اخر الروايات

رواية لعنة الخطيئة الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم فاطمة احمد

رواية لعنة الخطيئة الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم فاطمة احمد 

الفصل الرابع والعشرون : اعتراف.
_________________
- انا مش لاقي الهانم الصغيرة يا بيه ... بقالي كام ساعة واقف جمب البوابة ومستنيها تطلع في ميعادها المحدد بس مشوفتهاش ومبتردش على اتصالاتي كمان !!
أحس بلسعة في جسده وهو ينتفض بذهول مبرطما :
- بتقول ايه هي مين ديه اللي مش لاقيها مش المفروض تكونو في البيت دلوقتي.
عاد محمد ينظر لبوابة الجامعة بقلق وأجابه :
- زي ماقولت لحضرتك بقالي كام ساعة واقف هنا ومستنيها قلت يمكن خدت محاضرة زيادة ولا التهت مع صحابها في مكان هنا ولما مظهرتش اتصلت اعرفك.
امتقع وجه آدم بحدة وبدأت قطرات العرق تتشكل على جبينه وهو يستعد لمغادرة البستان بينما يردد :
- انت بتستهبل عليا اختي هتكون روحت ع فين يعني ! روح دور عليها وأنا هجي فورا.
أغلق الخط وطلب رقم شقيقته مرة واثنتان وثلاث لكن النتيجة هي نفسها لا ترد على الإتصالات مهما طال الرنين، اشتد قلق آدم الذي نهش قلبه وبدأ عقله في نسج متخلف الأفكار السيئة قابله فاروق في الطريق وتوجس من هيأته ليشرح له بإيجاز عما حدث وهنا اندهش وتمتم :
- يعني ايه ليلى ضايعة دلوقتي ديه عمرها ما حصلت ممكن تبقى مع واحدة من صحابها ولا رجعت للبيت بدري.
رد عليه مضطربا :
- معرفش هتصل بعمتي دلوقتي واسألها لو كلمتها النهارده ولا لأ بس خلينا نركب العربية الأول عشان نروح ندور عليها.
***
كانت تمشي بإتزان في الشارع الخالي وتضغط على معطفها مستمدة منه بعض الدفء في هذا الجو البارد ورغم أنها كانت تشعر ببعض التوتر إثر خروجها مبكرا من الجامعة وعدم الرد على المكالمات لكن غضبها وضيقها من شقيقها كان أكبر خاصة بعدما فعله البارحة وكيف صرخ عليها بسبب تلك المرأة التي غيرت حياتهم كليا.
تنهدت ليلى بتزمت ونظرت لهاتفها المضيء بإسم آدم يبدو أنه علم من محمد بشأن اختفائها وهاهو يتصل ليطمئن كادت تجيبه لكنها تراجعت في آخر لحظة مفكرة بأنها تريد بعض الخصوصية والراحة بعيدا عن تعقيدات العائلة ومشاكلهم اليومية تود لو تنسى لبضع دقائق طبيعة معيشتها.
ورغم هذا هي خائفة من آدم إنها تعلم نوع شخصيته جيدا وتدرك بأنه عصبي بقدر هدوئه وسوف يغضب منها كثيرا حينما يجدها إلا أنها آثرت التفكير بهذا الشيء فيما بعد ....
غاصت ليلى في الأفكار وفجأة انتبهت لوجود بعض الشبان واقفين على الرصيف ويطالعونها ملقيين ضحكات فيما بينهم لم تكن مريحة البتة.
توجست وأحست بالخوف يتسلل إلى قلبها الذي علت نبضاته فتوقفت مكانها مفكرة في العودة أدراجها ليتضاعف إحساسها حينما وجدتم يقتربون منها، ازدردت لعابها باِرتجاف وتراجعت خطوة للخلف وهنا توقفت سيارة بجانبها وترجل صاحبها برصانة كان شابا مهندما بملامح جادة وقف أمامها فاِنتفضت ليلى مبرطمة :
- انت مين وعايز ايه.
لم يرد عليها ووضع يده في جيب بنطاله مكتفيا بالنظر لها حتى وصل اولئك الفتيان وتجاوزوها باِرتباك بعدما رأوا الفتاة برفقة رجل تبدو عليه القوة وبالطبع لم يريدوا المخاطرة بمضايقتها، زفرت أنفاسها المرتاحة ثم عادت تنظر لهذا الغريب معيدة سؤالها :
- بقولك انت مين وليه جاي لعندي عايز ايه !
