رواية رحلة الآثام الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم منال سالم
الفصل الرابع والعشرون
(حيل لا تنضب)
صوت احتكاك إطار السيارات والمصحوب بصوت تشغيل المحرك، أكد له أن والده قد غادر بالفعل محيط المنزل في هذه الساعة المتأخرة، تاركًا خلفه رفيقه المتطفل، ووالدته الحزينة. وليتأكد من ظنه انطلق "أوس" تجاه النافذة، أزاح طرف الستارة البيضاء، ونظر بعينين ضيقتين إلى البقعة الخالية بالأسفل. تأهبت حواسه فجأة، وكأن نداء الاستنفار سرى بها عندما سمع أصواتًا متداخلة تقترب من غرفته. في التو اندفع ركضًا تجاه فراشه، ثم استلقى عليه، وسحب الغطاء على جسده، مدعيًا استغراقه في النوم العميق.
في هذه الأثناء، وبهدوءٍ شديد الحذر، قامت "تهاني" بفتح الباب، وأطلت منه، دون أن تزيح يدها من على المقبض، كأنما تخشى إن فتحته أن توقظ صغيرها بطريق الخطأ. من خلفها وقف "ممدوح" يسألها بشيءٍ من المزاح الثقيل:
-إيه يا حبيبتي، إنتي هتباتي الليلادي عنده ولا إيه؟
أجابته بصوتٍ شبه مرتجف، كما لو كانت تتحرج مما حدث:
-كنت عاوزة أطمن عليه، صعبان عليا أوي اللي بيحصل معايا ومعاه!
اعترض عليها في نبرة جادة، مشوبة بالحقد، رغم خفوتها:
-ما هو كويس وبخير أهوو، ده ابن "مهاب"، وأبوه زي ما إنتي عارفة مستعد يجيبله الدنيا كلها تحت رجليه.
ما لبث أن تحولت نبرته للسخرية حين أكمل:
-ده في سابع نومة، مش دريان بحاجة.
ثم امتدت يده لتلتف حول خصرها لتطوقها منه، وطلب منها وهو يدنو برأسه بالقرب من أذنها ليخاطبها في همسٍ عابث:
-خليني أنا أبات في حضنك، ما تحرمنيش من قربك ده.
وقتئذ تشنجت عضلات "أوس"، وتحفز في نومته، فهذه العبارة لم تكن مريحة أو مقبولة له بالمرة، تحيرت أفكاره، وأصابه التخبط، فكيف لأمه أن تسمح لهذا اللزج بلمسها والتودد إليها؟ هناك أمر ما خاطئ يحدث وهو لا يستطيع تفسيره أو فهمه.
سحبها "ممدوح" للخارج، وتعمد تقبيل منحنى عنقها بطريقة ناعمة، مؤثرة، ومليئة بالإغواء، على مرأى ومسمع من الصغير الذي بقى متجمدًا في موضع نومه يشاهد بنصف عينٍ ما يدور باستنكارٍ جلي. سرعان ما استلت "تهاني" يدها من على المقبض، لتلتف تجاهه، وتنظر إليه باشتهاءٍ ورغبة، تعلقت بذراعيها حول عنقه، فدللها الأخير بإغراءٍ أكبر، ليجعلها تذوي، وتذوب، وتطلب المزيد. لم يكترث للحظة بمسألة ترك الباب الخاص بغرفة الصغير مواربًا، ولم يهتم إن استيقظ ورأى ما يفعله بأمه.
رغمًا عنه أُجبر "أوس" على مشاهدة توددهما الحميمي بهذا الشكل الفج والنافر، مما جعل عقله يصاب بشيءٍ من الصدمة والذهول. انفلتت شهقة خجلى مصحوبة بضحكة مائعة من "تهاني" حينما انحنى "ممدوح" قليلًا ناحيتها ليحملها على كتفه، ركلت بساقيها في الهواء بخفةٍ، وسألته في غنج خجل:
-إنت بتعمل إيه؟ نزلني!
أخبرها وهو يهم بالسير بها بعيدًا:
-كان نفسي أعمل كدده من زمان.
هتفت في التو، وكأنها انتبهت لمدى التجاوز الدائر أمام غرفة صغيرها:
-طب استنى أقفل الباب، لأحسن "أوس" يصحى أو يشوفنا.
ضحك في تسلية، وبصوتٍ شبه مرتفع، ليقول بعدها بغير مبالاة:
-وماله، خليه يتعلم إزاي يدلع حبيبته ويبسطها!
لحظتها انقبض قلب الصغير بشكلٍ مفزع، وبدا رافضًا لهذا التجاذب غير المستساغ بينهما، ظل عقله يمتلئ بعشرات الأسئلة دون أن يجد لها أي إجابة مقنعة، أين والده من ذلك؟ لماذا رحل ليلًا وترك أمه مع غيره يفعل بها مثلما اعتاد أن يفعل حينما يختليا معًا؟ أليس من المفترض أن ينصرف رفيقه قبل ذهابه؟ أخذ يفكر، ويعتصر رأسه محاولًا استيعاب الخلل الحادث في هذه العلاقة المريبة!
.................................................
وقتما انفرد بها في غرفة نومها، راودها هذا الإحساس الغريب والمقلق بأن "مهاب" –رغم غيابه- يراقبهما، للحظة شعرت وكأنه سيداهم المنزل ليمسكها بالجرم المشهود، فيحيل حياتها إلى جحيم بشكل قاس. انتفضت في فزعٍ مع أول لمسة لـ "ممدوح" على جسدها، استنكر هذه الرهبة الغريبة منها، وسألها في عبوسٍ:
-مالك؟
مدفوعة بتوترها الحرج ردت وهي تتراجع عنه:
-حاسة إني مش مرتاحة، في حاجة غلط.
تفرس فيها معلقًا بجديةٍ:
-جوازنا شرعي يا "تهاني"!!
ازدردت ريقها، وأوضحت له مخاوفها:
-أيوه، عارفة ده، بس "مهاب" مش سهل يسيب حاجة معتبرها ملكيته الخاصة.
صحح لها في إصرارٍ وهو يسحبها برفقٍ من ذراعها ليضمها إلى صدره:
-بس إنتي مابقتيش خلاص بتاعته!
ثم أراح رأسها على كتفه، وظل يمسدها في حنوٍ وهو لا يزال يتابع:
-إنتي من النهاردة ليا لواحدي.
بالتدريج استكانت رهبتها مع مداعبته اللطيفة، أغمضت عينيها مستمتعة بإحساس الأمان الذي راح يبثه لها، فواصل "ممدوح" على نفس المنوال المثير:
-وأنا عارف إزاي أنسيكي كل حاجة...
توقف لهنيهة عن الكلام قبل أن يتم جملته ضاغطًا على كل حرفٍ فيها ببطءٍ:
-وخصوصًا "مهاب"!
