رواية رحلة الآثام الفصل الواحد والعشرون 21 بقلم منال سالم
الفصل الحادي والعشرون
(طوق الأشواك)
بعدما هاتفته لتلتقي به بصورة عاجلة في هذا المكان العام، وتحديدًا ذلك المطعم الراقي، جلست متحفزة، متلفة الأعصاب، لم تخجل، ولم تكف عن ذرف الدموع علنًا وهي تسرد لـ "ممدوح" بإيجازٍ ما حدث من مشادة كلامية تطورت إلى تطليقها وطردها بشكلٍ مهين من بيتها، ليترتب على ذلك حرمانها من صغيرها الوحيد. ارتفع صوت نواحها ليلفت أكثر الأنظار إليهما وهي تتوسله بحرقةٍ:
-اتصرف يا "ممدوح"، أرجوك أعمل حاجة.
نظر حوله بتوجسٍ، قبل أن يطلب منها بصوتٍ جاد؛ لكنه مهتم:
-طب اهدي بس، الناس بتتفرج علينا.
صرخت "تهاني" في تحفزٍ، وقد بدت منهارة الأعصاب تمامًا:
-متقوليش أهدى أو أسكت، مش فارق معايا حد هنا خالص، المهم عندي ابني...
انسالت دموعها أكثر، وراحت تتابع بصعوبةٍ، وبصوتٍ شبه متقطع:
-"مهاب" استحالة يردني تاني، أنا ممكن أروح فيها لو اتحرمت من "أوس".
تطلع إليها مدعيًا إشفاقه عليها؛ لكنه كان متوقعًا مثل تلك النهاية في يومٍ ما، أصغى إليها حين استمرت تستفيض بألمٍ متعاظم:
-أنا استحملت فوق طاقة البشر حاجات كتير عشان ابني يفضل في حضني.
بالطبع كان يصل إليه ما يدور بين الزوجين أثناء لقائه برفيقه حينما يتشاركان المجون مع الفتيات العابثات، فكان "مهاب" يتفاخر بأفعاله غير السوية معها وتباريه في تهشيم روحها، وبعثرة كرامتها بطرق مختلفة، وكأن في ذلك تميزًا فريدًا؛ لكنه جعله يتمنى في نفسه أن يتمكن من اصطياد هذه الغنيمة ليُريها الفارق بينهما في منح طقوس الحب الجامحة. أخفى حقده، وغيرته، وما يحمله من تفكير سيء وراء هذا القناع الهادئ، ليسحب من جيب سترته الأمامي منديله القماشي، ثم مده به يده تجاهها، وخاطبها في شيءٍ من الثقة:
-متقلقيش، أنا ليا لي طريقتي معاه.
تناولت منه المنديل، وكفكفت به عبراتها المنسكبة وهي تسأله:
-هتعمل إيه؟
لجوئها إليه، وقلة حيلتها، تعزز بداخله القليل من القوة، فاستغل الفرصة، ورد باسمًا بغرورٍ محسوس في نبرته:
-كل خير...
ثم ادعى الاهتمام المبالغ فيه بشأنها عندما لاحقها بجملته التالية:
-المهم قوليلي دلوقتي هتباتي فين؟ عاوز أطمن عليكي.
تنفست بعمقٍ، وطردت الهواء من رئتيها دفعة واحدة، لتجيبه بعدها:
-أنا كلمت واحدة زميلتي هبات عندها كام يوم لحد ما أشوف هتسرى الأمور على إيه.
اقترح عليها بخبثٍ:
-لو ينفع أسيبلك شقتي تباتي فيها، وآ...
رفضت مقترحه بشكلٍ قاطع:
-لأ طبعًا، إنت بتقول إيه؟ استحالة أوافق بده.
برر لها مقصده بنفس الابتسامة الليئمة التي يخفي خلفها شيطانه الماجن:
-أنا حابب أشوفك بخير، ومش متبهدلة.
