رواية لعنة الخطيئة الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم فاطمة احمد
الفصل الثاني والعشرون : إبقَ...بجانبي.
_________________
بمجرد رؤيته للغرفة وهي خالية هرع للخزانة يفتحها ورأى أن نيجار أخذت بعضا من أغراضها فقط فركل الباب بغضب وخرج للفناء صارخا :
قابلته حكمت بثباتها الإنفعالي وهي ترى سخطه وعصبيته وردت عليه :
- مش وظيفتي احرسها فكل مكان بتروحله يا حفيدي انا كنت نايمة في اوضتي واختك في اوضتها لحد ما جه الحارس وقالنا انه ملقاش الحصان المربوط برا الواضح ان الست هانم نطت من البلكونة الخلفية وركبت عليه وهربت ... قولتلك ان البت ديه شيطانة وملهاش أمان بس هي مكفاهاش اللي عملته من قبل ودلوقتي جاية تفضحنا وياعالم راحت ع فين.
صمتت تسترجع أنفاسها المهدورة ثم أكسبت نبرتها حدة أكبر وهي تقترب من آدم مردفة :
- ياما حذرتك من تساهلك مع بت الشرقاوي قولتلك اكسرلها ضلوعها وذلها وخليها مترفعش عينيها فيك بس انت عملت ايه اتجاهلتني وقولتلي انا مش هنزل للمستوى ده واضرب واحدة ست ... نفس الست اللي ضحكت عليك وقللت من قيمتك و...
- خلاص كفاية !
هدر آدم يقاطعها قبل أن تبدأ في ترديد نفس العبارات التي حفظها عن ظهر قلب لأنها لم تنفك تذكره بها طوال الأربع أشهر التي مرت على حادثة الطعن، ثم وجه نظره إلى فاروق الذي وصل للتو وسمع الأخبار من الحراس وقال :
- ابعت البهايم اللي تحت دول يروحو يدورو عليها في الشارع اللي ورا وخلي الباقي يحاول يلاقي أثر ليها من الجهة الشرقية وأنا هبقى اتحاسب معاهم ع التقصير ده بعدين.
- ماشي وانت هتروح ع فين دلوقتي.
سأله فاروق وهو يراه يخرج فرد عليه الآخر بإيجاز مقتضب :
- لمحطة القطر جايز هتسافر لازم اوصل لهناك قبل ماهي توصل.
- محطة القطر ؟ طب مش المفروض ندور عليها في بيت الشرقاوي الاول ممكن تكون هربت لعند صفوان وخباها عنده.
توقف آدم عن السير واستدار له مغمغما بغلظة :
- طالما قررت تهرب يبقى اكيد مش هتروح لعيلتها لأنها عارفة اني هلاقيها وارجعها انا بعرف ازاي هي بتفكر ديه قالت اكتر من مرة انها هتسافر للمدينة وغالبا عايزة تنفذ اللي في دماغها.
دلك رأسه بألم واستطرد بنبرة ساخطة :
- بس انا مش متأكد من انها اتواصلت مع صفوان عشان يساعدها تهرب ولا لأ ... لازم الاقيها قبل ما الخبر ينتشر في البلد مش هسمح لحد يقول ان حرمة الصاوي هربت منه.
أنهى كلامه وركب سيارته منطلقا بها في الشوارع المظلمة وهو يشعر بالشياطين تحوم من حوله في هذه اللحظة لا يصدق أنها خططت للفرار دون علمه واستطاعت فعل ذلك من دون انتباه أي أحد في السرايا، ترى منذ متى ونيجار تخطط وكيف امتلكت الشجاعة بل ولماذا الآن بالتحديد هل خافت من تهديده الذي أخبرها فيه بأنه سوف يكشف حقيقتها هي وصفوان أمام الجميع ؟
حسنا يبدو هذا السبب منطقيا اتضح بأنها جبانة للدرجة التي لا تقدر فيها على تحمل نتائج أفعالها لم يكفها ما ارتكبته في السابق ولم يكفي ما فعله ابن عمها بل هاهي نيجار تود فضحه أمام العمدة وسكان القرية أيضا حتى تشوه سمعته وتُفقده مزاياه وتجعله يخسر مكانته كرجل وكخليفة للعمدة في نظر كبار الرجال.
