اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم منال سالم


الفصل الثالث والعشرون
(الشرف)
أعطاه محاميه المخضرم، أثناء فترة تواجده بالعاصمة المصرية، الفتوى اللازمة لحالة الطلاق الخاصة بوضعه، وجاءت بأن طلاق عاقر الخمر لا يقع عند بعض جمهور العلماء، لكونه في غير وعيه، ومع ذلك أصر على إتمام إجراءات الانفصـــال بشكلٍ رسمي ليقطع عليها الطريق للعودة إلى عصمته. أتى قراره المفاجئ بعد لقائه غير المرتب بهذه الحسناء الثرية ابنة شريك العمل الجديد. استحضر في ذهنه كيف جرت تفاصيله، وكأنها حدثت بالأمس.
تغنجت شابة ظهرت من العدم، وكأن السماء لفظت إحدى حورياتها الفاتنات، لتمشي في تفاخر ودلال، بثوبها القصير الأزرق المتطاير أطرافه مع نسمات الهواء، تلقائيًا تعلقت أنظاره بها، فبدا وكأنه لم يعد يرى سواها، أسرت عيناه، وجعلته غير قادر على إبعادهما عن طلتها البهية، خفق قلبه خفقة عجيبة موترة عندما وجدها تدنو من المائدة الجالس عليها بصحبة والده وضيوفه، انقلبت سحنته للعبوس وهي تنحني في رقة نحو السيد "شوقي" بعدما حاوطته من كتفيه لتطبع قبلة رقيقة على وجنته وهي تسأله:
-لسه مخلصتش؟
شعر وكأن موجة من نيران الغيرة تضرب داخله، اجتهد لئلا يظهر تأثير ذلك عليه، وكيف يحدث له هذا وهو يلقاها للمرة الأولى؟ تركز سمعه مع ضيفه الذي خاطبها بمحبةٍ ضاعفت من إحساسه بالحق:
-شوية وهكون معاكي يا حبيبتي.
نظرة خاطفة سددتها الشابة نحو "مهاب" ليشعر بتبدل عالمه الرتيب لآخر غريب ومقلق. ودعته الشابة المتدللة في نعومة تليق بها بعدما نفضت شعرها الفاحم المسترسل في الهواء ليغمره كوشاحٍ من الحرير:
-أوكي، سلام.
بالكاد تمكن "مهاب" من إبعاد ناظريه عنها بعدما اختفت عن الأنظار، ثم أجلى أحبال صوته، وتساءل في صوتٍ شبه متحفز وخشن:
-مين دي يا "شوقي" باشا؟
أجابه في زهوٍ وهو يرمقه بهذه النظرة الغامضة:
-دي بنتي الوحيدة "ناريمان".
أثلجت الحقيقة صدره، وجعلت هذه التشنجات التي انعكست على ملامحه تختفي دفعة واحدة، استحثه فضوله على التعليق بنزقٍ:
-أنا أول مرة أشوفها!
أخبره كنوعٍ من التصريح:
-هي طول عمرها عايشة مع والدتها برا، وبتنزل في الأجازات عندي، بس حقيقي هي مربياها على الأصول والتقاليد الملكية.
جاء تعقيبه مصحوبًا بابتسامةٍ متشوقة:
-واضح عليها فعلًا.
تابع "شوقي" كلامه مؤكدًا في تلميحٍ متوارٍ:
-وكل العز اللي أنا فيه هسيبه ليها، بحيث ماتحتاجش لحاجة من بعدي.
هنا تساءل "مهاب" في شيءٍ من الاندفاع:
-هي مش مخطوبة؟
حينئذ نظر له "فؤاد" بنظرة صارمة، وكأنه يحذره من إفساد مسألة الشراكة بالخوض في نزوة لاهية، ومع ذلك لم ينطق بكلمة، بينما استمر "شوقي" في الحديث، فأضاف:
-"ناريمان" آخر حاجة بتفكر فيها الخطوبة أو الجواز...
ثم أطلق ضحكة مصطنعة قبل أن يتابع:
-وبصراحة كده أنا اللي مشجعها على ده، مش لاقي الشخص المناسب اللي يستاهلها، فسايبها تعيش حياتها بالطول وبالعرض.