وضعت "تهاني" يدها على قلبها، مستشعرة نبضاته الموجوعة، وأخذت تدعو في عجزٍ:
-منك لله يا "مهاب"، هتعمل فيا أكتر من كده إيه؟
تجرأ "ممدوح" ووضع راحة كفه على ظهرها ليمسد عليه في رفقٍ، قبل أن يكرر طلبه عليها:
-من فضلك اهدي، أنا وعدتك إني هتصرف.
لم تبدُ منتبهة بقدرٍ كافٍ لتمانع ما يفعله، بل رجته باستجداءٍ أكبر:
-عشان خاطري روحله واتكلم معاه.
هز رأسه قائلًا بتأكيد:
-حاضر.. ماتشليش هم ...
ثم سحب ذراعه ليمسك بكأس العصير الموضوع أمامها، وأصر عليها وهو يبتسم ابتسامة صغيرة:
-اشربي بس العصير ده وروقي دمك.
....................................................
صارت الأيام متشابهة عليه، لا جديد فيها، ولا مكان متاح له ليعمل فيه، يئس من ضيق ذات اليد، ومن انعدام مصادر الدخل، نضب ما في جيبه، ولم يعد لديه ما ينفق به على بيته. سار متخاذل الأقدام، بالكاد يحبس دموعه، إلى أن بلغ منطقته الشعبية، رفع "عوض" بصره للأعلى فوجد المسجد أمامه، التجأ إليه، فخلع نعليه، وولج إلى الداخل قاصدًا الوضوء أولًا ليتطهر، كان محيط المسجد خاليًا، لا يتواجد به أحد، فمشى ببطءٍ إلى أحد الأركان، وافترش الأرضية جالسًا على ركبتيه، ورافعًا كفيه للسماء. انهمرت عبراته بتتابع وهو يشكو إلى المولى ما أصبحت عليه أحواله:
-يا رب كل أبواب الدنيا اتقفلت في وشي، ومافيش غير بابك اللي دايمًا مفتوح ليا.
نكس رأسه في خزي قبل أن يدفن وجهه بين راحتيه متابعًا شكواه:
-أنا مبقتش عارف أعمل إيه.
استمرت عيناه تبكيان، وقلبه يتألم وهو لا يزال يبوح بما يطبق على صدره:
-محدش راضي يشغلني، وأنا قليل الحيلة، مابفهمش في حاجات كتير.
عاد ليرفع وجهه للأعلى مناديًا في رجاءٍ وتضرع:
-يــــا رب أنا ماليش غيرك، وإنت الكريم الوهاب..
استفاض في مناجاته قائلًا:
-انظر لي بعين الرأفة يا رحمن، واكرمني بفضلك يا مُنعم!
ثم صمت عن الكلام وظل يسبح بحمد ربه، إلى أن جاء من خلفه شيخ الجامع، رجل خمسيني العمر، نحيف، له لحية رمادية اللون، ووجه هادئ الملامح. جلس أمام "عوض"، ووضع يده في حنو على كتفه متسائلًا بوجه بشوش وباسم:
-مالك؟ مهموم ليه؟
تصنع الابتسام وهو يرد بعد تنهيدة طويلة مليئة بالأسى:
-الحمدلله يا شيخ "عبد الستار"، أنا راضي بنصيبي، وباللي ربنا قسمه ليا.
ألح عليه في تصميم:
-قول ما تكسفش.
أطلق العنان لما عبأ صدره من همومٍ وأثقال، ولم يقاطعه الشيخ، تركه حتى فرغ تمامًا، ليخبره متبسمًا، وكأنه يأتيه بالبشارة الطيبة:
-طب أنا عندي ليك حل، بس مش عارف إن كان هيعجبك ولا لأ.
خفق قلبه وهو يسأله في لهفة ظاهرة على نظراته:
-خير يا شيخنا؟
ظل محافظًا على بسمته الهادئة وهو يوضح بهدوءٍ:
-احنا دايمًا متعودين نعمل ليالي محمدية وإحياء للذكر في أماكن كتير، وبنحتاج حد يساعدنا في نقل الحاجة وتوزيع الطلبات.