لعن آدم بداخله وضرب مقود السيارة هادرا بغضب :
- انتي مصرة تلعبي معايا اللعب الرخيس ده وتؤذيني بكل الطرق حكمت هانم عندها حق مكنش ينفع اتساهل معاكي و احط في الاعتبار انك واحدة ست بس ادعي يا نيجار اني ألاقيكي بسرعة قبل ما حد يسمع لأن اقسم بربي هدفنك وانتي حية المرة ديه لو سيرتي اتجابت ع لسان حد من البلد بسببك !!
__________________
أوراق متساقطة وأحراش غار حمراء ... طريق وعرة محملة بالطين الناتج عن مطر دام ليوم كامل ... ونسمات شتوية باردة عصفت بالأثقال التي بقلبها فزادته ثقلا لتطفق تستنشق النفس العليل قبل إكمال سيرها ...
لقد بدأت بالتخطيط منذ أسبوع من أجل هروبها، استسلمت وتخلت عن المقاومة من أجل عائلة ضحت بها وزوج يراها نكرة لا تستحق الإحترام فسعت للتحرر وجهزت حقيبة صغيرة خبأتها أسفل السرير تحتوي على قطع من ملابسها وبضع أوراق مالية تكفيها للسفر إلى المدينة وحين تصل سوف تتدبر حلا للمصاريف هناك.
وقفت نيجار تلهث بتعب من المشي لمسافة طويلة في هذا الجو لقد كان عليها ترك الحصان في منتصف الطريق حتى يعود ولا يستطيعوا بذلك تتبع أثرها لكن الشوارع الوعرة تجعل خطواتها متثاقلة لذا ضربت جبينها متمتمة :
- أول مرة بحس اني عملت حاجة غبية للدرجة ديه بس كان لازم استغل فرصة ان آدم مش موجود واطلع الليلة ديه ومن غير ما حد ياخد باله ... بس لازم اوصل للمحطة بسرعة أنا همشي كمان شويا لحد كام اقدر اخد تاكسي ولا توكتوك يوصلني.
حملت حقيبتها الصغيرة مجددا لكي تكمل سيرها ومن شدة البرد أدخلت يدها في جيب معطفها لتستشعر غرضا ما فأخرجته متأملة إياه بشرود لقد كان نفس قلادة عباد الشمس التي أعطاها لها آدم في فترة تعارفهما وحين رآها على عنقها ليلة إعلانه خليفة العمدة انتزعها بعنف ورماها أرضا فاِنكسرت وهاهي قد أخذتها معها بعدما ظلت محتفظة بها في أسفل درج في الخزانة.
مطت نيجار شفتها وهمست ممتعضة :
- ايه اللي خلاني اجيبها معايا ده انت مسبتش كلمة الا وقولتهالي لما شوفتني حاطاها عليا ودلوقتي أنا هربانة منك بس واخدة معايا ذكرى ليك ومش عارفة ليه ... أنا أصلا مبقتش افهم اللي بيحصلي كل ما اشوفك قدامي بقيت حاسة اني مش نيجار اللي بعرفها.
عادت وألقت القلادة داخل جيبها سائرة في حسرة وذكريات لا أحد يشاركها بها سوى جشاء الرياح ... بيد أن وحدتها لم تدم طويلا !!
