رواية جوازة ابريل الجزء الثاني الفصل الثاني 2 بقلم نورهان محسن
الفصل الثاني (لا يبالى بها) رواية جوازة ابريل" ج2
أحياناً من قوة الموقف الصادم تصمت ، لا تعرف ماذا تتحدث ، ولا تسعفك الأحرف للتعبير من شدة الألم ،
لا تصدر أي ردة فعل تظل جامداً ، ولكن مهما كان الصمت أبلغ من الكلمات ، فإننا سننهار حتمياً فى النهاية ، ومع غزارة دموعنا ستتدفق كلمات تطعنهم بنصل القسوة، ولن نبالي.
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈-❈
عند هالة
وقفت هالة تستنشق بعض الهواء النقي بعمق ، على أمل أن يهدأ الألم في رأسها قليلاً ، ثم فوجئت بصوت رجولي متسائل جاء من خلفها : كنتي فين يا حبيبتي انا كنت بدور عليكي؟!
التفتت هالة ورفعت عينيها إليه ، لتنظر إلى الجرح الصغير في زاوية عينه ، مما جعل المشهد السابق يظهر أمامها من جديد فشعرت بالضيق ، وخرجت حروفها بتمهل : كنت مع بابا
_بخصوص اللي حصل .. انا..
أوقفت إسترسال كلماته المتبعثرة على لسانه بإشارة من يدها ثم قالت بحزم : احنا محتاجين نتكلم يا ياسر
أومأ لها ياسر بالموافقة ، وتنهد بحرارة قبل أن يخبرها بنبرة هادئة : وانا كمان عايز كدا .. بس معلش يا عمري انا مضطر ارجع يارا علي بيتها .. انتي شايفة الوقت متأخر ازاي وانا..
مرت لحظات قبل أن ينكسر قناع هدوئها الزائف ، وتتغير تعابير وجهها إلى غضب ، وهي تتقدم منه خطوة ، قاطعة حديثه بصوت أنثوى منفعل : هو انت مش ملاحظ ان الموضوع دا زاد عن حده اوي .. يعني مش كفاية اللي عملته واحراجك ليا ولأهلي قدام الضيوف كمان هتسيبني في حفلة خطوبتنا وتروح توصلها
نظر إليها ياسر في حيرة لا يعرف بماذا يجيب ، أو بالأحرى لم يجد إجابة مناسبة ، فسحب الهواء إلى صدره ، وهو يحاورها بتريث : هالة .. مفيش داعي للعصبية دي كلها اا..
حدقت به هالة بنظرة لمعت بخيبة أمل ، ثم هزت كتفيها ببرود ، وردت من زاوية فمها بنبرة متعالية وهي تحترق داخليا : خلاص تقدر تروح تعمل اللي يعجبك عن اذنك
_هالة
سرعان ما أمسك ياسر بساعدها ، وأوقفها أمامه قبل أن تبتعد عنه ، مواصلاً حديثه بحيرة ممزوجة بالجزل : كل دا ليه يعني؟ عشان بقولك هوصلها .. انا كنت لسه هكمل واقولك تيجي معانا..
لانت ملامحها الغاضبة ، وهي تنظر في عمق عينيه البراقتين الصادقتين ، ليبرز جمالها الأخاذ حالما علت على شفتيها ابتسامة صغيرة وجذابة ، ولكن قبل أن تهز رأسها بالقبول ، سمعت ضجيجا غير مريح من خلفهما.
عقدت هالة حاجبيها بتعجب ، وهي تدير رأسها ، لترى ما جعل عينيها تتسعان من الخوف.
❈-❈-❈
عند سلمي
ألقت سلمى الهاتف بإهمال عصبي على الطاولة الزجاجية ، ونقرت عليها بأظافرها في توتر ، قبل أن يصدح صوتها الحاد بارتعاشة : انا هجنن .. بنتك كانت هتحرق البيت لولا ستر ربنا .. ودلوقتي بتورطنا في مصيبة تانية .. مش فاهمة البت دي شكلها اتجننت خلاص!!
تحدث فهمى مستاءاً بعد أن إنتقل التوتر بنجاح إليه : وبعدين معاكي انا مش متحمل التوتر دا .. اهدي شوية الناس كدا هتلاحظ
ردت سلمي عليه بلهجة ثائرة ، وهي تُلوح بيدها : اهدا ازاي؟ قولي ازاي .. انت متخيل لو مصطفي عرف اللي حصل دا هيسكت يعني .. انا الصداع هيفرتك دماغي مش قادرة اتلم علي اعصابي احنا روحنا في ايده
قالت سلمى كلماتها الأخيرة بإرهاق ، وهي تفرك جبهتها ، حيث كان الألم يطرق جدران جمجمتها بلا هوادة ، بينما بدا على وجه فهمي الجهد الذي يبذله للسيطرة على انفعالاته من سماع أقوال زوجته المليئة بالافتراء على الطرف المظلوم في تلك المهزلة ، لكنه في النهاية فشل بالصمت ، فجمع أفكاره معلنًا إياها بحروف صريحة : مصطفي كمان غلطان زينا بالظبط .. وانا مش مستعجب من موقف ابريل ناحيته .. فبلاش تسبقي الاحداث وتبني سيناريوهات قبل اوانها
اتسعت مقلتاها بعدم تصديق ، وهي تمتم من بين أسنانها بغضب مذهول : انت لسه بتدافع عنها بعد اللي عملته!!
تنهد فهمى بمرارة مجيباً بنبرة جافة : لا بدافع ولا بتهبب .. مخاطرتك بكل اللي حيلتنا علي حاجة خسرانة زي دي خلاص بانت بشايرها..
زفرت سلمي بضيق قبل أن تعقب بإمتعاض : انت ايه السلبية بتاعتك دي يا اخي ارحمني شوية .. بدل ما تفكر معايا في حل قاعد تسم بدني بلومك فيا
اكتفى فهمي بالصمت ، وهو يرى ريهام تتجه نحوهم ، لتجلس بجوار والدتها وهى تنظر إلى ملامحهم العابسة قبل أن تستفسر : في ايه يا ماما اصواتكم عالية يا ماما؟
تجاهلت سلمى سؤالها ، لتقول بتبرم : كويس انك جيتي .. يلا خلينا نقوم نشوفها موجودة في انهي داهية .. انا مش هستني اكتر من كدا؟!
سألها فهمي بسخرية ، وهو يفك ربطة عنقه بعد أن شعر ببعض الاختناق يسري في صدره : انتي مش كنتي عايزة تروحي البيت من شوية عشان تشوفي المصيبة اللي هناك؟
_الاهم المصيبة اللي هنا .. وخلاص سعيد وخديجة اتصرفوا ولموا الموضوع .. يا مين يطولني رقبتها بين ايدي دلوقتي
أسترسلت سلمى بنبرة ممتعضة تشوبها السخرية : ريهام رني علي اخوكي الشملول دا كمان .. كان هنا من شوية معرفش اختفي فين بعد ماحكيتلو اللي حصل .. هتفرس من المراوح اللي علي صدركم مش حاسين بحاجة ابدا
كانت على وشك الاتصال بأخيها، لكنها توقفت عن ذلك ، وأشارت إلى الأمام ، لتقول بتنبيه : يوسف اهو جاي علينا
وصل إليهم يوسف ، وفك أزرار سترته الداكنة قبل أن يستقر على المقعد ، وهو يتحدث مبرر : معلش .. بعت صحبتي علي الاوتيل في اوبر .. هي فين ابريل دلوقتي يا ماما؟
أجابت على سؤاله الأخير ، وهي تحدق بزوجها بتهكم : معرفش يا عين امك .. دورلي عليها يا يوسف انا عايزها حالا تبقي قدامي عشان ناخد بعضنا ونمشي
حكت لهما ذلك الحديث بإصرار شديد ، فتشبعت زرقاوتى ريهام بالخبث ، وتحدثت بنبرة تحترق بنار الحقد : شكلها مشغولة مع خطيبها الجديد
نظر لها يوسف بحدة ، غير راضياً عما قالته ، لكنها لم تعيره أي أهمية ، بل شمخت برأسها عاليا ، فزفر في يأس منها ، ثم تأهب للنهوض ، هو يتمتم بتعبير عابس : انا هقوم اشوفها
_مش دا باسم جاي هناك؟
_مين اللي شايلها دي؟
ثبتت قدمي يوسف فى الأرض بعد سؤال والدته ، محاولاً إنكار ما يراه على مسافة ليست بعيدة ، لكن الجواب جاء بصوت ريهام ، يقطع الشك باليقين : دي ابريل
صرخ يوسف باسمها بصوت عالٍ ، وقلبه يعتريه بالفزع ، الذى تجلى في تعابير وجهه ، وهو يعدو بسرعة ، وهم يهرعون خلفه.