تخلى عن صمته أخيرا وأجابها :
- أولا أنا اسمي مراد، ثانيا مكنتيش هتفلتي من قطاع الطرق دول لو مجيتش وقفت قصادك انتي اللي بتعملي ايه هنا لوحدك مش عارفة ان الوقت متأخر والشارع فاضي ممكن تحصلك أي حاجة.
عضت على شفتها بحرج فتفرس فيها من الأعلى للأسفل ثم استطرد بنبرة حملت الإستهزاء :
- اوعى تكوني هربانة من بيت أهلك.
رفعت حاجبها بدهشة ليتابع مراد ببساطة :
- ديه حركات بعض المراهقات اللي في سنك بيبقو عايزين يلفتو نظر الأهل وكده.
جزت ليلى على أسنانها بغيظ من كلامه فهاجمته كشيطانة صغيرة :
- وانت مالك لو سمحت متدخلش في اللي ملكش فيه وعموما شكرا على مساعدتك أنا هعرف اكمل لوحدي.
همهم مراد واحد ببصره للسيارة الآتية من بعيد وقال :
- مش هتعرفي تكملي لوحدك لأن الجندي بتاعك جه وهيستلم المهمة.
لم تتسن لها الفرصة للتفكير في معنى كلماته الغريبة لأنها سمعت صوت احتكاك قوي وراءها فنظرت مباشرة ولمحت محمد يتوقف بالسيارة ويخرج على وجه السرعة هاتفا :
- انتي كنتي ....
قطع جملته حين رآها تقف مع رجل رآه من قبل وبسرعة تذكر أنه نفس الشخص الذي اعترض طريقه قبلا فتصاعد غضبه ووجد نفسه يهجم على مراد ممسكا إياه من ياقة معطفه هادرا بحدة :
- بتعمل ايه هنا وواقف معاها ليه انت عايز تموت ولا ايه بالضبط.
انتفضت ليلى بذعر ورفعت يديها لتفض الإشتباك الذي بدأه محمد وهي تهتف قائلة :
- سيبه انت فاهم غلط الاستاذ ده ساعدني معمليش حاجة وحشة.
- ساعدك ؟
زفر مراد بملل من هذه المسرحية الهابطة فأزاح قبضة الآخر من عليه متمتما :
- اتناقشو بعيد عني أنا عملت اللي عليا وهمشي اهو يلا سلام عليكم.
تركهما وغادر مثلما جاء فوقف محمد ينظر في فراغه بعدم فهم حتى أغمض عيناه كاتما شتيمة بداخلها ثم فتحهما مبرطما بصوت حاد بعض الشيء :
- قبل اي حاجة هتصل بآدم بيه واقوله اني لقيتك.
فزعت ليلى واعترضت محاولة منعه :
- لا بلاش ابيه هيتنرفز عليا ويجي لحد هنا.
لم يعر لطلبها بالا وابتعد عنها بضع خطوات ليطلب رقمه وسمع صوته بعد ثوان :
- نعم يا محمد.
- لقيت الهانم الصغيرة وهي بخير الحمد لله كانت بتتمشى في الشارع برا.
تنهد آدم مخرجا أنفاسه المحبوسة وخفف يده التي كانت تضغط على عجلة القيادة بعدما أوشك على فقدان عقله وتشدق بتجهم :
- انا جاي ليكو مسافة السكة بس، اديهالي عشان اكلمها.
نظر محمد لليلى الواقفة بخوف وتعبث بأصابع يديها ثم تنحنح يخفض صوته ملتمسا :
- ممكن اطلب من حضرتك تسمحلي اوصلها بنفسي للبيت لأن الهانم الصغيرة باين عليها مرعوبة وممكن الوضع يسوء لو كلمتها دلوقتي كمان.
فتح آدم فمه للرفض لكنه توقف فجأة مفكرا بشكل سريع بمدى سداد الفكرة ليتأفف باِقتضاب مردفا :
- تمام ماشي بس مطولوش.
- أمرك يا بيه.
انتهت المكالمة واستدار للآنسة العنيدة التي سألته بترقب :
- ابيه متعصب اوي صح قالك ايه هيجي لهنا مش كده.
