رواية رحلة الآثام الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم منال سالم
الفصل الثاني والعشرون
(البديل)
حينما وصلت إليه أنباء علتها الصحية، لم يتردد "عوض" للحظة في الذهاب إليها على وجه السرعة، لرؤيتها، والمكوث معها لعدة أيام، ريثما يطمئن عليها، ويعوض ما فاته بفراقها لسنواتٍ عنه؛ لكنها كانت كعادتها ساخطة، ناقمة، مشحونة بكراهيةٍ غير مبررة تجاه زوجته المغلوبة على أمرها. اشتد بصدره الوجيب، وامتلأ وجهه بعلامات الاستهجان، ووالدته لا تزال تُلح عليه في تصميم مغاير لما يريده:
-يا ابني اسمع الكلام وبطل مناهدة...
حول أنظاره عنها فأكملت بما يشبه الإهانة:
-دي أرض بور، ومافيش منها رجا، قعدتك معاها هتخسرك اللي فاضل من عمرك.
احتج على ظلمها المجحف، وصاح مستنكرًا بضيقٍ:
-أنا راضي بحالي معها، فمالوش لازمة الكلام ده؟
أمسكت بذراعه، وتوسلته بمكرٍ:
-وتزعل أمك؟
كان محاصرًا بين نارين، الظفر بمحبتها، وبمراعاة غيبة زوجته. زفر مليًا، وقال بتعابيرٍ ممتعضة وهو يحتضن كفها بيده:
-زعلك غالي عندي، بس أنا بتقي الله في مراتي.
كادت تنطق بشيء لتسخر منها فاستوقفها باسترساله وهو يستل يده من كفها بعدما أراحه على الفراش:
-"فردوس" اللي مش عجباكي دي وعمالة تجيبي من الأرض وتحطي عليها من غير ذنب وقفت معايا لما الكل إداني ضهره، وأولهم إنتي.
تجهمت على الأخير، فاستمر مضيفًا، وكأنه يبدي عرفانه بصنيع جمائل حماته الراحلة معه:
-أمها فتحت باب بيتها ليا، واعتبرتني ابنها، وعمرها ما قالت كلمة تزعلني.
تطلعت إليه والدته بغير اقتناعٍ، وظلت على هجومها القاسي:
-سيبك من الهري ده كله، كفاية إنك ماجبتش منها عيال، يعني مافيش حاجة تربطك بيها، سيبها وأنا عندي ليك ألف واحدة تانية غيرها.
وقتئذ اتخذ موقفًا مُعاندًا، وأصر على تمسكه بزوجته:
-"فردوس" مراتي وهتفضل على ذمتي لحد ما أموت.
احتقنت نظراتها للغاية، وسألته في نبرة موحية، لم تكن مريحة له:
-وأخوك؟
بدا متحيرًا في مقصدها، فأوضحت بأسلوبٍ فج:
-ترضى تخلي واحدة زي دي أخوك كان عينه منها؟
انخلع قلبه من حديثها المسموم، الذي يعلن في طياته عن حرب ضروس، وهتف في غضبٍ متصاعد:
-إيه الكلام ده يامه؟ مايصحش كده!
ابتسمت لأنها نجحت في وغر صدره ضده، وأكملت بخبثٍ:
-أومال مفكر إيه؟
احمر وجهه غضبًا، وحقدًا، فزادت من إشعال دواخله بكلامها:
-إنت نسيت اللي كان بينهم، ده لو كان طلب منها تسلمه نفسها كانت عملت.
وكأنها هوت على رأسه بمطرقة غليظة، أظلمت نظراته، واسودت ملامحه، حتى نبرته اخشوشنت وقد رفع سبابته محذرًا إياها بصرامةٍ:
-لأ يامه، كله إلا الشرف والعرض، مراتي سيرتها أنضف من البفتة البيضا.
ثم أولاها ظهره استعدادًا للمغادرة، فنادت من ورائه:
-اسمع بس يا "عوض"!!
توقف في منتصف المسافة، لم ينظر إليها، بالكاد حاول ضبط أعصابه بعدما استثيرت بهذه الاتهامات المجحفة، كز على أسنانه وهو يخاطبها بوجومٍ شديد:
-بركة إنك بخير يامه، ربنا يطمنا عليكي، وأنا كل شوية هفوت أشوف أحوالك.
صاحت به في غيظٍ:
-هتركب دماغك يا "عوض"؟
اكتفى بتوديعها المقتضب:
-سلام عليكم.
ارتفع صوتها ليبدو كالصراخ الحاد وهي تسأله:
-فيها إيه عِدل مخليك ماسك فيها بإيدك وسنانك؟!!!
لم يرد بشيء، وغادر المنزل، والبلدة بأسرها وهو مهموم الصدر، ومفطور القلب، فكيف تفعل به أمه ذلك وهو لم يسعَ طوال حياته إلا لإسعادها؟!
............................................
لو كانت الظروف مختلفة ومهيأة عن الوضع الحالي، لأصبح صغيرها الغالي هو ابن الأحلام والأمنيات التي رجت حدوثها منذ نعومة أظافرها! لكن مع ما اختبرته، وما عاشته من آلام ممزوجة بالمهانة والإذلال فهمت أخيرًا أنها أخطأت الاختيار، وما تمر به الآن هو نتيجة اختيارها غير الموفق. بعينين غارقتين في الدموع أمعنت "تهاني" النظر في طفلها النائم، نهضت من جواره لتسحب الغطاء على جسده، انحنت على جبينه تقبله، ثم منحته ابتسامة مشرقة رغم العبرات المنسابة التي تبلل وجنتيها.
اعتدلت في وقفتها، وتجولت في غرفته بخطى بطيئة حذرة، لئلا توقظه، حتى بلغت النافذة الزجاجية الموصدة، أزاحت الستارة البيضاء بخفةٍ، وأكملت حديث نفسها المكلومة:
-أنا اللي عملت كده في نفسي.
شردت بعقلها، واستعادت اللحظات الحمقاء التي غفلت فيها عن رؤية وجهه الحقيقي، وانساقت كالبلهاء وراء أكذوبة الحب الأعمى، فما كان منها إلا أن هوت على أرض الواقع فانقسم ظهرها وتكسرت.
ابتلعت غصة مريرة جرحت حلقها، وجالت ببصرها على السماء الظلماء الممتدة أمامها وهي تهمس:
-لو كنت صبرت ورضيت بحالي، كان زماني متجوزة واحد محترم، بدل الـ...
بترت إهانتها في خوفٍ غريزي، كأنما تخشى أن يسمع ما فاهت به رغم غيابه عن البيت. سحبت شهيقًا عميقًا، لفظته على مهلٍ، وأردفت في أسى:
-مالوش لازمة تقهري نفسك كل شوية يا "تهاني"، مابقاش منه فايدة.
التفتت برأسها للجانب، لتنظر مرة ثانية إلى صغيرها، ضحكة حياتها، عفويًا شقت ابتسامة صافية شفتيها العابستين، وخاطبته في صوتٍ خافت غير مسموعٍ حتى له:
-إنت الحاجة الوحيدة اللي طلعت بيها من الجوازة دي.
مسحت بظهر كفها شلال الدموع المتدفقة لتدعو في تضرعٍ:
-ربنا ما يحرمني منك أبدًا.
ثم عاودت أدراجها، واستلقت على الفراش، محتضنة صغيرها، ومتنعمة بدفء القرب منه.
....................................................
ليلته كانت مختلفة، مطعمة بكل ما تشتهيه النفس وتطمع فيه من مسرات الدنيا وترفها، لم يدخر "مهاب" وسعه في الظفر بمتعها الشهية، وملذاتها السخية. عاد إلى منزله متأخرًا، مترنحًا، وآثار الخمر تلعب برأسه. بالكاد نجح في فتح الباب، صفقه بعنفٍ فتسبب الصوت في إفزاعه، ورغم ذلك ضحك بقهقهة مجلجلة كأن تصرفه الأخرق كان مُسليًا له.
تعرقل حينما سار في البهو، فانكفأ على الأريكة، استراح عليها، وكركر ضاحكًا وهو يتساءل بغير وعيٍ:
-هو إيه اللي جاب الكنبة دي هنا؟
فرك جبينه، وتوقف عن الضحك بصعوبة ليخاطب نفسه في انتشاءٍ:
-لأ، المرادي أنا تقلت في الشرب شوية، بس حقيقي كانت تستاهل.
الجلبة التي تسبب بها جعلت حواسها تتيقظ، وتنهض من جوار صغيرها بعدما غفت بجواره لتخرج من غرفته وهي تسير على أطراف أصابعها متسائلة في توترٍ مرتاع:
-مين برا؟
-هيكون مين غيري!