توقفت قدماها عن المتابعة وضيقت عيناها بتوجس وأذناها التقطت صوت حوافر حصان قادم من بعيد فهلعت مفكرة بأن آدم وصل إليها لكن ظنها خاب عندما تراءى لها خيال جسد مختلف عن خاصة آدم وطفق يقترب وهو على ظهر الحصان حتى وقف أمامها فتراجعت نيجار خطوة إلى الخلف بتحفز قطعه الآخر وهو ينزل مقتربا مننا بملامح لا تبشر خيرا، رمقها من الأعلى إلى الأسفل بنظرات غير مريحة وقال :
- انتي مين يا قطة وبتعملي ايه هنا.
تلونت عيناها بعدائية هوجاء أخفت وراءها رهبة من هذا الرجل المريب وكادت تتابع خطواتها متجاهلة إياه لكنه أوقفها بكلامه وقد اكتسب صوته خبثا واضحا :
- أنا حاسس اني شوفتك قبل كده ... اه افتكرت ... مش انتي الست اللي كانت واقفة مع ابن الصاوي يوم ضربته بالنار.
انتفضت بفزع من كلامه وأحست بخفقات قلبها توشك على الإنفجار حين أدركت بأنها واقفة في طريق معزولة مع المجرم الذي حاول قتل آدم فرمت الحقيبة بتلقائية لتهرب منه لكن الآخر قبض على معصمها وأعادها إليه مقهقها :
- استني يا حلوة رايحة فين ده انتي جايالي ع طبق من دهب عشان اخد بتاري من الـ*** ابن عمك هو مرضيش يديلي حقي وقعد يغتر بنفسه قدامي بس أنا هوسخ شرفه وأخليه ميطيقش يبص في عيون الناس علشان يعرف من بعد كده ازاي يضحك ع مليجي.
تلميحاته القذرة وصلتها بوضوح فوقع قلبها أسفل قدميها وشهقت محاولة التخلص من قبضته صارخة بجزع :
- ابعد عني يا حيوان سيب إيدي ... الـحـقـوني !!
صاحت بأعلى صوتها وهي تثبث ساقيها في الأرض باِستماتة بينما يجرها مليجي خلفه برعونة وسط صراخها المستمر وهي تحاول إنجاد نفسها من قبضته والوصول إلى السكين المخبأة داخل حذائها الطويل إلا أنها لم تقدر لأن حركتها سكنت ... تماما كما سكن صوتها بعدما ضربها على رأسها وأفقدها الوعي !
وبعد مدة رمشت ببطء وقد تحرر عقلها من حالة الإغماء وعاد للوعي إثر إستمرار رأسها في الاهتزاز لعدة مرات قبل أن تفتح عينيها فتجد نفسها مربوطة على ظهر الحصان مثلما رُبط فمها ويديها فاِنتفضت متململة بعنف تضرب بقدميها في الهواء وتحاول التحرر بدموعها الغزيرة وصياحها المكتوم حتى توقف مليجي أمام كوخ مهترئ وسحبها معه ليرميها بالداخل ملقيا إياها على الأرض وهو يضحك بزهو منتصر :
- أخيرا وقعت بين إيديا وليمة مبتتقدرش بتمن. شرف الشرقاوي والصاوي بقى بين إيديا وهعمل مابدالي فيه.
لو أن الكابوس يعاش على أرض الواقع لتجسد في حالة نيجار الآن وهي مخطوفة من قبل قاطع طريق ينوي الانتقام من غريمه بواسطتها ولو أن الجماد ينطق لتلفظت جدران الكوخ بالرعب الذي تعيشه هي حاليا، رفعت يداها المقيدتان لتزيح الرباط من على فمها وهتفت بأنفاس محبوسة ووجه شاحب :
- أنا مش عارفة ايه هي مشكلتك مع عيلتي بالضبط بس اللي لازم انت تعرفه انك هتودي نفسك في داهية لو اذيتني ... جوزي مش هيسيبك هيجي يقتلك من غير ما يرفله جفن.