❈-❈-❈
عند عز
صاحت وسام بصوتها الحنون فى تساءل وهي تقترب منه : عز يا حبيبي كنت بدور عليك
التفت إليها عز بملامح واجمة بعد أن إنتشلته من أعماق أفكاره المشحونة ، قبل أن يتحدث مستفسرا : خير يا طنط في حاجة
قطبت وسام بين حاجبيها ، لتتسأل بإستغراب : مالك شكلك مضايق كدا ليه؟
نظر إليها بعينين يشع منهما الحزن ، لكنه استطاع أن يكون بارد الأعصاب عندما أجابها بالنفي : ابدا مفيش .. هو حصل حاجة ولا ايه!؟
أخبرته وسام بتفسير يتخلله التعجب : كلموني السيكيورتي .. بيقولو ان مني طلبت اوبر و جه اخدها علي البيت
لمعت عيون عز بريق غريب عندما سمع اسمها ، فتابعت وسام بعدم فهم : هو ايه الحكاية مالها مني تعبانة ولا ايه
أبعد حدقتاه عنها مبتلعاً لعابه ، ثم أجابها مختصراً : لا مش تعبانة
إنبلجت الحيرة على محياها ، لتسأل مرة أخرى باستنكار : اومال في ايه خلاها تمشي من غيرك .. ومن غير ماتسلم علينا حتي؟
تنهد عز بحرارة تناقض برودة نظراته ، معلنًا لها بلسان ثقيل : انا و مني .. اطلقنا
امتلأت عيون وسام بالصدمة والفزع ، وقبل أن تتمكن من التعليق على الأمر ، سمعوا أصوات ضجيج مفاجئ يجتاح المكان.
❈-❈-❈
عند باسم
دون أن يعبأ لأحد ، كان يسير بسرعة بخطوات تشبه الركض وهي بين يديه ، مما جعل هذا المشهد يلفت أنظار جميع الضيوف الذين حدقوا به في البداية بتعجب ، ثم تبادلوا التهمس بالعديد من الأسئلة الفضولية
_ايه حصلها؟
_تقريبا مغمي عليها؟
_أطلبوا الاسعاف
_شكلها انحسدت من عين الناس!!
_ابريل!
_يمكن ضغطها وطي
ركض أفراد العائلتين للحاق بالذى يركض إلى داخل البهو الفسيح يريد الخروج من الفيلا.
_هالة
همس باسم باسمها بين أنفاسه اللاهثة ، حالما وصلت إليه ووقفت أمامه لتنظر دون فهم إلى الجسد الصغير المستقر على صدر أخيها ، ووجهها شاحب كشحوت الموتى ، فسألته بقلق : في ايه مالها ايه اللي جري يا باسم؟
شعر باسم أن كلام العالم كله قد اختفى على لسانه ، وكأنه لا يعرف كيف يتكلم ، أو بالأحرى يخشى أن يقول حقيقة ما حدث ، ليس خوفاً على نفسه ، كلا تندلع كارثة ستضيع عبثا الدقائق القليلة التالية التي يمكنه فيها إنقاذها ، ووجد نفسه يخبرها بوجه متجهم يخفي الكثير من الاضطراب : معرفش .. هي فجأة وقعت ومابتتنفسش؟
هزت هالة رأسها متفهمة ، وأشارت له بوضعها على الأريكة الطويلة ، وتحدثت على الفور : حطها هنا خليني اشوفها
تجمع الناس عند باب الشرفة ، بعد أن ركع باسم على الأرض بجوار رأسها وهالة جلست بجانبها ، فأبعد هو خصلات شعرها عن وجهها ، ويرمقها بنظرات متلهفة ، وارتفعت نبضات قلبه ترقبا ، بينما تحدثت وسام بكياسة نوعاً ما بعد أن جاءت مسرعة نحوهم مذعورة : يا جماعة معلش بلاش الوقفة دي .. ارجعو علي تربيزتكم من فضلكم
تشدق باسم مستفسراً بنبرة حادة مليئة بالقلق لا شعورياً : هي هتبقي كويسة يا هالة مش كدا .. هتعيش جاوبيني
وضعت هالة أصابعها تحت فتحتى أنفها ، ثم ردت على الفور : عايشة عايشة .. بس تنفسها ضعيف جدا
سارع يوسف بالقول ، بينما ينحنى فوق روؤسهم : ابريل عندها الربو ممكن يبقي الدوا بتاعها في شنطتها
أومأ باسم برأسه تأكيدًا ، بمجرد أن تذكر أنها وضعتها داخل حقيبة يدها ، فأسرع بفتحها ، وبحث عشوائياً عن البخاخة حتى أمسكها بكفه ، وأخرجها وأعطاها لأخته ، وهو يتمتم بأمل : اهو بسرعة يا هالة
عقد يوسف حاجبيه بارتياب من حالة باسم المثيرة للقلق ، لكنه أجبر نفسه على الصمت ، ليطمئن على أخته أولاً ثم لكل حادث حديث.
تجعدت ملامح باسم بألم من تلك النخزة التي أصابت قلبه ، وهو ينظر إليها على أمل أن تستيقظ ، لكنها لم تبد أي استجابة بعد استنشاق الدواء ، فقط جسدها كان ساكنا بلا حراك ، وهكذا أخبرتهم هالة بوجل : مابتستجيبش للعلاج .. شكل أعراض النوبة شديدة .. لازم تتنقل للطوارئ في اسرع وقت عشان كدا خطر علي حياتها يا جماعة
تكلم صلاح بصوته الأجش ، وهو يربت على كتف فهمي مؤزراً له : اطمن يا فهمي .. هتبقي كويسة .. انا هطلب الاسعاف حالا
_انا مش هستني الاسعاف هاخدها علي اقرب مستشفي
رفض باسم إقتراح والده بعزم ، وهو يحملها بين ذراعيه ، ووقف على قدميه ، وهو ينظر إليهم قبل أن يشير برأسه إلى خالد الذي فهم معنى إشارته وهو يرآه يستدير بها مهرولاً للخارج دون إنتظار سماع أي حديث منهم ، بينما ركض خالد خلفه ، لينظر يوسف إلى والديه بعيون تلتمع باللوم ، ثم أطلق العنان لقدميه ورائهم ، فتبعوه جميعاً.
❈-❈-❈
فى الخارج
ركض خالد بسرعة إلى سيارته ، وجلس فيها حتى يتولى مهمة القيادة ، فلن يتمكن باسم من فعل ذلك ، وهو في تلك الحالة المزرية ، بينما كان يضع جسدها في المقعد الخلفي قبل أن يهم بالجلوس بجانبها ، لكنه فوجئ بيد تستقر على كتفه ، فأدار رأسه ليرى يوسف واقفاً أمامه ، قائلاً من بين أنفاسه اللاهثة : انا هركب جنبها
أومأ باسم له برأسه بالموافقة بصمت ، ثم صعد بجانب خالد الذي أدار السيارة وانطلق مسرعا ، حانت من باسم نظرة أخيرة عليه.