تحير فيما يريده منه، وقرأ الشيخ هذه الحيرة في عينيه، لذا سأله مباشرة:
-فإيه رأيك تبقى معانا؟
وكأن دعوته الصادقة قد استجيبت من فوق سبع سماوات، فهتف متسائلًا في غير تصديقٍ بعدما انفرجت أساريره:
-إنت بتتكلم جد يا شيخنا؟
أكد عليه بإيماءة إيجابية من رأسه:
-طبعًا، هي شغلانة بسيطة، بس باب رزق يجيلك منه أي حاجة.
تهلل على الأخير، وبدا مرحبًا للغاية بهذه الوظيفة المتواضعة عندما قال:
-طالما بالحلال فأنا راضي.
ثم رفع بصره وكفيه للسماء شاكرًا رب العزة على فيض نعمه:
-اللهم لك الحمد والشكر يا رب، ياما إنت كريم يا رب.
استحسن الشيخ ما يُظهره من رضا، وربت على كتفه في محبةٍ، فأسرع "عوض" بإمساك يده يريد تقبيلها وهو يقول في امتنانٍ:
-إيدك يا شيخنا.
سحبها في التو معاتبًا إياه بنظرة صغيرة:
-استغفر الله، احنا كلنا عبيد إحسانه جل وعلا.
وكأن روحه الملتاعة والمعذبة قد وجدت راحتها أخيرًا بعد أيام من الشقاء والحزن، لم يتوقف "عوض" عن ترديد عبارات الشكر والتضرع للمولى حتى خرج من المسجد، يريدُ أن يطلع زوجته على الأنباء السارة.
..........................................
دون ميعادٍ مسبق، التقى به في غرفة مكتبه بمسكنه، ليشاركه تناول المشروب، ويدعي كذلك تباهيه بما اعتبره إنجازًا جديدًا في تطور علاقته بـ "تهاني". ملأ "ممدوح" كأسه بالمزيد من هذا النوع الفاخر من الخمر، ووضع مكعبات الثلج فيه، ليحمله مع الآخر الذي أعده لرفيقه ممتدحًا تصرفه وهو يقترب من الأريكة ليجاوره في جلسته المسترخية:
-إنت جبار يا "مهاب"، حقيقي ماشوفتش في حياتي حد زيك.
وضع الأخير ساقه فوق الأخرى بتفاخرٍ، وعقب بإيجازٍ، وهذه النظرة المغترة تلمع في حدقتيه:
-ولسه!
تجرع قدرًا كبيرًا من الخمر، بلعه دفعة واحدة، وواصل الكلام:
-واحدة غيرها كان زمانها خلصت على نفسها عشان تترحم منك ومن اللي بتعمله فيها.
ضحك في زهوٍ، فأكمل "ممدوح" على نفس النهج المادح:
-دايمًا بتبهرني بأسلوبك.
أشار له "مهاب" بكأسه الذي يقبض عليه بيده، وقال:
-اتعلم من الأستاذ.
كان "ممدوح" على وشك النطق بشيءٍ، لكن الطرقة الصغيرة على الباب جعلته يتوقف، وينظر إلى حيث أطلت المربية الأجنبية، أومأت برأسها في خفةٍ، وأبدت اعتذارها اللبق قائلة:
-عذرًا للمقاطعة سيدي...
سمح لها "مهاب" بالكلام، فأوضحت بقليلٍ من الضيق:
-لكن "أوس" يرفض تناول طعامه، ولا يكف عن مناداة والدته.
التفت "ممدوح" برأسه لينظر إلى رفيقه متفرسًا بتدقيق في ملامحه، رأى كيف غامت تعبيراته، وكساها الوجوم، أخفض "مهاب" كأسه الفارغ وأمرها:
-استدعيه إلى هنا.