استغل "مهاب" الفرصة ليعقب بمكرٍ يجيده:
-هي زي الأميرات، تستاهل الأفضل، ومش أي حد
وصل إليه مدلوله العابث، فحذره:
-إنت هتعاكس بنتي قصادي ولا إيه يا "مهاب"؟
في التو استعمل أسلوبه المتمرس الخبير، وقال ممازحًا:
-مقدرش يا فندم، وبعدين "فؤاد" باشا يــــقطع رقبتي!
قهقه "شوقي" ضاحكًا على ما اعتبرها طرفة، في حين استمر "مهاب" في كلامه باسمًا:
-في المسائل دي مابيتساهلش!
حمحم "فؤاد" مستطردًا:
-خلونا نرجع للشغل تاني.
.........................................
لحظات واستفاق "مهاب" من الذكرى غير البعيدة عنه وقد لاحت ابتسامة راقية على وجهه، سرعان ما تدارك وجودها، وأخفاها ببراعة وراء ملامح الجدية، ليخاطب رفيقه مشددًا:
-أنا مش عاوز شوشرة في الحكاية دي، ماتنساش أنا ليا لي سمعتي هنا.
ضحك "ممدوح" هازئًا، وقال بشفاه ملتوية، كأنما يسخر منه:
-طبعًا، وأنا سيد من يداري عليك.
ترك "مهاب" كأسه مؤكدًا في صوتٍ هادئ:
-وزي ما وعدتك، هظبطك.
رد عليه مظهرًا عدم ممانعته:
-اتفقنا.
نهض من جواره، وتحرك بعدئذ تجاه باب غرفة مكتبه، ليدير برأسه قائلًا:
-هسيبك تكمل كاسك، وهطلع أبلغ المدام بالقرار.
أشار له بكأسه هاتفًا ببرودٍ مستمتع:
-خد راحتك.
اختفى "مهاب"، وبقيت نظرات "ممدوح" على أثره، ليقول باسترخاءٍ شديد، وهو يفرد ذراعه على حافة الأريكة، متمتعًا بالدور الجديد الذي مُنح له:
-ما أنا بقيت في بيتي خلاص!
..............................................
ظلت تعتصر كفيها معًا وهي تدور حول نفسها في عدد غير معلومٍ من الدوائر المفرغة، لا تعرف ما الذي يخبئه المجهول لها؟ فزوجها لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. انتفضت "تهاني" فزعة كليًا حين فُتح الباب فجأة، بالكاد أطبقت على شفتيها لتمنع نفسها من الصراخ حين رأته يلج للداخل. نظر لها "مهاب" شزرًا، واستطرد ممهدًا لحديثه بتحذيرٍ:
-لاقيت حل لمشكلتنا، بس مش عاوز اعتراض.
دون تفكير انطلق لسانها يخبره وهي تهز رأسها بإيماءاتٍ موافقة:
-أنا جاهزة لأي حاجة، طالما مش هبعد عن ابني.
ظل يتفرس وجهها مليًا، ليخبرها على مهلٍ، كأنما يراقب ردة فعلها:
-إنتي.. هتتجوزي "ممدوح"!
برزت عيناها، واتسعتا في صدمة كبيرة، قبل أن تردد بصوتٍ ذاهل، وملامح أكثر اندهاشًا:
-إيه؟ "ممدوح" مين؟
ابتسم في سخطٍ، وعلق بتهكمٍ:
-هو في غيره، صاحبي!
انقبض قلبها بقوةٍ، كما شعرت بالخدر يصيب تفكيرها، فراحت تردد بلا استيعابٍ:
-إزاي الكلام ده؟ معقولة، أنا وآ...
رفضت تقبل الفكرة برمتها، وصاحت مستنكرة لجوئه لهذا الأمر:
-لأ ما ينفعش!! استحالة طبعًا!!
زفر الهواء عاليًا، وقال بتصميمٍ:
-مافيش قدامي إلا هو، عشان أعرف أردك من تاني.
سلطت نظراتها المستهجنة عليه، وخاطبته في عتابٍ مصدوم:
-"مهاب".. إزاي تقبل بكده؟
قال بهدوءٍ:
-فترة بسيطة لحد ما نرجع لوضعنا.