بعدئذ شرع في البدء في وصلة متمرسة من الملاطفات والمغازلات المحفزة والودية ليجعلها تضحك، وتتفاعل معه، ثم استخدم أسلوبه الاحترافي لتتجاوب مع ما يمنحه لها من تشويق ومتعة، ناداها هامسًا بحروف اسمها في تناغم مثير، فذابت أكثرر واتقدت مواطن المشاعر بها. كانت بين يديه كمن يغفو من نشوة الخمر الممزوج بعواصف الهوى.
في قربه منها، لاحظت "تهاني" أن طريقة "ممدوح" معها مغايرة تمامًا لما عايشته مع "مهاب"، فالأخير مال أسلوبه للإهانة والإذلال، بينما الأول لجأ للتدليل والإغواء، كلاهما كانا على النقيض في تعاملهما معها، لتشعر بالفارق الكبير بينهما حتى في الأمور الحسية والرغبات الجسدية.
تعمد "ممدوح" استخدام هذه الوسائل الناعمة ليجعلها طوع بنانه، طامعة دومًا فيما يقدمه لها، فإن حانت لحظة الانفصال بينهما، ظهرت نتائج ذلك برفضها كليًا العودة إلى زوجها السابق، فيحقق بذلك انتصارًا جديدًا عليه بإفساد علاقتهما نهائيًا!
...............................................
على الفراش الدافئ، وتحت الأغطية الحريرية الناعمة، استلقت بجواره واضعة رأسها على صدره العاري، وعيناها متعلقتان بأصابعهما المتشابكة معًا، كما لو أنها تحاول بشتى السبل المتاحة حفر هذه الذكرى المميزة بتفاصيلها الممتعة في ذاكرتها للأبد، كانت في حالة انسجام غير طبيعية معه، لم تصدق أنها أسلمت له نفسها بهذه السلاسة، وكأنها متحرقة شوقًا لاقترابه، ولم يبخل عليها بما يجيده لتتذوق معه معاني الاختلاف والتفرد. رفعت "تهاني" عينيها الناعستين لتنظر إليه، واستطردت متحدثة في صوتٍ خافت، يحمل قدرًا من التوجس:
-خايفة أكون بحلم.
حاوطها بذراعها، وراح يمشي بأطراف أصابعه على بشرتها الناعمة وهو يخاطبها بلطافةٍ زائدة:
-أوعي تخافي وأنا جمبك.
رمشت بعينيها متابعة في خوفٍ متأصل بداخلها:
-بس "مهاب"...
اغتاظ من اقتحام رفيقه حتى لأشد لحظاتها خصوصية، فعاتبها في رقةٍ رغم انقلاب ملامحه:
-ينفع تفكري في حد تاني وإنتي في حضن جوزك؟
في التو اعتذرت منه لرعونة لسانها مبررة موقفها:
-أنا أسفة، مقصدش، بس إنت عارف الوضع معاه كان عامل إزاي، ومش سهل عليا أنسى اللي شوفته.
استشعر التوتر في صوتها، فهون عليها الأمر بقوله المقتضب؛ لكنه عنى لها الكثير:
-عارف، وفاهم!
عمد إلى تغيير مجرى الحديث إلى شيء آخر ممتع، فسألها مقترحًا:
-تحبي نقضي بكرة فين؟
تنهدت بعمقٍ، وأجابته بغير اهتمامٍ:
-مش جاي في بالي حاجة، ده غير إن ماينفعش أسيب "أوس" لواحده وآ...
قاطعها بوجه مال للعبوس:
-هو معاه المربية بتاعته ...
كادت تعترض عليه؛ لكنه أسكتها بإصراره:
-اعتبري نفسك في تكليف طبي عاجل!
ثم أحنى رأسها على شفتيها يقبلها منهما بقبلة عاشقة، لم تعهد مثلها طوال سنوات زواجها قبل أن يتوقف ليهمس لها:
-أنا عاوز أعيشك في الجنة معايا.
أنهى جملته بالشروع في تجديد طقوس العشق معها، لتتناسى تمامًا ما كان يؤرقها مضطجعها قبل لحظات.
................................................
منذ أن تزوجت به رسميًا، وهي تحاول جاهدة بكل طاقاتها أن تجعل حياتها الأسرية مستقرة، رغم كل المعوقات والعقبات التي واجهتها. صمدت، وكافحت، وكابدت العناء لئلا تهدم ما سعت لبنائه، وإن كان عدم الانجذاب قائمًا بينها وبين زوجها. كان الأخير يؤدي ما عليه من واجبات بشكلٍ روتيني ثابت، وهي تلتزم بما فُرض عليها دون شكوى أو كلل؛ لكن هذه المرة فاق الأمر قدرتها على الاحتمال أو السكوت، فقد مس أغلى ما تملك، شرفها!
لم تطق "فردوس" الذهاب أو المشاركة في مراسم الدفن والعزاء الخاصة بشقيق زوجها، وكيف لها أن تفعل وقد راح يطعن بافتراء مجحف عليها لمجرد أن والدته لا ترتضي بها زوجة لأي من أبنائها؟ واستها "إجلال" في مصابها، وسعت لتخفيف وطأة قساوة هذا الأمر عليها بترديدها:
-هوني على نفسك يا حبيبتي، بلاش تقهريها أكتر من كده!
ردت عليها بصوتها الباكي المبحوح، ودموعها تُسال بغزارة:
-هو اللي أنا فيه قليل؟ يرضي مين بس اللي بيحصلي ده!
أخبرتها بيقينٍ:
-ربنا موجود وبيخلص!
ثم سكتت للحظة قبل أن تفصح لها عن هاجسها المُحير:
-بس أنا خايفة الناس تفهم غيابك غلط، ويفسروه بحاجات تانية، ما إنتي فاهمة اللي مايعرفش يقول عدس.
صاحت في حرقةٍ، والألم يعتصر قلبها:
-محدش ليه حاجة عندي، أنا اللي موجوعة، أنا اللي اتظلمت.
أمسكت بعدئذ "فردوس" بمنديلها القماشي، ومسحت به دموعها، قبل أن تضعه على أنفها لتجفف ما سال منه، وهي لا تزال تنوح في أسى وحنق:
-ربنا يجحمه مطرح ما راح الظالم المفتري، قِبل إزاي على نفسه كده؟
لم تجد "إجلال" ما تعلق به عليها، فلها كل الحق في اتخاذ موقف معادٍ جراء ما حدث، تركتها تفرغ ما يملأ صدرها من غضبٍ محموم، واستمعت إليها وهي تكمل في كراهية معللة:
-منها لله أمه، عقبال ما أشوف بعيني انتقام ربنا فيها!
اكتفت بهز رأسها تعاطفًا معها، وامتنعت عن ممارسة أي ضغوطٍ أخرى لإقناعها بفعل العكس، فما انقطع بقساوة لا يمكن أن يوصل ببساطة!
..............................................