أطلق ضحكات صدئة فخرجت رائحة الخمر المقرفة من فمه لتشعرها بالغثيان ثم انحنى عليها ومرر يده على وجهها مرددا :
-و فين جوزك ده سايباه في نص الليل ومروحة ع فين ولا هو رماكي لما عرف انه ابن عمك اللي خطط لقتله بس تعرفي أنا هاخد اللي عايزه منك وارميكي عند باب بيت الشرقاوي عشان الكل يشوف الـ*** وهو...
صفعة مدوية حشرت سيل كلماته الشنعاء في حلقه وجعلت رأسه يرتد بعنف حينما انتفضت نيجار بإشمئزاز من لمسته وهبطت بظهر يدها على صفحة وجهه بكل ما أوتيت من عنفوان نضح من صرختها الشرسة :
- النجوم أقربلك مني يا ندل يا واطي !!
بَيد أن هذا الندل الذي يعتبر أن التعدي على جسد امرأة هو نوع من الرجولة أظلمت عيناه بجنون وأعاد لها صفعة بواحدة أقوى صارخا :
- انا كنت ناوي اسيبك عايشة بس حتى الحياة مش هتطوليها.
أنهى مليجي كلامه ضاربا رأسها في الأرض فصرخت نيجار وهي تركله وتقاوم يده التي امتدت لمعطفها تمزق أزراره كانت دموعها مختلطة بقطرات الدماء التي تسربت من انفها النازف إثر صفعاته كي يفقدها قوتها فداهمها الدوار بضراوة لكنها جاهدت لتبقى بوعيها وتنقذ نفسها فرفعت قدمها وسحبت السكين من داخل حذائها لتوجهه نحوه من دون تردد فأصاب كتفه !
انصدم مليجي من فعلتها وصرخ بألم شاتما إياها وتنحى جانبا يتأوه بشدة مرددا :
- يا بنت الـ*** أنا هوريكي.
قفزت من مكانها بهستيرية وتحاملت على نفسها مستخدمة كل طاقتها المتبقية لتنهض وتهرب وبمجرد وصولها للباب المهترئ شعرت بقبضته تمسكها من الخلف وتسحبها حتى تقع على الأرض وهنا صرخت نيجار بأعلى صوتها :
- ابـعـد عـنـي ... آااادم !!
وأغمضت عيناها بعدما خيل لها بأن رأت وجهه، وسمعت صوته، أو ربما لم يكن خيالا ...
_________________
شد بأصابعه على عجلة القيادة حتى انحسرت كل نقطة دماء فيها، فهز رأسه بقوة وهو يحاول باِستماتة تبين الطريق من خلف رؤيته الضبابية المغشاة مدمدما بأعصاب تالفة :
- واحدة غبية يوم ماحبت تهرب طلعت في الجو ده انتي بلائي في الدنيا ديه بس استني وشوفي هعمل فيكي ايه لما الاقيكي.
ختم توعده الخافت بشهقة حادة عندما باغته اِنزلاق أرضي شديد ألقى به بعنف إلى الأمام وأوقف معه السيارة بشكل كلي، فاِنتزع نفسه من لجة الصدمة وترجل ليرى العجلة وقد انغرزت بعمق داخل حفرة فجة، فلعن بداخله وجال بعينيه المضطربتين بقلة حيلة في الطريق المهجور للحظات قبل أن تلتقط أذناه أصواتا أشبه بوقع حوافر حصان وتوقف بغتة ثم صدعت صيحة بعيدة مع كلمات متداخلة دامت لثوان وسكتت على حين غرة ...
اتسعت عينا آدم بتلجلج مرددا اسمها بخفوت وركض لمرمى الصوت أسفل قطرات المطر الخفيفة وهنا جفت الدماء في عروقه حينما أبصر حقيبة صغيرة مرمية على قارعة الطريق ... حقيبتها هي !!
صعق آدم وحانت منه التفاتة نحو أطراف الغابة التي لاحت من خلف سيول الوبل الجائر ليستمع لوقع حوافر الحصان مجددا لكن هذه المرة وهو يبتعد فهز رأسه يمينا وشمالا هامسا :
- معقوله تكون ... نيجار ..