هدأها بحركة من يده مطمئنا إياها وهو يخبرها بأنه طلب من شقيقها أن يوصلها بنفسه فزفرت براحة وهي تجلس على طرف الرصيف، طالعها محمد لوهلة قبل أن يدنو منها وهو يقول :
- أخوكي كان قلقان عليكي اوي.
رمقته ليلى باِستهجان معقبة عليه :
- قصدك تقول كان متنرفز ومش طايق نفسه ماهو ع الحال ده من فترة طويلة.
أدرك بأنها تشاجرت مع أخيها وهذا سبب انزعاجها فأردف موضحا :
- لو سمعتي صوته وهو بيسألني ازاي ملقتكيش وروحتي فين مكنتيش هتقولي كده خالص ده فاروق اتصل بيا وقالي ان آدم بيه خايف تكوني اتخطفتي ولا حصلك حاجة وحشة وكان جاي عشان يدور عليكي معانا.
تقلص وجهها بذنب جسيم بعدما بدأت باِستيعاب ما نتج عنه تصرفها فعضت على شفتها وصمتت أما محمد جثى على ركبتيه بجانبها وطالعها قائلا بجدية :
- أنا مش عارف حصل ايه بينك وبين البيه بس اللي متأكد منه انك اكتر واحدة هو بيعزها ده بيخاف عليكي من الهوا نفسه وبيفضل قلقان طول ما انتي برا ومبيهدالوش بال غير لما اقوله انك معايا وقربنا نوصل للبيت.
زاد إحساس ليلى بالذنب وادمعت عيناها متحشرجة :
- أنا عارفة انه بيحبني اوي بس بيبصلي ع اني لسه صغيرة ومبفهمش فكل مرة بيحاول يطلعني من القصص اللي بتحصل معاه ومش هو بس لا كل العيلة شايفاني كده.
هز محمد رأسه بتفهم وهتف :
- وليه متقوليش انه مش عايز يشيلك مسؤولية ولا هموم انتي فاكرة ان كل اللي بيمر ع اخوكي سهل عليه ؟ اذا كان آدم بيه بنفسه بيستصعب حجم المشاكل والمسؤوليات اللي عليه ازاي عايزاه يرضى يحصلك نفس الشي !
- عندك حق، انا غلطت في حقه بس مش عارفة اعمل ايه.
- لو عايزة رأيي هقولك روحي واعتذريله واقعدو مع بعض واتناقشو ع الحاجات اللي مختلفين فيها ساعتها هتقدرو تفهمو بعض اكتر ومتتخانقوش تاني.
أجاب عليها برصانة فرفعت ليلى عيناها ووجهتها لوجهه مطالعة إياه، كان كعادته ذو وجه صلب لا تُقرأ دواخله لكن هذه أول مرة يتحدثان فيها مطولا وبالفعل أفادها كثيرا وجعلها تشعر بما غفلت عنه لم تكن تعلم بأن هذا السائق الغامض يمتلك مقدرة على الإقناع والمواساة أيضا فلطالما رأته كجماد وظيفته تنفيذ أوامر شقيقها بشكل آلي.
أما هو فلأول مرة يسمح لعينيه بتأمل وجهها اللطيف والإذعان لصوتها من دون أن يتجاهل محاولاتها لفتح حديث معه لأنه كان هو من بادر بالكلام هذه المرة لذا ابتسم محمد متأملا إياها حتى استفاق وعاد للواقع فنهض وأشاح وجهه عنها مبرطما :
- الوقت متأخر اتفضلي اركبي عشان اوصلك.
________________
تمطعت على الكرسي الهزاز وهي تحرك قدماها بسأم تملكها لأنها لم تغادر الغرفة منذ ساعات بسبب حكمت التي لا تنفك تلقي عليها كلمات سامة كي تنغص معيشتها وكأن حياتها سعيدة بما يكفي لتأتِ العجوز وتكمل عليها !
خاصة حينما سمعت جلبة في الخارج منذ فترة قصيرة وكلمات متداخلة مفادها بأن ليلى ضائعة وقتها قلقت وخرجت لتفهم ما حدث فرأتها حكمت وكادت تتهجم عليها وهي تتهمها بأنها السبب لولا أن آدم وصل وأخبرها بحزم أن السائق قد وجد شقيقتها ولا داعي لإحداث ضوضاء أخرى هم في غنى عنها ...
