رواية لعنة الخطيئة الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم فاطمة احمد
الفصل الثالث والعشرون : عرض شهادة.
________________
صباحا...
تململت في الفراش وفتحت عيناها مطالعة ما حولها ووجدت الغرفة فارغة تنهدت متذكرة كيف احتضنته فجر اليوم وطلبت منه ألا يتركها فأزاحها عنه مبرطما بكلمات جامدة مفادها أنها بخير الآن ثم غادر تاركا إياها بمفردها ...
رفعت الغطاء من فوقها ووقفت أمام المرآة تطالع نفسها، بوجه شاحب مكدوم وهالات سوداء أسفل عينيها ورأس ملفوف بالشاش وشفة مجروحة من شدة الصفعات التي اخذتها...
تذكرت نيجار ماحدث في الليلة الماضية وارتجفت مستعيدة كل دقيقة عاشتها بعد خطفها، لقد عُنفت وكادت تتعرض للإعتداء قاومت كثيرا كي تنجو وطعنت ذلك الوغد ومع ذلك أوشك على القضاء عليها، مالذي كان سيحدث لها لو لم يصل آدم إليها في الوقت المناسب فلقد أغمي عليها ولم تكن لتستطع الدفاع عن نفسها أكثر وكلما تتذكر ذلك تشعر بقشعريرة تسري في جسدها كله وترغب بسلخ المعتدي حيًّا !
أفاقت نيجار من شرودها وانتفضت فجأة حينما فتح الباب ودخل آدم نظرت لإنعكاسه في المرآة وتبين لها جموده فاِستدارت إليه ببطء وصمتت وبالمقابل صمت آدم أيضا وطال سكوته حتى همست هي بنبرة متحشرجة :
- مش هتقول حاجة ؟
- أقول ايه أو اتكلم عن ايه بالضبط ... عملتي مصايب ومشاكل كتيرة لدرجة مش عارف أبدأ منين.
صدمها بنبرته الجافة وأربكها وتلجلجت نيجار باِضطراب وقد امتلأت عيناها بدموع تفيض من البارحة فجلست على طرف السرير بعياء وأخفضت رأسها متمتمة :
- أنا مكنش في بالي اضرك بس مقدرتش افضل في البيت ده اكتر من كده مقدرتش استحمل اتهامات جدتك وأختك ونظراتك انت ليا ... وفي لحظة مجنونة استغليت انك مش موجود وخرجت من غير ما حد يحس.
سكتت تسترجع تفاصيل الحادثة ووقف آدم يتابعها باِنتباه فتابعت وهي تضم ذراعاها بيديها مرتجفة :
- الراجل ده ظهر فجأة وضربني ع دماغي ولما فوقت لقيت نفسي مربوطة وهو مدخلني لكوخ جوا الغابة وحاول ... حاول يتعدى عليا.
أطلق شتيمة شنيعة بصوت خفيض وهو يضم قبضته في الهواء متخيلا مدى شناعة نتائج فعلتها الحمقاء لو لم يلحق عليها أو لو لم تستطع نيجار إهدار الوقت بضرب المعتدي، أساسا هي تأذت بما فيه الكفاية وتأذى هو كذلك ولكن مجرد تفكيره بأن تصرفها كان سيودي بها للهلاك يجعله يود لو يعود ذلك الحقير عديم الشرف وقتله مجددا، ويجعله يريد كسر عظامها وتحطيم وجهها لكي لا تقدم على ما فعلته مرة ثانية !
زفر آدم بسخط وصل معناه لنيجار واستطاعت بطريقة ما توقع منحى تفكيره في هذه اللحظات فواتاها شعور خسيس بالنقص والدونية وقالت منفعلة :
- بس أنا حاولت قد ما اقدر احافظ ع نفسي ولو مكنتش قدرت ... لو هو وصل للي عايزه فـ اتأكد اني كنت هقتله واقتل نفسي بعدها.
نطقت آخر جملة بثقة لفتت نظره فوجه بصره عليها لهنيهة وفتح فمه ليقول شيئا معينا لكنه تراجع وسألها حول موضوع آخر مغمغما :
- بخصوص الراجل ده ... من امبارح وانا بفكر ان كان خطفك لأنه مجرد واحد *** شاف ست ماشية لوحدها بليل وحب يستغلها ولا يمكن بيعرفك لسبب تاني.
تفاجأت من سؤاله واهتزت حدقتاها لبضع ثوان متذكرة ما قاله المدعو مليجي انه هو الذي أطلق على آدم بأمر من صفوان ويبدو أن ابن عمها رفض الدفع له بسبب فشله في مهمة القتل فقرر هذا الأخير الانتقام منه وكانت هي الطعم المناسب له.
هل تنطق الآن وتخبره بما تعرفه هل تقول له لكن اين ذلك الرجل الآن هل ضربه آدم وتركه أم يحبسه عنده ولماذا يسألها عن إن كان قد خطفها لسبب آخر.
أيعلم السبب بالفعل لكنه يريد استدراجها حتى تعترف بنفسها ويعرف هو معلومات إضافية هل اعترف له مليجي بعدما أمسك به ؟ حسنا لو كان الموضوع هكذا حقا إذا من المؤكد بأن آدم يحتفظ به ليستعمله كوسيلة لإثبات جرم صفوان.
غرقت نيجار في بحر الأفكار محاولة ربط الخيوط ببعضها فطال صمتها عن المعتاد وفسره آدم على أنه سكوت وتهرب من الإجابة بسبب رغبتها المستمرة في حماية ابن عمها فتنهد مغمضا عيناه ثم فتحهما وأولاها ظهره متلفظا بكلماته الأخيرة قبل المغادرة :
- اوعى تطلعي من الاوضة النهارده مهما حصل أنا مش عايز حد يشوفك وانتي بالحالة ديه.
ولم يمنحها فرصة الإجابة لأنه كان قد رحل !!
_________________
- يعني ايه مش هتطلع من اوضتها انت بتعصي أوامري !
هدرت حكمت جملتها بعصبية بعدما وقفت على باب الغرفة وكادت تقتحمها لتقطع شعر تلك الوقحة وتحاسبها على هروبها فأمسكها آدم في اللحظة الأخيرة ومنعها من الدخول مرددا بأنه حبسها ولن يسمح لأحد برؤيتها.