ثم ألقى بنفسه نحو الغابة !
***
شق تلافيف الغابة راكضا بمصباح كان نوره هو نقطة الضوء الوحيدة وسط ظلام دامس يجري من دون أن يلتفت إلى الخلف وأمطار السماء السخية ازدادت وتيرة انهمارها لتمسي سيولا جارفة أغدقت على جسده وهو يلهث مفزعا كائنات الغابة الحية بصرخاته المنادية :
- نـيـجـار.
وفي كل مرة كان يجيبه الصدى وبضع رفرفات لأجنحة طائر حانق !
هام آدم على وجهه مرات عديدة حتى بدأ اليأس يتسرب إليه وقد بدأ يفكر جديا بالعودة أدراجه نحو الطريق الخارجي شاتما نفسه ومتسائلا مالذي جعله متأكدا من أنها هي التي دخلت لهذه الغابة الموحشة فربما جاء صفوان وأقلَّها بنفسه أو أنها تركت حقيبتها لأي سبب وعادت للمنزل ولكن ما سبب سماعه لصرخة مستغيثة ترى هل كان يتوهم ذلك ؟
توقف عن الركض واستند لأحد الأشجار بعدما اشتد ألم كتفه وشرع يسحب الهواء لرئتيه بعمق حتى استرجع بعضا من أنفاسه وفكر بأنه ربما عليه تغيير الوجهة لأنه لا يرى ولا يسمع شيئا يدل على وجودها هنا، وبينما كان يهمّ بتنفيذ قراره التقط بطرف عينه لمعة على الأرض انعكست مع نور المصباح فدقق النظر وتراءت له ... قلادة عباد الشمس !!
انتفض آدم يلتقطها بلهفة وقد تيقن من أنها دخلت للغابة بالفعل فاِنطلق ثانيا يتبع هذه المرة آثار الحوافر حتى لمح كوخا من بعيد وركض ناحيته لينقبض قلبه بين ضلوعه حين وصلته صرخاتها المستنجدة وكانت آخر صرخة منها مقترنة باِسمه في نفس الوقت الذي حطم فيه الباب ليرى أسوء ما أبصرته عيناه منذ ولادته ... نيجار المغمى عليها بحالٍ مزرٍ ووغد يتهجم عليها بوجه مخدوش وكتف نازف ...
كلفه الوقت ثانيتان فقط قبل أن يقطع آدم المسافة الفاصلة بينهما ويكوّم مليجي على الأرض هادرا بصوت انعدمت منه ذرات الآدمية :
- يا *** يا **** أنا هقـ.تلك ... هـقـ.تـلــك !
تمرغ مليجي أسفله وحاول مقاومته لكن آدم الذي تحول لوحش بغيض جن جنونه وتدفقت بين عروقه حمما بدلا من الدم وهو يشرف عليه كملك الموت مكيلا له سيلا من اللكمات العنيفة التي انفرط لها ضماد كتفه لكنه لم يهتم بل كان كمن فقد تواصله بالدنيا أساسا ليجعله ينهض ويضرب رأسه عدة مرات على مائدة صغيرة يصرخ بجنون :
- ازاي تعمل كده في مراتي ازاي تلمس مـراتـي هقـ.تلك، همسحك من على وش الدنيا يا حـيـ.وان.
تفجرت الد.ماء من فم مليجي تماما كما تفجرت من فمه ومختلف أنحاء وجهه وجسده وقف عاجزا أمام هذا الهجوم الذي اكتسحه بضراوة حتى رماه آدم على الأرض لاهثا بحدة ليعسل هذا الأخير وتختنق كلماته في حلقه وهو يحاول التحدث :
- متقتلنيش ... أنا ... هساعدك اااه.
صاح ممزقا بالألم حين دعس آدم على ساقه لكنه تابع أملا في نيل رحمته مقابل الإعتراف بما اقترفه :
- أنا اللي صاوبتك بأمر من صفوان ... هشهد ضده بس ...