أفاقت من شرودها على دخول آدم فاِنتصبت واقفة وسألته بلهفة :
- اختك جت ؟
لم يجب عليها واتخذ موقف الصامت فاِستدركت قائلة :
- أنا سمعت انكم اتخانقتو امبارح بليل بعد ما صفوان مشي وانا طلعت للاوضة بعتذر منك مكنتش عايزة ده يحصل.
تنهد مهمهما بفتور وهنا طرق الباب وسمعت صوت أم محمود تخبره من الخارج بوصول ليلى وصعودها إلى الغرفة انتفض آدم بتأهب ونهب الأرض بخطواتها ليخرج فأوقفته نيجار على حين غرة مرددة :
- لو سمحت متقساش عليها اختك لسه مش متقبلة انكم خبيتو عليها حاجات مهمة وطبيعي تكرهني وتعمل التصرفات ديه.
انتظر برهة قبل أن يحيد لها بنصف التفاتة مغمغما بصلابة :
- وفري كلامك لنفسك أنا مش محتاج نصايحك عشان اعرف ازاي اتعامل مع اختي.
فتح الباب وصفقه خلفه بقوة فنظرت إلى أثره وزمت شفتها متمتمة باِمتعاض :
- انا مقصدتش ابينلك انك مبتعرفش تتعامل معاها بس حاسة بالذنب مش اكتر.
تلكأت بتململ لثوان محاولة التغلب على الفضول الذي بداخلها لكنها فشلت فحسمت أمرها وخرجت سريعا لفت انظارها في المكان من حولها ووجدته فارغا وابتسمت بظفر لتتجه للغرفة الأخرى وتقف بجوار الباب المفتوح قليلا محاولة الاستماع للحوار بينهما ...
*** داخل الغرفة كانت ليلى تجلس على طرف سريرها بإرتباك وحرج على عكس ظنها فإن جدتها استقبلتها بهدوء أو هذا ما اضطرت على فعله لأنها رأت نظراتها الحادة المتوعدة وأوشكت على فتح فمها لكن العمة حليمة وهي تطلب منها الصعود للأعلى.
دلف آدم ووقف يحدق بها في جمود حتى اقترب وجلس بجوارها مرددا :
- انتي عارفة انا حسيت ب ايه ساعة ما اتصل بيا محمد وقالي انك مختفية مستوعبة كمية المخاوف اللي عشتها في اللحظات القصيرة ديه وانا بتخيل ان في حاجة وحشة حصلتلك ولا حد أذاكي وأنا مش قادر اوصلك.
أغمضت عيناها بقوة وزاد عبثها بأصابعها ليمد آدم يده ويرفع رأسها مستطردا بنبرة هادئة :
- ايه مش هتردي عليا كمان عشان لسه واخدة مني موقف.
تلعثمت هذه الأخيرة في الجواب وأخرجت حروفا خافتة متقطعة :
- أنا خايفة ... ومكسوفة منك.
لم تسمع رده فاستجمعت شجاعتها ونظرت اليه لتهالها تقاسيم وجهه المتجهمة وتردف :
- عارفة ان اللي عملته تصرف صبياني بس انا كنت مضايقة وزعلانة نفسي صعبت عليا اوي لما حسيت اني برا دايرة اهتمامك في الأول خبيتو عليا ان البنت اللي اتجوزتها عندك ماضي وحش معاها وبعدين لقيت انها كل يوم بتعملنا مشكلة جديدة وحضرتك بتتعذب وانت بتفكر في حلول لمصايبها بس اول ما بعترض بتقومو تسكتوني حسيت اني مليش لازمة خاصة بعد ما زعقتلي امبارح وانت عمرك ما عملتها من قبل.
ألقت كل مابجعبتها دفعة واحدة وصمتت فساد السكون بينهما لفترة قصيرة قبل أن يتنحنح وهتف مرددا :
- أولا انتي طول عمرك من أولوياتي وعمرك ما هتبقي برا الدايرة ديه مهما حصل وثانيا احنا اتناقشنا في موضوع نيجار قبل كده وفهمتك اني مكنتش عايز اقولك ع اللي حصل مابيننا عشان متحسيش بالضغط لما تلاقيها في وشك كل يوم والدليل اهو بنفسك شوفي ردة الفعل بتاعتك بعد ما عرفتي.