❈-❈-❈
عند أحمد
وقف أحمد متكئًا على الحائط بجوار باب الحمام ، ورفع أطراف أصابعه ، وهو يمررها عبر خصلات شعره المبللة بعصبية ، بينما وضعت اليد الأخرى الهاتف على أذنه ، ليزفر بخيبة أمل عندما وجد هاتفها لا يزال مغلقًا ، ليعتدل فى وقفته ثم واصل سيره إلى الغرفة مرة أخرى ، مرتديًا ملابسه الداخلية فقط.
ضغطت نادية على جفنيها بقوة متظاهرة بالنوم ، والقهر يتشعب في قلبها وروحها ، وهي تستمع إلى حفيف قدميه بخفة ، بمجرد دخوله الغرفة ، قبل أن يرقد بجانبها على حافة السرير.
كلاهما كانا غارقين في صمت قاتل.
هي محبوسة في زنزانة صمته ، يتركها تتلاعب بعقلها الهواجس ، والظنون تسحق قلبها النازف من الألم بقلة حيلة ، ولايبالى بها.
وعلى غرار الذاكرة ، عاش لحظة فرح مليئة بالعشق ، وظل متمسكاً بها بشدة ، مما جعله يفقد طعم أي سعادة بعد ذلك.
استدار أحمد برقبته نحوها ، يلقي نظرة عليها قبل أن تلتصق نظراته بالسقف في شرود عميق ، وهو يستحضر صورتها المحفورة بدقة في ذهنه ، ولقد أصبح النوم صعباً عليه بسبب نبضات قلبه السريعة التي تعج برياح الفرح والشوق المجنون لها.
كم يشتاق إلى النظر داخل عينيها الفيروزيتين إلى حد الغرق فيهما ، ويمنى نفسه أنه سيقابلها غداً ، وعندما وصل إلى هذه الفكرة لاحت على فمه ابتسامة ، وعليها أكوام من الياسمين الأبيض دليلاً على بهجته ولوعته.
بقي على هذا الحال عدة دقائق ، طيفها يتحرش بذاكرته ، فهي التفاحة التي وسوس لها عمره ، وحينما مد يده ينوي قطفها ، حرمت نفسها عليه ، فأصبحت أغوار الفيروز هى هوسه.
❈-❈-❈
بعد مرور فترة وجيزة
فى إحدى أورقة المستشفى
يسود صوت الفوضى في الردهة المزدحمة بأفراد عائلة صلاح وفهمي ، فيما التوتر يسيطر على الجميع ، وهم ينتظرون خروج أحد الأطباء أو الممرضات للاطمئنان عليها.
الندم ، وتأنيب الضمير ، والاستخفاف ، وجلد الذات ، واللامبالاة ، وشعور بالعجز والحزن والشماتة ، كل هذه المشاعر المتضاربة بين الحقيقي والمزيف ، تظهر على وجوههم.
يجلس باسم بجمود ظاهرى ، لكن كل خلية فيه كانت ترتعش ، إما من الخوف أو من الترقب ، أو من كليهما ، لما هو آت.
أغمض عينيه من الإرهاق ، لتتجسد في ذهنه صورة وجهها الرقيق الشاحب للغاية ، وهي مستلقية بضعف على السرير المتحرك أثناء دخولها غرفة الفحص للعناية العاجلة.
شعر باسم بألم حاد في حلقه الجاف ، لا يستطيع الهروب من الشعور بالذنب والخوف عليها الذي يملأ كيانه ، وأكثر ما يخشاه هو أن يُصدم قريباً بخبر كارثي.
عض باسم شفتيه من الداخل ، وهو يهز رأسه رافضاً الخوض في دوامة ظنونه السوداء.
رفعت سلمى رأسها محدقة إلى الأمام ، وهي تجلس بجانب زوجها ، لتتحدث بحرج متكلف : مكنش في داعي تيجوا يا جماعة وتسيبوا ضيوفكم
تجلى التعاطف على وجه وسام معتقدة أنها تقول ذلك من منطلق حزنها على الفتاة ، لذا ردت بدهشة متأثرة : ايه اللي بتقوليه دا يا سلمي؟ مش وقت الكلام دا .. المهم ربنا يطمنا عليها وتقوم بالسلامة يارب
ردد الجميع ورائها بتضرع : يارب
_انا اسفة معلش هرد و جاية علي طول
قالت هالة ذلك بحرج ، حالما رن هاتفها.
❈-❈-❈
عند هالة
تردد صوت النغمة في الرواق ، بعد أن ابتعدت قليلا عن الجميع ، وخفضت نظرها إلى الشاشة ، ثم ضغطت على زر الرد قائلة بنبرة مقتضبة : ايوه
وصل إليها صوت ياسر على الفور ، ممتزج بأصوات الريح : حبيبتي .. انا اسف جدا عشان ماقدرتش اروح معاكم .. في جديد طمنيني؟
أجابته هالة بحزن : لسه في الطوارئ والدكاترة معها دلوقتي
استطرد ياسر بصوت أجش حنون : تمام يا قلبي .. شوفي انا قربت بيت يارا .. مسافة الطريق وهكون عندك
استمعت هالة عبر الهاتف إلى صوت مشغل راديو السيارة ، ثم الضحكة الأنثوية ليارا ، وقبل أن تتحدث بنبرة مليئة بالدلال : الاغنية اللي احنا الاتنين بنحبها يا ياسوري
تجمدت الكلمات على شفتيها لمدة ثانيتين ، ثم قالت بنبرة منخفضة ولكن مفعمة بحدة : كملو سهرتكم واتبسطوا .. مافيش داعي لمجيتك خالص
_هالة است...
أغلقت هالة الخط بغضب من هذه التصرفات الإستفزازية ، قبل أن يتمكن من إكمال جملته.
زمّت شفتيها بسخط من هذه المهزلة التي يجب اتخاذ قرار حازم فيها في أسرع وقت ممكن ، فأما يضع لهذه المرأة حدوداً تلتزم فيها بالصداقة المعقولة أو تنفصل هى عنه تماماً ، ويكفيها أن تكون متحاملة على نفسها ، عليها أن تبدى كرامتها المتضررة على أياً ما كان ، ويذهب حب إنسان فى سبيل المحافظة على راحة بالها.
❈-❈-❈
فى ذات الوقت
فى قاعة الإنتظار
لم يطرأ أي تغيير على ملامح باسم الجامدة ، وما زال جالساً على الكرسي ، وعيناه مركزتان على باب غرفة الفحص ، ونبضات قلبه القلقة تتزلزل بين ضلوعه ، وكأنها مطارق عملاقة تضرب جدران صدره بقسوة.
يقسم أنه لا يبالى بها ، لكنه في نفس الوقت على استعداد تام لتقديم أي ثمن تطلبه منه حتى تتعافى ، لينقشع عنه الشعور بالألم والذنب الكامن في ثنايا روحه.
بينما يوسف يتحرك ذهابا وإيابا في القاعة ، وعقله يعج بالقلق عليها ، لم يتوقف عن توبيخ نفسه على خذلانها ، لأنه كان له يد في ما حدث لها ، فيكفي أنه كان يعلم أنهم يخدعوها وأخرسه الخوف من والدته.
أما خالد ، فيقف وذراعيه مطويتين على صدره ، وبينهم سترته الزيتونية التى نزعها منذ وقت ، ليبقى فقط بالقميص ، وهو ينظر إلى لميس التي تجلس على الجانب الآخر ، ووجهها قابع بين كفيها ، تراقب بصمت المهزلة التي أمامها ، حيث يجلس عمها الوفي مجاوراً لزوجته المخدوعة ، ويشبك أصابعه مع إصابعها بطريقة دافئة ، لو لم تكن قد رأت الدليل على خيانته هذه الليلة ، لما صدقت يومًا ما أنه خائن بتاتاً.