جاء الرد سخيفًا، وسمجًا من زوجها الذي لمحته مسترخيًا على الأريكة، يرفع ساقه فوق مسندها، ويرخي الأخرى على الأرضية، اقتربت أكثر منه وهي تردد بنبرة شبه هازئة:
-حمدلله على السلامة.
نظرة احتقارية سددها لها قبل أن يصيح بها وهو يتجشأ:
-امشي دلوقتي، مش ناقص نكد.
فاحت منه رائحة الخمر الكريهة، والنساء اللاهية، وما يبعث الاشمئزاز العارم على النفس. تغاضت عما تراه، وسألته في هدوءٍ مناقض لما يجيش في أعماقها:
-"مهاب" إنت هتنام هنا في الصالة؟
رد عليها بوقاحةٍ وهو يطوح بقدمه في الهواء، كأنما يطردها:
-بيتي وأنا حر فيه، أنام في الحتة اللي تعجبني.
مجددًا، تجاوزت عن إهانته المتوارية، وحاولت حثه على النهوض معها، تجنبًا لرؤية الخدم له وهو على هذه الحالة الفوضوية المنفرة. انحنت عليه لترفعه من ذراعيه وهي ترجوه:
-طيب، معلش تعالى معايا نروح الأوضة.
وكزها بكوعه في صدرها بقوةٍ فتأوهت من الألم المباغت، وتراجعت عنه لتحمي نفسها من بطشه الأهوج، جرفتها موجة عنيفة من الخوف عندما هدرت منه صيحة مهددة:
-إنتي مين عشان تديني أوامر؟
كظمت ضيقها بصعوبةٍ، وأبدت اعتذارها الفوري:
-أنا أسفة، بس آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها مواصلًا وصلة لعنها المهينة:
-نسيتي نفسك ولا إيه؟ صحيح تربية حواري!
كان يتكلم بعصبيةٍ، بانفعالٍ، بهجومٍ غير مبرر، ومع هذا طلبت منه بتريثٍ حذر:
-اهدى يا "مهاب"، الموضوع مش مستاهل كل ده!
شهقة غادرة انفلتت منها عندما اندفع تجاهها لينقض عليها، أمسك بها من منبت ذراعها، جرها بعنف للأمام وهو يصرخ فيها:
-يالا غوري!
قوة الدفعة جعلتها تنكب على وجهها، وتفترش الأرضية بجسدها، تمكنت من حماية رأسها من الإيذاء في اللحظة الأخيرة، ونظرت إليه في جزعٍ لتردد بذهول مرعوب:
-"مـــــهاب"، فوق إنت شارب ومش في وعيك!
وكأن طاقة من الغضب المستعر قد اندلعت بداخله، فحررها على هيئة ركلات قاسية من قدمه، سددها نحو جسد هذه المسكينة التي بكت في قهرٍ وعجز وهي تتلقى دفعة جديدة من التأنيب العنـــيف المصحوبة بصياحه المجلجل:
-مايخصكيش، إنتي مش هتتحكمي في اللي بعمله، سامعة؟ أنا حر في حياتي.
كان في غير وعيه، انهال عليه بكل ما يعتريه من وحشــــية وقساوة، غير مبالٍ بأين تصيب ضربته، وأين يترك آثار عنـــــفه. توقف عما يفعل ليدس أصابعه في شعرها المسترسل، جذب خصلاته بشراسةٍ فأجبرها على رفع رأسها إليه، هوى بيده الطليقة على خدها ليصفعها وهو يأمرها:
-ردي عليا؟
أجهشت بالبكاء وهي تتوسل إنسانيته الغائبة:
-خلاص، حقك عليا، أنا غلطانة.
ظل ممسكًا بخصلاتها، وأطبق بيده على عنقها بغتةً ليخنقها، فانحبست أنفاسها وانحشرت، أحست بروحها تستل من جسدها، وصوته يخترق أذنها:
-أقولك على حاجة هتريحني منك؟
انقطعت أنفاسها تمامًا، بل تكاد تجزم أن قلبها توقف عن النبض عندما هسهس كفحيح الأفعى:
-إنتي طــــــــالق!
نظرت له بعينين جاحظتين، وهذا التعبير المصدوم يجتاح كامل وجهها، فجــأة تركها وهو يجلس ضاحكًا أمامها، كأن ما نطق به أسعده، في حين استوعبت "تهاني" الكارثة المفجعة التي حلت عليها، لتهتف بصوتها المتحشرج:
-"مـــــــــــهاب"!
تزحف الأخير على يديه وقدميه حتى بلغ الأريكة، لم يكن قادرًا على الوقوف باستقامة، فجلس عليها مريحًا ظهره للخلف، سلط عينيه الخاليتين من الحياة عليها، ظل يرمقها بنظرات مستمتعة وهو يراها تتخبط بعجزٍ جم، قبل أن يخبرها مؤكدًا ومشددًا على ما سبق وردده:
-أيوه، زي ما سمعتي، إنتي ... طــــالق يا "تهاني"، طــــــــــــــــــــالق!
لطمت على صدغيها في رعبٍ جلي، وانتفضت واقفة لتسأله بغير تصديقٍ:
-إنت واعي للي بتقوله؟ دي المرة التالتة يا "مهاب"! المرة التالتة!
لم يبدُ مباليًا على الإطلاق بما فعل، بل عاد لاسترخائه الأول كما كان، وعلق:
-ولو حتى العاشرة أو المليون، إنتي طالق.
ازداد صوت نحيبها، فأمرها في غلظةٍ:
-ويالا بقى من هنا، وسبيني أنـــــام...
سرعان ما تحولت نبرته للتهديد غير المتساهل عندما أكمل:
-ولا تحبي أرميكي برا خالص؟
ظنت أنه مقبل على تنفيذ ما قاله، فقد سبق وفعل، لهذا أثرت ألا تختبر صبره، وفضلت التراجع عن مواجهته غير المجدية حاليًا، هرولت ركضًا بعيدًا عنه وهي تخاطب نفسها في إنكارٍ متعاظم:
-لأ، استحالة ده يكون حصل، مش معقول يطلقني بالشكل ده؟!!
سيطر عليها الخوف بطريقة طاغية، وتضاعفت الرجفات بها، اختفت بداخل غرفة ابنها، وأوصدت الباب بالمفتاح، كأنما تخاف من احتمالية اقتحامه للغرفة وجرها للخارج، استندت بظهرها المرتعش على إطار الباب الخشبي وهي تتساءل:
-طب هتصرف إزاي؟
تحولت عيناها الفزعتان إلى الفراش، لترتكز على وجه طفلها النائم في سلام قبل أن ترتعش شفتاها هامسة باسمه:
-ابني، "أوس"!!!
..............................................
كانت قد بدأت تستغرق في نومها عندما تنبهت حواسها مع سماعها لصوت صرير باب الغرفة وهو يُفتح، اعتدلت في رقدتها لتنظر إلى زوجها الذي عاد لتوه من الخارج، ألقى عليها التحية، فردت عليه، وسحبت منديل رأسها من على الكومود المجاور لها، لتضعه حول شعرها المهوش، عقدت طرفيه معًا، وهمهمت في استغرابٍ:
-أنا قولت إنك هتبات هناك!
زوى ما بين حاجبيه سائلًا في نبرة معاتبة:
-وأسيبك لوحدك؟
تعجبت من موقفه الغريب، وردت عليه بتحيرٍ:
-ما إنت بتروح للموالد بتاعتك اللي في آخر الدنيا، وبتفضل هناك بالكام يوم، إيه الجديد يعني؟
أجابها متبسمًا:
-ده عشان خاطر أكل العيش، بس إن كان عليا ماسبكيش لوحدك.
اعتبرت ما قاله نوعًا من التقدير المعنوي لصبرها، فابتسمت له ابتسامة مجاملة، وكأن لكلماته التأثير عليها؛ لكن ما لبث أن اختفت هذه الابتسامة الصافية لتتحول إلى العبوس وهو يخبرها:
-بالحق، أمي بعتالك السلام.
نظرت له مليًا وبغير اقتناع، كما لو كانت كذبته المكشوفة لا تنطلي عليها، بينما تكلم "عوض" من غير أن ينظر نحوها:
-وبالأمارة سألت عليكي، دي كانت عاوزة تشوفك!
لوت ثغرها مغمغمة في امتعاضٍ:
-كمان؟
مد يده ليربت على ذراعها مؤكدًا لها بما يخالف ما تضمره والدته حقًا في قلبها ناحيتها:
-أومال، مش مرات ابنها الغالية؟
لم تستسغ سماع المزيد من هذا اللغو الفارغ، فسألته في استهجانٍ، وبلهجة مالت للتحقيق:
-ومن إمتى المحبة دي، وهي مكانتش طايقني نهائي؟
قبل أن يفكر في التبرير الكاذب، حذرته بلهجةٍ جادة، وبتعبير أكثر جدية عن صوتها:
- مالوش لازمة تقول حاجة محصلتش يا "عوض"، أنا لسه فاكرة طريقتها كانت معايا إزاي!!