جلس في مقدمة الصفوف يتابع عن كثبٍ، وباهتمامٍ غير طبيعي، واحدة من اللقاءات الاجتماعية المقامة في النادي، ليس لأنه من محبذي هذه الموضوعات النسائية، أو لكونه من داعمي تلك القضايا المطروحة، بل لأنها من ضمن المشاركين في هذا التجمع. استغل "مهاب" معرفته بإحدى العضوات، ذات الصلة الوثيقة بـ "ناريمان"، ليجري معها نقاشًا جادًا حول إحدى المسائل المرتبطة بذلك اللقاء، على أمل أن تأتي رفيقتها إليها، فيتمكن من التحاور معها، استغربت السيدة لتحمسه الزائد عن الحد، وسألته بشيءٍ من الفضول:
-من إمتى بتهتم بالاجتماعات النسائية دي يا دكتور؟
ابتسم في وقارٍ، فتابعت متبسمة بتشكيكٍ محسوس:
-احنا نادرًا لما بنشوفك أصلًا هنا في النادي.
باحترافية محنكة أعطاها حجته المنطقية التي انطلت عليها في الحال:
-ده لظروف سفر المستمرة كل شوية، بس أنا بحب أتابع كل جديد يخدم المجتمع، وخصوصًا السيدات والبنات.
تطلعت إليه بغرابةٍ وهي تعقب على ما أدلى به:
-مع إنك راجل، يعني الأفضل تدعم المجتمع الذكوري.
أوضح لها بهدوءٍ:
-مين قال كده؟ بالعكس أنا مع المرأة جدًا، وآ..
قطع نقاشهما المتحضر إطلالة "ناريمان" الرقيقة عليهما وهي تلقي التحية بدلالٍ:
-هاي.
نهضت السيدة من مقعدها، واحتضنتها في محبةٍ، قبل أن تمتدح جهودها بفخرٍ:
-"ناريمان" كنتي روعة النهاردة.
ردت مجاملة، وهي تدور بعينيها على الضيف المألوف الذي نهض أيضًا لتحيتها:
-ميرسي.
امتدت يد "مهاب" لمصافحتها وهو يخاطبها برسمية مهذبة:
-أهلًا يا هانم.
قالت في نعومة وهي تمنحه كفها ليصافحه:
-أهلًا بيك.
لم يترك كفها، بل انحنى قليلًا بعدما رفعه إلى فمه ليقبله، ثم أسبل عينيه وسألها بملامحٍ اتخذت شكلًا جديًا:
-أخبارك إيه يا هانم؟ وإزي الوالد؟
تفاجأت مما اعتبرته رقيًا زائدًا، واستعادت يدها مبتسمة، لتعقب بتحيرٍ:
-لو مخانتنيش الذاكرة، فأنا شوفت حضرتك قبل كده، مظبوط؟
أكد لها ظنونها بنفس الوجه الهادئ الممزوج بملامح الجدية:
-ده حقيقي، كنت مع والدك "شوقي" باشا من قريب، عشان الشراكة الجديدة مع عيلة "الجندي".
هزت رأسها كأنما استحضرت الذكرى، وردت:
-أها، افتكرت.
إضاعة فرصته معها كان مستبعدًا، لذا استأذن بلباقةٍ وهو يشير بيده إلى طاولته:
-تسمحيلي أعزمك على حاجة؟
رفضت بشكلٍ حاسم:
-مش هينفع، أنا مرتبطة بمواعيد.
لم يبدُ "مهاب" منزعجًا من رفضها المحرج له، وأضــاف بدبلوماسية راقية:
-مافيش مشكلة، كفاية إني شوفتك النهاردة.
اندهشت أكثر لطريقته الرسمية تلك، وظهر الاستغراب في نظراتها إليه، ومع ذلك حافظت على معاملتها المتحفظة معه بردها المقتضب:
-أها .. أوكي.
ثم التفتت ناظرة إلى رفيقتها لتخاطبها:
-أنا ماشية، لو جاية معايا تعالي أوصلك في سكتي.
في الحال قبلت دعوتها، وردت:
-طيب...
ثم استدارت تستأذن ضيفها لهذا اليوم بالذهاب وهي تمد يدها لمصافحته:
-فرصة سعيدة يا دكتور "مهاب".
بادلها المصافحة؛ لكنه لم يفعل معها مثلما تودد إلى "ناريمان"، وقال:
-أنا الأسعد.
في خبثٍ ماكر وجه حديثه إلى فريسته الجديدة مخاطبًا إياها:
-عندي أمل نتقابل تاني يا "ناريمان" هانم.
مطت فمها مرددة:
-ممم.. أكيد، عن إذنك.
انصرفت مجاورة لرفيقتها، فظلت نظراته الثاقبة عليها حتى اختفت عن محيط نظره، وقتئذ همهم معقبًا بخفوتٍ ساخر:
-تقيلة! بس على مين!!
عاود الجلوس على مقعده، واسترخى أكثر عليه بعدما حل زر سترته، كان كالحاوي الذي يمتلئ جرابه بعشرات الحيل والألاعيب، اتسعت ابتسامته اللئيمة ليتابع في غرور واثق، وغير قابل للتشكيك:
-كله في الآخر بيجي تحت رجلي!
...........................................
اعتمادًا على ما كان بينهما سابقًا من صداقة قريبة، توطدت في وقت وجيز علاقتهما الجديدة كزوجين متفاهمين، مما دفع "ممدوح" للتجرؤ، واقتراح ما لم تفكر فيه زوجته مطلقًا، أو حتى يطرأ ببالها، ألا وهو طرد المربية الأجنبية التي تسببت في إذاقتها ألوان الإذلال والانكسار. ارتعبت "تهاني" من مجرد الفكرة، وتوسلته ليعدل عنها في توجسٍ ظاهر:
-بلاش يا "ممدوح".
استنكر رهبتها، كما أحس كذلك بالتوتر المخلوط بالخوف في لهجتها، خاصة عندما واصلت على نفس النهج:
-"مهاب" مش هيعدي الحكاية دي على خير، وجايز يقلب عليا، وأنا مش عاوزة عداوة معاه.
احتضن جانب وجهها بيده، وأكد لها في ثقةٍ تامة:
-متقلقيش، هو مايقدرش يقولي لأ في أي حاجة.
بدت غير مقتنعة بما يقول، فاستمرت في التشديد على صِدق نواياه:
-وبعدين أنا برجعلك كرامتك، واحدة زي دي مالهاش مكان هنا.
عكس وجهها الشاحب قلقها الزائد من تطبيق ذلك فعليًا، وأبقت على اعتراضها المرتاع:
-بس آ...
أوقفها قبل أن تكمل جملتها بسؤاله المعاتب:
-تاني هتعارضيني يا حبيبتي؟ مش واثقة في قدراتي ولا إيه؟
بررت له أسباب ذعرها:
-أنا مقدرش أتوقع اللي ممكن يعمله، إنت أكتر حد عارف شره ممكن يوصل لإيه.
تبسم في عنجهية مغترة قبل أن يداعب شحمة أذنها بإصبعه وهو يكلمها:
-إنتي ماتعرفنيش كويس، وده يزعلني على فكرة!