راقبها هذا الأخير وهي تقف بصرامة وانفعال نادرا ما يظهر عليها ليستمع اليها وهي تردف :
- قليلة الرباية ديه هربت من بيتك في نصاص الليالي يا حفيدي السبع عشان تفضحنا وتخلي سيرتنا ع كل لسان وبدل ما انت توريها النجوم في عز الظهر جاي تخليها علينا وعشان ايه و لـيـه ؟ ده انا كنت فاكرة هسمع صوت صراخها لآخر الشارع وترميها في بيت أهلها لحد ما يجو يترجوك ترجعها كنت فاكراك هتطلقها وترميها بفضيحة بس مش فاهمة البنت ديه عملتلك ايه بالظبط عشان تفضل ساكت ومستسلم ليها كده.
قضب حاجباه بضيق من كلماتها وقال بهدوء زائف :
- أنا مش مخبيها عنكم ولا مستسلم يا ستي حضرتك فاهمة غلط ياريت منكبرش الموضوع اكتر من كده هي مراتي وأنا حر فيها.
تهكمت ساخرة منه ثم ضرب بعصاها على باب الغرفة هادرة :
- احيانا بتنسى اني ستك وست البلد ديه كلها يعني ان كنت انت داهية وبتعرف تتصرف في الخفاء فمتنساش ان كل ده اتعلمته مني ... وعموما حاول تخبي بنت الشرقاوي ع قد مابتقدر يا حفيدي بس أنا هعرف ازاي اطلع من هنا وافهم ايه اللي مخبيه عني كده.
وجهت له نظراتها المكحلة الحادة وذهبت فبقي هو بمفرده مع ليلى التي كانت تتأمله بجمود ليقول لها :
- بتبصيلي كده ليه.
- عايزة اشوف اذا كان الراجل الواقف قدامي ده هو نفسه أخويا آدم اللي محدش بيدوسله على طرف ولا واحد تاني ... انت اتغيرت اوي وأنا مبقتش متأكدة منك حاسة اني عمري ما عرفتك يا ابيه.
ردت عليه بمنطقتيها المعتادة وهي تضم ذراعاها لبعض ثم تركته وغادرت ليقف آدم ناظرا لأثرها وهمس بعد ثوان :
- في ايه هو مين اللي بيعلمها الكلام ده والوقفة ديه كمان.
انتبه لرنين هاتفه وكان المتصل هو فاروق فمط شفته متوقعا ما سبب هذه المكالمة ولم يخب ظنه حينما أجاب وقابله كلام الآخر :
- آدم بيه قولتلك امبارح بليل ان واحد تبعنا هيدبر صورة للراجل اللي كان بيروح لعند صفوان وفعلا الصورة اتبعتتلي من شويا ... مش عارف اجيبها لحضرتك ازاي بس البني آدم ده هو نفسه اللي دفنناه امبارح نفس المواصفات ونفس الجسم واسمه مليجي.
توقع فاروق أن يسمع سخط آدم من الجهة الأخرى لكنه تفاجأ من هدوئه وأنفاسه المستقرة فضيق حاجباه مرددا بتوجس :
- اعذرني ع تخطي حدودي بس ياريت اللي بفكر فيه حاليا غلط.
حينها رد عليه بلهجة صلبة ثابتة وهو يسند يده الثانية للشرفة المطلة على الفناء في الأسفل :
- لا مش غلط، أنا عرفت الموضوع ده قبل ما اقتله بثواني هو اعترفلي وقالي انه مستعد يشهد معايا علشان اعفي عنه ... طلع اسمه مليجي بقى.
- حضرتك مستوعب ان الراجل اللي بقالنا كتير بندور عليه وتعبنا كل التعب ده بسببه جيت وقتلته بكل بساطة !
هدر معترضا باِستنكار فاِحتدت تقاسيم آدم مجيبا بنبرة صارمة :
- جرى ايه يا فاروق انت فاكرني بقرون عشان اسيب الكلب ده حي مش عارف هو عمل ايه وبعدين انت هتناقشني في قراراتي ؟!
- بعتذر منك مش من حقي اناقشك بس حضرتك اللي قلت ان احنا لازم نحاسب صفوان حسب الأصول قدام العمدة والباقيين لأننا مش هنستفيد حاجة من قتله قبل ما نلاقي دليل قوي ومليجي ده كان الوسيلة اللي يخلينا نثبت بيها انه صفوان دخل في لعبة قذرة علشان يخلص منك بعد ما اعلنك العمدة خليفة ليه لكن قتلك لمليجي قلب الموازين اللي بقصده انه ياريت لو خليته يشهد بعدين نخلص عليه ومحدش هيحاسبك.
- عارف كل ده كويس بس أنا مكنتش هقبل اخليه عايش دقيقة زيادة هو بص على شرفي واتعدى على حرمتي بفضل اموت ولا اني استنى المساعدة من واحد زيه حتى لو مش هقدر اثبت تورط ابن الشرقاوي في الاغتيال.
رد عليه آدم بحسم ومن دون أن يندم دقيقة على ما اقترفه لأن أولئك الأوغاد لا يستحقون العيش في كل الأحوال ولهذا لم يكن ليتوانى قط عن محاسبته بنفسه حتى لو اضطر لبذل مجهودات مضاعفة أخرى كي يستطيع الحصول على دليل الإدانة.
أغلق الخط وأخفاه في جيب سترته مغمغما بنزق :
- أنا كان لازم اقتل صفوان من زمان مش اقعد استنى دليل يثبت التهمة ضده عشان اتحرم بس هعمل ايه مضطر اتعامل بدبلوماسية لأني خليفة العمدة زي ما بيقولو.
بس الحق ع ايه ولا ع مين كل حاجة بتجي ورا بعضها والمفروض احلها ومن غير ما حد يدرى باللي بيحصل.
برطم ساخرا من نفسه ثم أسند يداه على طرف الشرفة مفكرا حتى رأى الباب الخارجي يفتح من طرف أحد الحراس فوقف متسمرا مكانه وفغر فاه بذهول حين لمح آخر امرأة توقعها أن تأتِ رمش بعينيه عدة مرات غير مستوعب وظن للحظات انه أخطأ بها لكنه رأى جدته تقابل الزائرة وجها لوجه فتأكد من رؤيته وتحرك بخطوات متسارعة حتى وصل للفناء وقابلها وجها لوجه متمتما :
- عمتي !!