مجددًا اعترضت بعنادٍ على اقتراحه الصادم:
-بس آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها مستخدمًا لهجة الإنذار:
-أنا قولت مش عاوز اعتراض، وإلا إنتي عارفة النهاية.
أولاها ظهره وتركها في الغرفة تتخبط في أفكارها، فانهارت جالسة على أقرب مقعد متسائلة في غير تصديقٍ، وبتحيرٍ مشوب بالخوف والارتياع:
-طب تيجي إزاي؟!!
.................................................
زادته همًا على هم بعدما ملأت رأسه، وعبأتها بكلامها المسموم عن زوجة شقيقه، تلك التي أفسدت الود بين أفراد العائلة، وزرعت القطيعة والخصام بين الأرحام، فما كان منه إلا أن استجاب بعد وسوسةٍ وإلحاح لخطتها الجهنمية لتخليص شقيقه المسكين ممن اعتبرتها الأفعى الخبيثة. هبط "بدري" من الحافلة التي قطعت مسافة طويلة من بلدته ليصل إلى حيث يقطن شقيقه، وحديث والدته يرن في أذنه:
-هي اللي بوظت حياتنا، وجابت لنا النحس والهم.
آنئذ رد عليها متعللًا:
-بس يامه هما اللي استغنوا عن خدماتي وآ...
قاطعته في حدةٍ:
-وده حصل إزاي؟ ما هو بسببها يا ضنايا!!
نظر لها وهو مقطب الجبين، فأكملت على نفس النهج اللئيم:
-ناس حبايبي قالولي إنها عملتلك عمل تخرب به حياتك، وتخسرك كل حاجة.
سألته في خبث لتضمن ملء نفسه بالمزيد من الكراهية والأحقاد تجاهها، فتضمن بذلك انصياعه التام لها:
-قولي إنت شوفت من إمتى الراحة والهنا من بعد معرفتها الشوم؟!!!
تحديث إليه في غير رأفةٍ:
-لو سمعت كلامي، ونفذته بالحرف، صدقني هنرتاح كلنا منها، والدنيا هترجع تضحكلك.
قال بترددٍ:
-بس ده حرام، وآ...
أسكتته بصياحها:
-وحلال اللي إنت فيه ده؟ لا شغلة ولا مشغلة، ولا جواز، ولا عيال، ولا أي نصيبة خالص!!
لاذ بالصمت مجبرًا، فاستمرت في إحراقه بنيران كلامها:
-وأخوك عمره ما هيسمع كلامي، هيركبها علينا كلنا ويدلدلها فوق رقابنا، بكرة نلاقيها جاية واخدة اللي فاضلنا من ملكنا، وتقعد وتتربع!
عكست تعابيره حينها شرًا متعاظمًا، فابتسمت وهي تزيد من وسوستها الخبيثة إليه:
-اعمل بس اللي قولتلك عليه، وأنا في ضهرك، مش هسيبك
عاد إلى واقعه وهو يسرع في خطواته ليعبر الطريق، استجاب لما دعته إليه والدته، وشرع في تنفيذ ما أملته عليه، كان يعلم جيدًا أن شقيقه لا يتواجد نهارًا ببيته، وينشغل بالعمل ويتشاغل بالبحث عن مصادر الرزق، لذا كانت هذه فرصته المناسبة للذهاب إلى زوجته، والانفراد بها، ليقوم بالجزء الأخطر، ألا وهو تلويث سمعتها بالأكاذيب الباطلة المتعلقة بالشرف والعرض، فيظن أنها قد قامت باستدعائه في الخفاء لتستمر معه في علاقتها غير الشريفة به، فينهي زيجتهما للأبد، غير مكترث بالضرر الذي قد يلحق بها ويدمرها كليًا.
لحظة غادرة لم ينتبه فيها إلى أين يضع قدمه، خاصة مع الزحام الشديد، فتجمد في موضعه عندما رأى هذه الشاحنة الضخمة تقترب منه، استوعب الخطر وتداركه، وحاول تفادي سائقها الأرعن، كاد أن ينجح في النجاة ببدنه، لولا أن لحقت سيارة أخرى به لم يرها مطلقًا، وكأن القدر قد أعمى بصره، فصدمته في قســـاوة، ودهست ساقيه، لينطرح على الأسفلت القاسي وهو ينزف دمًا غزيرًا، وصوت صراخه يجلجل في الأنحاء.