وانقطعت باقي حروفه مع خروج رصاصة من مسدس آدم مفـ.جرة رأسه !
***
بقلب ملكوم وفؤاد مفصوم، وجرح غائر فتك بكيانه المهزوم انحنى عليها يحرك جسدها المكدوم بين ذراعيه بلهفة وطفق يضرب وجهها بخفة لتستيقظ لكن سرعان ما توقف وهو يرى جروحها المفتوحة التي حتما لا تتحمل وضع لمسة إضافية عليها فتنهد بحرقة هتكت به وبرطم محدثا إياها :
- أنا لحقتك ... لحقتك وهطلعك من هنا متخفيش ... أنا معاكي.
تحامل على نفسه وهوان ساقيه ليحيط يدها حول رقبته قبل أن يأخذ نفسا عميقا ويحملها بين ذراعيه مخرجا إياها بعدما حرص على تغطيتها بالمعطف الشتوي نظر حوله بتيه باحثا عن الحصان الذي رآه منذ قليل وتعثر عقله بإدراك أنه ربما هاج وهرب خوفا من صوت الرصاص فزفر رافعا رأسه للسماء الماطرة بجنون متضرعا المدد من الله ثم سار يمشي بنيجار على الطريق الوعر وكل ما يتمناه هو ألا يخطئ في معرفة طريق العودة ...
_________________
رفع رأسه يحدق في المستشفى التي بدت له بعيدة المنال طيلة ساعتين عاصفتين وهو يحملها ويمشي بخطوات متثاقلة قضت على الباقي من قوته حتى وصل لمكان سيارته ونقلها بها ... فتمتم بهمسات شاكرة وتوقف باِندفاع عند مدخل الطوارئ هاتفا بوصب مرتاع :
- جيبو ترولي بسرعة ... مراتي بتموت.
اندلعت الحركة في المكان استجابة لهديره المهتاج مفزعا بعض الممرضين والمرضى الذين توجسوا من هيأته المزرية الفاقدة لكل معالم التحضر قبل أن يتمالك المعنيون بالأمر انفسهم ويجلبوا نقالة فدار حول السيارة واقتلع بابها الخلفي لتتبين له تلك المغيبة عن الحياة، هبَّ ينتشلها من المقعد بسرعة حين تراخى رأسها الشاحب على صدره ثم وضعها على النقالة مرددا وهو يتبع المسعفين الذين ركضوا بها إلى غرفة الفحص :
- اتضربت في دماغها ونزفت كتير أنا حاولت اكتر من مرة بس مقدرتش اصحيها.
وصلوا للمكان المنشود فأوقفته الممرضة عن المتابعة مرددة :
- حضرتك احنا هنشوف حالتها ونعمل الازم متشغلش بالك بس لازم نكشف عليك بردو.
أشارت لكتفه النازف المتهدل وهو يعجز عن تحريكها وطالعت لبرهة مظهره المدمر كمن خاض حربا تركته هائما لسنين طويلة، ببنطاله المتسخ بالوحل وشعره الأشعث الثائر وحدقتاه الحمراوتان نتيجة انفعاله وإرهاقه.
تأوه آدم فاقدا التوازن فأسنده الممرض وأخذه إلى حيث يستطيع تطهير جرحه وتجديد الضماد وفي هذه الأثناء ظهر فاروق الذي جاء على وجه السرعة حينما اتصل به الآخر منذ نصف ساعة نظر إليه بفزع مبرطما :
- آدم ايه اللي حصل مالك ايه اللي عمل فيك كده.
تنهد بشجن واستقام واقفا ليهرع فاروق مساعدا إياه ويأخذه للمقاعد في الخارج مرددا باِستماتة :
- ساكت كده ليه قولي حصل ايه انت بتعمل ايه هنا والست نيجار فين.
- نيجار جوا في اوضة الكشف.
- نعم !