حاول التغطية على ادعائه غير الحقيقي بترديده:
-ربنا لما بيريد بيغير القلوب.
نظرت له مطولًا، فتنحنح مرة أخرى، واستأذنها في حبورٍ:
-مش هتقومي تحضري أكلة حلوة لينا من إيديكي؟ خلينا ناكل ونتبسط سوا.
هزت رأسها بالإيجاب وهي تنهض من جواره استعدادًا لذهابها:
-حاضر.
.....................................
نفضة غريبة ضربت أطرافه جعلته يفيق من سباته بصعوبة، بالكاد استطاع تحريك ذراعه بعد هذا التنميل المزعج الذي أصابه، ليقوم بعدئذ بحك مؤخرة عنقه، محاولًا تخفيف وطأة ذلك التيبس الذي حل كذلك بفقراته بعدما غرق في نومٍ عميق على هذه الأريكة غير المريحة. استفاق "مهاب" تمامًا، وطاف ببصره على ما يحيط به. اعتدل جالسًا، وتساءل وهو يتثاءب:
-هو أنا نمت هنا ولا إيه؟
نزع عنه رابطة عنقه، وراح يحل أزرار قميصه المتعرق، والذي جعل أنفه ينفر من رائحة جسده غير اللطيفة، ليبدأ في المشي برويةٍ تجاه غرفته، وجد زوجته ترتدي ثياب العمل، وجالسة على طرف الفراش وكأنها في انتظاره، ألقى نظرة سريعة على تعبير وجهها الغائم قبل أن يسألها:
-في إيه مالك ضاربة بوز على الصبح كده ليه؟
لم تنبس بكلمةٍ، فأولاها ظهره، وخلع عنه قميصه متابعًا كلامه إليها:
-الناس لما بيشوفوا بعض بيقولوا صباح الخير، مش يدوا وش النكد ده؟
حينئذ نهضت واقفة، وسألته في تحفزٍ:
-"مهاب" إنت مش فاكر عملت إيه إمبارح لما رجعت؟!!
حانت منه نظرة جانبية غير مهتمة وهو يكمل نزع ثيابه غير النظيفة بالتدريج، سحب من الرف ثيابًا مرتبة، تركها على طرف الفراش، واستعد للذهاب إلى الحمام للاغتســـال، لحقت به "تهاني" عندما طال تجاهله لها مرددة في صوتٍ شبه مرتفع وغاضب:
-إنت طلقتني!
التف كليًا تجاهها، وهتف في صدمة غريبة:
-نعم؟
أخبرته في حرقةٍ، ووجهها قد أصبح أكثر حمرة:
-أيوه، طلقتني، ودي المرة التالتة!
سكت قليلًا، كأنما يحاول استحضار ما دار بالأمس، على عكسها كليًا، كان باردًا في رده:
-أكيد إنتي استفزتيني، ما أنا عارفك.
لم تصدق اتهامه المغيظ، ودافعت عن نفسها بشدةٍ، فاستطردت قائلة:
-والله ما حصل، إنت اللي كنت متقل في الشرب، ومصدقت تطلقني.
اكتفى بهز رأسه، فاشتاطت غضبًا لاستهانته بهذه المسألة الحرجة، وسألته في إلحاحٍ:
-إيه العمل دلوقتي؟
استل منشفة نظيفة من أحد الأدراج، وعقب:
-سبيني أفكر.
ظلت تستجديه في توتر خائف:
-أنا عملت كل اللي طلبته مني، وراضية بأي حاجة، بس أرجوك اتصرف، أنا مقدرش أبعد عن ابني، أو أسيبه!
ضجر من إلحاحها المزعج، فنهرها في جفاءٍ:
-يوووه، اخرسي بقى وكفاية دوشة، قولتلك هشوف حل...
كادت تتوسله مجددًا؛ لكنه طردها من الحمام بأمره الذي لا يرد:
-اطلعي برا خليني أخد دش!
انسحبت في الحال مستجيبة لأمره صاغرة، لعلها بذلك تسترضيه، ولسان حالها يدمدم بقهرٍ بين جنبات نفسها:
-منك لله يا "مهاب"، ضيعت كل حاجة حلوة حلمت بيها في حياتي معاك!!
......................................
مثلما اعتاد أن يفعل في كل مرة، هاتفه ليلتقي به على انفرادٍ، وبعيدًا عن الأعين المتطفلة، في مكتبه بالمشفى الخاص حتى يُعلمه بما طرأ من مستجداتٍ تخص علاقته بزوجته. افترت شفتا "ممدوح" عن دهشة مصدومة، لينطق بعدها مذهولًا:
-التالتة!
وكأن في ذلك طُرفة لطيفة، نوع من الانتصار الزهيد، ضحك "مهاب" في تسليةٍ، ثم قال بهدوءٍ مستمتع وهو يملأ حقيبته الجلدية ببعض الأوراق والملفات:
-تخيل، ومكونتش دريان.
سأله "ممدوح" مستفهمًا في قدرٍ من الفضول، ونظراته تتابع ما يفعله باهتمامٍ:
-طب هتعمل إيه دلوقتي؟
نظر ناحيته، وعقب:
-مش عارف، بس هحاول أشوف حل لما أرجع من السفرية دي.
لم يكن على علم مسبق بسفره المفاجئ، فسأله ليستعلم أكثر عنه:
-رايح فين؟
أعطاه جوابًا مباشرًا:
-"فؤاد" باشا بيرتب لحاجة جديدة، وعاوزني أكون موجود جمبه.
مط فمه معلقًا:
-بيزنس جديد، كويس.
اتجه "مهاب" نحو باب غرفة مكتبه، واستطرد متهيئًا للمغادرة:
-يدوب ألحق أروح المطار.
قبل أن يدير بيده مقبض الباب، استوقفه "ممدوح" بسؤاله المريب:
-والمدام عندها خبر؟
التف برأسه قليلًا للجانب لينظر إليه، وقال في شيء من العجرفة:
-لأ طبعًا، أنا مش مستني إذنها.
تابع أسئلته إليه باستفهامه التالي:
-بس لو سألت عليك؟!
حلت ابتسامة ساخرة على زاوية فمه قبل أن يرد:
-ابقى قولها إني سافرت.. سلام.
شيعه بنظرة ناقمة قبل أن يقول:
-مع السلامة!
.....................................
استغل الفرصة التي واتته على طبق من ذهب الاستغلال الأمثل، وشرع في ملء نفسها بالأحقاد والعداء تجاه من غدا طليقها عندما أتى لزيارتها في منزلها بحجة إطلاعها على سفر رفيقه المُعد مسبقًا، فاستعرت كليًا، وأصبحت على شفير الانفجار من هول ما تحملته معه. تشنجت تعبيرات وجه "تهاني"، وصارت عيناها أكثر احتقانًا وهي تخاطب "ممدوح" بزفيرٍ محمومٍ:
-الجبان! ولا كأنه عمل مصيبة!!
راقب ردات فعلها بهدوء الصياد الماكر، كان يعرف جيدًا كيف يجعلها تتلوى من الألم والوجع دون أن يمسها، ووقعت الأخيرة في الفخ فاسترسلت في البوح بما يتأجج به صدرها، وقد انخرطت في نوبة من البكاء المرير:
-سابني أنا لواحدي تتحــــرق أعصابي وهو مش في دماغه، وأنا هفرق معاه في إيه؟!!
لم يبذل أي مجهودٍ في زيادة جرعات غضبها، وعلق برأس شبه منكس:
-إنتي عارفة طبع "مهاب".
بدت غير متحرجة من البكاء أمامه، بل واعترفت له بندمٍ حقيقي:
-كانت أكبر وأسوأ غلطة في حياتي، يا ريت ما وافقت على ارتباطي بيه!
من على بعد لمح "ممدوح" طفلها مقبلًا عليهما، فحذرها بصوتٍ خفيض:
-خدي بالك، ابنك جاي، مافيش داعي يشوفك بالشكل ده.
في عجالةٍ مسحت دموعها المنهمرة بظهري كفيها، وأخفت حزنها العميق خلف بسمة متسعة، ألصقتها بوجهها، ثم هبت واقفة لتستقبله في أحضانها وهي تناديه بحنان أمومي فياض:
-"أوس"، حبيبي.
كان الصغير متكدر الملامح، قليل الكلام، استخبرت منه عن أحواله، فسألته باهتمامٍ واضح:
-عملت إيه في المدرسة؟
جاوبها الصغير باقتضابٍ، ونظراته النارية اتجهت ناحية "ممدوح":
-كويس.