انتصبت شعيرات يديها مع لمساته الرقيقة المداعبة، فانتقل إلى المستوى الأعمق في استثارة مشاعرها مثلما يجيد، ليستحثها على الاعتراف له فجأة، وبشيءٍ من الاندفاع:
-"ممدوح"، تعرف أنا بدأت أحس فعلًا إنتي متجوزة راجل بجد خايف عليا.
شملته بنظرة شغوفة، متعطشة للتمتع بالمزيد من هذا الشعور الرائع بالأمان والاحتواء، واسترسلت بشجاعةٍ:
-مش عاوزة أفوق من الأحلام الجميلة دي ألاقي الدنيا مهدودة فوق راسي، أنا ممكن أنهار، وأروح فيها.
جذبها من رأسها إليه، لتشعر بقوة ذراعيه على لحم جسدها الطري وهي يضمها بتحكمٍ، ليأتيها بعدئذ صوتها الهادئ والمؤكد لما تتوق لسماعه:
-اطمني، طول ما أنا جمبك مش هتشوفي غير كل حاجة حلوة.
أغمضت عينيها في راحة، تاركة لنفسها الحرية الكاملة للتلذذ بهذا الإحساس النفيس، وراحت تردد في رجاءٍ منقطع النظير:
-يا ريت!
............................................
اجتمع كلاهما على مائدة طعام واحدة، تبادلا فيها النظرات الكارهة، والمشاعر النافرة، ولم يحاول أيهما إخفاء ذلك الإحساس أو إنكاره. حدق "ممدوح" بنظرات مطولة، وحادة، وبتعابيره المتجهمة في وجه الصغير الجالس على يمينه، بعدما احتل مقعد رأس الطاولة، كأنما يملك هذا البيت، وجميع من فيه يخضع لإمرته. استطرد متحدثًا إليه في بغضٍ ظاهر في نبرته قبل ملامحه:
-كأني شايف أبوك قصادي.
تضمنت جملته إهانة متوارية، ووصل مضمونها للصغير، وما عزز من شعور النفور ما فاه به بتأففٍ:
-نفس سحنته، وبصته!
احتقنت عينا "أوس" بوضوحٍ، وانعكس على تقاسيمه الضيق، حدجه بنظرة نارية ناقمة، فاشتاط منها "ممدوح" وحذره في غلظةٍ رغم خفوت صوته:
-ماتبحلقش أوي كده.
ببراءة صريحة أخبره الصغير:
-أنا مابحبكش!!
التوى ثغره بشبح ابتسامة متهكمة قبل أن يجيء تعقيبه مغلفًا بالإهانة:
-ولا أنا يا .. ابن "مهاب"!
شتت طوفان حرب النظرات المتبادلة بينهما عودة "تهاني" من المطبخ وهي تحمل في يديها أطباق الطعام الشهية، رصتها في موضع كل فردٍ، وقالت بتفاخرٍ:
-بصوا بقى النهاردة أنا عاملة الأكل بإيدي، يا رب يعجبكم.
نظرة ماكرة سددها "ممدوح" للصغير، قبل أن يتعمد تطويق خصر زوجته بذراعه، ليجذبها بعدها بقوةٍ طفيفة تجاهه، فسقطت في حجره، وأصبحت محاصرة في أحضانه، ليمنحها قبلة جريئة على شفتيها وهو يمتدح مجهودها المبذول:
-أي حاجة منك حلوة يا حبيبتي.
تحرجت للغاية من تصرفه المتجاوز، وحذرته في ارتباكٍ وهي تحاول التملص منه:
-"ممدوح"، مايصحش كده ..
لم يفلتها منه، فاستمرت تضغط عليه بتوترٍ:
-"أوس" قاعد!
قصد النظر بعينين مليئتين بالتحدي إلى الصغير، وقال في شيءٍ من الاستفزاز:
-معقول هيغير مني عشان بعبر عن حبي ليكي؟!
ثم أعطاها قبلة أخرى جائعة، جعلت "أوس" يتحفز في جلسته، ويزداد وجهه اشتعالًا واستنكارًا لما يقوم به. بالكاد نجحت "تهاني" في التخلص من حميميته المخجلة لها، وهمست في تدليلٍ:
-خلينا لما نكون لواحدنا.
رد غامزًا بطرف عينه:
-مستني ده على نار.
اتجهت "تهاني"، والحرج مستبد بها، إلى جانب طفلها، حاولت حثه على تناول الطعام بقولها الحاني:
-كُل يا حبيبي، خلص طبقك كله.
فقد الصغير شهيته جراء ما شاهدته، وانتفض ناهضًا في عصبية، ليقول بوجومٍ شديد:
-مش جعان.
استاءت من تصرفه الطفولي، وألحت عليه بتصميمٍ:
-إنت مكالتش حاجة، كده هزعل منك يا "أوس"!
نظر لها بغيظٍ، وانطلق دافعًا إياها بقدرٍ من الخشونة ليتجاوزها، تفاجأت من معاملته المتجافية معها، ووبخته في صدمةٍ مستهجنة:
-إنت هتسيبني وتمشي!
تجاهلها عن عمدٍ، فصاحت من ورائه تناديه بضيقٍ أكبر:
-"أوس!!!
تدخل "ممدوح" من تلقاء نفسه في شأنه هادرًا به بخشونةٍ أجبرته على التوقف، والاستدارة:
-استنى هنا!
احتدت نظرة الصغير إليه، فتابع زوج والدته تعنيفه المهدد
-مش مامتك بتكلمك، يبقى تقف وتسمعها، وإلا هتشوف الو شالتاني!
اضطربت "تهاني من صدامهما الأول، وهتفت في قلقٍ وجل:
-خلاص يا "ممدوح"، مافيش داعي، سيبه على راحته...
ثم وجهت حديثها إلى طفلها تأمره بلطافةٍ غريبة:
-امشي يا حبيبي على أوضتك.
أبدى "ممدوح" انزعاجه من تراخيها الواضح في أسلوب تنشئتها له، وعبر عن ذلك قائلًا:
-دلعك ده هيبوظه، الولاد عاوزين الشدة والحزم.
أخبرته بهدوءٍ ما زال مشوبًا بالقلق:
-أنا عارفة، بس بالراحة شوية، الوضع متغير عليه، وهو أكيد مستغرب اللي حاصل، اديله وقته، وهو هيتعود، صدقني.
زم فمه للحظةٍ قبل أن يعلق:
-طالما إنتي شايفة كده.
كغيمةٍ تكونت فجأة وانقشعت من السماء، تبدلت أحوال "ممدوح" المزعوجة إلى أخرى مرتخية، متأهبة، فأخذ يغازلها بالمعسول من الكلام ليضمن تأثيره واستحواذه على كل ذرة تخصها:
-بس إيه الحلاوة دي، أنا محظوظ بيكي يا حبيبتي.
ابتسمت في رقة حين ردت:
-أنا الأكتر، ربنا يخليك ليا.
ترقرق كثيرًا في ملاطفته لها، حتى تبدد ما كان من توتر مشحون، لتنسى بعد برهة شأن صغيرها، وتتلهف بوجدانها لتذوق ذلك النعيم الزائف المقدم إليها ......................................... !!