تحول نظر لميس إلى الجانب الآخر ، حيث تجلس دعاء ، تشبك أصابعها معًا وتنقر بكعب حذائها على الأرض ، دليل على توتر أعصابها ، أو ربما تنهشها الغيرة الحارقة ، وبجانبها يجلس عز ، بعقل شارد بشأن ما حدث معه اليوم.
زفرة حارقة صدرت عنها من فظاعة الخيانة المنغمسين فيها ، لكن بهدوء حتى لا تلفت الأنظار ، ولم تنتبه لنظرات ذلك الرقيب المتيم لكل ردود أفعالها بسبب تشتت أفكارها ، تشعر أنها مصدومة ومشلوله من التعبير ، لكنها تكافح من أجل التظاهر بالتماسك أمام أفراد أسرتها ، لكن الأمر صعب عليها للغاية.
تصاعد سؤال يوسف بقلق بالغ : هما اتأخروا كدا ليه جوا؟ بيعملو ايه دا كله يعني!!
تولت لميس الإجابة بصوتها الهادئ مع القليل من البحة : معلش الفحوصات اللي بيعملوها بتاخد وقت .. ان شاء الله تمر علي خير
أما ريهام ، فضغطت على شفتيها ، لتقاوم النيران المشتعلة من قهرها ، حيث كانت واثقة أن ما حدث الليلة هو فيلم من إخراج باسم ، لكنها الآن مشتتة ومتحيرة في أمره بعد أن رأت ما أصبحت عليه حالته العصبية ، وصراخه العنيف على طاقم الأطباء والمسعفين ، وملامحه التي يعلوها الجنون والقلق عليها ، كل هذا يؤكد أسوء مخاوفها بأنه مغرم بأختها حقًا.
شعرت بالدم يغلي في عروقها ، وبصوت هادئ غطت به على غضبها المكبوت ، وسألته بحيرة مصطنعة : بس مش طبيعي اللي حصلها .. دا حتي اخر مرة شوفتها كانت معاك يا باسم وكانت كويسة اوي؟
ارتفع جانب فمه بعد أن فهم ما كان تحاول تلك الأفعى فعله ، لذا لم يكلف نفسه عناء الرد ، بينما لم تنتبه الأخرى أنها بتلك الكلمات ، جعلت شرر الغضب ينطلق من عينان يوسف الذى كان متأهباً لأدنى شرارة تشعل فتيل قنبلة جنونه الموقوتة إتجاهه ، فاندفع بسرعة جنونية جفلت الجميع ، نحو باسم ممسكًا بقماش قميصه ، ليسحبه منه بعنف حتى يستقيم ، فوضع باسم كفه بحركة دفاعية على يد يوسف الذي صرخ بغلاظة وحشية ، وقد نفذ صبر كله : هتفضل متصنم كدا .. ما تنطق عملت فيها ايه وصلها للحالة دي؟
❈-❈-❈
فى سيارة ياسر
ضرب ياسر عجلة القيادة بباطن كفه مجمجماً بضيق : يووووه اكيد زعلت
زمت يارا شفتيها مغتاظة من اهتمامه بمشاعرها ، بينما هى تعتصر جهاز التحكم عن بعد في كفها بغيرة ، قبل أن تسأله بكراهية : وهو كان حصل ايه عشان تزعل يعني .. اصلا لو عندها دم مكنتش هي عملت اللي عملته
عقد ياسر حاجبيه متعجباً من كلامها قبل أن يسألها بريبة : قصدك ايه انا مش فاهم عملت ايه؟
امتلأت عيناها بالدموع ، وهي ترمي بإهمال ما في يدها على لوحة القيادة ، وتتحدث بإنفعال متقطع بعد أن احتدت أنفاسها : قصدي .. انها بتحاول تفرق بينا يا ياسر .. انت مش حاسس .. هي بتعمل كدا عشان تخليك تبعد عني
_ يارا .. المهدئات للي بتاخديها دي مخليكي تهلوسي باين اوي انك مش دريانة بكلامك ممكن اسكتي عشان اعرف اسوق
عاودت يارا النظر إليه ، مقطبة الجبين ، وكأن رياح البرود فى صوت زادت جمرة الاستهجان داخلها إحتراقاً ، فصرخت بقلب مقهور : لا مش هسكت وواعية اوي لكلامي .. هي هتولع من الغيظ عشان شافتك غيران عليا لما شوفتني برقص مع واحد تاني
سألها يارا بلهجة محتدة : انتي من فين طلعتي بالكلام الغريب دا؟
إسترسل فى الشرح لها : واذا هي فهمت غلط انا هصححلها افكارها عننا وهفهمها اني مقبلش ان حد يمسك بأي حاجة .. عشان انتي صحبتي واختي
اتسعت عيناها بجنون وإحتقنت وجنتيها بالدماء ، ثم صاحت به بحدة أذهلته ، حيث أن قلبها إنفجر بحمم نارية من فوهة بركان ثائر تدفق بعد سنوات من الكتمان : انا مش اختك يا ياسر .. انا بحبك من زمان اوي زي ما انت كمان بتحبني بس انت اللي مش داري علي نفسك
أوقف ياسر السيارة عند مدخل منزلها ، والتفت إليها مصعوقاً مما سمعه منها للتو ، وقبل أن يتمكن من النطق بكلمة واحدة ، وجدها تتابع بصوتها المعذب فى حيرة : هتفضل هربان من مشاعرك نحيتي لحد امتي؟
كان يطوف ملامحها الباكية في حيرة ، وقلبه يقرع بصدمة ، فإزادت وتيرة دقاته حينما ألقت رأسها على صدره بعفوية : ليه كل حاجة فيك بتقول انك بتحبني الا لسانك .. ليه مش عايز ينطقها؟
واصلت يارا حديثها الهامس ، وهي تتمسح على رقبته بجانب وجهها وشعرها الناعم ، بعد أن أغلقت عينيها : انا بتعذب يا ياسر لما بشوفك معاها .. احنا الاتنين مكتوبين لبعض بنفهم بعض ومريحين ومبسوطين مع بعض ليه روحت خطبتها ليه؟
حرك ياسر يده في ارتباك ، ليلمس ظهرها بحنان في حركة مهدئة ، وهو يشرح لها بهدوء حتى تتمكن من فهمه ، بعد أن تمالك أعصابه المتوترة بجهد كبير هامساً برجاء : يارا عشان خاطري حاولي تفهميني .. انا مقدرش ابعد عنك كمان .. بس اللي بينا مش حب
رفعت يارا رأسها بعد أن أساءت فهمه ، ونظرت إليه بأمل وعشق يفيض من عينيها العسليتين وهى تطوف ملامحه الوسيمة ، وبنعومة أنثوية همست : صح اللي بينا اقوي كتير من الحب يا ياسر .. اللي بينا عشق سنين طويلة مع بعض مافترقناش .. ومحدش يقدر يفرقنا .. انا بجنون بعشقك
ألجمت الصدمة لسانه ، وعلت الدهشة ملامحه من اعترافها الأول عشقها الدفين له ، الذي تحترق به كل يوم.