هو انتي فاكرة ان اللي بيحصل ده بمزاجي ولا ببقى مبسوط اوي وانا بتعامل مع عيلة الشرقاوي لا أبدا انا اكتر شخص بيتمنى تنقطع علاقته معاهم بس مبقدرش وضعي حاليا مبيسمحليش لازم عليا اتعامل بهدوء وبعقل علشان اقدر اوصل للي بخططله من زمان وللسبب ده هتلاقيني مبتهورش ولا بعمل خطوة من غير حساب لأنها هتكلفنا كتير.
- كلامك صحيح، بعتذر منك يا ابيه لاني حملتك طاقة فوق طاقتك وكمان عشان كلمتك بوقاحة امبارح والله مكنتش بقصد حضرتك بتعرف اني بحبك وبحترمك جدا بس غلطت وكنت بستاهل تتعصب عليا.
أطرقت بحرج متابعة :
- زمانك بتستنكر عملتي وبتقول ازاي اختي تتصرف بالطريقة الطفولية ديه هتفهم موقفك حتى لو قولتلي انك محروج مني ومستاهلش اكون اختك.
رفع آدم حاجباه معقبا ببساطة :
- وانحرج منك ليه يا ليلى مين فهمك انك لازم تكوني بشكل محدد عشان تستاهلي تبقي اختي ولا ضروري تتبعي شروط علشان افتخر بيكي ... حبيبتي حطي في بالك انك هتكوني اختي فكل الاحوال علاقتنا اكبر من المشاكل الصغيرة اللي بتحصل ديه وبوعدك من النهارده احطك في الصورة ومعملش تصرف يحسسك اني مش مهتم بيكي ماشي ؟
ابتسمت ليلى واشرق وجهها لتلقي رأسها على صدره وتحطيه هاتفة :
- أنا بحبك اوي يا ابيه ربنا يخليك ليا.
بادلها الابتسامة ومسد شعرها معقبا :
- ويخليكي ليا.
من خلف هذا المشهد وقفت نيجار تراقبهما بلوعة ولم يسعها سوى تحرك مشاعرها بعاطفية وهي تشاهد حنيته على أخته وتقديره لمشاعرها رغم أنه كان غاضبا منها.
جاء ليوبخها لكنه حينما لاحظ خوفها رقَّت عيناه ولم يجرحها بكلمة واحدة، أخبرها بأنها ستبقى أخته في كل الأحوال ولم يحدد لها شروطا حتى تكون لائقة به شتان بينه وبين صفوان الذي لطالما قيدها بواجبات والتزامات حتى تصبح جديرة بلقب العائلة !!
تلألأت عيناها بدموع لاذعة رفضت إنزالها وعادت بخطوات متهدلة لغرفتها وبعد دقائق ولج آدم فقابلته ببسمة :
- ايه خلصت بسرعة.
طالعها بغموض ثم اقترب منها ووضع غرضا بيدها مرددا :
- خدي ده وقعتيه عند الباب وانتي بتلمعي الأوكر.
نظرت نيجار لمشبك الشعر الذي وقع منها دون انتباه أثناء استراقها السمع للمحادثة وأدركت بأن بأنه كشف تنصتها عليه فحمحمت بحرج بينما يتابع بيأس :
- مبتبطليش عوايدك حتى وانتي تعبانة.
همهمت معترضة بتذمر خفيف:
- على فكرة أنا كنت قلقانة عشان أنا السبب في اللي حصل بينك وبين أختك ومحبيتش تتخانقو بسببي عارفة ان ليلى بقت تكرهني زي بقية العيلة وبتلومك عشان خبيتو عليها طبيعة علاقتنا مع بعض ... خفت علاقتكم تتأثر بسببي.
عقب عليها آدم بجدية :
- مفيش حد بيقدر يأثر على علاقتي مع اختي.
همهمت نيجار موافقة إياه بصوت تهدج وأثقل بالعاطفة :
- عارفة ... ده لأنك أخ كويس اوي.