(حيل لا تنضب)
صوت احتكاك إطار السيارات والمصحوب بصوت تشغيل المحرك، أكد له أن والده قد غادر بالفعل محيط المنزل في هذه الساعة المتأخرة، تاركًا خلفه رفيقه المتطفل، ووالدته الحزينة. وليتأكد من ظنه انطلق "أوس" تجاه النافذة، أزاح طرف الستارة البيضاء، ونظر بعينين ضيقتين إلى البقعة الخالية بالأسفل. تأهبت حواسه فجأة، وكأن نداء الاستنفار سرى بها عندما سمع أصواتًا متداخلة تقترب من غرفته. في التو اندفع ركضًا تجاه فراشه، ثم استلقى عليه، وسحب الغطاء على جسده، مدعيًا استغراقه في النوم العميق.
في هذه الأثناء، وبهدوءٍ شديد الحذر، قامت "تهاني" بفتح الباب، وأطلت منه، دون أن تزيح يدها من على المقبض، كأنما تخشى إن فتحته أن توقظ صغيرها بطريق الخطأ. من خلفها وقف "ممدوح" يسألها بشيءٍ من المزاح الثقيل:
-إيه يا حبيبتي، إنتي هتباتي الليلادي عنده ولا إيه؟
أجابته بصوتٍ شبه مرتجف، كما لو كانت تتحرج مما حدث:
-كنت عاوزة أطمن عليه، صعبان عليا أوي اللي بيحصل معايا ومعاه!
اعترض عليها في نبرة جادة، مشوبة بالحقد، رغم خفوتها:
-ما هو كويس وبخير أهوو، ده ابن "مهاب"، وأبوه زي ما إنتي عارفة مستعد يجيبله الدنيا كلها تحت رجليه.
ما لبث أن تحولت نبرته للسخرية حين أكمل:
-ده في سابع نومة، مش دريان بحاجة.
ثم امتدت يده لتلتف حول خصرها لتطوقها منه، وطلب منها وهو يدنو برأسه بالقرب من أذنها ليخاطبها في همسٍ عابث:
-خليني أنا أبات في حضنك، ما تحرمنيش من قربك ده.
وقتئذ تشنجت عضلات "أوس"، وتحفز في نومته، فهذه العبارة لم تكن مريحة أو مقبولة له بالمرة، تحيرت أفكاره، وأصابه التخبط، فكيف لأمه أن تسمح لهذا اللزج بلمسها والتودد إليها؟ هناك أمر ما خاطئ يحدث وهو لا يستطيع تفسيره أو فهمه.
سحبها "ممدوح" للخارج، وتعمد تقبيل منحنى عنقها بطريقة ناعمة، مؤثرة، ومليئة بالإغواء، على مرأى ومسمع من الصغير الذي بقى متجمدًا في موضع نومه يشاهد بنصف عينٍ ما يدور باستنكارٍ جلي. سرعان ما استلت "تهاني" يدها من على المقبض، لتلتف تجاهه، وتنظر إليه باشتهاءٍ ورغبة، تعلقت بذراعيها حول عنقه، فدللها الأخير بإغراءٍ أكبر، ليجعلها تذوي، وتذوب، وتطلب المزيد. لم يكترث للحظة بمسألة ترك الباب الخاص بغرفة الصغير مواربًا، ولم يهتم إن استيقظ ورأى ما يفعله بأمه.
رغمًا عنه أُجبر "أوس" على مشاهدة توددهما الحميمي بهذا الشكل الفج والنافر، مما جعل عقله يصاب بشيءٍ من الصدمة والذهول. انفلتت شهقة خجلى مصحوبة بضحكة مائعة من "تهاني" حينما انحنى "ممدوح" قليلًا ناحيتها ليحملها على كتفه، ركلت بساقيها في الهواء بخفةٍ، وسألته في غنج خجل:
-إنت بتعمل إيه؟ نزلني!
أخبرها وهو يهم بالسير بها بعيدًا:
-كان نفسي أعمل كدده من زمان.
هتفت في التو، وكأنها انتبهت لمدى التجاوز الدائر أمام غرفة صغيرها:
-طب استنى أقفل الباب، لأحسن "أوس" يصحى أو يشوفنا.
ضحك في تسلية، وبصوتٍ شبه مرتفع، ليقول بعدها بغير مبالاة:
-وماله، خليه يتعلم إزاي يدلع حبيبته ويبسطها!
لحظتها انقبض قلب الصغير بشكلٍ مفزع، وبدا رافضًا لهذا التجاذب غير المستساغ بينهما، ظل عقله يمتلئ بعشرات الأسئلة دون أن يجد لها أي إجابة مقنعة، أين والده من ذلك؟ لماذا رحل ليلًا وترك أمه مع غيره يفعل بها مثلما اعتاد أن يفعل حينما يختليا معًا؟ أليس من المفترض أن ينصرف رفيقه قبل ذهابه؟ أخذ يفكر، ويعتصر رأسه محاولًا استيعاب الخلل الحادث في هذه العلاقة المريبة!
.................................................
وقتما انفرد بها في غرفة نومها، راودها هذا الإحساس الغريب والمقلق بأن "مهاب" –رغم غيابه- يراقبهما، للحظة شعرت وكأنه سيداهم المنزل ليمسكها بالجرم المشهود، فيحيل حياتها إلى جحيم بشكل قاس. انتفضت في فزعٍ مع أول لمسة لـ "ممدوح" على جسدها، استنكر هذه الرهبة الغريبة منها، وسألها في عبوسٍ:
-مالك؟
مدفوعة بتوترها الحرج ردت وهي تتراجع عنه:
-حاسة إني مش مرتاحة، في حاجة غلط.
تفرس فيها معلقًا بجديةٍ:
-جوازنا شرعي يا "تهاني"!!
ازدردت ريقها، وأوضحت له مخاوفها:
-أيوه، عارفة ده، بس "مهاب" مش سهل يسيب حاجة معتبرها ملكيته الخاصة.
صحح لها في إصرارٍ وهو يسحبها برفقٍ من ذراعها ليضمها إلى صدره:
-بس إنتي مابقتيش خلاص بتاعته!
ثم أراح رأسها على كتفه، وظل يمسدها في حنوٍ وهو لا يزال يتابع:
-إنتي من النهاردة ليا لواحدي.
بالتدريج استكانت رهبتها مع مداعبته اللطيفة، أغمضت عينيها مستمتعة بإحساس الأمان الذي راح يبثه لها، فواصل "ممدوح" على نفس المنوال المثير:
-وأنا عارف إزاي أنسيكي كل حاجة...
توقف لهنيهة عن الكلام قبل أن يتم جملته ضاغطًا على كل حرفٍ فيها ببطءٍ:
-وخصوصًا "مهاب"!