ردت في طاعة قبل أن تغادر مسرعة لتحضره:
-كما تأمر سيدي.
في نوعٍ من الفضول تساءل "ممدوح" بخبثٍ:
-هتعمل معاه إيه؟
قبل أن يفكر في إجابته اقترح عليه دون تفكيرٍ:
-أنا من رأيي تألف أي حكاية تضحك بيه عليها وتريح دماغك، ما إنت مش هتخلص من زن العيال.
لم يعلق عليه "مهاب" بكلمة، فاستمر يضيف بنزقٍ:
-أو الأحسن إنك تبعته مدرسة داخلي.
نظر له رفيقه بجمودٍ قبل أن يحذره بصوت غير متساهل:
-موضوعه مايخصكش.
استشعر تحفزه من صوته، فتراجع ضاحكًا ضحكة مكشوفة، ليعلل بعدها بسخافةٍ:
-أنا بفكر معاك بصوت عالي.
تحول بناظريه تجاه الباب عندما اقتحم الصغير "أوس" الغرفة ركضًا، توقف أمام أبيه متسائلًا دون تمهيدٍ:
-فين ماما؟
اعتدل "مهاب" في جلسته المسترخية، وأنزل ساقه لينظر إليه من مستواه قبل أن يضع قبضتيه على كتفيه مُجيبًا إياه:
-مسافرة.
في عنادٍ طفولي رفض تصديق كذبته هاتفًا بصوت منفعل:
-لأ أنا عاوزها، خليها ترجع.
عامله بهدوءٍ تام، وقال:
-بعدين يا "أوس"، أنا عاوزك تسمع الكلام وتاكل.
رفض الإصغاء إليه كليًا، أو حتى الاقتناع بما فاه به، وركل بقدمه الأرض في عصبية، مواصلًا الصراخ:
-لأ، إنت مشيتها من هنا، أنا عاوزها.
ضجر "ممدوح" مما اعتبره تدللًا زجًا، وصاح فيه بصوتٍ أجش:
-كفاية صداع يا ابني، هي مش راجعة تاني، حط ده في دماغك.
حينئذ تحولت نظرات "أوس" إليه وحدجه بكراهيةٍ صريحة، قبل أن يتدخل والده لينهره عن التدخل فيما لا يعنيه، وخاصة شأنه مع ابنه بقوله الصارم:
-"ممدوح"! ماتدخلش!
تلبك من إحراجه بهذا الشكل السافر، وأمام من؟ ابنه الذي لا يتجاوز طوله منتصف خصره، رسم ابتسامة متكلفة على ثغره مرددًا بتبريرٍ:
-أنا حبيت أساعد.
كرر عليه رفيقه بتصميمٍ شديد اللهجة:
-دي حاجة تخصني مع ابني!
نهض من جواره بوجه منقلب، وهتف بعبوسٍ مصحوب بنظرة نارية مسلطة على "أوس" تحديدًا:
-اللي تشوفه.
النظرة الجادة في عيني "مهاب"، مع نبرته الهادئة، كانتا وسيلته لإقناع صغيره بالتخلي عن عناده الطفولي، فاستطرد على مهلٍ:
-بص يا حبيبي، يومين وماما هترجع تاني، بس عشانها غلطت وزعلت بابا جامد، فاحنا مخاصمينها كام يوم، فما ينفعش إنت كمان تزعلني! عاوزك تسمع الكلام وتاكل، وأنا بنفسي هجيبها لحد عندك، اتفقنا؟
بعد لحظة من الصمت المترقب، اكتفى "أوس" بهز رأسه بالموافقة، فاستحسن والده ردة فعله، وقال في مدحٍ:
-برافو عليك.
أخذه إلى حضنه، وهمس له بشيءٍ في أذنه، لم يتمكن "ممدوح" من سماعه أو تفسيره بوضوح، ليخاطب بعدها "مهاب" المربية بلهجته الآمرة:
-انتبهي إليه جيدًا.
ردت باسمة:
-سمعًا وطاعة.