وقبل أن يتكلم حاوطت وجهه بين يديها ، وسحبته إليها مؤكدة له صدق حبها إليه ، إذ أطبقت شفتيها على شفتيه برقة جارفة ، فإنشل عقله من هذا القرب المهلك لرجولته ، ولم يمنعها رغم عدم تجاوبه مع قبلتها ، فإذ يتبادر إلى ذهنه سؤال حائر كيف لا يبالى بها ، وهو لا يريد أن تبتعد عنه؟
أحياناً من قوة الموقف الصادم تصمت ، لا تعرف ماذا تتحدث ، ولا تسعفك الأحرف للتعبير من شدة الألم ،
لا تصدر أي ردة فعل تظل جامداً ، ولكن مهما كان الصمت أبلغ من الكلمات ، فإننا سننهار حتمياً فى النهاية ، ومع غزارة دموعنا ستتدفق كلمات تطعنهم بنصل القسوة، ولن نبالي.
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈-❈
عند هالة
وقفت هالة تستنشق بعض الهواء النقي بعمق ، على أمل أن يهدأ الألم في رأسها قليلاً ، ثم فوجئت بصوت رجولي متسائل جاء من خلفها : كنتي فين يا حبيبتي انا كنت بدور عليكي؟!
التفتت هالة ورفعت عينيها إليه ، لتنظر إلى الجرح الصغير في زاوية عينه ، مما جعل المشهد السابق يظهر أمامها من جديد فشعرت بالضيق ، وخرجت حروفها بتمهل : كنت مع بابا
_بخصوص اللي حصل .. انا..
أوقفت إسترسال كلماته المتبعثرة على لسانه بإشارة من يدها ثم قالت بحزم : احنا محتاجين نتكلم يا ياسر
أومأ لها ياسر بالموافقة ، وتنهد بحرارة قبل أن يخبرها بنبرة هادئة : وانا كمان عايز كدا .. بس معلش يا عمري انا مضطر ارجع يارا علي بيتها .. انتي شايفة الوقت متأخر ازاي وانا..
مرت لحظات قبل أن ينكسر قناع هدوئها الزائف ، وتتغير تعابير وجهها إلى غضب ، وهي تتقدم منه خطوة ، قاطعة حديثه بصوت أنثوى منفعل : هو انت مش ملاحظ ان الموضوع دا زاد عن حده اوي .. يعني مش كفاية اللي عملته واحراجك ليا ولأهلي قدام الضيوف كمان هتسيبني في حفلة خطوبتنا وتروح توصلها
نظر إليها ياسر في حيرة لا يعرف بماذا يجيب ، أو بالأحرى لم يجد إجابة مناسبة ، فسحب الهواء إلى صدره ، وهو يحاورها بتريث : هالة .. مفيش داعي للعصبية دي كلها اا..
حدقت به هالة بنظرة لمعت بخيبة أمل ، ثم هزت كتفيها ببرود ، وردت من زاوية فمها بنبرة متعالية وهي تحترق داخليا : خلاص تقدر تروح تعمل اللي يعجبك عن اذنك
_هالة
سرعان ما أمسك ياسر بساعدها ، وأوقفها أمامه قبل أن تبتعد عنه ، مواصلاً حديثه بحيرة ممزوجة بالجزل : كل دا ليه يعني؟ عشان بقولك هوصلها .. انا كنت لسه هكمل واقولك تيجي معانا..
لانت ملامحها الغاضبة ، وهي تنظر في عمق عينيه البراقتين الصادقتين ، ليبرز جمالها الأخاذ حالما علت على شفتيها ابتسامة صغيرة وجذابة ، ولكن قبل أن تهز رأسها بالقبول ، سمعت ضجيجا غير مريح من خلفهما.
عقدت هالة حاجبيها بتعجب ، وهي تدير رأسها ، لترى ما جعل عينيها تتسعان من الخوف.
❈-❈-❈
عند سلمي
ألقت سلمى الهاتف بإهمال عصبي على الطاولة الزجاجية ، ونقرت عليها بأظافرها في توتر ، قبل أن يصدح صوتها الحاد بارتعاشة : انا هجنن .. بنتك كانت هتحرق البيت لولا ستر ربنا .. ودلوقتي بتورطنا في مصيبة تانية .. مش فاهمة البت دي شكلها اتجننت خلاص!!
تحدث فهمى مستاءاً بعد أن إنتقل التوتر بنجاح إليه : وبعدين معاكي انا مش متحمل التوتر دا .. اهدي شوية الناس كدا هتلاحظ
ردت سلمي عليه بلهجة ثائرة ، وهي تُلوح بيدها : اهدا ازاي؟ قولي ازاي .. انت متخيل لو مصطفي عرف اللي حصل دا هيسكت يعني .. انا الصداع هيفرتك دماغي مش قادرة اتلم علي اعصابي احنا روحنا في ايده
قالت سلمى كلماتها الأخيرة بإرهاق ، وهي تفرك جبهتها ، حيث كان الألم يطرق جدران جمجمتها بلا هوادة ، بينما بدا على وجه فهمي الجهد الذي يبذله للسيطرة على انفعالاته من سماع أقوال زوجته المليئة بالافتراء على الطرف المظلوم في تلك المهزلة ، لكنه في النهاية فشل بالصمت ، فجمع أفكاره معلنًا إياها بحروف صريحة : مصطفي كمان غلطان زينا بالظبط .. وانا مش مستعجب من موقف ابريل ناحيته .. فبلاش تسبقي الاحداث وتبني سيناريوهات قبل اوانها
اتسعت مقلتاها بعدم تصديق ، وهي تمتم من بين أسنانها بغضب مذهول : انت لسه بتدافع عنها بعد اللي عملته!!
تنهد فهمى بمرارة مجيباً بنبرة جافة : لا بدافع ولا بتهبب .. مخاطرتك بكل اللي حيلتنا علي حاجة خسرانة زي دي خلاص بانت بشايرها..
زفرت سلمي بضيق قبل أن تعقب بإمتعاض : انت ايه السلبية بتاعتك دي يا اخي ارحمني شوية .. بدل ما تفكر معايا في حل قاعد تسم بدني بلومك فيا
اكتفى فهمي بالصمت ، وهو يرى ريهام تتجه نحوهم ، لتجلس بجوار والدتها وهى تنظر إلى ملامحهم العابسة قبل أن تستفسر : في ايه يا ماما اصواتكم عالية يا ماما؟
تجاهلت سلمى سؤالها ، لتقول بتبرم : كويس انك جيتي .. يلا خلينا نقوم نشوفها موجودة في انهي داهية .. انا مش هستني اكتر من كدا؟!
سألها فهمي بسخرية ، وهو يفك ربطة عنقه بعد أن شعر ببعض الاختناق يسري في صدره : انتي مش كنتي عايزة تروحي البيت من شوية عشان تشوفي المصيبة اللي هناك؟
_الاهم المصيبة اللي هنا .. وخلاص سعيد وخديجة اتصرفوا ولموا الموضوع .. يا مين يطولني رقبتها بين ايدي دلوقتي
أسترسلت سلمى بنبرة ممتعضة تشوبها السخرية : ريهام رني علي اخوكي الشملول دا كمان .. كان هنا من شوية معرفش اختفي فين بعد ماحكيتلو اللي حصل .. هتفرس من المراوح اللي علي صدركم مش حاسين بحاجة ابدا
كانت على وشك الاتصال بأخيها، لكنها توقفت عن ذلك ، وأشارت إلى الأمام ، لتقول بتنبيه : يوسف اهو جاي علينا
وصل إليهم يوسف ، وفك أزرار سترته الداكنة قبل أن يستقر على المقعد ، وهو يتحدث مبرر : معلش .. بعت صحبتي علي الاوتيل في اوبر .. هي فين ابريل دلوقتي يا ماما؟
أجابت على سؤاله الأخير ، وهي تحدق بزوجها بتهكم : معرفش يا عين امك .. دورلي عليها يا يوسف انا عايزها حالا تبقي قدامي عشان ناخد بعضنا ونمشي
حكت لهما ذلك الحديث بإصرار شديد ، فتشبعت زرقاوتى ريهام بالخبث ، وتحدثت بنبرة تحترق بنار الحقد : شكلها مشغولة مع خطيبها الجديد
نظر لها يوسف بحدة ، غير راضياً عما قالته ، لكنها لم تعيره أي أهمية ، بل شمخت برأسها عاليا ، فزفر في يأس منها ، ثم تأهب للنهوض ، هو يتمتم بتعبير عابس : انا هقوم اشوفها
_مش دا باسم جاي هناك؟
_مين اللي شايلها دي؟
ثبتت قدمي يوسف فى الأرض بعد سؤال والدته ، محاولاً إنكار ما يراه على مسافة ليست بعيدة ، لكن الجواب جاء بصوت ريهام ، يقطع الشك باليقين : دي ابريل
صرخ يوسف باسمها بصوت عالٍ ، وقلبه يعتريه بالفزع ، الذى تجلى في تعابير وجهه ، وهو يعدو بسرعة ، وهم يهرعون خلفه.