بعدئذ شرع في البدء في وصلة متمرسة من الملاطفات والمغازلات المحفزة والودية ليجعلها تضحك، وتتفاعل معه، ثم استخدم أسلوبه الاحترافي لتتجاوب مع ما يمنحه لها من تشويق ومتعة، ناداها هامسًا بحروف اسمها في تناغم مثير، فذابت أكثرر واتقدت مواطن المشاعر بها. كانت بين يديه كمن يغفو من نشوة الخمر الممزوج بعواصف الهوى.
في قربه منها، لاحظت "تهاني" أن طريقة "ممدوح" معها مغايرة تمامًا لما عايشته مع "مهاب"، فالأخير مال أسلوبه للإهانة والإذلال، بينما الأول لجأ للتدليل والإغواء، كلاهما كانا على النقيض في تعاملهما معها، لتشعر بالفارق الكبير بينهما حتى في الأمور الحسية والرغبات الجسدية.
تعمد "ممدوح" استخدام هذه الوسائل الناعمة ليجعلها طوع بنانه، طامعة دومًا فيما يقدمه لها، فإن حانت لحظة الانفصال بينهما، ظهرت نتائج ذلك برفضها كليًا العودة إلى زوجها السابق، فيحقق بذلك انتصارًا جديدًا عليه بإفساد علاقتهما نهائيًا!
...............................................
على الفراش الدافئ، وتحت الأغطية الحريرية الناعمة، استلقت بجواره واضعة رأسها على صدره العاري، وعيناها متعلقتان بأصابعهما المتشابكة معًا، كما لو أنها تحاول بشتى السبل المتاحة حفر هذه الذكرى المميزة بتفاصيلها الممتعة في ذاكرتها للأبد، كانت في حالة انسجام غير طبيعية معه، لم تصدق أنها أسلمت له نفسها بهذه السلاسة، وكأنها متحرقة شوقًا لاقترابه، ولم يبخل عليها بما يجيده لتتذوق معه معاني الاختلاف والتفرد. رفعت "تهاني" عينيها الناعستين لتنظر إليه، واستطردت متحدثة في صوتٍ خافت، يحمل قدرًا من التوجس:
-خايفة أكون بحلم.
حاوطها بذراعها، وراح يمشي بأطراف أصابعه على بشرتها الناعمة وهو يخاطبها بلطافةٍ زائدة:
-أوعي تخافي وأنا جمبك.
رمشت بعينيها متابعة في خوفٍ متأصل بداخلها:
-بس "مهاب"...
اغتاظ من اقتحام رفيقه حتى لأشد لحظاتها خصوصية، فعاتبها في رقةٍ رغم انقلاب ملامحه:
-ينفع تفكري في حد تاني وإنتي في حضن جوزك؟
في التو اعتذرت منه لرعونة لسانها مبررة موقفها:
-أنا أسفة، مقصدش، بس إنت عارف الوضع معاه كان عامل إزاي، ومش سهل عليا أنسى اللي شوفته.
استشعر التوتر في صوتها، فهون عليها الأمر بقوله المقتضب؛ لكنه عنى لها الكثير:
-عارف، وفاهم!
عمد إلى تغيير مجرى الحديث إلى شيء آخر ممتع، فسألها مقترحًا:
-تحبي نقضي بكرة فين؟
تنهدت بعمقٍ، وأجابته بغير اهتمامٍ:
-مش جاي في بالي حاجة، ده غير إن ماينفعش أسيب "أوس" لواحده وآ...
قاطعها بوجه مال للعبوس:
-هو معاه المربية بتاعته ...
كادت تعترض عليه؛ لكنه أسكتها بإصراره:
-اعتبري نفسك في تكليف طبي عاجل!
ثم أحنى رأسها على شفتيها يقبلها منهما بقبلة عاشقة، لم تعهد مثلها طوال سنوات زواجها قبل أن يتوقف ليهمس لها:
-أنا عاوز أعيشك في الجنة معايا.
أنهى جملته بالشروع في تجديد طقوس العشق معها، لتتناسى تمامًا ما كان يؤرقها مضطجعها قبل لحظات.
................................................
منذ أن تزوجت به رسميًا، وهي تحاول جاهدة بكل طاقاتها أن تجعل حياتها الأسرية مستقرة، رغم كل المعوقات والعقبات التي واجهتها. صمدت، وكافحت، وكابدت العناء لئلا تهدم ما سعت لبنائه، وإن كان عدم الانجذاب قائمًا بينها وبين زوجها. كان الأخير يؤدي ما عليه من واجبات بشكلٍ روتيني ثابت، وهي تلتزم بما فُرض عليها دون شكوى أو كلل؛ لكن هذه المرة فاق الأمر قدرتها على الاحتمال أو السكوت، فقد مس أغلى ما تملك، شرفها!
لم تطق "فردوس" الذهاب أو المشاركة في مراسم الدفن والعزاء الخاصة بشقيق زوجها، وكيف لها أن تفعل وقد راح يطعن بافتراء مجحف عليها لمجرد أن والدته لا ترتضي بها زوجة لأي من أبنائها؟ واستها "إجلال" في مصابها، وسعت لتخفيف وطأة قساوة هذا الأمر عليها بترديدها:
-هوني على نفسك يا حبيبتي، بلاش تقهريها أكتر من كده!
ردت عليها بصوتها الباكي المبحوح، ودموعها تُسال بغزارة:
-هو اللي أنا فيه قليل؟ يرضي مين بس اللي بيحصلي ده!
أخبرتها بيقينٍ:
-ربنا موجود وبيخلص!
ثم سكتت للحظة قبل أن تفصح لها عن هاجسها المُحير:
-بس أنا خايفة الناس تفهم غيابك غلط، ويفسروه بحاجات تانية، ما إنتي فاهمة اللي مايعرفش يقول عدس.
صاحت في حرقةٍ، والألم يعتصر قلبها:
-محدش ليه حاجة عندي، أنا اللي موجوعة، أنا اللي اتظلمت.
أمسكت بعدئذ "فردوس" بمنديلها القماشي، ومسحت به دموعها، قبل أن تضعه على أنفها لتجفف ما سال منه، وهي لا تزال تنوح في أسى وحنق:
-ربنا يجحمه مطرح ما راح الظالم المفتري، قِبل إزاي على نفسه كده؟
لم تجد "إجلال" ما تعلق به عليها، فلها كل الحق في اتخاذ موقف معادٍ جراء ما حدث، تركتها تفرغ ما يملأ صدرها من غضبٍ محموم، واستمعت إليها وهي تكمل في كراهية معللة:
-منها لله أمه، عقبال ما أشوف بعيني انتقام ربنا فيها!
اكتفت بهز رأسها تعاطفًا معها، وامتنعت عن ممارسة أي ضغوطٍ أخرى لإقناعها بفعل العكس، فما انقطع بقساوة لا يمكن أن يوصل ببساطة!
..............................................