........................................
بعد أن وصلت إليه الأخبار السيئة، اصطحب زوجته، واتجه في الحال إلى المشفى شبه الاستثماري ليتفقد أحوال شقيقه الأصغر، اعتصر الألم قلبه، وبكاه بكاءً مريرًا، خاصة حينما علم بسوء وضعه الصحي. انزوى "عوض" في ركنٍ من ردهة المشفى، وجلس القرفصاء، ثم رفع وجهه المهموم للسماء، ليتضرع إلى المولى بكل أمل ورجاء أن ينظر إليه بعين الرحمة، وينجيه مما هو فيه. تأملته "فردوس" بإشفاقٍ، كانت تشاركه حزنه، وألمه، وربما أكثر من ذلك بقليل، فلم تنسَ أنه أول شخص يخفق فؤادها إليه، وإن تسبب في تهشيم روحها، وإيذائها نفسيًا؛ لكنها كانت على استعدادٍ كامل لمسامحته والعفو عما ارتكبه في حقها، من أجل أن تراه بخير.
نهضت واقفة عندما جاءت إحدى الممرضات تسأل عن أقارب المصاب، نادت في الحال على زوجها بصوتٍ مرتفع ومذعور:
-تعالى يا "عوض"، الدكتور عاوزك.
استعان زوجها بمرفقيه ليستند على الحائط، ويقوم واقفًا، كانت قدماه لا تسعفاه ليسير، فتعثر في مشيه المتخبط إلى أن بلغها، فسألها بنبرته اللاهثة:
-أخويا كويس؟
ردت عليه بحذرٍ، ووجهه يظهر تعبيرًا رسميًا عليه:
-اطمن، احنا عملنا كل حاجة نقدر عليها، بس إنت هتعرف أكتر عن حالته من الدكتور، هو مستنيك في مكتبه.
اندهشت "فردوس" لعزوف الطبيب عن مقابلتهما، وتساءلت في انزعاجٍ مستنكر:
-وهو مطلعش يكلمنا بنفسه ليه؟
هزت كتفيها قائلة بوجومٍ:
-معرفش.
سألها "عوض" بتلهفٍ ملتاع:
-أخويا فين دلوقتي؟
التفتت ناظرة إليه وهي تجيبه:
-في العناية المشددة، ومن فضلك متعطلنيش، الدكتور منتظرك هناك.
ثم أشارت إلى بقعة بعينها، حيث تتواجد بها غرف الأطباء، ودلتهما على الطريق، لتتركهما بعدئذ وترحل. أمسك "عوض" بذراع زوجته، جذبه منها، وانطلق إلى حيث أرشدتهما قائلًا في قلقٍ متصاعد:
-بينا يا "فردوس" نفهم في إيه.
سارت معه، وهي تضع قبضتها على صدرها، تتحسس نبضاته المتسارعة، لتتمتم بصوتٍ خفيض:
-استر يا رب.
............................................
أمام السرير الممدد عليه شقيقه الموصول بأجهزة طبية، وقف "عوض" يتطلع إليه بحسرةٍ وحزن، فالطبيب أعلمه بمدى الضرر الجسيم الذي وقع عليه، خاصة نصفه السفلي، وجعله قاب قوسين أو أدنى من الموت، وإن نجا منه بعد إجراءات عمليات جراحية هامة، فسيصبح عاجزًا حتى يفنى عمره، المؤسف في ذلك الأمر أنه لا يملك من المال ما يساعده على سداد تكلفة هذه الجراحات الضرورية، كان فقيرًا، معدمًا، لا يملك إلا قوت يومه، فكيف له أن يؤمن هذا الكم الطائل من الأموال لإنقاذه؟ بكى في أسى ووجع، غير مكترث بمن يبصره على هذه الحالة المفطورة، من خلفه وقفت "فردوس" تتأمل حالة "بدري" بحزنٍ عميق، لم تتوقع أن يحز في نفسها بشدة رؤيته هكذا، لا حول له ولا قوة! تركت هي الأخرى العنان لدموعها الصامتة تنساب، وأصغت إلى همهمة زوجها المكلوم وهو يرثي حاله البائس:
-يا ريتني أملك حاجة ياخويا وأنا مأخرهاش عنك.