❈-❈-❈
عند عز
صاحت وسام بصوتها الحنون فى تساءل وهي تقترب منه : عز يا حبيبي كنت بدور عليك
التفت إليها عز بملامح واجمة بعد أن إنتشلته من أعماق أفكاره المشحونة ، قبل أن يتحدث مستفسرا : خير يا طنط في حاجة
قطبت وسام بين حاجبيها ، لتتسأل بإستغراب : مالك شكلك مضايق كدا ليه؟
نظر إليها بعينين يشع منهما الحزن ، لكنه استطاع أن يكون بارد الأعصاب عندما أجابها بالنفي : ابدا مفيش .. هو حصل حاجة ولا ايه!؟
أخبرته وسام بتفسير يتخلله التعجب : كلموني السيكيورتي .. بيقولو ان مني طلبت اوبر و جه اخدها علي البيت
لمعت عيون عز بريق غريب عندما سمع اسمها ، فتابعت وسام بعدم فهم : هو ايه الحكاية مالها مني تعبانة ولا ايه
أبعد حدقتاه عنها مبتلعاً لعابه ، ثم أجابها مختصراً : لا مش تعبانة
إنبلجت الحيرة على محياها ، لتسأل مرة أخرى باستنكار : اومال في ايه خلاها تمشي من غيرك .. ومن غير ماتسلم علينا حتي؟
تنهد عز بحرارة تناقض برودة نظراته ، معلنًا لها بلسان ثقيل : انا و مني .. اطلقنا
امتلأت عيون وسام بالصدمة والفزع ، وقبل أن تتمكن من التعليق على الأمر ، سمعوا أصوات ضجيج مفاجئ يجتاح المكان.
❈-❈-❈
عند باسم
دون أن يعبأ لأحد ، كان يسير بسرعة بخطوات تشبه الركض وهي بين يديه ، مما جعل هذا المشهد يلفت أنظار جميع الضيوف الذين حدقوا به في البداية بتعجب ، ثم تبادلوا التهمس بالعديد من الأسئلة الفضولية
_ايه حصلها؟
_تقريبا مغمي عليها؟
_أطلبوا الاسعاف
_شكلها انحسدت من عين الناس!!
_ابريل!
_يمكن ضغطها وطي
ركض أفراد العائلتين للحاق بالذى يركض إلى داخل البهو الفسيح يريد الخروج من الفيلا.
_هالة
همس باسم باسمها بين أنفاسه اللاهثة ، حالما وصلت إليه ووقفت أمامه لتنظر دون فهم إلى الجسد الصغير المستقر على صدر أخيها ، ووجهها شاحب كشحوت الموتى ، فسألته بقلق : في ايه مالها ايه اللي جري يا باسم؟
شعر باسم أن كلام العالم كله قد اختفى على لسانه ، وكأنه لا يعرف كيف يتكلم ، أو بالأحرى يخشى أن يقول حقيقة ما حدث ، ليس خوفاً على نفسه ، كلا تندلع كارثة ستضيع عبثا الدقائق القليلة التالية التي يمكنه فيها إنقاذها ، ووجد نفسه يخبرها بوجه متجهم يخفي الكثير من الاضطراب : معرفش .. هي فجأة وقعت ومابتتنفسش؟
هزت هالة رأسها متفهمة ، وأشارت له بوضعها على الأريكة الطويلة ، وتحدثت على الفور : حطها هنا خليني اشوفها
تجمع الناس عند باب الشرفة ، بعد أن ركع باسم على الأرض بجوار رأسها وهالة جلست بجانبها ، فأبعد هو خصلات شعرها عن وجهها ، ويرمقها بنظرات متلهفة ، وارتفعت نبضات قلبه ترقبا ، بينما تحدثت وسام بكياسة نوعاً ما بعد أن جاءت مسرعة نحوهم مذعورة : يا جماعة معلش بلاش الوقفة دي .. ارجعو علي تربيزتكم من فضلكم
تشدق باسم مستفسراً بنبرة حادة مليئة بالقلق لا شعورياً : هي هتبقي كويسة يا هالة مش كدا .. هتعيش جاوبيني
وضعت هالة أصابعها تحت فتحتى أنفها ، ثم ردت على الفور : عايشة عايشة .. بس تنفسها ضعيف جدا
سارع يوسف بالقول ، بينما ينحنى فوق روؤسهم : ابريل عندها الربو ممكن يبقي الدوا بتاعها في شنطتها
أومأ باسم برأسه تأكيدًا ، بمجرد أن تذكر أنها وضعتها داخل حقيبة يدها ، فأسرع بفتحها ، وبحث عشوائياً عن البخاخة حتى أمسكها بكفه ، وأخرجها وأعطاها لأخته ، وهو يتمتم بأمل : اهو بسرعة يا هالة
عقد يوسف حاجبيه بارتياب من حالة باسم المثيرة للقلق ، لكنه أجبر نفسه على الصمت ، ليطمئن على أخته أولاً ثم لكل حادث حديث.
تجعدت ملامح باسم بألم من تلك النخزة التي أصابت قلبه ، وهو ينظر إليها على أمل أن تستيقظ ، لكنها لم تبد أي استجابة بعد استنشاق الدواء ، فقط جسدها كان ساكنا بلا حراك ، وهكذا أخبرتهم هالة بوجل : مابتستجيبش للعلاج .. شكل أعراض النوبة شديدة .. لازم تتنقل للطوارئ في اسرع وقت عشان كدا خطر علي حياتها يا جماعة
تكلم صلاح بصوته الأجش ، وهو يربت على كتف فهمي مؤزراً له : اطمن يا فهمي .. هتبقي كويسة .. انا هطلب الاسعاف حالا
_انا مش هستني الاسعاف هاخدها علي اقرب مستشفي
رفض باسم إقتراح والده بعزم ، وهو يحملها بين ذراعيه ، ووقف على قدميه ، وهو ينظر إليهم قبل أن يشير برأسه إلى خالد الذي فهم معنى إشارته وهو يرآه يستدير بها مهرولاً للخارج دون إنتظار سماع أي حديث منهم ، بينما ركض خالد خلفه ، لينظر يوسف إلى والديه بعيون تلتمع باللوم ، ثم أطلق العنان لقدميه ورائهم ، فتبعوه جميعاً.
❈-❈-❈
فى الخارج
ركض خالد بسرعة إلى سيارته ، وجلس فيها حتى يتولى مهمة القيادة ، فلن يتمكن باسم من فعل ذلك ، وهو في تلك الحالة المزرية ، بينما كان يضع جسدها في المقعد الخلفي قبل أن يهم بالجلوس بجانبها ، لكنه فوجئ بيد تستقر على كتفه ، فأدار رأسه ليرى يوسف واقفاً أمامه ، قائلاً من بين أنفاسه اللاهثة : انا هركب جنبها
أومأ باسم له برأسه بالموافقة بصمت ، ثم صعد بجانب خالد الذي أدار السيارة وانطلق مسرعا ، حانت من باسم نظرة أخيرة عليه.