جلس في مقدمة الصفوف يتابع عن كثبٍ، وباهتمامٍ غير طبيعي، واحدة من اللقاءات الاجتماعية المقامة في النادي، ليس لأنه من محبذي هذه الموضوعات النسائية، أو لكونه من داعمي تلك القضايا المطروحة، بل لأنها من ضمن المشاركين في هذا التجمع. استغل "مهاب" معرفته بإحدى العضوات، ذات الصلة الوثيقة بـ "ناريمان"، ليجري معها نقاشًا جادًا حول إحدى المسائل المرتبطة بذلك اللقاء، على أمل أن تأتي رفيقتها إليها، فيتمكن من التحاور معها، استغربت السيدة لتحمسه الزائد عن الحد، وسألته بشيءٍ من الفضول:
-من إمتى بتهتم بالاجتماعات النسائية دي يا دكتور؟
ابتسم في وقارٍ، فتابعت متبسمة بتشكيكٍ محسوس:
-احنا نادرًا لما بنشوفك أصلًا هنا في النادي.
باحترافية محنكة أعطاها حجته المنطقية التي انطلت عليها في الحال:
-ده لظروف سفر المستمرة كل شوية، بس أنا بحب أتابع كل جديد يخدم المجتمع، وخصوصًا السيدات والبنات.
تطلعت إليه بغرابةٍ وهي تعقب على ما أدلى به:
-مع إنك راجل، يعني الأفضل تدعم المجتمع الذكوري.
أوضح لها بهدوءٍ:
-مين قال كده؟ بالعكس أنا مع المرأة جدًا، وآ..
قطع نقاشهما المتحضر إطلالة "ناريمان" الرقيقة عليهما وهي تلقي التحية بدلالٍ:
-هاي.
نهضت السيدة من مقعدها، واحتضنتها في محبةٍ، قبل أن تمتدح جهودها بفخرٍ:
-"ناريمان" كنتي روعة النهاردة.
ردت مجاملة، وهي تدور بعينيها على الضيف المألوف الذي نهض أيضًا لتحيتها:
-ميرسي.
امتدت يد "مهاب" لمصافحتها وهو يخاطبها برسمية مهذبة:
-أهلًا يا هانم.
قالت في نعومة وهي تمنحه كفها ليصافحه:
-أهلًا بيك.
لم يترك كفها، بل انحنى قليلًا بعدما رفعه إلى فمه ليقبله، ثم أسبل عينيه وسألها بملامحٍ اتخذت شكلًا جديًا:
-أخبارك إيه يا هانم؟ وإزي الوالد؟
تفاجأت مما اعتبرته رقيًا زائدًا، واستعادت يدها مبتسمة، لتعقب بتحيرٍ:
-لو مخانتنيش الذاكرة، فأنا شوفت حضرتك قبل كده، مظبوط؟
أكد لها ظنونها بنفس الوجه الهادئ الممزوج بملامح الجدية:
-ده حقيقي، كنت مع والدك "شوقي" باشا من قريب، عشان الشراكة الجديدة مع عيلة "الجندي".
هزت رأسها كأنما استحضرت الذكرى، وردت:
-أها، افتكرت.
إضاعة فرصته معها كان مستبعدًا، لذا استأذن بلباقةٍ وهو يشير بيده إلى طاولته:
-تسمحيلي أعزمك على حاجة؟
رفضت بشكلٍ حاسم:
-مش هينفع، أنا مرتبطة بمواعيد.
لم يبدُ "مهاب" منزعجًا من رفضها المحرج له، وأضــاف بدبلوماسية راقية:
-مافيش مشكلة، كفاية إني شوفتك النهاردة.
اندهشت أكثر لطريقته الرسمية تلك، وظهر الاستغراب في نظراتها إليه، ومع ذلك حافظت على معاملتها المتحفظة معه بردها المقتضب:
-أها .. أوكي.
ثم التفتت ناظرة إلى رفيقتها لتخاطبها:
-أنا ماشية، لو جاية معايا تعالي أوصلك في سكتي.
في الحال قبلت دعوتها، وردت:
-طيب...
ثم استدارت تستأذن ضيفها لهذا اليوم بالذهاب وهي تمد يدها لمصافحته:
-فرصة سعيدة يا دكتور "مهاب".
بادلها المصافحة؛ لكنه لم يفعل معها مثلما تودد إلى "ناريمان"، وقال:
-أنا الأسعد.
في خبثٍ ماكر وجه حديثه إلى فريسته الجديدة مخاطبًا إياها:
-عندي أمل نتقابل تاني يا "ناريمان" هانم.
مطت فمها مرددة:
-ممم.. أكيد، عن إذنك.
انصرفت مجاورة لرفيقتها، فظلت نظراته الثاقبة عليها حتى اختفت عن محيط نظره، وقتئذ همهم معقبًا بخفوتٍ ساخر:
-تقيلة! بس على مين!!
عاود الجلوس على مقعده، واسترخى أكثر عليه بعدما حل زر سترته، كان كالحاوي الذي يمتلئ جرابه بعشرات الحيل والألاعيب، اتسعت ابتسامته اللئيمة ليتابع في غرور واثق، وغير قابل للتشكيك:
-كله في الآخر بيجي تحت رجلي!
...........................................
اعتمادًا على ما كان بينهما سابقًا من صداقة قريبة، توطدت في وقت وجيز علاقتهما الجديدة كزوجين متفاهمين، مما دفع "ممدوح" للتجرؤ، واقتراح ما لم تفكر فيه زوجته مطلقًا، أو حتى يطرأ ببالها، ألا وهو طرد المربية الأجنبية التي تسببت في إذاقتها ألوان الإذلال والانكسار. ارتعبت "تهاني" من مجرد الفكرة، وتوسلته ليعدل عنها في توجسٍ ظاهر:
-بلاش يا "ممدوح".
استنكر رهبتها، كما أحس كذلك بالتوتر المخلوط بالخوف في لهجتها، خاصة عندما واصلت على نفس النهج:
-"مهاب" مش هيعدي الحكاية دي على خير، وجايز يقلب عليا، وأنا مش عاوزة عداوة معاه.
احتضن جانب وجهها بيده، وأكد لها في ثقةٍ تامة:
-متقلقيش، هو مايقدرش يقولي لأ في أي حاجة.
بدت غير مقتنعة بما يقول، فاستمرت في التشديد على صِدق نواياه:
-وبعدين أنا برجعلك كرامتك، واحدة زي دي مالهاش مكان هنا.
عكس وجهها الشاحب قلقها الزائد من تطبيق ذلك فعليًا، وأبقت على اعتراضها المرتاع:
-بس آ...
أوقفها قبل أن تكمل جملتها بسؤاله المعاتب:
-تاني هتعارضيني يا حبيبتي؟ مش واثقة في قدراتي ولا إيه؟
بررت له أسباب ذعرها:
-أنا مقدرش أتوقع اللي ممكن يعمله، إنت أكتر حد عارف شره ممكن يوصل لإيه.
تبسم في عنجهية مغترة قبل أن يداعب شحمة أذنها بإصبعه وهو يكلمها:
-إنتي ماتعرفنيش كويس، وده يزعلني على فكرة!