لم تفكر "فردوس" مرتين، وراحت تخبره من تلقاء نفسها:
-أنا كنت عاينة حتت دهب صغيرة، بيعها يا "عوض"، جايز تفيد بحاجة.
استدار قليلًا لينظر إليها، وقال في حزنٍ شديد يعبر عن عجزه:
-يا "فردوس" المطلوب ألوفات، واحنا على باب الله.
ردت عليه في إصرار وهي تربت على كتفه:
-أهي نواية تسند الزير.
التف كلاهما معًا نحو فراش "بدري" عندما سمعا ندائه الضعيف:
-"عـ..عوض"!
صاحت "فردوس" في تلهفٍ وهي تدفع زوجها للاقتراب منه:
-الحق أخوك فاق.
تحرك الأخير ليلتصق بجانب رأسه المستلقي على السرير، ورجاه بصوتٍ شبه باكٍ:
-ماتتعبش نفسك يا "بدري"، أنا جمبك ياخويا.
بينما تكلمت "فردوس" في سرورٍ حقيقي ظاهر عليها:
-بركة إنك بخير.
عاد "عوض" ليقول بامتنانٍ شاكر:
-ألف حمد وشكر ليك يا رب.
سعل "بدري" بألمٍ، وحاول الكلام، فقال بصعوبةٍ، وبصوتٍ يكاد يكون مسموعًا لكليهما:
-حقك عليا...
احتضن "عوض" كف شقيقه بين راحتيه، واندهش في توترٍ وهو يطلب منه:
-سامحني.
كان الأخير يملك من السمات الحميدة ما جعله يعفو عنه في التو، وأفصح عن ذلك علنًا بترديده:
-مسامحك ياخويا، المهم عندي إنك ترجع بالسلامة تاني.
مجددًا سعل "بدري" في ألم، وحاول أن يخاطبه، فخرج صوته متقطعًا:
-أنا.. أنا..
رجاه شقيقه الأكبر بتوسلٍ:
-ماتجهدش نفسك بالكلام، بالله عليك حاول ترتاح.
رغم ضراوة الآلام التي تفتك به إلا أنه أصر على مخاطبته قائلًا:
-اسمعني.. بس...
بدا صوته أقرب لنبرة الوداع حينما تابع بعناءٍ:
-جايز تكون دي آخر مرة!
ردت "فردوس" باندفاعٍ نزقٍ، وكأن قلبها من يتحدث لا لسانها:
-بعد الشر عنك، إن شاءالله هتقوم بالسلامة.
اتجه "بدري" بعينين الدامعتين إلى وجه "فردوس"، واستطرد معترفًا في ندمٍ:
-أنا .. كنت .. ناوي .. أوســــخ .. سمعة مراتك .. عشان تطلقها.
شهقت "فردوس" مصعوقة بعد الذي سمعته، وارتجف بدنها بالكامل، في حين تابع "بدري" بصعوبة واضحة:
-بس ربنا أراد.. يرحمها .. من ظلمي ليها.
وكأن أحدهم قد هوى بمطرقة قاسية على رأسها فهشمها بلا رحمة، استنكرت اعترافه الخطير بشدة، وصاحت بصوت ناهج ومنفعل:
-إنت بتقول إيه؟
واصل اعترافاته الأخيرة مرددًا:
-كلام أمي .. عماني، وخلاني .. أسعى .. في .. الخراب.
اشتعلت عينا "فردوس"، واحتقن وجهها بحمرة متزايدة، مجرد تخيل احتمالية حدوث فضيحة كتلك لها كان كافيلًا بتحولها تمامًا لشخصية هجومية، عدائية، وغير متسامحة، لم تصغِ إلى "بدري" وهو يواصل الكلام رغم صعوبة ذلك عليه:
-وأهوو.. ربنا انتقم مني .. ونجدها!