ابتسمت المرأة التي كانت تقف بشموخ تنافس به شموخ نساء الصاوي وقالت :
- ابن اخويا الغالي ... مش هترحب بيا ؟
استجمع شتاته واقترب يقبل يدها باِحترام ويحتضنها مرددا عبارات الترحيب ثم انزاح عنها متشدقا :
- أهلا وسهلا بيكي فبيتك أنا متفاجئ من وجودك يعني لسه مكلمك من يدوب أسبوع وملمحتليش ولا ذكرتي انك هتجي.
تناقضت ابتسامة وجهها مع نبرتها وهي تعاتبه هاتفة :
- ده لأني كنت لسه مبعرفش انك اتصاوبت ورجعت من الموضوع ولولا اختك اتكلمت بالغلط مكنتش هعرف خالص.
- ليلى ... كان لازم اتوقع.
- جيت جري عشان اطمن عليك قولي انت كويس ياحبيبي عامل ايه ده انا مشوفتكش من آخر مرة جيت للمدينة وزورتني في بيتي.
- حقك عليا يا عمتي والله المشاغل خدتني ... حضرتك واقفة كده ليه اتفضلي اقعدي وليلى روحت للكلية من شويا هتفرح اوي لما ترجع وتلاقيكي هنا.
هزت رأسها موافقة إياه وتحركت لتدخل فأزاح كتفه العريض وظهرت حكمت من خلفه واقفة بجبروتها المعتاد وملامح وجهها الباردة فتقابلت عيونهما لفترة وجيزة قبل أن تدنو منها هذه الأخيرة وتهتف مخاطبة ابنة ضرتها :
- أهلا وسهلا بيكي يا حليمة نورتينا.
رشقتها حليمة بنظرات صامتة والعديد من ذكريات الماضي تختلط ببعضها في هذه الأثناء حتى تنهدت وأجابتها :
- تسلمي يا حكمت هانم هكون منورة طبعا وأنا فبيت أبويا الحاج ربنا يرحمه.
أحس آدم ببوادر غير مطمئنة تندلع بينهما حاليا فحمحم وحمل حقيبتها ليشتت انتباههما فهو لا تنقصه أي جدالات تسبب صداعا آخر لرأسه :
- هطلع اوضتك لفوق عشان ترتاحي شويا من تعب السفر.
تدخلت حكمت في الحوار بعنهجية :
- للأسف مفيش اوضة زيادة جاهزة دلوقتي لأن عمتك جت من غير موعد بتقدر تنام مع ليلى النهارده واول ما الاوضة التانية تجهز هتروحيلها ... اتمنى ميكونش عندك اعتراض يا حليمة.
ديه.
- لأ طبعا مش هعترض ع اني انام مع بنت اخويا القمر وبعدين مفيش داعي للرسميات ديه يا حكمت هانم أنا واحدة من اصحاب البيت.
ردت عليها بنبرة قوية ملمحة فهمتها الأخرى على الفور فتبسمت برسمية وتنحت جانبا لتصعد حليمة للغرفة في الأعلى رفقة آدم تحت نظراتها المشتعلتان شرًّا.
وضع الحقائب على الأرض وعاد لعمته محيطا كتفاها بيديه وتمتم :
- انبسطت عشان شوفتك راجعة لبيتك بعد سنين طويلة، متفهمنيش غلط بس انا مستغرب شويا لأن آخر مرة جيتي فيها كان يوم عزا أمي وبعدين خدتي ليلى وروحتي فنفس الليلة اشمعنا المرة ديه جاية وجايبة شنطتك معاكي كمان.
ربتت على يده وأجابته :
- انت عارف مشاكلي مع جدتك وقد ايه انا والمرحومة أمي اتعذبنا بسببها هي كرهتنا في حياتنا بعد وفاة جدك وماصدقت اتجوز وانتقل للمدينة عشان اخلص منها، وبسببها محضرتش فرحك رغم انك ذكرى من المرحوم بس لما سمعت بالحادثة بتاعتك مقدرتش امنع نفسي من اني اجي وأشوفك ... خاصة بعد ما عرفت ان البنت اللي اتجوزتها كنت بتعرفها من قبل وضحكت عليك.
اكفهر وجه آدم وتشنج باِقتضاب فاِستطردت حليمة بتساؤل :
- ديه بتبقى نيجار اللي حكيتلي عليها من قبل وقولتلي انك ناوي تتقدملها صح.
- ايوة هي.
- طب اتجوزتها ليه آدم اللي بعرفه كان هيقتلها هي وابن عمها بعد ما يعذبهم هما الاتنين سوا مش يكتبها ع اسمه ايه اللي خلاك تقبل تتجوزها.
رددت بحيرة من فعلته فتنهد آدم وأجابها ببساطة :
- عشان المنصب، العمدة عرض علينا نتناسب وكنت هرفض في البداية بس مقدرتش لأني بكده هبقى كسرت الكلام اللي قاله قدام رجالة البلد وكنت واقف قدام خيارين يا اما انا اتجوز نيجار يا اما صفوان يتجوز اختي وحضرتك عارفاني مستحيل اوافق ع ان ليلى تروح للندل ده علشان كده قبلت الجواز.
رمقته بتشوش وعدم استيعاب لكل ما يقال دفعة واحدة وفكرت في أن هوس السلطة انتقل من حكمت لحفيدها وفي الحقيقة لا يتطلب منها أن تفكر كثيرا كي تدرك بأن حكمت نفسها من أقنعته بقبول الزيجة حتى لا تخسر مكانتها الرفيعة بين الجميع ... حمحمت حليمة ولم ترد إزعاجه وإخباره بما يجول بداخلها فتبسمت مومئة بتفهم :
- طالما انت مدرك للي بتعمله يبقى عندك وجهة نظر يا حبيبي، قولي يا آدم فين مراتك ديه أنا سمعت ان جدتك اتهمتها بمحاولة قتلك وحبستها في الاوضة تحت اوعى تكون لسه محبوسة.