ساد دقيقة صمت بينهما قطعها صوت طرق الباب ثم الخادمة تخبره بأن مائدة العشاء جاهزة فنهض واستدرك متسائلا :
- انتي اتعشيتي ؟
حكت شعرها بتشتت وادعت الضحك بينما تجيبه :
- أنا حاسة مليش نفس للأكل عايزة أنام بس.
تطلع لها آدم وأدرك بأنها لا تود الخروج خوفا من أن تقابل جدته وتقرعها بالاتهامات الغاضبة كالعادة فأردف بحزم :
- مينفعش كده لازم تاكلي عشان تاخدي علاجك وتتحسني.
- خايف عليا ؟
- ده بيت الصاوي عيب في حقي انه ينام حد تحت سقف البيت ده وهو جعان يلا انزلي قدامي.
أماءت بإيجاب ونزلت معه وبمجرد أن صادفتها حكمت رمقتها باِستهجان متسائلة :
- ع فين يا ست الحسن نسيتي ان وظيفتك تقفي تشوفي طلباتنا على ما نخلص الوكل وتنظفي المكان وبعديها تروحي تطفحي.
أخذت نفسا عميقا كاتمة ضيقها ثم زفرته على مهل وردت ببراءة مصطنعة :
- لا منستش بس آدم أمرني اتعشا الاول عشان اخد العلاج لكن مش عارفة لو لازم اسمع كلام حضرتك لأنك ست البيت ده ولا اسمع كلام جوزي.
ثم التفت له مردفة بخفوت وهي تسبل عينيها :
- انت ايه رايك.
رفع حاجبه متأملا دور الفتاة المطيعة التي تلعبه كلما أرادت استفزاز جدته وهتف بتحذير :
- احنا هنعرف ندبر حالنا يلا شوفي كنتي رايحة فين.
- حاضر.
مشت بخطوات متمايلة نحو المطبخ فتابعت حكمت أثرها بسخط حتى اختفت وهمست :
- حرباية.
أثناء تناول الطعام جاء فاروق الذي اتصل به آدم وأخبره بأن يأتِ هذه الليلة ليناقشا المشروع المعروض من طرف ابن أحد التجار فقال له هذا الأخير :
- مستعجل كده ليه يلا تعالى كل معانا ونبقى نتكلم في الشغل بعدين.
ابتسم باِمتنان مجيبا :
- شكرا لحضرتك انا كلت مع الحجة ومحمد قبل ما اجي.
لم ينتبه أحد للرعشة الخفيفة التي أصابت ليلى عند ذكر اسمه بينما نهض آدم وصعد معه للطابق العلوي يتناقشان في اذا ما وجب عليه قبول مشروع محل القماش أم لا وتوصلا إلى أنهما سيستشيران خبراء في المجال حتى يضمنا النجاح وعند الانتهاء من الحديث حول العمل زفر آدم بإرهلق معيدا ظهره إلى الخلف ليطالعه الآخر معلقا :
- اظاهر انك تعبت اوي النهارده.
- جدا حاسس ظهري متكسر وكتفي لسه بيوجعني.
- طبيعي لأنك مبتريحهاش ولا بتسيب لنفسك فرصة عشان تخف مرة بتضرب صفوان اللي بيتهجم ع بيتك ... ومرة بتشيل مراتك من الغابة لحد المشفى وياريت استفدت حاجة ده انت قضيت على الدليل الوحيد ضد ابن الشرقاوي.
رمقه بطرف عينه زاجرا إياه باِقتضاب :
- سبق واتكلمنا في الموضوع أنا مكنتش هسيب الندل ده عايش مهما قدملي وبعدين انا اعتبرته انتقامي لأني قتلت الراجل اللي حاول يخلص عليا يعني خدت بتاري منه ومش ندمان ع حاجة.
سكت قليلا شاردا في أمر ما ثم اعتدل في جلسته مستدركا بوجوم :
- أنا بفكر في حاجة تانية دلوقتي ... وجود نيجار بقى بيعملي مشاكل كتير في البيت مش ملحق لا على ستي ولا ع اختي الاتنين فاكرين اني متساهل معاها.
- وهو انت بجد متساهل معاها.
- حكمت هانم عايزاني اصبحها وامسيها بعلقة واذلها واخليها تعيط كل يوم وليلى عايزاني اطردها ونيجار مرة بتسكت ومرة بترد ع الكلمة بكلمتين وأنا بقى واقف بينهم ... كرهي وحقدي عليها كبار بس مع ذلك مبقدرش اعمل اللي هما عايزينه مني مش عارف ليه.