- اتخطفت ... والـ*** اتهجم عليها.
فغر فمه متلقيا الصدمة وسأل عما يعني هذا فشرع آدم يسرد له باِقتضاب بداية من سماعه صرخة استنجادها حتى إنقاذها وقتله لذلك الوغد، كان من الصعب عليه أن يحكي لرجل آخر عما تعرضت له زوجته ولكنه اضطر للبوح من أجل التعامل مع الموقف قبل وصوله لأحد غيره وكان له ذلك عندما تنهد فاروق بسخط مغمغما :
- يغور في ستين داهية الكلب ده، متشغلش بالك هتصل بحكمت هانم واقولها أنك لقيتها في الطريق وهترجعها وبعدين اكلم الرجالة واخليهم ياخدو جثته ويدفنوها ... ومحدش هيعرف باللي حصل غيرنا احنا الاتنين.
هز رأسه باِمتنان لينهض فاروق ويجري اتصالاته أما آدم جلس منتظرا حتى خرج الطبيبة وقالت بعملية بحتة :
- المريضة اتعرضت لمحاولة إعتداء ونجت منها بس باين أنها قاومت جامد فـ اتلقت عنف كبير من المعتدي وده واضح من حالتها ... آدم بيه ممكن اعرف مين الست ديه ؟
أجابها بصوت خافت :
- مراتي ... هي اتخطفت وأنا لحقتها ع آخر لحظة.
تهدلت عيناها بتعاطف معه وقالت :
- أنا المفروض ابلغ عن الحادثة بس متفهمة ان حضرتك مش عايز شوشرة عشان كده مش هفتح محضر.
- ماشي ... شكرا.
- العفو يا بيه حضرتك ياما ساعدت عيلتي وجه وقت اردلك الجميل وعموما انت بتقدر تاخد مراتك هي نايمة دلوقتي بسبب المخدر ومش هتفوق غير بعد كام ساعة حمد لله على سلامتها.
________________
تزامنا مع طلوع الفجر لبداية يوم جديد توقف بسيارته أمام السرايا الخالية من حراسها بأمر من فاروق ثم حمل نيجار وصعد لغرفتهما بهدوء كي لا يستيقظ فرد من أفراد عائلته، وضعها على السرير برفق وذهب ليستحم ويبدل ملابسه ثم جلس بجوارها مطالعا الشاش الملتف حول رأسها والكدمات الباهتة هنا وهناك متذكرا تفاصيل أطول ليلة عاشها بحياته وتغضن وجهه بضيق وحسرة :
- مش عارف ألومك واحط الحق عليكي ولا اتعاطف مع حالك واسكت ... انتي حطتيني في موقف الراجل اللي شاف مراته بتتعرض لهجوم كل لما افكر اني كان ممكن موصلش في الوقت المناسب ولا ماخدش بالي من صوتك بحس بغضب كبير ناحيتك.
مد أصابعه يتحسس جروحها مردفا بشجن :
رغبتك الكبيرة في انك تؤذيني اتقلبت عليكي وكانت هتوديكي في داهية حقدي ناحيتك كبير بس مع ذلك مش قادر اشوفك بالضعف ده ... البنت اللي من اسبوعين حطت سلاحي على دماغها ومرفلهاش جفن لما الرصاصة طلعت من مكانها وضربت الحيوان إياه بسكينة وشوهت وشه عشان ميقربش عليها مينفعش تكون في الحالة ديه دلوقتي.
قطع وصلتهما صوت رنين الهاتف فأجاب عليه واستمع لفاروق وهو يخبره بأن وصل للكوخ المنشود ودفن جثة القتيل كما أنه حرص على كتم خبر هروب زوجته والتهجم علبها ولن يصل لأي أحد كان فشكره وانهى المكالمة ثم جلس على مقعد خشبي في طرف الغرفة مفكرا في أن فاروق لن يكون بهذا التقبل إذا عرف هوية القتيل فهو سبيله الوحيد لإثبات جريمة صفوان وآدم يعلم ذلك جيدا لكن رجولته لم ولن تقبل أن يُبقي عديم الشرف الذي تعرض لزوجته على قيد الحياة بل ويساعده في مسألة اغتياله أيضا.