حينئذ انفلتت أعصابها، وخرج من بين شفتيها صيحة أقرب للصراخ، جعلت من متواجد بعنبر الرعاية المركزة ينتبه لهم:
-للدرجادي؟ إنتو إزاي كده؟
نظر لها "عوض" بحسرة وأسف، حاول لملمة الأمر قبل أن يتطور لفضيحة علنية، فاستجدى شفقة زوجته:
-مش وقته يا "فردوس"!
ردت بعدائية مبررة:
-إنت سامع بيقول إيه؟ دي سمعتي وشرفي يا "عوض"!!
سعلة متحشرجة خرجت من جوف "بدري"، أتبعها قوله النادم:
-خلاص يا خويا، مابقاش في العمر بقية، سامحني، سامحيني يا مرات أخويا.
قال عبارته تلك وعيناه متعلقتان بـ "فردوس"، فما كان منها إلا أن وبخته بحرقةٍ:
-حرام عليك، أنا علمت فيكو إيه عشان تفتروا عليا بالشكل ده؟!
ردت عليها بصوتٍ واهن:
-ربنا خلص ذنبك مني.
ارتفع صراخها الموجوع وهي ترفع كفيها للأعلى، كأنما تشكوه لمن خلق السماوات والأرض:
-حسبي الله ونعم الوكيل.
جاءت إحدى الممرضات إلى العنبر، ونهرت "فردوس" على صياحها المزعج:
-ماينفعش اللي بتعمليه هنا، في عيانين، وحالات حرجة!
ثم حاولت دفعها للخارج وهي تطلب منها:
-اتفضلي لو سمحتي.
تجاهلتها "فردوس"، وظلت تلوم على "بدري" بحنقٍ أشد:
-هتروحوا من ربنا فين!
تكلمت الممرضة من جديد بلهجة شبه صارمة موجهة هذه المرة حديثها إلى "عوض":
-يالا يا أستاذ.
كانت آخر كلمة سمعها منه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ويلقى ربه:
-سامحني.
انخلع قلبه لرؤية جسده يسكن تمامًا، فصاح يناديه بجزعٍ فزع:
-"بــــدري"! أخـــــويا!
...........................................
الأيام التي سبقت هذه الليلة تحديدًا مرت عليها مصحوبة بالتوتر والاضطراب، ولما لا تُصاب بالأرق والارتباك وهي تعلم تمام العلم أنها على وشك الزواج بآخر غير زوجها، وبعلمه الكامل؟ أيعقل ذلك؟ مع شخصية كـ "مهاب" كل شيء مباح! لم تعرف "تهاني" ما الذي يجب عليها فعله، الرفض لم يكن خيارًا متاحًا، والقبول كذلك لم يكن أمرًا هينًا، كانت تتحــرق بين نارين، ورغم ذلك التخبط المقلق إلا أن رضخت في الأخير. عصفت بها انتفاضة قوية وباب غرفة النوم يُفتح، تخشبت في موضعها متوقعة حدوث الأسوأ؛ لكن هدأت مُهاجها الملتاعة مع ظهور الخادمة، فقد جاءت لتطلب منها الذهاب إلى غرفة المكتب، حيث ينتظرها البقية لإتمام مراسم عقد القران. صرفتها بلطفٍ، واتجهت إلى المرآة لتتأمل هيئتها، نظرة ملية ألقتها على ملامحها، ما زال يعتريها الخوف، وحتى نظراتها تعكس ذعرها. ظلت تخاطب نفسها، وهي تحاول مقاومة هذه الرعشة الخفيفة التي تنتابها:
-هيحصلي أكتر من كده إيه؟
تحسست صدغها، وكذلك جبينها، قبل أن تواصل الكلام في هسهسة خائفة:
-إنتي اتكتب عليكي تسمعي كلامه، حتى لو حاجة مش مريحاكي.
قاومت ذلك الشعور المناقض الذي يناوشها بشـأن استمالتها لـ "ممدوح"، فهي تخشى من ردة فعل "مهاب" إن علم أن ارتباطها به يستهويها نوعًا ما. تنفست بعمقٍ، وقالت في جديةٍ:
-كله عشان خاطر ابنك.