افترت شفتي فاروق عن ابتسامة خفيفة وهو يرد على تساؤله :
- الإجابة سهلة ... مش قادر تعمل اللي بتطلبه ستك لأنك مش كده ببساطة.
قطب حاجباه ناظرا له بحيرة ليوضح له الآخر بجدية :
- انت راجل كويس ومعدنك نظيف ومهما حاولت مش هتقدر تنزل مستواك وتتعامل بعكس أخلاقك وده مش ضعف ولا عجز لأ هو مبدأ اتربيت عليه ومستحيل يتغير.
بالمناسبة انت من يومين خاطرت بنفسك وروحت في نصاص الليالي بتدور ع مراتك في الغابة بعد ما شكيت انها اتخطفت ولحقتها وخدتها تتعالج وعماله تقولي انك اتصرفت كده لانها مكتوبة ع اسمك بس انا بقولك ان حتى لو نيجار مش مراتك وحتى لو محبتهاش من قبل ومعرفتهاش غير عدوة كنت هتعمل نفس التصرف وتخاطر بحياتك عشان تساعدها.
استمع له بروية مركزا في كل حرف حتى أردف :
- يعني بتقول مش هستفيد فكل الأحوال.
- اللي بقوله انه وجودها معاك بقى بيضرك انت اكتر ماهو بيضرها هي بتستنزف طاقتك وصبرك أنا من رأيي تحرر نفسك من العلاقة ديه وتخلص.
تشدق بحزم ليعقد آدم حاجباه بحيرة شتتها فاروق وهو يردف :
- مش مضطر تستنى لحد ما تبقى العمدة علشان تعمل اللي انت عايزه بتقدر تطلقها اول ما تثبت ان ابن عمها ورا محاولة الاغتيال ومحدش هيلومك.
- اطلقها ببساطة من غير ما تتحاسب ع أفعالها صح.
- مين قال ان بنت الشرقاوي متحاسبتش حكمت هانم مقصرتش معاها والقدر عاقبها بشكل مضاعف عيلتها اتخلت عنها ورمتها في وسط النار وبسبب تهورها كانت هتخسر نفسها معتقدش في انتقام أقسى من ده كفاية أنها خسرتك وعمرها ما هتلاقي راجل زيك.
ردد فاروق بمنطقية فذة جعلت آدم يغير ظنونه ويرى الأمر بوجهة مختلفة وبتحليل كلامه وجد أن رفيقه محق في كل كلمة قالها ... ربما آن الأوان للتخلص من علاقة سامة لم تجلب له سوى المشاكل.
_________________
أرخت وجنتها على كف يدها تسند مرفقها على المائدة الصغيرة في المطبخ وتعبث ببقايا الطعام حتى قطع خلوتها مجيء آخر شخص تتوقعه فتركت نيجار ما بيدها على الفور وانتصبت واقفة وهي تتلعثم باِرتباك ممزوج بالحرج :
- حليمة هانم.
حدجتها بهدوء وجلست على الكرسي مشيرة لها بيدها :
- واقفة ليه اقعدي.
عادت لمكانها مستشعرة تطاير الشحنات السلبية في الأجواء لكنها التزمت بالصمت ريثما تقول حليمة :
- انا لسه جاية امبارح بس واللي حصل من ساعتها معلوم مجتش فرصة نتكلم مع بعض غير دلوقتي ... ساكتة ليه مكسوفة ؟ على حسب ما سمعت عنك فـ انتي مش من النوع الخايف اللي بيتكسف من أقل حاجة.
- أنا ... مش مكسوفة بس متفاجأة.
بالكاد استطاعت نيجار تحرير هذه الكلمات من فمها وهي تعيد خصلات شعرها للخلف بيدها المرتجفة متسائلة بداخلها عما جلب عمة آدم إليها لابد أنها تعلم بكافة التفاصيل وجاءت من أجل تقريعها ورشقها بأحاديث لاذعة مثل غيرها ماذا تفعل هل تجلس وتسمعها أم تنهض متجاهلة إياها.
