍ من العجرفة قبل أن يخبره:
-بس هي أمرها يهمني.
رمقه بهذه النظرة النارية وهو يسأله في تحفزٍ:
-وده من إمتى؟
ادعى "ممدوح" تثاؤبه، وقال:
-من زمان، بس مكونتش متأكد.
استفزته طريقته في التعامل مع جدية الوضع بهذا القدر من اللامبالاة والاستهتار، فرغبته في التخلص منها ازدادت بعدما توطدت صلته بـ "ناريمان"، وبطبيعة الحال لم يحبذ أبدًا أن تكون على أي نوعٍ من الصداقة معها، وإلا لكشفت لها الصندوق الأسود لشخصيته الســـــادية، لهذا علق عليه في تعصبٍ أكبر:
-ودلوقتي بقيت مش قادر تستغنى عنها؟ إنت بتستهبل يا "ممدوح"؟
كان الأخير في أوج نشوته، أخبره في لؤمٍ مغيظٍ له:
-أيوه، وخصوصًا بعد ما بقت حامل في ابني...
ثم تصنع الضحك بعدما رأى هذا التعبير الغاضب متجسدًا على وجهه، ليزيد من سوء الأمر بإتمام جملته:
-كده عيالنا هيبقوا إخوات.
لم يتحمل سخافاته المستفزة، فهدر به في انفعالٍ جلي:
-ما تسكت بقى يا "ممدوح"!
لم يكف عن مضايقته، واستمر يقول في تسلية:
-شوف الزمن والحظ، مين كان يصدق.
حذره "مهاب" بلهجةٍ غير متساهلة حينما ظل على طريقته المستثيرة للأعصاب:
-"ممـــــدوح"!!!
توقف عن إغاظته، فقد نال مبتغاه منه، نهض من مقعده قائلًا بوجه مبتسم على الأخير:
-واضح إن أعصابك تعبانة، أسيبك ترتاح من السفر، وأروح أنا لمراتي وابني...
وقبل أن يغادر أخبره:
-لو عايز أبعتلك "أوس" يومين، خده...
ثم غمز له بطرف عينه متابعًا كلامه العبثي:
-ما إنت عارف الحوامل، بيحبوا الحنية والدلع، وأنا سيد من يدلع!
بالكاد ضبط "مهاب" أعصابه لئلا يستفز أكثر من ذلك، وانتظر انصرافه ليطيح بكل ما على سطح مكتبه في عصبيةٍ مبررة. لم يهدأ داخله، وظل متقدًا ومستثار في انفعالاته، هب واقفًا بعدما دفع مقعده للخلف، واتجه إلى النافذة محادثًا نفسه في توعدٍ:
-أما إنك ماطلعتيش سهلة يا "تهاني"، بس نهاية الموضوع ده عندي!!!
.....................................................
بعد ليلة حميمة عاصفة، محملة بكل ما كانت تتوق إليه، لتروي ظمأ جسدها، وتطفئ لهيب مشاعرها المتأججة، أراحت "تهاني" رأسها على صدر زوجها، وخللت أناملها في أصابعه لتتشابك يداهما معًا، تأوهت في صوت خافت وهي تشعر بلمسة يده الأخرى على جلد بطنها الناعم، استمتعت بهذه المداعبات الدافئة، وهي غارقة في أحضانه، رفعت رأسها لتنظر إليه عندما همس لها بما يشبه التحذير:
-عايزك تاخدي بالك كويس من نفسك الفترة الجاية.
سألته في استغرابٍ، وقد تقلصت المسافة بين حاجبيها:
-ليه بتقول كده يا "ممدوح"؟
أجاب بعد زفرة بطيئة، ليوحي لها بأنه يستصعب الأمر:
-"مهاب" عرف إنك حامل، وده مجننه على الآخر.
تصلب جسدها، وارتفعت بكتفيها عن مستوى رقودها لتتساءل في ضيقٍ:
-وهو ماله؟
أعادها إلى موضع استرخائها الأول، ومرر طرف إصبعه على ذراعها صعودًا وهبوطًا في رقةٍ وخفة، قبل أن يجاوبها:
-غيران يا حبيبتي، إن بقى عندك عيلة، وحياتك مستقرة، مع الشخص اللي بتحبيه.
استسلمت للخدر المغري المصاحب للمساته الرقيقة، واعترفت له بتقاسيمٍ عابسة:
-أنا ما بكرهش في حياتي أد "مهاب"، أبشع إنسان في الكون.
استغل الفرصة ليقول في مكرٍ، قاصدًا بذلك تعميق العداء بينهما:
-ده ممكن يقلب ابنك عليكي.
مرة ثانية انتفض جسدها، وتحفزت وهي تسأله:
-معقولة؟
رفع يده ليحيط بمنحنى عنقها مداعبًا إياه في نعومة وهو يضيف:
-إنتي مش عارفاه زيي.
عاد ذلك الشعور الممتع ليراودها، فاستسلمت إليه وكأنها خدرت، ومع ذلك أتى صوتها منزعجًا:
-استحالة، ده بقى متعلق بيا أكتر من الأول.
نظر إليها قائلًا في لهجة اكتسبت طابعًا جديًا:
-شوفي يا حبيبتي، لو مافيش شوية حزم مننا معاه، صدقيني عياره هيفلت.
دون تفكيرٍ منحته الإذن ليفعل ما يريد بتأكيدها:
-اللي إنت شايفه صح اعمله، إنت ليك كل الصلاحيات معاه!
ثم تقوست شفتاها عن ابتسامة طامعة، بها دعوة مرحبة باستقبال ما يقدمه لها من إغراء احترافي، لتشرئب بعنقها لتقبله قائلة:
-أنا مابقتش بثق في حد غيرك.
برقت عيناه بهذا الوهج الشيطاني الخبيث، وخاطبها بعدما استدار في خفةٍ لتصبح ممددة أسفل منه، مسح على شعرها بنعومة، وانحنى على شفتيها ليبادلها بأخرى أكثر تأثيرًا، وعمقًا، وشهوانية، ثم همس بأنفاس حارة لفحت شحمة أذنها:
-وأنا هكون أد الثقة دي يا حياتي .................................... !!