تنهد وفرك ذقنه مستدركا بهمس :
- بس طالما صفوان والبني ادم ده متفقين مع بعض والمفروض شركا يبقى ليه يروح يتهجم ع نيجار معقوله ميكونش عرفها وطمع فيها لمجرد أنها ست ماشية لوحدها بليل ... طيب ولو كان بيعرفها ايه هيخليه يعمل فيها كده ممكن حصلت مشكلة بينه وبين صفوان وحب ياخد بتاره منها ولا يمكن نيجار على معرفة بيه من وقت طويل وهاجمته على عملته فيا لأنها مش عايزة تدخل في مشاكل لما انا اتضرب.
تأفف بخنق فجأة وهو يشعر بعضلات جسده تكاد تتفكك من الألم والتعب فحاول النوم قليلا وبالفعل أغمض عيناه سامحا لنفسه بأخذ غفوة قصيرة ...
بيد أنها لم تكتمل لأنه انتفض كالملسوع في رقاده على الكرسي فاِستجمع وعيه المجهد بصعوبة وارتد رأسه نحو مصدر الأصوات المعذبة التي تحشرج بها حلق نيجار الغافية فذهب اليها وفاجأه الروع الذي فجع ملامحها وتيبس جسدها أسفل الغطاء دون أن تنفك حبالها الصوتية عن متابعة نشيجها وأنينها المستنجد.
وقف آدم متلكئا لبرهة حتى حسم أمره وهز كتفيها مبرطما :
- نيجار ... نيجار اصحي.
وصلها صوته مكتوما كما لو أنها غارقة في المحيط المظلم وظلت تنتفض بأنين حتى صدرت شهقة مجفلة وانبثقت من جوفها محررة كلمة واحدة ... اسمها واحدا :
- آدم !!
شخصت بعينين جاحظتين في تقاسيمه بينما يهتك رأسها طنين عنيف صاحت على إثره وهي لا تزال تحت تأثير الحادثة :
- ابعد عني ... لا متلمسنيش ... ابعد عني ...
انتفضت متراجعة لظهر السرير منتفضة بهستيرية ومحيطة جسمها بكفيها فرفع آدم يداه في الهواء مرددا :
- نيجار انتي هنا معايا اهدي.
هزت رأسها ترفض الإستماع وشدت على شعرها صائحة :
- مقدرتش ... مقدرتش انقذ نفسي ... هو لمسني ... لمسني.
تفاجأ من حالتها فسارع يطمس ظنونها السيئة يرجها بين ذراعيه بهمسات متثاقلة :
- محصلش حاجة يا نيجار صدقيني انتي ضربتيه ولحقتي نفسك ... نـيـجـار بصيلي واسمعيني.
ارتدت نحوه عيناها الملكومتان بتكذيب فصفعتها نظراته المدججة بالصدق وانهمرت دموعها متيقنة بأنها مع آدم الآن ... آدم الذي رأته في خيالاتها وهو يركض بها في الغابة المظلمة تحت زخات المطر القوية متأوها بين الفينة والأخرى بسبب ثقله الذي آلم كتفه المصاب ... آدم الذي ضمها بحماية ووعدها بإخراجها من الكوخ وإنقاذها ... آدم الذي يجلس بجانبها في هذه اللحظة ويطمئنها ... يخبرها بأنها أنقذت نفسها بنفسها !!
وشعر هنا بحرارة اللقاء، حينما ارتخت أطرافها المتصلبة وهدأ صراخها الملتاع، وانقضت عليه واضعة رأسها على صدره وذراعاها حول خصره، هامسة بنشيج حار أرهف روحها :
- متسيبنيش لوحدي ... أنا خايفة.