ضحكت ممازحة بملامح منبسطة تقلصت على الفور حين همهم آدم بإيجاب :
- أيوة أنا حابسها بس في اوضتها ... قصدي اوضتنا احنا الاتنين.
شهقت وكادت تتكلم لكنه أوقفها بحركة من يده بينما يغمغم بنبرة جادة :
- لو سمحتِ عارف كويس انا بعمل ايه ومش عايز حد يتدخل ودلوقتي هسيبك عشان اروح لشغلي وهنبقى نكمل كلامنا لما ارجع يلا ارتاحي عاوزة حاجة مني.
- لا يا حبيبي سلامتك.
غادر آدم الغرفة ونظرات حليمة تتبعه حتى اختفى وهمست برفعة حاجب :
- فاضل ايه معملتهوش عشان السلطة ولحد امتى هتفضلي كده مش كفاية انك دمرتي حياة ناس كتيرة دلوقتي وصل الدور لحفيدك وعايزاه يبقى زيك انتي ... بس أنا جيت اهو ومش هسمحلك تستغليه اكتر من كده يا حكمت.
من الناحية الأخرى دلف آدم لغرفته ووجدها تفترش الأرضية مسندة ظهرها على السرير وتضم ساقيها لصدرها بينما عيناها تجولان في الاشيء بشرود فعرف أنها غرقت في ذكريات أحداث ليلة أمس إلى درجة أنها لم تنتبه لدخوله، لم يعر لها بالا وفتح الخزانة ليأخذ لوازمه فقابلته القلادة المكسورة التي وجدها مرمية في الغابة أمس لقد كانت هي من دلته على مكانها لولا القلادة لعاد أدراجه تاركا نيجار خلفه.
تلمسها بين أصابعه بوجوم ثم خبأها في الدرج بلا اكتراث وأخذ معطفه ومفاتيحه ألقى نظرة عليها مجددا وهذه المرة تنحنح بصوت واضح فاِنتفضت نيجار من قوقعتها ورمقته بدهشة من وجوده ليردد آدم بثبات :
- أنا منعت حد يدخل للأوضة هنا مش عايزهم يشوفوكي بالحال ده ويفضلو يسألو يبقى انتي كمان اعملي زيي ومتفوتيش عتبة الباب مفهوم.
أومأت بطاعة غريبة عنها فتابع مستطردا :
- صحيح عمتي حليمة جت زيارة وممكن تعوز تدخل وتشوفك خدي بالك ومتفتحيش الباب لحد أنا هوصي ام محمود تجيب الأكل والشرب لعندك خديهم من ايديها بسرعة وارجعي ادخلي.
تنهدت نيجار هامسة بملامح باهتة :
- مفيش داعي أنا مش جعانة.
- وأنا مش بطلب رأيك !
تركها ونزل إلى الأسفل فوجد جدته الجالسة على الأريكة الواسعة وحين رأته ابتسمت متهكمة :
- ايه لسه مصمم تخبي مراتك من عينيا.
أخذ نفسا عميقا متوسلا الصبر واقترب منها مرددا :
- مخبيتهاش بس أنا معاقبها وحابسها في الأوضة مش عايزها تخرج وتشوف حد.
- معاقبها بس وصيت الشغالة تخدمها مش كده.
- ستي لو سمحتِ.
- ماشي تمام اعمل اللي يريحك تروح وترجع بالسلامة يا حفيدي.
ابتسم آدم باِمتنان وخرج من السرايا لكن حكمت التي كانت تشم رائحة شيء غريب في الموضوع لم تكن لديها نية لإغلاقه ولن ترتاح حتى تكشف ما حدث ليلة البارحة العاصفة ...
_________________
في المساء.
اجتمعت العائلة على مائدة العشاء وجلست ليلى بجوار عمتها متمتمة بفرحة :
- أنا مبسوطة اوي لأنك معانا يا عمتو مصدقتش نفسي لما رجعت للبيت ولقيتك واقفة قدامي.
ابتسمت بحنو مداعبة وجهها وفجأة توتر الجو عندما دخلت حكمت ورشقتهما بنظرات جامدة وأخرى غاضبة اختصت بها ليلى التي انكمشت على نفسها بتوتر وهي تعلم سبب انزعاج جدتها منها، جلست على رأس الطاولة بغرور ووجهت كلماتها للخادمة باِقتضاب :
- آدم بيه فين.
- شوفته واقف مع فاروق تحت يا ست هانم.
في هذه الأثناء دلف آدم وجلس بهدوء فنظرت حليمة للباب كأنها تنتظر شخصا ما ثم قالت :
- مراتك مش هتجي ولا ايه انت لسه حابسها.
امتقع وجهه بضيق وصمت بينما زفرت ليلى مجيبة بلهجة حانقة :
- حتى لو مكنش حابسها هي متعودة تاكل لوحدها في المطبخ مبتقعدش معانا ع سفرة واحدة.
مطت حليمة شفتها بإستنكار كتمته بداخلها وبدأ الجميع في تناول العشاء حتى سمعوا ضجة تأتِ من الخارج مفادها صرخات ولعنات وتصاعدت أصوات الشجار فوضع آدم الشوكة من يده وانتصب واقفا وخرج للفناء هاتفا بصوت عالٍ :
- ايه المسخرة ديه في ايه.
تحرك ليخرج ويرى سبب الضجيج لكن الباب اقتلع من مكانه فجأة حينما اقتحم صفوان السرايا متصارعا مع فاروق الذي يحاول إخراجه لكنه أزاحه عن طريقه ونظر لهذا الأخير صائحا بحدة :
- انا جيت يا ابن سلطان.
ركضت النسوة للخارج ليروا ما يحدث وانتفضت ليلى بخوف بينما وقفت حكمت في المنتصف ببسمة مريبة أما آدم فكأنه أصبح يرى الشياطين أمام عينيه كما يرى عدوه اللدود يقتحم بيته هكذا احتدَّ وجهه بوحشية وتصلبت شرايينه بتأثير الإنفعال فكز على أسنانه هاسًّا بخطورة :
- انت بتعمل ايه هنا يا واطي ... اطلع فورا وإلا أنا مش مسؤول عن اللي هعمله.