❈-❈-❈
عند أحمد
وقف أحمد متكئًا على الحائط بجوار باب الحمام ، ورفع أطراف أصابعه ، وهو يمررها عبر خصلات شعره المبللة بعصبية ، بينما وضعت اليد الأخرى الهاتف على أذنه ، ليزفر بخيبة أمل عندما وجد هاتفها لا يزال مغلقًا ، ليعتدل فى وقفته ثم واصل سيره إلى الغرفة مرة أخرى ، مرتديًا ملابسه الداخلية فقط.
ضغطت نادية على جفنيها بقوة متظاهرة بالنوم ، والقهر يتشعب في قلبها وروحها ، وهي تستمع إلى حفيف قدميه بخفة ، بمجرد دخوله الغرفة ، قبل أن يرقد بجانبها على حافة السرير.
كلاهما كانا غارقين في صمت قاتل.
هي محبوسة في زنزانة صمته ، يتركها تتلاعب بعقلها الهواجس ، والظنون تسحق قلبها النازف من الألم بقلة حيلة ، ولايبالى بها.
وعلى غرار الذاكرة ، عاش لحظة فرح مليئة بالعشق ، وظل متمسكاً بها بشدة ، مما جعله يفقد طعم أي سعادة بعد ذلك.
استدار أحمد برقبته نحوها ، يلقي نظرة عليها قبل أن تلتصق نظراته بالسقف في شرود عميق ، وهو يستحضر صورتها المحفورة بدقة في ذهنه ، ولقد أصبح النوم صعباً عليه بسبب نبضات قلبه السريعة التي تعج برياح الفرح والشوق المجنون لها.
كم يشتاق إلى النظر داخل عينيها الفيروزيتين إلى حد الغرق فيهما ، ويمنى نفسه أنه سيقابلها غداً ، وعندما وصل إلى هذه الفكرة لاحت على فمه ابتسامة ، وعليها أكوام من الياسمين الأبيض دليلاً على بهجته ولوعته.
بقي على هذا الحال عدة دقائق ، طيفها يتحرش بذاكرته ، فهي التفاحة التي وسوس لها عمره ، وحينما مد يده ينوي قطفها ، حرمت نفسها عليه ، فأصبحت أغوار الفيروز هى هوسه.
❈-❈-❈
بعد مرور فترة وجيزة
فى إحدى أورقة المستشفى
يسود صوت الفوضى في الردهة المزدحمة بأفراد عائلة صلاح وفهمي ، فيما التوتر يسيطر على الجميع ، وهم ينتظرون خروج أحد الأطباء أو الممرضات للاطمئنان عليها.
الندم ، وتأنيب الضمير ، والاستخفاف ، وجلد الذات ، واللامبالاة ، وشعور بالعجز والحزن والشماتة ، كل هذه المشاعر المتضاربة بين الحقيقي والمزيف ، تظهر على وجوههم.
يجلس باسم بجمود ظاهرى ، لكن كل خلية فيه كانت ترتعش ، إما من الخوف أو من الترقب ، أو من كليهما ، لما هو آت.
أغمض عينيه من الإرهاق ، لتتجسد في ذهنه صورة وجهها الرقيق الشاحب للغاية ، وهي مستلقية بضعف على السرير المتحرك أثناء دخولها غرفة الفحص للعناية العاجلة.
شعر باسم بألم حاد في حلقه الجاف ، لا يستطيع الهروب من الشعور بالذنب والخوف عليها الذي يملأ كيانه ، وأكثر ما يخشاه هو أن يُصدم قريباً بخبر كارثي.
عض باسم شفتيه من الداخل ، وهو يهز رأسه رافضاً الخوض في دوامة ظنونه السوداء.
رفعت سلمى رأسها محدقة إلى الأمام ، وهي تجلس بجانب زوجها ، لتتحدث بحرج متكلف : مكنش في داعي تيجوا يا جماعة وتسيبوا ضيوفكم
تجلى التعاطف على وجه وسام معتقدة أنها تقول ذلك من منطلق حزنها على الفتاة ، لذا ردت بدهشة متأثرة : ايه اللي بتقوليه دا يا سلمي؟ مش وقت الكلام دا .. المهم ربنا يطمنا عليها وتقوم بالسلامة يارب
ردد الجميع ورائها بتضرع : يارب
_انا اسفة معلش هرد و جاية علي طول
قالت هالة ذلك بحرج ، حالما رن هاتفها.
❈-❈-❈
عند هالة
تردد صوت النغمة في الرواق ، بعد أن ابتعدت قليلا عن الجميع ، وخفضت نظرها إلى الشاشة ، ثم ضغطت على زر الرد قائلة بنبرة مقتضبة : ايوه
وصل إليها صوت ياسر على الفور ، ممتزج بأصوات الريح : حبيبتي .. انا اسف جدا عشان ماقدرتش اروح معاكم .. في جديد طمنيني؟
أجابته هالة بحزن : لسه في الطوارئ والدكاترة معها دلوقتي
استطرد ياسر بصوت أجش حنون : تمام يا قلبي .. شوفي انا قربت بيت يارا .. مسافة الطريق وهكون عندك
استمعت هالة عبر الهاتف إلى صوت مشغل راديو السيارة ، ثم الضحكة الأنثوية ليارا ، وقبل أن تتحدث بنبرة مليئة بالدلال : الاغنية اللي احنا الاتنين بنحبها يا ياسوري
تجمدت الكلمات على شفتيها لمدة ثانيتين ، ثم قالت بنبرة منخفضة ولكن مفعمة بحدة : كملو سهرتكم واتبسطوا .. مافيش داعي لمجيتك خالص
_هالة است...
أغلقت هالة الخط بغضب من هذه التصرفات الإستفزازية ، قبل أن يتمكن من إكمال جملته.
زمّت شفتيها بسخط من هذه المهزلة التي يجب اتخاذ قرار حازم فيها في أسرع وقت ممكن ، فأما يضع لهذه المرأة حدوداً تلتزم فيها بالصداقة المعقولة أو تنفصل هى عنه تماماً ، ويكفيها أن تكون متحاملة على نفسها ، عليها أن تبدى كرامتها المتضررة على أياً ما كان ، ويذهب حب إنسان فى سبيل المحافظة على راحة بالها.
❈-❈-❈
فى ذات الوقت
فى قاعة الإنتظار
لم يطرأ أي تغيير على ملامح باسم الجامدة ، وما زال جالساً على الكرسي ، وعيناه مركزتان على باب غرفة الفحص ، ونبضات قلبه القلقة تتزلزل بين ضلوعه ، وكأنها مطارق عملاقة تضرب جدران صدره بقسوة.
يقسم أنه لا يبالى بها ، لكنه في نفس الوقت على استعداد تام لتقديم أي ثمن تطلبه منه حتى تتعافى ، لينقشع عنه الشعور بالألم والذنب الكامن في ثنايا روحه.
بينما يوسف يتحرك ذهابا وإيابا في القاعة ، وعقله يعج بالقلق عليها ، لم يتوقف عن توبيخ نفسه على خذلانها ، لأنه كان له يد في ما حدث لها ، فيكفي أنه كان يعلم أنهم يخدعوها وأخرسه الخوف من والدته.
أما خالد ، فيقف وذراعيه مطويتين على صدره ، وبينهم سترته الزيتونية التى نزعها منذ وقت ، ليبقى فقط بالقميص ، وهو ينظر إلى لميس التي تجلس على الجانب الآخر ، ووجهها قابع بين كفيها ، تراقب بصمت المهزلة التي أمامها ، حيث يجلس عمها الوفي مجاوراً لزوجته المخدوعة ، ويشبك أصابعه مع إصابعها بطريقة دافئة ، لو لم تكن قد رأت الدليل على خيانته هذه الليلة ، لما صدقت يومًا ما أنه خائن بتاتاً.