لاحظ الصغير ذلك الاحمرار الغريب الذي يكسو حدقتيها، فسألها:
-مالك؟
رفرفت بأهداب جفنيها متمتمة في ارتباكٍ محسوس بصوتها:
-أنا بخير يا حبيبي، متقلقش عليا.
تعذر عليها التورية ببراءة عما يعتريها، خاصة مع ذلك الخاطر السريع الذي راود عقلها بشأن احتمالية حرمانها من رؤية فلذة كبدها، لم تكن لتتحمل مطلقًا خسارته، اختنق صوتها فجأة، وغص صدرها بالبكاء، فاستأذنت بتوترٍ:
-هروح أغسل عيني لأحسن اتطرفت، وراجعة تاني...
ثم منحت صغيرها قبلة رقيقة على وجنته قبل أن تطلب منه بلطافةٍ:
-خليك إنت مع عمو "ممدوح" شوية.
جمد "أوس" عينيه الحادتين على وجهه، وضاقتا بشكلٍ محلوظ متحفز والأخير يخاطبه:
-أهلًا يا ابن الـ .. باشا.
ضغط على كملته الأخيرة ونطقها بشكلٍ يوحي بالإهانة، قبل أن يتابع بغير صوتٍ؛ لكن نظراته إليه أكدت تبادل نفس الشعور التلقائي بينهما بالنفور:
-تعرف أنا لله في لله مش بطيقك.
كان صوته الداخلي يتكلم بما يكنه له حقًا:
-إنت الدليل الحي على إن أبوك دايمًا أحسن مني، حتى في الوســــاخة!
كز على أسنانه، وبدا صوت همهمته غير واضحة حين أنهى حديث نفسه العابر:
-مسيره في يوم هيقع، وهيكون مكانه تحت رجلي.
تنبه لقدوم "تهاني" حينما خاطبت ابنها:
-يالا يا "أوس" عشان تغير هدومك.
ظل "ممدوح" مكللًا بصمته المستريب، مما استحث "تهاني" على سؤاله بتحرجٍ مع ملاحظتها لتبدل تعابيره لشيء غير مفهومٍ لها:
-هو ضايقك ولا إيه؟
في سلاسة وخبرة، استطاع أن يبدد ما يجوس في نفسها من شكوكٍ، وابتسم في وداعةٍ نافيًا ما استشعرته:
-لأ، إنتي بتقولي إيه بس!!
ابتسامته كانت متمرسة، مُخادعة، وهو ما زال يخبرها كذبًا:
-ده أنا بحبه جدًا، فوق ما تتخيلي، كأنه ابني بالظبط!
....................................................
مضى وقت طويل على آخر مرة اجتمعا فيها معًا، لذا كان لقائهما ممتدًا، ومشحونًا بالحديث عن العديد من المشروعات الهامة. كان الأمر الأخير المطروح على طاولة نقاشهما ذلك التعاون الجديد مع واحدٍ من الشركاء الأقوياء، ممن برز اسمه على ساحة رجال الأعمال مؤخرًا، رغم التحفظات التي تحيط بتضخم مصادر ثروته. بدا "مهاب" معترضًا على محاولة الدمج بين الشركتين، وأخبر والده بتخوفه من الخوض فيه:
-احنا مش محتاجين ده يا باشا! ومش ضامنين الشريك الجديد يعمل معانا إيه، وخصوصًا إنه مش سهل.
تفاهم معه "فؤاد" موضحًا أسبابه بقدرٍ من المنطقية:
-بس للأسف الوضع اليومين دول مش مبشر، ده كفاية المشاكل اللي عملها "سامي" وورطنا فيها، وخلانا نخسر جزء مش قليل من راس المال.
رغم تحفظه على اختياره لتولي أعمال العائلة منذ البداية إلا أنه لم يظهر اعتراضه عليه آنئذ؛ لكن صمته هذه المرة سيكبد أسرته المزيد من الخسائر الفادحة، لهذا تحدث بصراحةٍ مطلقة:
-إنت عارف إنه مش أد الشغل التقيل يا باشا، ودايمًا متسرع، فأنا مش هقبل إنه يفضل مكمل بطريقته الفاشلة.
رد عليه والده في أسفٍ:
-كنت عاوز أبعده عن طريقك، بس الظاهر حسبتي كانت غلط.
تفهم موقف أبيه، وتداركه في الحال:
-ماتقولش كده يا باشا، هو اللي استهتر بالمسئولية اللي عليه، ومقدرش قيمة اللي معاه.
ثم انتصب بكتفيه وأكد له بحماسٍ متزايد:
-عمومًا أنا جاهز للي تؤمرني بيه.
استحسن ما أظهره من جدية، وقال:
-طول عمرك مريحني يا "مهاب".
أكمل بعدها الاثنان مناقشة بنود الاتفاق، كل بندٍ على حدا، حتى تساءل "فؤاد" في اهتمامٍ كبير:
-صحيح ماجبتش حفيدي معاك ليه؟
أجابه متحججًا:
-المرة الجاية يا باشا، يكون خد الأجازة من المدرسة.
رد عليه بإيجازٍ:
-عظيم.
ثم تداول كلاهما ما تبقى من بنود على رويةٍ، ليضمن "مهاب" بذلك عدم توريط عائلته في أي شيء قد ينذر بالخسارة.
..............................................
رغم انفصـــالها الأكيد عنه، إلا أنها ظلت ماكثة في البيت مضطرة، متقبلة الوضع الحرج، فلا مكان غيره متاح لها لتذهب إليه، أقامت "تهاني" في غرفة ابنها، تنهش الأفكار المحيرات في رأسها، وتلتهم الخواطر المؤرقات ما تبقى من صمودها. تربصت، وانتظرت على أحر من الجمر عندما جاء "ممدوح" للقاء زوجها الذي عاد لتوه من سفره، تعلقت بأمل محاولته المستميتة للمساهمة في إيجاد الحل المناسب لها لضمان عدم حرمانها من صغيرها أبدًا، خاصة مع التقلبات المزاجية لطليقها، والتي تبدو في غالبيتها غير مضمونة العواقب. لم تتحمل التنصت عليهما، فأعصابها مرهقة، وقواها مستنزفة، لذا انسحبت، وبقيت تنتظر الخبر اليقين من أحدهما.
بداخل غرفة المكتب، استقر "ممدوح" جالسًا على الأريكة، وتابع حركة رفيقه وهو يملأ كأسيهما بالفاخر من المشروب المُسكر. ما لبث أن تدلى فكه للأسفل، وراح يهتف في اندهاشٍ ذاهل عندما اقترح عليه حله الجهنمي للأزمة الراهنة:
-نعم، أنا أتجوز "تهاني"؟
كان يتحدث إليه كأنما يأمره، لا يطلب منه رأيًا، خاصة مع تأكيده:
-أيوه، معنديش حل إلا كده...
بقي "ممدوح" على حاله المستغرب، بينما رفيقه لا يزال يخاطبه بعبارات موحية:
-وماتقلقش، أنا هظبطك وأراضيك بقرشين حلوين.
حاجته إلى المال الذي يضعه في مقدمة صفوف الأثرياء، وصفوة المجتمع، كانت تفوق أي رغبة أخرى، ومع ذلك تعلل بامتناعه عن القبول قائلًا:
-بس الموضوع محرج، دي مراتك...
ثم ثبت نظراته القاتمة عليه وهو يتم جملته بعبارة وصل مدلولها الصريح إليه في التو:
-إزاي تقبل إنها تنام مع غيرك، حتى لو كنت أنا؟
رد عليه "مهاب" ببساطةٍ شديدة وهو يتحرك صوبه:
-أنا مضطر لكده، عشان أقدر أصلح الوضع.
ناوله كأسًا من المشروب قبل أن يتابع بمزاحٍ:
-وبعدين إنت مش حد غريب!
كالحرباء المتلونة تمسك "ممدوح" بحجته، وأصر عليها:
-إنت فاهم إن ظروفي ماتسمحش أتجوز، حتى لو لليلة.
ضحك في استمتاعٍ، وغمز له بطرف عينه هاتفًا:
-اطمن، كله بحسابه.
ثم أخرج من جيب سترته رزمة من النقود ليعطيها إليه وهو يأمره:
-خد دول مؤقتًا.
تحايل عليه بمكرٍ، وأظهر له تردد في القبول مهمهمًا بتذمرٍ طفيف:
-بس آ...
أصر عليه في تصميمٍ:
-خلاص يا "ممدوح"، ماتعقدش الحكاية!
وكأنه أعطاه مفتاح الخلاص ووسيلة أخرى للتربح منه، ليس ماديًا فقط، بل بطرق أخرى مغرية. مد الأخير يده، والتقط الرزمة الورقية، ناظرًا إليها باشتهاءٍ قبل أن ترتسم على شفتيه ابتسامة ماجنة، أتبع ذلك قوله الهادئ والمشابه لمكر الثعالب:
-عشان خاطرك بس .........