تهكم صفوان باِستهزاء مبرطما :
- وأنا مش مقطع شراييني عشان ادوس بيتك أنا جاي لبنت عمي ... فين نيجار يا ابن سلطان.
قضب حاجباه بخشونة ولم يجبه ليقترب صفوان خطوتين متابعا :
- أنا عارف أن نيجار هربت وانت رجعتها عايز اشوفها وافهم منها ازاي تعمل كده وليه وانت عملت فيها ايه يا آدم.
رغم ذهوله من معرفة الآخر بالأمر لكن لم تكن له فرصة للتفكير ولم ينتبه لحكمت التي غمزت أم محمود لتركض للأعلى لأن صفوان انتفض وهو يحاول تجاوزه :
- بنت عمي فين وازاي تقدر تهرب من بيتك ايه انت مش راجل كفاية علشان تحافظ ع مراتك اااه.
أنهى جملته بصرخة ألم إثر لكمة من آدم فجرت أنفه بالدماء فتراجع للخلف متحسسا مكان الضربة بينما يهدر الآخر بهمجية :
- امشي من هنا احسنلك يا شرقاوي لسه حسابك مجاش وقته متخلنيش ابتلى فيك دلوقتي لأن حسابك بقى تقيل اوي.
شتمه صفوان بصوت خفيض ورمقه بحقد فكاد يهجم عليه ليحفظ ما تبقى من مياه وجهه وحضر آدم نفسه ليضربه لكن صوتها الذي صدع من الأعلى أوقفهما :
- صـفـوان !!
نزلت راكضة لهما فوقعت الأعين عليها وتداعت بين الصدمة والذهول من مظهرها وعلامات الضرب على وجهها شهقت حليمة مطالعة هذه الفتاة وحالتها المريبة واندهشت ليلى منها أما حكمت فلم تستطع الحفاظ على جمودها وإخفاء إنفعالاتها أكثر وهي تنظر لنيجار التي من الواضح أنها تعرضت لضرب مبرح ... هل حقا قام حفيدها بتأديبها أخيرا وإظهار قيمتها الحقيقية لها ولهذا سجنها في الغرفة لكي لا يراها أحد ؟؟
تحركت عينا صفوان عليها بعدم استيعاب ورغم غضبه السافر منها لكن هاله رؤيته لابنة عمه بهذا الشكل فطالع آدم مبرطما :
- انت عملت فيها ايه.
أغمض عيناه لاعنا إياهما في سره ومتوعدا لها على نزولها رغم تحذيراته المستمرة ثم فتحهما ورشقها بتوحش آمرا :
- اطلعي لفوق.
ارتبكت نيجار من هيأته ولوهلة ندمت على عصيان كلامه لكنها لم تستطع السيطرة على نفسها عندما سمعت أصوات شجار ثم أتت لها أم محمود وأخبرتها بأن ابن عمها اقتحم السرايا متوعدا وسيحدث كارثة مع زوجها.
عبثت بأصابع يديها بتلكؤ ورغم توترها استطاعت اخراج حروفها المرتجفة :
- انت جيت تعمل ايه لو سمحت امشي من هنا.
- امشي ايه انتي اتجننتي الحيوان ده مش مخلي فيكي حته سليمة !
صاح ساخطا وتابع :
- ضربتها وكسرت ايدها بعدين خبيتها عشان محدش يشوفها مش كده.
تفاجأت من الإتهام الذي ألقي عليه ففتحت فمها لتتحدث وتخبرهم بأن الفاعل ليس آدم لكنه قاطعها بنظرة تحذيرية وأجابه :
- مراتي وبعمل فيها اللي عايزه انت كنت هتعمل ايه لو مراتك هربت فنص الليل.
كان سيدفنها حية، فكر صفوان بهذا الشيء دون تردد متخيلا لو أنه تعرض لهذا الموقف فخبتت ثورته على حين غرة لكنه برطم باِعتراض خفيف :
- ومع ذلك كان ممكن تحل الموضوع من غير ضرب.
تدخلت حكمت في الحوار وهي تقرع عصاها في الأرض وتتقدم الجمع مرددة بصرامة :
- احمد ربك لأن حفيدي راجل واكتفى بكده بس واحد غيره كان قتلها عشان يغسل عاره ولا أقل شي يطلقها ويرميها قدام باب بيتكو يا ولد الشرقاوي وانت عارف كويس يعني ايه ست تسيب بيت جوزها وتهرب في نص الليل كمان.
فجأه وجد نفسه عاجزا عن الجدال بل ورأى أنه هو الطرف الأضعف لأن ابنة عمه الغبية كادت تهوي بسمعة عائلتها على الأرض بالفعل يجب عليه أن يشكر آدم لأنه اكتفى بضربها فقط ولم يقم بشيء آخر يضعه في ورطة.
رشق نيجار بنظرات حادة ساخطة وتمتم بصوت خافت يختلف تماما عن النبرة التي دخل بها منذ قليل :
- عندك حق ... نيجار غلطت وكان لازم تدفع التمن.
رضوخه السريع وانقلابه عليها أمام الجميع جعلها تبتسم بسخرية أخفت وراءها شرخا عظيما أصاب قلبها المفطور ثم تنهدت وأوقفت صفوان بصوت عال حين التف ليغادر :
- استنى شويا.
تسمرت قدماه على الأرض فتقدمت منه ليمسك آدم يدها يمنعها لكنها أزاحته برفق وتابعت حتى وقفت أمام ابن عمها وقالت :
- مش آدم اللي ضربني هو ملمسنيش ولا جه جنبي أصلا بالعكس ساعدني.
اكفهر وجهه بحيرة كما فعلت النسوة أما زوجها فهدر محذرا :
- نـيـجـار !!
لكنها تابعت بإصرار غير مكترثة بالعواقب مهما حدث :
- امبارح وانا ماشية في واحد اعترض طريقي عشان يسرقني ولما قاومته ضربني وعمل فيا زي ما انتو شايفين ... انا كمان مسكتش وحاولت انقذ نفسي بس مقدرتش عليه وفي الوقت ده وصل آدم ولحقني من بين ايديه وخدني يعالجني.
اندهش آدم من كذبتها ومع ذلك كانت منطقية بالشكل الكافي وأقل وقعا من حادثة الإعتداء فزفر براحة بينما ردد صفوان باِنفعال :
- مين الكلب اللي حاول يسرقك هو مش عارف عيلة الشرقاوي وايه اللي قادرين يعملوه.