بيد أن أفكارها توقفت مؤقتا حينما نطقت العمة وهي تطالعها بنظرات تقييمية :
- طلعتي انتي نيجار اللي ابن أخويا كان بيحبها بس غدرت بيه عشان تاخد كام سبيكة دهب ووصلته للموت بخنجر مسموم.
امتقع وجهها بذنب وهمست :
- مكنتش عايزة الأمور توصل لكده أنا بس كان هدفي ...
زفرت بسأم ورفعت رأسها تقابلها بسؤال مباشر :
- حضرتك أكيد عارفة بالتفاصيل اللي مببقاش فخورة بنفسي وانا بتكلم عنها لو عايزة تهينيني اتفضلي وقوليلي قد ايه أنا واحدة غدارة ومليش أمان.
توقعت نيجار أن تنفذ طلبها بكل سرور لكنها تفاجأت حينما وجدت حليمة تضحك بخفوت مرددة :
- طلعتي جريئة كمان حلو اوي أساسا مكنتش متوقعة من آدم يحب واحدة بمواصفات غير ديه.
على كل حال ايوة أنا عارفة بكل التفاصيل بس اللي مش فاهماه هو ازاي بنت بعقلها الكامل ترمي نفسها في لعبة زي ديه وتخاطر بسلامتها علشان عيلة عملتها كبش فداء ومسألتش عنها يعني لما ببصلك بشوفك ذكية وداهية اومال ليه عملتي في نفسك وفي ابن أخويا كده.
شحب وجهها على حين غرة وأحست بالذل وكأنها تقف عارية في الشارع فبللت شفتها السفلية مفكرة في رد مناسب تقوله إلا أن حليمة لم تمنحها الفرصة وهي تنهض لتقول قبل خروجها :
- آدم ده سيد الرجالة وياما عايلات كبيرة اتمنت تناسبنا عشانه بس انتي ضيعتيه من إيديكي بكل بساطة وياريت النتيجة بتستاهل اهي وقعت في ايد حكمت وخسرتي حب كان هيعيشك ملكة زمانك.
وغادرت بكل بساطة، مخلفة وراءها جسدا هامدا بحقيقة صادمة، ودموع حارقة نزلت كاللهب على وجهها ...
*** بعد مدة دخل كل شخص إلى غرفته و اندس آدم في فراشه ليغرق في نوم عميق اثر اليوم المتعب الذي مر به وبينما هو يستلقي على جانبه اعتدلت نيجار في جلستها وبدأت عيناها تسافران على طول تقاسيم وجهه الصلبة بلا استثناء ترتاحان كل مرة عند محطة إلى أن استقرتا على جزء محدد من جسده، خاصرته التي طعنتها من قبل بالخنجر !
بهت وجهها واحتكمت غصة مؤلمة قلبها فتأوهت وهي تضغط عليه متذكرة كل ما عاشاه قبلا، وكل ما عاشاه بعد زواجهما ...
قسوته وحنانه، صلابته ولينه، غضبه وهدوؤه، لطالما كان رجل التناقضات بالنسبة لها يقرعها بكلمات متهمة جارحة تظهر لها مدى حقارتها ثم يطفئ حرقة الجرح بيده التي تداويها، يوضح لها مستوى شره عند الكره ورغبته في الانتقام حتى تظن بأنه خالٍ من الرحمة ثم يصدمها بتعامله الرحيم مع عائلته والمساكين المحتاجين ...
يخبرها كم أنه يكرهها ويعاقبها على ظلمها لكنه لا يحتمل أن تتعرض للظلم بحيث يعيد اليها ذكريات والديها ويخرجها من الغرفة المظلمة حين اغمي عليها ويواجه المخاطر وهو ينقذها ويداوي كدماتها ويجبرها على الأكل لكي تتحسن صحتها، ليس لأنها المرأة التي كان يحبها في السابق، بل يحميها فقط لأنها انسانة ولأنها امرأة تحمل اسمه !!
تنهدت نيجار وقد غرقت حدقتاها بغشاوة الدموع، واضطرب نبضها وتضخم الهوى في قلبها بشكل مؤذٍ وهي تهمس أخيرا بلذة الاعتراف :
- أنا وقعت في حبه !
تحررت منها دمعة، فأخرى، فسيل من الدموع مبرطمة بتحشرج :
- أنا حبيتك ... حبيتك يا آدم.
_________________



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close