لكن ما لبث أن اختفت هذه الجدية ليحل الخوف كبديلٍ عنها، نطقت باسمه متسائلة في توجسٍ متعاظم:
-"أوس"! طب هقوله إيه؟
بهتت تعابيرها، وسؤال آخر يلح في رأسه، لم تجرؤ على النطق به:
-يا ترى لما هيكبر هيعرف أمه ضحت بنفسها إزاي عشانه؟ ولا أبوه ممكن يقلب عليا!
لم تذعن لهذا الأفكار السوداوية، وقالت في عزمٍ:
-بلاش أسبق الأحداث، خلي الليلة دي تعدي على خير الأول.
....................................................
الإحساس المزعج الذي لازمه منذ الصباح وحتى هذه الأمسية جعل من غير السهل عليه أن يستدعي سلطان النوم، خاصة مع منعه من الخروج من غرفته طوال اليوم والتحذير من مخالفة هذا الأمر. تقلب الصغير "أوس" في فراشه، وظل ينفخ في ســأم، ضجر من بقائه يقظًا، وبمفرده لوقت طويل. تنبه لأصوات جلبة غريبة تأتي من الخارج، استحثه فضوله على النهوض، وعزز من تلك الرغبة القوية شعوره الطاغي بالملل، لهذا أزاح الغطاء عنه، ونهض من فراشه سائرًا على أطراف أصابعه، تسلل من غرفته في هدوءٍ، واتجه إلى حيث مصدر الأصوات المتداخلة، وجد عدة أشخاص مجتمعين في غرفة المكتب، كان من النادر أن يرى بابها مفتوحًا، فوالده حين يعود من الخارج يذهب إليها، ويمكث بها لساعات دون أن يجرؤ أحد على الدخول إليه إلا لو قام باستدعائه، فيما عدا الخادمة، كانت تختفي لوقت طويل، وكأنه يعجز عن تفسير سبب بقائها لهذه المدة.
اختبأ "أوس" في الزاوية، وحاول رؤية ما يدور من موضعه دون أن يلمحه أحد، وقعت عيناه على والدته وهي تجلس بارتباكٍ لافت على الأريكة، عرف ذلك من طريقة هزها لساقيها، كذلك استغرب من ارتدائها لثوبٍ أبيض اللون، فقد كانت لا تحبذه. حرك بصره نحو من يجلس مجاورًا لها، وجد رفيق والده السمج يميل ناحيتها ليهمس بشيءٍ في أذنها، تشنج وجهه، وانزعج من قربه هذا. حجب عنه الرؤية ذلك الجسد الضخم لأحدهم؛ لكنه استطاع أن يلمح عدة أوراق في يده. تحير كثيرًا فيما يحدث بينهم، أرهف السمع محاولًا تفسير تجمعهم المريب ذلك بتفكيره الصغير والمحدود؛ لكنه لم يتمكن، بعد برهة انصرف عدة رجال، فتوارى عن أنظارهم لئلا يمسك به أحدهم فيتعرض للتوبيخ. استطاع أيضًا أن يميز صوت والده وهو يقول فجأة:
-كده نقدر نبارك ليكم.
سمع صوت "ممدوح" يسأله بجديةٍ:
-إنت متأكد يا "مهاب" إنك مش عاوز حد يعرف؟
رد عليه والده في صرامةٍ:
-دي حاجة عائلية متخصش حد.
تحرك بصر الصغير نحو والدته عندما تساءلت في صوت مهتز:
-و"أوس"!
أخبرها وهو يمد يده بكأس المشروب إليها:
-هو لسه صغير، مايفهمش حاجة، وبعدين أمه مارحتش لحد غريب يعني!
رغم صغر سنه إلا أنه شعر بالاستياء، لم يسترح له، ولم يستسغه، وما أكد هذا الشعور المنفر بداخله استهجان أمه الواضح:
-مايصحش الكلام ده.
ضحك "ممدوح" ساخرًا، فاتجه "أوس" بناظريه إليه، ليجده يعلق باستهزاءٍ:
-هو مغلطش يا "تهاني"، أنا يعتبر من العيلة!
طريقته تلك كانت مقيتة، منفرة، باعثة على الانقباض، راقبه "أوس" بعينين ناريتين، وراح يكز على أسنانه في غيظٍ حانق منه، سرعان ما أشاح ببصره ليحدق في أبيه عندما تكلم:
-وبعدين الوضع ده مش هيستمر كتير.