زاغت شفتاها في ابتسامة مستهزئة برجوليته المصطنعة وتفاخره الدائم بنسبه دون أن يكون يفعل شيئا جديرا يليق بمكانة عائلتهم فردت عليه قائلة :
- يمكن محصلوش الشرف عشان يتعرف على عيلتنا لو عرف انا مين أكيد مكنش هيعمل كده كان اسمه ايه يا ترى نسيت ... اه ...
اصطنعت نسيان اسم ذاك المعتدي الوغد ثم تذكرته فرفعت نفسها لتصل لأذن صفوان وهنا همست :
- مليجي ... اسمه مليجي.
هل يصفر وجه المرء من مجرد ذكر اسم شخص ما ؟ نعم هذا ما حدث لصفوان حين أخبرته باِسم الرجل الذي تهجم عليها بغية سرقتها شحبت بشرته واختل توازنه بفعل الصدمة وهو يرى نيجار تحدق فيه بنظرة يعرفها جيدا ... نظرة تخبره بأنها كشفت خفية من خفاياه أو بالأحرى كذبة من أكاذيبه فتنحنح معيدا صوته لحلقه بعدما اختفى وتمتم :
- انتي عرفتي ؟
إلا أنه قبل سماع جوابها قاطعهما الآخر وهو يقف بينهما وأبعد نيجار بعجرفة هاتفا :
- خلص وقت الزيارة بتقدر تتكل دلوقتي.
كتم صفوان حنقه على مضض وغادر أما آدم أشار لها بالصعود ثم نظر للنسوة وخاطب حكمت مباشرة :
- انتي اللي خلتيه يجي صح ؟
لم تكلف نفسها عناء الإنكار بل ابتسمت بثقة توضح جوابها فزفر وهدر بغضب :
- ليه عملتي كده بسببك جه الحيوان ده ودخل لنص بيتي كان قصدك ايه يا ستي كنتي هتبقي مرتاحة لو قتلته هنا !
تمتمت بنبرة بليدة باردة لا تليق بالموقف البته :
- أولا أنا معزمتوش بس اتصلت بيه وقولتله يلم بنت عمه واذا كان هو السبب في هروبها فيقصر الشر لأن عيلته هتتضرر قبلنا احنا، كنت هعرف منين انه هيتهجم علينا.
رمقها مستنكرا هدوءها وإدعاءها نية صافية فهو يعرف طباعها جيدا ويدرك بأن جدته كلمت صفوان وقامت بشحنه حتى يثور ويأتِ لمنزلهم وبهذا تجبر نيجار على التدخل خوفا على ابن عمها فتظهر أمامهم وبهذا تكشف حكمت ما يود إخفاءه.
وهنا تدخلت ليلى التي كانت ساكنة طوال الوقت تراقب ما يحدث وهتفت :
- طول ما البنت ديه هنا احنا مش هنخلص من مشاكلها كان ناقص التور ده يتهجم علينا واهو حصل بسببها حضرتك ليه مطلقهاش وترميها.
- ليلى متدخليش في الموضوع ده انتي مش فاهمة حاجة.
طلب منها بخفوت محاولا السيطرة على عصبيته وهيجانه لكنها لم تنفذ طلبه بل صممت أكثر وهي تقترب منه مرددة :
- أنا فاهمة كل حاجة بعد ما كنت مغيبة انتو خبيتو عليا حاجات كتيرة وعرفتها بالصدفة بس مع ذلك لسه بتحاول تطلعني برا وبتقولي مدخلش في الموضوع انت نسيت اني جزء من العيلة ديه.
- كفاية قولتلك اقفلي ع السيرة.
- مش كفاية يا ابيه أنا زهقت من المشاحنات والمشاكل ديه بسببك انت دخلت العيلة ديه لحياتنا وعملت مصايب لو انت محبتهاش وأصريت علينا كنا هـ....
- لـيـلى !
صاح باِسمها بشراسة جعلتها تنتفض وتتراجع للخلف بينما يقترب منها بشكل جعل حليمة تتوجس وتخفيها وراء ظهرها خوفا من أن يجن جنونه ويضربها لكن آدم قبض على ذراع شقيقته وجذبها ناحيته صارخا :
- اظاهر اني دلعتك كتير ونسيتي ازاي تحترمي أخوكي الأكبر منك اوعى اسمعك بتقولي الكلام ده تاني مفهوم او تطولي لسانك عليا ولا تدخلي في اللي بعمله سامعة !!
تبكمت ليلى من الصدمة لأن هذه أول مرة يعاملها فيها شقيقها بهذه الطريقة وتعلقت عيناها الدامعتان بخاصته جاعلة من ثورته تهدأ قليلا فترك ذراعها مستوعبا ما فعله بينما برطمت حكمت بحدة :
- كمل يا ولد سلطان وقفت ليه يلا اديها قلمين ع وشها عشان الليلة ديه تكمل.
تراجع عنهن باِمتعاض وتحرك مغادرا يترك المكان بأسره لهن وبعد ساعات ولج للسرايا ومنه لغرفته فوجد نيجار واقفة أمام المرآة تحاول دهن إحدى المراهم على ظهرها دون ان تنجح بذلك وحين رأته وضعت العلبة على سطح التسريحة وهمست بخفوت :
- انت رجعت.
دنى منها مقلصا المسافة بينهما وأمسك معصمها بعصبية جازا على أسنانه :
- ازاي تعصي كلامي وتطلعي من الاوضة وايه لازمة الهبل اللي قولتيه تحت.
كتمت تأوها متألما من قبضته وهي تجيبه :
- أنا شفت نظرات الإتهام في عينيهم ليك ومقدرتش ارضى تاخد ذنب حاجة معملتهاش.
- إتهام ؟ انتي عارفة ان محدش هيلومني لو عملت كده فعلا خاصة ستي وده لأنك بتستاهلي !
- بس أنا عملت كده علشانك انت.