(البديل)
حينما وصلت إليه أنباء علتها الصحية، لم يتردد "عوض" للحظة في الذهاب إليها على وجه السرعة، لرؤيتها، والمكوث معها لعدة أيام، ريثما يطمئن عليها، ويعوض ما فاته بفراقها لسنواتٍ عنه؛ لكنها كانت كعادتها ساخطة، ناقمة، مشحونة بكراهيةٍ غير مبررة تجاه زوجته المغلوبة على أمرها. اشتد بصدره الوجيب، وامتلأ وجهه بعلامات الاستهجان، ووالدته لا تزال تُلح عليه في تصميم مغاير لما يريده:
-يا ابني اسمع الكلام وبطل مناهدة...
حول أنظاره عنها فأكملت بما يشبه الإهانة:
-دي أرض بور، ومافيش منها رجا، قعدتك معاها هتخسرك اللي فاضل من عمرك.
احتج على ظلمها المجحف، وصاح مستنكرًا بضيقٍ:
-أنا راضي بحالي معها، فمالوش لازمة الكلام ده؟
أمسكت بذراعه، وتوسلته بمكرٍ:
-وتزعل أمك؟
كان محاصرًا بين نارين، الظفر بمحبتها، وبمراعاة غيبة زوجته. زفر مليًا، وقال بتعابيرٍ ممتعضة وهو يحتضن كفها بيده:
-زعلك غالي عندي، بس أنا بتقي الله في مراتي.
كادت تنطق بشيء لتسخر منها فاستوقفها باسترساله وهو يستل يده من كفها بعدما أراحه على الفراش:
-"فردوس" اللي مش عجباكي دي وعمالة تجيبي من الأرض وتحطي عليها من غير ذنب وقفت معايا لما الكل إداني ضهره، وأولهم إنتي.
تجهمت على الأخير، فاستمر مضيفًا، وكأنه يبدي عرفانه بصنيع جمائل حماته الراحلة معه:
-أمها فتحت باب بيتها ليا، واعتبرتني ابنها، وعمرها ما قالت كلمة تزعلني.
تطلعت إليه والدته بغير اقتناعٍ، وظلت على هجومها القاسي:
-سيبك من الهري ده كله، كفاية إنك ماجبتش منها عيال، يعني مافيش حاجة تربطك بيها، سيبها وأنا عندي ليك ألف واحدة تانية غيرها.
وقتئذ اتخذ موقفًا مُعاندًا، وأصر على تمسكه بزوجته:
-"فردوس" مراتي وهتفضل على ذمتي لحد ما أموت.
احتقنت نظراتها للغاية، وسألته في نبرة موحية، لم تكن مريحة له:
-وأخوك؟
بدا متحيرًا في مقصدها، فأوضحت بأسلوبٍ فج:
-ترضى تخلي واحدة زي دي أخوك كان عينه منها؟
انخلع قلبه من حديثها المسموم، الذي يعلن في طياته عن حرب ضروس، وهتف في غضبٍ متصاعد:
-إيه الكلام ده يامه؟ مايصحش كده!
ابتسمت لأنها نجحت في وغر صدره ضده، وأكملت بخبثٍ:
-أومال مفكر إيه؟
احمر وجهه غضبًا، وحقدًا، فزادت من إشعال دواخله بكلامها:
-إنت نسيت اللي كان بينهم، ده لو كان طلب منها تسلمه نفسها كانت عملت.
وكأنها هوت على رأسه بمطرقة غليظة، أظلمت نظراته، واسودت ملامحه، حتى نبرته اخشوشنت وقد رفع سبابته محذرًا إياها بصرامةٍ:
-لأ يامه، كله إلا الشرف والعرض، مراتي سيرتها أنضف من البفتة البيضا.
ثم أولاها ظهره استعدادًا للمغادرة، فنادت من ورائه:
-اسمع بس يا "عوض"!!
توقف في منتصف المسافة، لم ينظر إليها، بالكاد حاول ضبط أعصابه بعدما استثيرت بهذه الاتهامات المجحفة، كز على أسنانه وهو يخاطبها بوجومٍ شديد:
-بركة إنك بخير يامه، ربنا يطمنا عليكي، وأنا كل شوية هفوت أشوف أحوالك.
صاحت به في غيظٍ:
-هتركب دماغك يا "عوض"؟
اكتفى بتوديعها المقتضب:
-سلام عليكم.
ارتفع صوتها ليبدو كالصراخ الحاد وهي تسأله:
-فيها إيه عِدل مخليك ماسك فيها بإيدك وسنانك؟!!!
لم يرد بشيء، وغادر المنزل، والبلدة بأسرها وهو مهموم الصدر، ومفطور القلب، فكيف تفعل به أمه ذلك وهو لم يسعَ طوال حياته إلا لإسعادها؟!
............................................
لو كانت الظروف مختلفة ومهيأة عن الوضع الحالي، لأصبح صغيرها الغالي هو ابن الأحلام والأمنيات التي رجت حدوثها منذ نعومة أظافرها! لكن مع ما اختبرته، وما عاشته من آلام ممزوجة بالمهانة والإذلال فهمت أخيرًا أنها أخطأت الاختيار، وما تمر به الآن هو نتيجة اختيارها غير الموفق. بعينين غارقتين في الدموع أمعنت "تهاني" النظر في طفلها النائم، نهضت من جواره لتسحب الغطاء على جسده، انحنت على جبينه تقبله، ثم منحته ابتسامة مشرقة رغم العبرات المنسابة التي تبلل وجنتيها.
اعتدلت في وقفتها، وتجولت في غرفته بخطى بطيئة حذرة، لئلا توقظه، حتى بلغت النافذة الزجاجية الموصدة، أزاحت الستارة البيضاء بخفةٍ، وأكملت حديث نفسها المكلومة:
-أنا اللي عملت كده في نفسي.
شردت بعقلها، واستعادت اللحظات الحمقاء التي غفلت فيها عن رؤية وجهه الحقيقي، وانساقت كالبلهاء وراء أكذوبة الحب الأعمى، فما كان منها إلا أن هوت على أرض الواقع فانقسم ظهرها وتكسرت.
ابتلعت غصة مريرة جرحت حلقها، وجالت ببصرها على السماء الظلماء الممتدة أمامها وهي تهمس:
-لو كنت صبرت ورضيت بحالي، كان زماني متجوزة واحد محترم، بدل الـ...
بترت إهانتها في خوفٍ غريزي، كأنما تخشى أن يسمع ما فاهت به رغم غيابه عن البيت. سحبت شهيقًا عميقًا، لفظته على مهلٍ، وأردفت في أسى:
-مالوش لازمة تقهري نفسك كل شوية يا "تهاني"، مابقاش منه فايدة.
التفتت برأسها للجانب، لتنظر مرة ثانية إلى صغيرها، ضحكة حياتها، عفويًا شقت ابتسامة صافية شفتيها العابستين، وخاطبته في صوتٍ خافت غير مسموعٍ حتى له:
-إنت الحاجة الوحيدة اللي طلعت بيها من الجوازة دي.
مسحت بظهر كفها شلال الدموع المتدفقة لتدعو في تضرعٍ:
-ربنا ما يحرمني منك أبدًا.
ثم عاودت أدراجها، واستلقت على الفراش، محتضنة صغيرها، ومتنعمة بدفء القرب منه.
....................................................
ليلته كانت مختلفة، مطعمة بكل ما تشتهيه النفس وتطمع فيه من مسرات الدنيا وترفها، لم يدخر "مهاب" وسعه في الظفر بمتعها الشهية، وملذاتها السخية. عاد إلى منزله متأخرًا، مترنحًا، وآثار الخمر تلعب برأسه. بالكاد نجح في فتح الباب، صفقه بعنفٍ فتسبب الصوت في إفزاعه، ورغم ذلك ضحك بقهقهة مجلجلة كأن تصرفه الأخرق كان مُسليًا له.
تعرقل حينما سار في البهو، فانكفأ على الأريكة، استراح عليها، وكركر ضاحكًا وهو يتساءل بغير وعيٍ:
-هو إيه اللي جاب الكنبة دي هنا؟
فرك جبينه، وتوقف عن الضحك بصعوبة ليخاطب نفسه في انتشاءٍ:
-لأ، المرادي أنا تقلت في الشرب شوية، بس حقيقي كانت تستاهل.
الجلبة التي تسبب بها جعلت حواسها تتيقظ، وتنهض من جوار صغيرها بعدما غفت بجواره لتخرج من غرفته وهي تسير على أطراف أصابعها متسائلة في توترٍ مرتاع:
-مين برا؟
-هيكون مين غيري!