تحول نظر لميس إلى الجانب الآخر ، حيث تجلس دعاء ، تشبك أصابعها معًا وتنقر بكعب حذائها على الأرض ، دليل على توتر أعصابها ، أو ربما تنهشها الغيرة الحارقة ، وبجانبها يجلس عز ، بعقل شارد بشأن ما حدث معه اليوم.
زفرة حارقة صدرت عنها من فظاعة الخيانة المنغمسين فيها ، لكن بهدوء حتى لا تلفت الأنظار ، ولم تنتبه لنظرات ذلك الرقيب المتيم لكل ردود أفعالها بسبب تشتت أفكارها ، تشعر أنها مصدومة ومشلوله من التعبير ، لكنها تكافح من أجل التظاهر بالتماسك أمام أفراد أسرتها ، لكن الأمر صعب عليها للغاية.
تصاعد سؤال يوسف بقلق بالغ : هما اتأخروا كدا ليه جوا؟ بيعملو ايه دا كله يعني!!
تولت لميس الإجابة بصوتها الهادئ مع القليل من البحة : معلش الفحوصات اللي بيعملوها بتاخد وقت .. ان شاء الله تمر علي خير
أما ريهام ، فضغطت على شفتيها ، لتقاوم النيران المشتعلة من قهرها ، حيث كانت واثقة أن ما حدث الليلة هو فيلم من إخراج باسم ، لكنها الآن مشتتة ومتحيرة في أمره بعد أن رأت ما أصبحت عليه حالته العصبية ، وصراخه العنيف على طاقم الأطباء والمسعفين ، وملامحه التي يعلوها الجنون والقلق عليها ، كل هذا يؤكد أسوء مخاوفها بأنه مغرم بأختها حقًا.
شعرت بالدم يغلي في عروقها ، وبصوت هادئ غطت به على غضبها المكبوت ، وسألته بحيرة مصطنعة : بس مش طبيعي اللي حصلها .. دا حتي اخر مرة شوفتها كانت معاك يا باسم وكانت كويسة اوي؟
ارتفع جانب فمه بعد أن فهم ما كان تحاول تلك الأفعى فعله ، لذا لم يكلف نفسه عناء الرد ، بينما لم تنتبه الأخرى أنها بتلك الكلمات ، جعلت شرر الغضب ينطلق من عينان يوسف الذى كان متأهباً لأدنى شرارة تشعل فتيل قنبلة جنونه الموقوتة إتجاهه ، فاندفع بسرعة جنونية جفلت الجميع ، نحو باسم ممسكًا بقماش قميصه ، ليسحبه منه بعنف حتى يستقيم ، فوضع باسم كفه بحركة دفاعية على يد يوسف الذي صرخ بغلاظة وحشية ، وقد نفذ صبر كله : هتفضل متصنم كدا .. ما تنطق عملت فيها ايه وصلها للحالة دي؟
❈-❈-❈
فى سيارة ياسر
ضرب ياسر عجلة القيادة بباطن كفه مجمجماً بضيق : يووووه اكيد زعلت
زمت يارا شفتيها مغتاظة من اهتمامه بمشاعرها ، بينما هى تعتصر جهاز التحكم عن بعد في كفها بغيرة ، قبل أن تسأله بكراهية : وهو كان حصل ايه عشان تزعل يعني .. اصلا لو عندها دم مكنتش هي عملت اللي عملته
عقد ياسر حاجبيه متعجباً من كلامها قبل أن يسألها بريبة : قصدك ايه انا مش فاهم عملت ايه؟
امتلأت عيناها بالدموع ، وهي ترمي بإهمال ما في يدها على لوحة القيادة ، وتتحدث بإنفعال متقطع بعد أن احتدت أنفاسها : قصدي .. انها بتحاول تفرق بينا يا ياسر .. انت مش حاسس .. هي بتعمل كدا عشان تخليك تبعد عني
_ يارا .. المهدئات للي بتاخديها دي مخليكي تهلوسي باين اوي انك مش دريانة بكلامك ممكن اسكتي عشان اعرف اسوق
عاودت يارا النظر إليه ، مقطبة الجبين ، وكأن رياح البرود فى صوت زادت جمرة الاستهجان داخلها إحتراقاً ، فصرخت بقلب مقهور : لا مش هسكت وواعية اوي لكلامي .. هي هتولع من الغيظ عشان شافتك غيران عليا لما شوفتني برقص مع واحد تاني
سألها يارا بلهجة محتدة : انتي من فين طلعتي بالكلام الغريب دا؟
إسترسل فى الشرح لها : واذا هي فهمت غلط انا هصححلها افكارها عننا وهفهمها اني مقبلش ان حد يمسك بأي حاجة .. عشان انتي صحبتي واختي
اتسعت عيناها بجنون وإحتقنت وجنتيها بالدماء ، ثم صاحت به بحدة أذهلته ، حيث أن قلبها إنفجر بحمم نارية من فوهة بركان ثائر تدفق بعد سنوات من الكتمان : انا مش اختك يا ياسر .. انا بحبك من زمان اوي زي ما انت كمان بتحبني بس انت اللي مش داري علي نفسك
أوقف ياسر السيارة عند مدخل منزلها ، والتفت إليها مصعوقاً مما سمعه منها للتو ، وقبل أن يتمكن من النطق بكلمة واحدة ، وجدها تتابع بصوتها المعذب فى حيرة : هتفضل هربان من مشاعرك نحيتي لحد امتي؟
كان يطوف ملامحها الباكية في حيرة ، وقلبه يقرع بصدمة ، فإزادت وتيرة دقاته حينما ألقت رأسها على صدره بعفوية : ليه كل حاجة فيك بتقول انك بتحبني الا لسانك .. ليه مش عايز ينطقها؟
واصلت يارا حديثها الهامس ، وهي تتمسح على رقبته بجانب وجهها وشعرها الناعم ، بعد أن أغلقت عينيها : انا بتعذب يا ياسر لما بشوفك معاها .. احنا الاتنين مكتوبين لبعض بنفهم بعض ومريحين ومبسوطين مع بعض ليه روحت خطبتها ليه؟
حرك ياسر يده في ارتباك ، ليلمس ظهرها بحنان في حركة مهدئة ، وهو يشرح لها بهدوء حتى تتمكن من فهمه ، بعد أن تمالك أعصابه المتوترة بجهد كبير هامساً برجاء : يارا عشان خاطري حاولي تفهميني .. انا مقدرش ابعد عنك كمان .. بس اللي بينا مش حب
رفعت يارا رأسها بعد أن أساءت فهمه ، ونظرت إليه بأمل وعشق يفيض من عينيها العسليتين وهى تطوف ملامحه الوسيمة ، وبنعومة أنثوية همست : صح اللي بينا اقوي كتير من الحب يا ياسر .. اللي بينا عشق سنين طويلة مع بعض مافترقناش .. ومحدش يقدر يفرقنا .. انا بجنون بعشقك
ألجمت الصدمة لسانه ، وعلت الدهشة ملامحه من اعترافها الأول عشقها الدفين له ، الذي تحترق به كل يوم.
وقبل أن يتكلم حاوطت وجهه بين يديها ، وسحبته إليها مؤكدة له صدق حبها إليه ، إذ أطبقت شفتيها على شفتيه برقة جارفة ، فإنشل عقله من هذا القرب المهلك لرجولته ، ولم يمنعها رغم عدم تجاوبه مع قبلتها ، فإذ يتبادر إلى ذهنه سؤال حائر كيف لا يبالى بها ، وهو لا يريد أن تبتعد عنه؟