تحير في تفسير الأمر، وانتبه لوالده وهو يكمل:
-يدوب لحد ما أرجع من السفر، ساعتها كل حاجة هترجع زي ما كانت.
لم يرفع "أوس" عينيه الحانقتين عن وجه "ممدوح" حين تساءل بصوته الهادئ السمج:
-برضوه مصمم؟
أجابه "مهاب" بما صدم الصغير تمامًا، وجعل رأسه يتحير ويرتبك:
-ترضى أشوفك في حضن مراتي؟
ازداد صدمة وذهولًا ورفيق والده المزعج يصحح له مقولته:
-كانت .. إنت طلقتها، ودي رغبتك من الأول إني أتجوزها! أنا ماغصبتكش!
التصق ظهره بالحائط، وتوقف عن مراقبة ثلاثتهم بنظراته المصدومة، فما يحدث يفوق قدرته على الاستيعاب أو التفسير بكثير. تضاعف التوتر بـ "تهاني" فانطلقت تترجوهما بتوترٍ كبير:
-كفاية يا جماعة الكلام ده، أنا أعصابي مش مستحملة.
ضحك الاثنان منها، فوزعت نظراتها بينهما، وقالت، كأنما تشعر بوجود ابنها، وإن لم تكن تراه فعليًا:
-وأرجوكم مافيش داعي "أوس" يعرف بده، هو صغير ومش هيستوعب حاجة.
استهزأ بها "مهاب"، فقال في غير مبالاة:
-اهدي يا عروسة، مكبرة الموضوع ليه؟ ما يعرف عادي.
شاركه "ممدوح" في نوبة الاستهزاء بها، وأضاف هو الآخر بأسلوبٍ مال للسخرية الوقحة:
-بالظبط، أنا هبقى في مقام أبوه، وقايم بدوره كمان.
تلميحه الأخير كان فجًا في طياته، لذا حذرته "تهاني" بنبرة شبه حادة:
-دكتور "ممدوح"!
عاتبها بطريقته الملتوية في إشعارها بالذنب:
-دكتور، ده أنا بقيت جوزك، ينفع كده الرسمية دي بينا؟
علق "مهاب" ببرودٍ مغيظ، وكأن ما يحدث لا يهمه من الأساس:
-سيبها، مفكرة نفسها بِكر لسه وبتتكسف!
تجرأ الصغير "أوس" على معاودة النظر إليهم، فكان أول من تسلطت عليه نظرته هو والده المتكلم في شيء من الاستمتاع:
-طب ما إنت عارف اللي كان بيتعمل فيها، وبالتفاصيل!
كلمات أخرى تحمل في مضمونها ما لا يريح، حاول "أوس" تجاوز ما يسمعه ولا يفهمه، لينظر إلى والدته المتسائلة في قدرٍ من الانفعال بعدما هبت واقفة:
-إنت بتتريق؟!
وقف "مهاب" قبالتها، وبدا في ملامحه، وطريقته التهديد الصريح وهو يخاطبها:
-إيه مش عاجبك؟!
نهض "ممدوح" في التو، وحــال بينهما بجسده، مشكلًا حاجزًا قويًا، ثم خاطب رفيقه في هدوءٍ:
-"مهاب"، بالراحة!
ثم حول الأمر إلى مزحة سمجة بتعقيبه الموحي وهو يغمز بعينه:
-مش عاوز ليلتي تبوظ معاها.
ربت على كتفه مرددًا بابتسام:
-ماشي يا وَحش! هسيبكم سوا وألحق ميعاد طيارتي.
عقب عليه بتلميحٍ مفهوم:
-ما تطولش، عشان أردلك الأمانة!
أوجز في رده الغامض:
-أكيد!
لم يعد هناك ما يُقال، لذا متسترًا بالعتمة المنتشرة من حوله، انسحب "أوس" من المكان بعدما علم بما لم يجب عليه معرفته؛ لكن إحساسه الداخلي أكد له، أن وجود هذا الشخص البغيض -كأمر واقع ومفروض عليه- في حياته لن يكون بشيءٍ طيب على الإطلاق ........................................... !!


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close