جاء الرد سخيفًا، وسمجًا من زوجها الذي لمحته مسترخيًا على الأريكة، يرفع ساقه فوق مسندها، ويرخي الأخرى على الأرضية، اقتربت أكثر منه وهي تردد بنبرة شبه هازئة:
-حمدلله على السلامة.
نظرة احتقارية سددها لها قبل أن يصيح بها وهو يتجشأ:
-امشي دلوقتي، مش ناقص نكد.
فاحت منه رائحة الخمر الكريهة، والنساء اللاهية، وما يبعث الاشمئزاز العارم على النفس. تغاضت عما تراه، وسألته في هدوءٍ مناقض لما يجيش في أعماقها:
-"مهاب" إنت هتنام هنا في الصالة؟
رد عليها بوقاحةٍ وهو يطوح بقدمه في الهواء، كأنما يطردها:
-بيتي وأنا حر فيه، أنام في الحتة اللي تعجبني.
مجددًا، تجاوزت عن إهانته المتوارية، وحاولت حثه على النهوض معها، تجنبًا لرؤية الخدم له وهو على هذه الحالة الفوضوية المنفرة. انحنت عليه لترفعه من ذراعيه وهي ترجوه:
-طيب، معلش تعالى معايا نروح الأوضة.
وكزها بكوعه في صدرها بقوةٍ فتأوهت من الألم المباغت، وتراجعت عنه لتحمي نفسها من بطشه الأهوج، جرفتها موجة عنيفة من الخوف عندما هدرت منه صيحة مهددة:
-إنتي مين عشان تديني أوامر؟
كظمت ضيقها بصعوبةٍ، وأبدت اعتذارها الفوري:
-أنا أسفة، بس آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها مواصلًا وصلة لعنها المهينة:
-نسيتي نفسك ولا إيه؟ صحيح تربية حواري!
كان يتكلم بعصبيةٍ، بانفعالٍ، بهجومٍ غير مبرر، ومع هذا طلبت منه بتريثٍ حذر:
-اهدى يا "مهاب"، الموضوع مش مستاهل كل ده!
شهقة غادرة انفلتت منها عندما اندفع تجاهها لينقض عليها، أمسك بها من منبت ذراعها، جرها بعنف للأمام وهو يصرخ فيها:
-يالا غوري!
قوة الدفعة جعلتها تنكب على وجهها، وتفترش الأرضية بجسدها، تمكنت من حماية رأسها من الإيذاء في اللحظة الأخيرة، ونظرت إليه في جزعٍ لتردد بذهول مرعوب:
-"مـــــهاب"، فوق إنت شارب ومش في وعيك!
وكأن طاقة من الغضب المستعر قد اندلعت بداخله، فحررها على هيئة ركلات قاسية من قدمه، سددها نحو جسد هذه المسكينة التي بكت في قهرٍ وعجز وهي تتلقى دفعة جديدة من التأنيب العنـــيف المصحوبة بصياحه المجلجل:
-مايخصكيش، إنتي مش هتتحكمي في اللي بعمله، سامعة؟ أنا حر في حياتي.
كان في غير وعيه، انهال عليه بكل ما يعتريه من وحشــــية وقساوة، غير مبالٍ بأين تصيب ضربته، وأين يترك آثار عنـــــفه. توقف عما يفعل ليدس أصابعه في شعرها المسترسل، جذب خصلاته بشراسةٍ فأجبرها على رفع رأسها إليه، هوى بيده الطليقة على خدها ليصفعها وهو يأمرها:
-ردي عليا؟
أجهشت بالبكاء وهي تتوسل إنسانيته الغائبة:
-خلاص، حقك عليا، أنا غلطانة.
ظل ممسكًا بخصلاتها، وأطبق بيده على عنقها بغتةً ليخنقها، فانحبست أنفاسها وانحشرت، أحست بروحها تستل من جسدها، وصوته يخترق أذنها:
-أقولك على حاجة هتريحني منك؟
انقطعت أنفاسها تمامًا، بل تكاد تجزم أن قلبها توقف عن النبض عندما هسهس كفحيح الأفعى:
-إنتي طــــــــالق!
نظرت له بعينين جاحظتين، وهذا التعبير المصدوم يجتاح كامل وجهها، فجــأة تركها وهو يجلس ضاحكًا أمامها، كأن ما نطق به أسعده، في حين استوعبت "تهاني" الكارثة المفجعة التي حلت عليها، لتهتف بصوتها المتحشرج:
-"مـــــــــــهاب"!
تزحف الأخير على يديه وقدميه حتى بلغ الأريكة، لم يكن قادرًا على الوقوف باستقامة، فجلس عليها مريحًا ظهره للخلف، سلط عينيه الخاليتين من الحياة عليها، ظل يرمقها بنظرات مستمتعة وهو يراها تتخبط بعجزٍ جم، قبل أن يخبرها مؤكدًا ومشددًا على ما سبق وردده:
-أيوه، زي ما سمعتي، إنتي ... طــــالق يا "تهاني"، طــــــــــــــــــــالق!
لطمت على صدغيها في رعبٍ جلي، وانتفضت واقفة لتسأله بغير تصديقٍ:
-إنت واعي للي بتقوله؟ دي المرة التالتة يا "مهاب"! المرة التالتة!
لم يبدُ مباليًا على الإطلاق بما فعل، بل عاد لاسترخائه الأول كما كان، وعلق:
-ولو حتى العاشرة أو المليون، إنتي طالق.
ازداد صوت نحيبها، فأمرها في غلظةٍ:
-ويالا بقى من هنا، وسبيني أنـــــام...
سرعان ما تحولت نبرته للتهديد غير المتساهل عندما أكمل:
-ولا تحبي أرميكي برا خالص؟
ظنت أنه مقبل على تنفيذ ما قاله، فقد سبق وفعل، لهذا أثرت ألا تختبر صبره، وفضلت التراجع عن مواجهته غير المجدية حاليًا، هرولت ركضًا بعيدًا عنه وهي تخاطب نفسها في إنكارٍ متعاظم:
-لأ، استحالة ده يكون حصل، مش معقول يطلقني بالشكل ده؟!!
سيطر عليها الخوف بطريقة طاغية، وتضاعفت الرجفات بها، اختفت بداخل غرفة ابنها، وأوصدت الباب بالمفتاح، كأنما تخاف من احتمالية اقتحامه للغرفة وجرها للخارج، استندت بظهرها المرتعش على إطار الباب الخشبي وهي تتساءل:
-طب هتصرف إزاي؟
تحولت عيناها الفزعتان إلى الفراش، لترتكز على وجه طفلها النائم في سلام قبل أن ترتعش شفتاها هامسة باسمه:
-ابني، "أوس"!!!
..............................................
كانت قد بدأت تستغرق في نومها عندما تنبهت حواسها مع سماعها لصوت صرير باب الغرفة وهو يُفتح، اعتدلت في رقدتها لتنظر إلى زوجها الذي عاد لتوه من الخارج، ألقى عليها التحية، فردت عليه، وسحبت منديل رأسها من على الكومود المجاور لها، لتضعه حول شعرها المهوش، عقدت طرفيه معًا، وهمهمت في استغرابٍ:
-أنا قولت إنك هتبات هناك!
زوى ما بين حاجبيه سائلًا في نبرة معاتبة:
-وأسيبك لوحدك؟
تعجبت من موقفه الغريب، وردت عليه بتحيرٍ:
-ما إنت بتروح للموالد بتاعتك اللي في آخر الدنيا، وبتفضل هناك بالكام يوم، إيه الجديد يعني؟
أجابها متبسمًا:
-ده عشان خاطر أكل العيش، بس إن كان عليا ماسبكيش لوحدك.
اعتبرت ما قاله نوعًا من التقدير المعنوي لصبرها، فابتسمت له ابتسامة مجاملة، وكأن لكلماته التأثير عليها؛ لكن ما لبث أن اختفت هذه الابتسامة الصافية لتتحول إلى العبوس وهو يخبرها:
-بالحق، أمي بعتالك السلام.
نظرت له مليًا وبغير اقتناع، كما لو كانت كذبته المكشوفة لا تنطلي عليها، بينما تكلم "عوض" من غير أن ينظر نحوها:
-وبالأمارة سألت عليكي، دي كانت عاوزة تشوفك!
لوت ثغرها مغمغمة في امتعاضٍ:
-كمان؟
مد يده ليربت على ذراعها مؤكدًا لها بما يخالف ما تضمره والدته حقًا في قلبها ناحيتها:
-أومال، مش مرات ابنها الغالية؟
لم تستسغ سماع المزيد من هذا اللغو الفارغ، فسألته في استهجانٍ، وبلهجة مالت للتحقيق:
-ومن إمتى المحبة دي، وهي مكانتش طايقني نهائي؟
قبل أن يفكر في التبرير الكاذب، حذرته بلهجةٍ جادة، وبتعبير أكثر جدية عن صوتها:
- مالوش لازمة تقول حاجة محصلتش يا "عوض"، أنا لسه فاكرة طريقتها كانت معايا إزاي!!