انتصبت شعيرات يديها مع لمساته الرقيقة المداعبة، فانتقل إلى المستوى الأعمق في استثارة مشاعرها مثلما يجيد، ليستحثها على الاعتراف له فجأة، وبشيءٍ من الاندفاع:
-"ممدوح"، تعرف أنا بدأت أحس فعلًا إنتي متجوزة راجل بجد خايف عليا.
شملته بنظرة شغوفة، متعطشة للتمتع بالمزيد من هذا الشعور الرائع بالأمان والاحتواء، واسترسلت بشجاعةٍ:
-مش عاوزة أفوق من الأحلام الجميلة دي ألاقي الدنيا مهدودة فوق راسي، أنا ممكن أنهار، وأروح فيها.
جذبها من رأسها إليه، لتشعر بقوة ذراعيه على لحم جسدها الطري وهي يضمها بتحكمٍ، ليأتيها بعدئذ صوتها الهادئ والمؤكد لما تتوق لسماعه:
-اطمني، طول ما أنا جمبك مش هتشوفي غير كل حاجة حلوة.
أغمضت عينيها في راحة، تاركة لنفسها الحرية الكاملة للتلذذ بهذا الإحساس النفيس، وراحت تردد في رجاءٍ منقطع النظير:
-يا ريت!
............................................
اجتمع كلاهما على مائدة طعام واحدة، تبادلا فيها النظرات الكارهة، والمشاعر النافرة، ولم يحاول أيهما إخفاء ذلك الإحساس أو إنكاره. حدق "ممدوح" بنظرات مطولة، وحادة، وبتعابيره المتجهمة في وجه الصغير الجالس على يمينه، بعدما احتل مقعد رأس الطاولة، كأنما يملك هذا البيت، وجميع من فيه يخضع لإمرته. استطرد متحدثًا إليه في بغضٍ ظاهر في نبرته قبل ملامحه:
-كأني شايف أبوك قصادي.
تضمنت جملته إهانة متوارية، ووصل مضمونها للصغير، وما عزز من شعور النفور ما فاه به بتأففٍ:
-نفس سحنته، وبصته!
احتقنت عينا "أوس" بوضوحٍ، وانعكس على تقاسيمه الضيق، حدجه بنظرة نارية ناقمة، فاشتاط منها "ممدوح" وحذره في غلظةٍ رغم خفوت صوته:
-ماتبحلقش أوي كده.
ببراءة صريحة أخبره الصغير:
-أنا مابحبكش!!
التوى ثغره بشبح ابتسامة متهكمة قبل أن يجيء تعقيبه مغلفًا بالإهانة:
-ولا أنا يا .. ابن "مهاب"!
شتت طوفان حرب النظرات المتبادلة بينهما عودة "تهاني" من المطبخ وهي تحمل في يديها أطباق الطعام الشهية، رصتها في موضع كل فردٍ، وقالت بتفاخرٍ:
-بصوا بقى النهاردة أنا عاملة الأكل بإيدي، يا رب يعجبكم.
نظرة ماكرة سددها "ممدوح" للصغير، قبل أن يتعمد تطويق خصر زوجته بذراعه، ليجذبها بعدها بقوةٍ طفيفة تجاهه، فسقطت في حجره، وأصبحت محاصرة في أحضانه، ليمنحها قبلة جريئة على شفتيها وهو يمتدح مجهودها المبذول:
-أي حاجة منك حلوة يا حبيبتي.
تحرجت للغاية من تصرفه المتجاوز، وحذرته في ارتباكٍ وهي تحاول التملص منه:
-"ممدوح"، مايصحش كده ..
لم يفلتها منه، فاستمرت تضغط عليه بتوترٍ:
-"أوس" قاعد!
قصد النظر بعينين مليئتين بالتحدي إلى الصغير، وقال في شيءٍ من الاستفزاز:
-معقول هيغير مني عشان بعبر عن حبي ليكي؟!
ثم أعطاها قبلة أخرى جائعة، جعلت "أوس" يتحفز في جلسته، ويزداد وجهه اشتعالًا واستنكارًا لما يقوم به. بالكاد نجحت "تهاني" في التخلص من حميميته المخجلة لها، وهمست في تدليلٍ:
-خلينا لما نكون لواحدنا.
رد غامزًا بطرف عينه:
-مستني ده على نار.
اتجهت "تهاني"، والحرج مستبد بها، إلى جانب طفلها، حاولت حثه على تناول الطعام بقولها الحاني:
-كُل يا حبيبي، خلص طبقك كله.
فقد الصغير شهيته جراء ما شاهدته، وانتفض ناهضًا في عصبية، ليقول بوجومٍ شديد:
-مش جعان.
استاءت من تصرفه الطفولي، وألحت عليه بتصميمٍ:
-إنت مكالتش حاجة، كده هزعل منك يا "أوس"!
نظر لها بغيظٍ، وانطلق دافعًا إياها بقدرٍ من الخشونة ليتجاوزها، تفاجأت من معاملته المتجافية معها، ووبخته في صدمةٍ مستهجنة:
-إنت هتسيبني وتمشي!
تجاهلها عن عمدٍ، فصاحت من ورائه تناديه بضيقٍ أكبر:
-"أوس!!!
تدخل "ممدوح" من تلقاء نفسه في شأنه هادرًا به بخشونةٍ أجبرته على التوقف، والاستدارة:
-استنى هنا!
احتدت نظرة الصغير إليه، فتابع زوج والدته تعنيفه المهدد
-مش مامتك بتكلمك، يبقى تقف وتسمعها، وإلا هتشوف الو شالتاني!
اضطربت "تهاني من صدامهما الأول، وهتفت في قلقٍ وجل:
-خلاص يا "ممدوح"، مافيش داعي، سيبه على راحته...
ثم وجهت حديثها إلى طفلها تأمره بلطافةٍ غريبة:
-امشي يا حبيبي على أوضتك.
أبدى "ممدوح" انزعاجه من تراخيها الواضح في أسلوب تنشئتها له، وعبر عن ذلك قائلًا:
-دلعك ده هيبوظه، الولاد عاوزين الشدة والحزم.
أخبرته بهدوءٍ ما زال مشوبًا بالقلق:
-أنا عارفة، بس بالراحة شوية، الوضع متغير عليه، وهو أكيد مستغرب اللي حاصل، اديله وقته، وهو هيتعود، صدقني.
زم فمه للحظةٍ قبل أن يعلق:
-طالما إنتي شايفة كده.
كغيمةٍ تكونت فجأة وانقشعت من السماء، تبدلت أحوال "ممدوح" المزعوجة إلى أخرى مرتخية، متأهبة، فأخذ يغازلها بالمعسول من الكلام ليضمن تأثيره واستحواذه على كل ذرة تخصها:
-بس إيه الحلاوة دي، أنا محظوظ بيكي يا حبيبتي.
ابتسمت في رقة حين ردت:
-أنا الأكتر، ربنا يخليك ليا.
ترقرق كثيرًا في ملاطفته لها، حتى تبدد ما كان من توتر مشحون، لتنسى بعد برهة شأن صغيرها، وتتلهف بوجدانها لتذوق ذلك النعيم الزائف المقدم إليها ......................................... !!