بترت كلماته بجملتها الهادئة ورفعت رأسها له ووجدته يرمقها بوجوم وحيرة لتشرح له مقصدها :
- أنا بقيت بفهم طريقة تفكيرك كويس يا آدم بالنسبة ليك انك تمد ايدك على واحدة ست فده عيب في حقك قبل ما يكون ظلم في حقها انت مكنتش هترضى تبص لنفسك على أساس واحد بيعمل كده في مراته حتى لو مراته ديه هي أنا ... أكتر واحدة بتكرهها في الدنيا ديه عشان كده برأتك بس مقولتش الحقيقة كاملة وانت سمعتني.
- ايوة سمعتك، قدرتك ع الكدب ممتازة لدرجة اي حد بيصدقك مش جديد عليكي.
همهم بجمود طاعنا إياها في منتصف قلبها بكلماته فبهتت شعلة عينيها على حين غرة واكتفت بالصمت، بدأ آدم في تغيير ملابسه وحينما أوشك على الاستلقاء في السرير وجد نيجار تعود وتقف أمام المرآة لترى كدماتها وتدهنها بالمرهم جربت مرة واثنتين وثلاثة وباءت محاولاتها بالفشل فتأففت بحنق ملقية العلبة.
بقي يراقبها بطرف عينه بينما يقرأ الكتاب الذي بين يديه لكن ضجتها منعته من التركيز في محتوياته أو هذا ما كان يظنه هو حتى أغلقه ووضعه جانبا ثم وقف قبالتها مغمغما :
- نامي على بطنك.
- نعم ؟
- اسمعي الكلام.
حدجته بغرابة كأنه مختل عقلي إلا أنها فهمت قصده حين التقط المرهم فاِحمر وجهها قليلا وذهبت تستلقي على الأفرشة في الأرضية جثى آدم على ركبته بجوارها وامتدت يده إلى سحاب ثوبها وأنزله كليا ببساطة فعضت نيجار على شفتها بحرج وضغطت على الوسادة أسفلها، وزع بصره على الكدمات وشعر بالغضب يتسلل له من جديد لكنه تمالك نفسه وبدأ بتمرير يده الدهونة على مواقع إصاباتها بلطف لاحظ تشنجها فهتف بجدية :
- فكي ظهرك عشان اعرف اعملك مساج.
قالها وهو يضغط برفق على من فوق رقبتها نزولا لظهرها بتدليك ماهر جعل نيجار تسترخي دون شعور منها وكأن أصابعه تمتلك سحرا خاصا بها أغمضت عيناها مسترخية وأحست بتخدير يسري بداخلها فتنهدت مقررة الاستمتاع بهذه اللحظة مؤقتا قبل أن في ظلمات الذكريات حتى سمعته يهمس بأنفاس متثاقلة :
- حاسة نفسك أحسن.
همهمت بإيجاب واستطردت :
- عايزة اسألك سؤال وبتمنى ترد عليا ... انت مسكت الراجل اللي عمل فيا كده صح.
شعرت بلمساته تحتد لكنها ظلت تنتظر الإجابة حتى لفظ نفسه خانقا :
- أيوة مسكته.
- ممكن اعرف انت عملت فيه ايه بالضبط.
- زمانه بيتحاسب دلوقتي.
- مش فاهمة.
- قتلته.
نزلت كلمته كدلو ماء بارد على رأسها واتسعت عيناها بذهول متمنية لو يخبرها بأنه يمزح لكن الجدية التي بصوته جعلتها تتلعثم قائلة :
- انت بتتكلم جد ... قـ ... قتلته.
لاحظ آدم ارتعاشها بين يديه وخوفها الجلي فمط شفته ساخرا منها :
- اومال عايزاني اضيفه عندي مهما كان انتي مراتي وشايلة اسمي مستحيل اسمحله ياخد نفس زيادة طالما أنا لسه بتنفس.
تلألأت مقلتاها بالدموع الحارة وهي تتذكر محاولات ذلك الوغد للإعتداء عليها وفي نفس الوقت أحست بحميّته تدغدغ حواسها وهي تشعر لأول مرة بأنها في أمان حقا رجل مثله يقدم نفسه كدرع بشري كي يحمي نساء عائلته والتي هي واحدة منهن لا شك في أن تكون مطمئنة معه.
أخذت نفسا عميقا وزفرته على مهل وقالت بشرود :
- امبارح انا شوفتك قبل ما يغمى عليا وحسيت للحظة بالراحة وخفت اني اكون بتخيل وجودك كنت حاسة انك الوحيد اللي هتلحقني و اسمك جه ع لساني اول ما حسيت ان خلاص كل حاجة انتهت.
بس مابين النوم واليقظة حسيت بيك وانت شايلني وبتجري فيا تحت المطر حسيت بتعبك ووجع كتفك صوتك كان بيوصلني وساعتها قلبي اتطمن لأنك معايا.
سكتت تبلل حلقها وتلكأت بتردد من قول ما تنوي عليه حتى حسمت أمرها ورددت دفعة واحدة :
- بس الخاطف ده هو نفسه اللي حاول يقتلك كان متفق مع صفوان واتخانقو سوا عشان كده عرفني فورا لما شافني وحاول يعتدي عليا كـ انتقام من عيلتي واسمه مليجي.
- الـواطي ابن الـ***
فلتت شتيمة من فم آدم جعلت وجه نيجار ينكمش منتظرة مشاهدة صدمته وثورته وخافت من أن ينقلب عليها بعدما يعلم بأنه قضى على دليل الإدانة الوحيد بسببها بيد أنه خالف توقعاتها بل وصُعقت عندما رد عليها بثبات :
- أنا عارف.
استدارت له نيجار بذهول فتابع :
- قبل ما مليجي يموت اعترفلي ع أمل اني ارحمه واسيبه عايش عشان اخده وسيلة اثبت بيها جريمة صفوان.
- ومع ذلك انت قتلته !!
- ايوة ومن غير ما يرفلي جفن.
أنهى جملته وانتصب واقفا فلملمت نيجار الغطاء على جسدها مبرطمة بتشتت :
- ازاي و ليه ديه الفرصة جتلك ع طبق من دهب وواحد غيرك كان هيستغلها ... لو صفوان مكانك كان ...
شهقت عندما اقترنت آخر كلمة من جملتها بصوت ركله لرجل السرير بحقد كان من الواضح انه يعافر للسيطرة عليه من اغماضه لعينيه واختزانه للأنفاس قبل أن يقول :
- متحطنيش في خانة واحدة مع ناس معندهمش ذرة رجولة أنا مش زي ابن عمك ولا هكون !