حاول التغطية على ادعائه غير الحقيقي بترديده:
-ربنا لما بيريد بيغير القلوب.
نظرت له مطولًا، فتنحنح مرة أخرى، واستأذنها في حبورٍ:
-مش هتقومي تحضري أكلة حلوة لينا من إيديكي؟ خلينا ناكل ونتبسط سوا.
هزت رأسها بالإيجاب وهي تنهض من جواره استعدادًا لذهابها:
-حاضر.
.....................................
نفضة غريبة ضربت أطرافه جعلته يفيق من سباته بصعوبة، بالكاد استطاع تحريك ذراعه بعد هذا التنميل المزعج الذي أصابه، ليقوم بعدئذ بحك مؤخرة عنقه، محاولًا تخفيف وطأة ذلك التيبس الذي حل كذلك بفقراته بعدما غرق في نومٍ عميق على هذه الأريكة غير المريحة. استفاق "مهاب" تمامًا، وطاف ببصره على ما يحيط به. اعتدل جالسًا، وتساءل وهو يتثاءب:
-هو أنا نمت هنا ولا إيه؟
نزع عنه رابطة عنقه، وراح يحل أزرار قميصه المتعرق، والذي جعل أنفه ينفر من رائحة جسده غير اللطيفة، ليبدأ في المشي برويةٍ تجاه غرفته، وجد زوجته ترتدي ثياب العمل، وجالسة على طرف الفراش وكأنها في انتظاره، ألقى نظرة سريعة على تعبير وجهها الغائم قبل أن يسألها:
-في إيه مالك ضاربة بوز على الصبح كده ليه؟
لم تنبس بكلمةٍ، فأولاها ظهره، وخلع عنه قميصه متابعًا كلامه إليها:
-الناس لما بيشوفوا بعض بيقولوا صباح الخير، مش يدوا وش النكد ده؟
حينئذ نهضت واقفة، وسألته في تحفزٍ:
-"مهاب" إنت مش فاكر عملت إيه إمبارح لما رجعت؟!!
حانت منه نظرة جانبية غير مهتمة وهو يكمل نزع ثيابه غير النظيفة بالتدريج، سحب من الرف ثيابًا مرتبة، تركها على طرف الفراش، واستعد للذهاب إلى الحمام للاغتســـال، لحقت به "تهاني" عندما طال تجاهله لها مرددة في صوتٍ شبه مرتفع وغاضب:
-إنت طلقتني!
التف كليًا تجاهها، وهتف في صدمة غريبة:
-نعم؟
أخبرته في حرقةٍ، ووجهها قد أصبح أكثر حمرة:
-أيوه، طلقتني، ودي المرة التالتة!
سكت قليلًا، كأنما يحاول استحضار ما دار بالأمس، على عكسها كليًا، كان باردًا في رده:
-أكيد إنتي استفزتيني، ما أنا عارفك.
لم تصدق اتهامه المغيظ، ودافعت عن نفسها بشدةٍ، فاستطردت قائلة:
-والله ما حصل، إنت اللي كنت متقل في الشرب، ومصدقت تطلقني.
اكتفى بهز رأسه، فاشتاطت غضبًا لاستهانته بهذه المسألة الحرجة، وسألته في إلحاحٍ:
-إيه العمل دلوقتي؟
استل منشفة نظيفة من أحد الأدراج، وعقب:
-سبيني أفكر.
ظلت تستجديه في توتر خائف:
-أنا عملت كل اللي طلبته مني، وراضية بأي حاجة، بس أرجوك اتصرف، أنا مقدرش أبعد عن ابني، أو أسيبه!
ضجر من إلحاحها المزعج، فنهرها في جفاءٍ:
-يوووه، اخرسي بقى وكفاية دوشة، قولتلك هشوف حل...
كادت تتوسله مجددًا؛ لكنه طردها من الحمام بأمره الذي لا يرد:
-اطلعي برا خليني أخد دش!
انسحبت في الحال مستجيبة لأمره صاغرة، لعلها بذلك تسترضيه، ولسان حالها يدمدم بقهرٍ بين جنبات نفسها:
-منك لله يا "مهاب"، ضيعت كل حاجة حلوة حلمت بيها في حياتي معاك!!
......................................
مثلما اعتاد أن يفعل في كل مرة، هاتفه ليلتقي به على انفرادٍ، وبعيدًا عن الأعين المتطفلة، في مكتبه بالمشفى الخاص حتى يُعلمه بما طرأ من مستجداتٍ تخص علاقته بزوجته. افترت شفتا "ممدوح" عن دهشة مصدومة، لينطق بعدها مذهولًا:
-التالتة!
وكأن في ذلك طُرفة لطيفة، نوع من الانتصار الزهيد، ضحك "مهاب" في تسليةٍ، ثم قال بهدوءٍ مستمتع وهو يملأ حقيبته الجلدية ببعض الأوراق والملفات:
-تخيل، ومكونتش دريان.
سأله "ممدوح" مستفهمًا في قدرٍ من الفضول، ونظراته تتابع ما يفعله باهتمامٍ:
-طب هتعمل إيه دلوقتي؟
نظر ناحيته، وعقب:
-مش عارف، بس هحاول أشوف حل لما أرجع من السفرية دي.
لم يكن على علم مسبق بسفره المفاجئ، فسأله ليستعلم أكثر عنه:
-رايح فين؟
أعطاه جوابًا مباشرًا:
-"فؤاد" باشا بيرتب لحاجة جديدة، وعاوزني أكون موجود جمبه.
مط فمه معلقًا:
-بيزنس جديد، كويس.
اتجه "مهاب" نحو باب غرفة مكتبه، واستطرد متهيئًا للمغادرة:
-يدوب ألحق أروح المطار.
قبل أن يدير بيده مقبض الباب، استوقفه "ممدوح" بسؤاله المريب:
-والمدام عندها خبر؟
التف برأسه قليلًا للجانب لينظر إليه، وقال في شيء من العجرفة:
-لأ طبعًا، أنا مش مستني إذنها.
تابع أسئلته إليه باستفهامه التالي:
-بس لو سألت عليك؟!
حلت ابتسامة ساخرة على زاوية فمه قبل أن يرد:
-ابقى قولها إني سافرت.. سلام.
شيعه بنظرة ناقمة قبل أن يقول:
-مع السلامة!
.....................................
استغل الفرصة التي واتته على طبق من ذهب الاستغلال الأمثل، وشرع في ملء نفسها بالأحقاد والعداء تجاه من غدا طليقها عندما أتى لزيارتها في منزلها بحجة إطلاعها على سفر رفيقه المُعد مسبقًا، فاستعرت كليًا، وأصبحت على شفير الانفجار من هول ما تحملته معه. تشنجت تعبيرات وجه "تهاني"، وصارت عيناها أكثر احتقانًا وهي تخاطب "ممدوح" بزفيرٍ محمومٍ:
-الجبان! ولا كأنه عمل مصيبة!!
راقب ردات فعلها بهدوء الصياد الماكر، كان يعرف جيدًا كيف يجعلها تتلوى من الألم والوجع دون أن يمسها، ووقعت الأخيرة في الفخ فاسترسلت في البوح بما يتأجج به صدرها، وقد انخرطت في نوبة من البكاء المرير:
-سابني أنا لواحدي تتحــــرق أعصابي وهو مش في دماغه، وأنا هفرق معاه في إيه؟!!
لم يبذل أي مجهودٍ في زيادة جرعات غضبها، وعلق برأس شبه منكس:
-إنتي عارفة طبع "مهاب".
بدت غير متحرجة من البكاء أمامه، بل واعترفت له بندمٍ حقيقي:
-كانت أكبر وأسوأ غلطة في حياتي، يا ريت ما وافقت على ارتباطي بيه!
من على بعد لمح "ممدوح" طفلها مقبلًا عليهما، فحذرها بصوتٍ خفيض:
-خدي بالك، ابنك جاي، مافيش داعي يشوفك بالشكل ده.
في عجالةٍ مسحت دموعها المنهمرة بظهري كفيها، وأخفت حزنها العميق خلف بسمة متسعة، ألصقتها بوجهها، ثم هبت واقفة لتستقبله في أحضانها وهي تناديه بحنان أمومي فياض:
-"أوس"، حبيبي.
كان الصغير متكدر الملامح، قليل الكلام، استخبرت منه عن أحواله، فسألته باهتمامٍ واضح:
-عملت إيه في المدرسة؟
جاوبها الصغير باقتضابٍ، ونظراته النارية اتجهت ناحية "ممدوح":
-كويس.
لاحظ الصغير ذلك الاحمرار الغريب الذي يكسو حدقتيها، فسألها:
-مالك؟
رفرفت بأهداب جفنيها متمتمة في ارتباكٍ محسوس بصوتها:
-أنا بخير يا حبيبي، متقلقش عليا.
تعذر عليها التورية ببراءة عما يعتريها، خاصة مع ذلك الخاطر السريع الذي راود عقلها بشأن احتمالية حرمانها من رؤية فلذة كبدها، لم تكن لتتحمل مطلقًا خسارته، اختنق صوتها فجأة، وغص صدرها بالبكاء، فاستأذنت بتوترٍ:
-هروح أغسل عيني لأحسن اتطرفت، وراجعة تاني...
ثم منحت صغيرها قبلة رقيقة على وجنته قبل أن تطلب منه بلطافةٍ:
-خليك إنت مع عمو "ممدوح" شوية.
جمد "أوس" عينيه الحادتين على وجهه، وضاقتا بشكلٍ محلوظ متحفز والأخير يخاطبه:
-أهلًا يا ابن الـ .. باشا.
ضغط على كملته الأخيرة ونطقها بشكلٍ يوحي بالإهانة، قبل أن يتابع بغير صوتٍ؛ لكن نظراته إليه أكدت تبادل نفس الشعور التلقائي بينهما بالنفور:
-تعرف أنا لله في لله مش بطيقك.
كان صوته الداخلي يتكلم بما يكنه له حقًا:
-إنت الدليل الحي على إن أبوك دايمًا أحسن مني، حتى في الوســــاخة!
كز على أسنانه، وبدا صوت همهمته غير واضحة حين أنهى حديث نفسه العابر:
-مسيره في يوم هيقع، وهيكون مكانه تحت رجلي.
تنبه لقدوم "تهاني" حينما خاطبت ابنها:
-يالا يا "أوس" عشان تغير هدومك.
ظل "ممدوح" مكللًا بصمته المستريب، مما استحث "تهاني" على سؤاله بتحرجٍ مع ملاحظتها لتبدل تعابيره لشيء غير مفهومٍ لها:
-هو ضايقك ولا إيه؟
في سلاسة وخبرة، استطاع أن يبدد ما يجوس في نفسها من شكوكٍ، وابتسم في وداعةٍ نافيًا ما استشعرته:
-لأ، إنتي بتقولي إيه بس!!
ابتسامته كانت متمرسة، مُخادعة، وهو ما زال يخبرها كذبًا:
-ده أنا بحبه جدًا، فوق ما تتخيلي، كأنه ابني بالظبط!
....................................................
مضى وقت طويل على آخر مرة اجتمعا فيها معًا، لذا كان لقائهما ممتدًا، ومشحونًا بالحديث عن العديد من المشروعات الهامة. كان الأمر الأخير المطروح على طاولة نقاشهما ذلك التعاون الجديد مع واحدٍ من الشركاء الأقوياء، ممن برز اسمه على ساحة رجال الأعمال مؤخرًا، رغم التحفظات التي تحيط بتضخم مصادر ثروته. بدا "مهاب" معترضًا على محاولة الدمج بين الشركتين، وأخبر والده بتخوفه من الخوض فيه:
-احنا مش محتاجين ده يا باشا! ومش ضامنين الشريك الجديد يعمل معانا إيه، وخصوصًا إنه مش سهل.
تفاهم معه "فؤاد" موضحًا أسبابه بقدرٍ من المنطقية:
-بس للأسف الوضع اليومين دول مش مبشر، ده كفاية المشاكل اللي عملها "سامي" وورطنا فيها، وخلانا نخسر جزء مش قليل من راس المال.
رغم تحفظه على اختياره لتولي أعمال العائلة منذ البداية إلا أنه لم يظهر اعتراضه عليه آنئذ؛ لكن صمته هذه المرة سيكبد أسرته المزيد من الخسائر الفادحة، لهذا تحدث بصراحةٍ مطلقة:
-إنت عارف إنه مش أد الشغل التقيل يا باشا، ودايمًا متسرع، فأنا مش هقبل إنه يفضل مكمل بطريقته الفاشلة.
رد عليه والده في أسفٍ:
-كنت عاوز أبعده عن طريقك، بس الظاهر حسبتي كانت غلط.
تفهم موقف أبيه، وتداركه في الحال:
-ماتقولش كده يا باشا، هو اللي استهتر بالمسئولية اللي عليه، ومقدرش قيمة اللي معاه.
ثم انتصب بكتفيه وأكد له بحماسٍ متزايد:
-عمومًا أنا جاهز للي تؤمرني بيه.
استحسن ما أظهره من جدية، وقال:
-طول عمرك مريحني يا "مهاب".
أكمل بعدها الاثنان مناقشة بنود الاتفاق، كل بندٍ على حدا، حتى تساءل "فؤاد" في اهتمامٍ كبير:
-صحيح ماجبتش حفيدي معاك ليه؟
أجابه متحججًا:
-المرة الجاية يا باشا، يكون خد الأجازة من المدرسة.
رد عليه بإيجازٍ:
-عظيم.
ثم تداول كلاهما ما تبقى من بنود على رويةٍ، ليضمن "مهاب" بذلك عدم توريط عائلته في أي شيء قد ينذر بالخسارة.
..............................................
رغم انفصـــالها الأكيد عنه، إلا أنها ظلت ماكثة في البيت مضطرة، متقبلة الوضع الحرج، فلا مكان غيره متاح لها لتذهب إليه، أقامت "تهاني" في غرفة ابنها، تنهش الأفكار المحيرات في رأسها، وتلتهم الخواطر المؤرقات ما تبقى من صمودها. تربصت، وانتظرت على أحر من الجمر عندما جاء "ممدوح" للقاء زوجها الذي عاد لتوه من سفره، تعلقت بأمل محاولته المستميتة للمساهمة في إيجاد الحل المناسب لها لضمان عدم حرمانها من صغيرها أبدًا، خاصة مع التقلبات المزاجية لطليقها، والتي تبدو في غالبيتها غير مضمونة العواقب. لم تتحمل التنصت عليهما، فأعصابها مرهقة، وقواها مستنزفة، لذا انسحبت، وبقيت تنتظر الخبر اليقين من أحدهما.
بداخل غرفة المكتب، استقر "ممدوح" جالسًا على الأريكة، وتابع حركة رفيقه وهو يملأ كأسيهما بالفاخر من المشروب المُسكر. ما لبث أن تدلى فكه للأسفل، وراح يهتف في اندهاشٍ ذاهل عندما اقترح عليه حله الجهنمي للأزمة الراهنة:
-نعم، أنا أتجوز "تهاني"؟
كان يتحدث إليه كأنما يأمره، لا يطلب منه رأيًا، خاصة مع تأكيده:
-أيوه، معنديش حل إلا كده...
بقي "ممدوح" على حاله المستغرب، بينما رفيقه لا يزال يخاطبه بعبارات موحية:
-وماتقلقش، أنا هظبطك وأراضيك بقرشين حلوين.
حاجته إلى المال الذي يضعه في مقدمة صفوف الأثرياء، وصفوة المجتمع، كانت تفوق أي رغبة أخرى، ومع ذلك تعلل بامتناعه عن القبول قائلًا:
-بس الموضوع محرج، دي مراتك...
ثم ثبت نظراته القاتمة عليه وهو يتم جملته بعبارة وصل مدلولها الصريح إليه في التو:
-إزاي تقبل إنها تنام مع غيرك، حتى لو كنت أنا؟
رد عليه "مهاب" ببساطةٍ شديدة وهو يتحرك صوبه:
-أنا مضطر لكده، عشان أقدر أصلح الوضع.
ناوله كأسًا من المشروب قبل أن يتابع بمزاحٍ:
-وبعدين إنت مش حد غريب!
كالحرباء المتلونة تمسك "ممدوح" بحجته، وأصر عليها:
-إنت فاهم إن ظروفي ماتسمحش أتجوز، حتى لو لليلة.
ضحك في استمتاعٍ، وغمز له بطرف عينه هاتفًا:
-اطمن، كله بحسابه.
ثم أخرج من جيب سترته رزمة من النقود ليعطيها إليه وهو يأمره:
-خد دول مؤقتًا.
تحايل عليه بمكرٍ، وأظهر له تردد في القبول مهمهمًا بتذمرٍ طفيف:
-بس آ...
أصر عليه في تصميمٍ:
-خلاص يا "ممدوح"، ماتعقدش الحكاية!
وكأنه أعطاه مفتاح الخلاص ووسيلة أخرى للتربح منه، ليس ماديًا فقط، بل بطرق أخرى مغرية. مد الأخير يده، والتقط الرزمة الورقية، ناظرًا إليها باشتهاءٍ قبل أن ترتسم على شفتيه ابتسامة ماجنة، أتبع ذلك قوله الهادئ والمشابه لمكر الثعالب:
-عشان خاطرك بس .........