لن يكون بالفعل ! فكرت نيجار بهذا الأمر وهي تجد بأن المقارنة بينهما فاشلة من الأساس فصفوان الذي كانت تعتبره جزءا من روحها لا ينفك يظهر لها كم كانت مخطئة في نظرتها ناحيته أما آدم فهو رجل بحق .... ورجولته موجعة تظهر لها كم كانت ندلة كاِبن عمها حينما خدعته ...
تنهدت مفكرة في شيء ما وتلكأت في الأمر حتى قالت بحزم :
- أنا مستعدة اشهد معاك.
انتبه لها ورفع حاجبه بتعجب فاستطردت موضحة :
- انا عارفة ان مليجي هو الدليل الوحيد عشان تثبت عملة صفوان وعارفة انه نفسك تنتقم منه وتقتله بس انت مضطر تاخد حقك منه بشكل يليق بخليفة العمدة علشان كده هحكي للعمدة كل حاجة بعرفها واقوله اني سمعت الاعتراف بنفسي.
أفلت ضحكة متهكمة من فمه مبرطما :
- لا والله ديه مسرحية جديدة ولا ايه امتى فكرتي فيها ده احنا لسه بنقول يا هادي.
طأطأت نيجار رأسها بذنب متلمسة مدى عدم ثقتها بها :
- انا عارفة انه صعب تصدق حسن نيتي بس متنساش اني اكتر واحدة تضررت باللي حصل عمايل صفوان أذتني أنا المرة ديه وفوق ده كله حطني في موضع الاتهام ساعة ما اتصاوبت.
ده كله في كوم وأنك خاطرت بنفسك وحميتني كوم تاني لو سمحت ديه فرصتي الوحيدة عشان اشكرك وكمان اقدملك اعتذاري ع هروبي من البيت.
وقف يستمع لها بهدوء أيقظ الأمل في داخلها فبتره هو بكلماته الرافضة :
- انسي ... اللي بتفكري فيه ده مش هيحصل.
رفض عرضها سريعا وعاد للسرير يتابع قراءة كتابه أما نيجار فتنهدت بإحباط جسيم بعدما فشلت في محاولتها لمساعدته ولو مرة واحدة ....
__________________
في اليوم التالي.
استيقظ آدم واغتسل مرتديا ملابسه ثم نزل لمائدة الفطور وجلس رفقة حكمت وحليمة نظر من حوله وتساءل :
- ليلى مش هتنزل تفطر ولا ايه ؟
ردت عليه عمته بهدوء :
- صحيت من بدري وقالت انها هتروح للجامعة ع طول وتبقى تاكل هناك.
ظهرت على وجهه ملامح الامتعاض لأنه يعلم جيدا بأن شقيقته تتجنبه بعدما عاملها بقسوة ليلة البارحة وتغلغل شعور الندم بداخله على ما اقترفه فصمم على مصالحتها حينما تعود في المساء ثم تناول بضع لقيمات ونهض لتقابله نيجار عند الباب وهي تمسك بمعطفه طالعها لهنيهة قبل أن يلتقطه ويتمتم :
- ادخلي افطري في المطبخ وبعدين اطلعي ارتاحي في اوضتك ولو ستي كلمتك مترديش عليها أنا مش عايز مشاكل مفهوم.
ردت عليه في خفوت :
- حاضر ... تروح وترجع بالسلامة.
كتمت آخر جملة بداخلها ونفذت ما قاله أما آدم فتوجه للبستان وقابل فاروق ليتناقشا في أمور العمل حتى جاء أحد من العمال وأخبره بأن شخصا يدعى سامح قدم ويريد مقابلته فقال فاروق :
- ع الاغلب ده سامح ابن الحج جمال اللي كان عايز يشتغل معاك.
- اه يمكن هروح واشوفه عايز ايه.
ذهب للشاب الذي كان يقف في الخارج مطالعا البساتين بإنبهار واضح على عينيه وصافحه ودعاه للدخول وبعد أخذ ضيافته أخبره بأنه يود فتح محل لبيع أقمشة الحرير ولم يجد موقعا مناسبا من أجل الكراء أكثر من أرضه التي عليها مخزن صغير لم يستعمله منذ وقت طويل.
وأضاف محاولا إقناعه :
- الأرض بتاعت حضرتك موقعها استراتيجي وعليها إقبال كبير لو غيرنا المخزن لمحل قماش هنقدر نستقطب زباين كتير جدا خاصة أن سمعتك معروفة في القرية وده هيساعدنا.
قطب آدم حاجباه مفكرا في العرض وتمتم بلهجة جادة :
- بس ده مش كفاية عشان تنجح لازم البضاعة يكون بيها جودة بردو ولا انت ايه رأيك.
هز سامح رأسه مجيبا بلهفة وحماس حينما استشعر أنه من الممكن أن يفكر جديا في الموضوع :
- أيوة أكيد وأنا بقالي سنين بشتغل في القاهرة واكتسبت الخبرة والقماش الحرير بستورده من شركات *** بخامة ممتازة مش أي حد بيقدر يلاقيها حضرتك لو تديني موافقة مبدئية وأنا هجيبلك تفاصيل المشروع عشان تفهم أكتر.
مرت عليهما مدة وهما يتناقشان حتى اتفقا على ترك فرصة له للتفكير ثم متابعة تفاصيل المشروع ودراسته وبعد مغادرة سامح وقف آدم على رأس العمال يراقب سير العمل كالعادة حتى غرب اليوم وهنا رن هاتفه بمكالمة من السائق محمد فأجاب عليه :
- ايوة يا محمد انت وصلت ليلى للبيت.
سمع صوت أنفاسه المتوترة فتوجس مرددا :
- مالك في ايه في حاجة حصلت لأختي ؟
وهنا أجابه محمد بكلمات كادت تفقد آدم صوابه :
- انا مش لاقي الهانم الصغيرة يا بيه ... بقالي كام ساعة واقف جمب البوابة ومستنيها تطلع في ميعادها المحدد بس مشوفتهاش ومبتردش على اتصالاتي كمان !!