ثم ضمت الصغير من كتفيه، واصطحبته إلى الخارج، ونظرات "ممدوح" عليهما حتى غابا عن المشهد، ليقهقه هازئًا وهو يعيد ملء كأسه بالخمر:
-حتى ابنك عرفت تضحك عليه!
تأمله "مهاب" مليًا، وبنظرة غامضة، قبل أن يرد عليه:
-ومين قالك كده؟
توقف قبل أن يرفع الكأس إلى فمه متسائلًا في ذهول مندهش:
-معقولة هترجع "تهاني" تاني؟
ومضت فكرة جهنمية في رأسه، وأبت أن تبارح عقله بسهولة، كل ما فكر فيه لحظتها هو تطبيقها، لهذا أجابه مؤكدًا باسترخاء واضح عليه:
-أيوه.
رغم أن سنوات الصداقة بينهما ممتدة، إلا أنه لم يستطع سبر أغوار ما يدور في رأسه بسهولة، تحرك "ممدوح" صوبه مرددًا في استغراب حائر:
-إنت غريب بجد، وأنا مابقتش فاهمك بصراحة.
ترك حيرته تأكله، فاغتاظ من تجاهله المستفز، وسأله في تبرمٍ وهو يعاود الجلوس على الأريكة:
-لما إنت هتردها تاني ليه من الأساس طلقتها؟
بدا "مهاب" لحظتها وكأن نظراته شردت بعيدًا، متذكرًا الشجاعة التي كانت عليها في مواجهته، ليقول بعدها:
-بربيها، أو تقدر تقول بكسر مناخيرها، وأذلها أكتر.
ظل رفيقه يتابعه بعينين تعكسان تعجبه من موقفه، و"مهاب" لا يزال يتكلم:
-مش عاوزها في يوم تشوف نفسها عليا.
علق عليه "ممدوح" مشيرًا بيده:
-إنت بكده بتعقدها في حياتها!
نظر تجاهه، واستطرد ساخرًا بكلمات مبطنة، كان متأكد أن مغزاها وصل إليه كاملًا:
-كفاية الدلع اللي شايفاه على إيدي.
تصنع الضحك، وأخبره غامزًا بعينه:
-وإنت سيد مين يدلع .. بالكربـــــاج!
ضغط على كلمته الأخيرة ليشير إلى ســـــاديته، ووحــشيـته في التعامل مع زوجته وإهانتها دومًا. ابتسم "مهاب" في فخرٍ، ورد:
-بالظبط.
دون كلامٍ عرض "ممدوح" على رفيقه إعادة ملء كأسه بالمشروب، فوافق، وأعطاه له، نهض للمرة الثالثة ليعبئ الكأس مستطردًا في مكرٍ:
-بقولك إيه؟ أنا محتاج قرشين كده أمشي بيهم أموري.
وسَّد "مهاب" ذراعه خلف رأسه ليستريح عليه، وسأله مستفهمًا:
-ناوي على صيدة جديدة؟
التف ناظرًا إليه وهو يؤكد له شكوكه:
-يعني حاجة زي كده، والفلوس اللي معايا خلصت.
وقتئذ قام "مهاب" واقفًا، واتجه إلى الخزانة الموضوعة بجوار المكتب على طاولة صغيرة مستقلة، فتحها بمفتاحها الذي أخرجه من جيب بنطاله، وأخرج من رزم الأوراق النقدية اثنتين، ألقاهما على سطح مكتبه في إهمالٍ، ثم أشار لهما قائلًا بلهجة بدت آمرة:
-خد دول.
لم يمانع "ممدوح" أي لهجة يخاطبه بها، المهم أن يحصل على ما يجعله دومًا يظهر بشكلٍ مادي لائق أمام علية القوم. ناوله كأسه المملوء بالشراب المُسكر، وسار نحو المكتب ليلتقط النقود وهو يشكره في نبرة تضمنت لمحة تهكم:
-تسلم يا صاحبي، ومبروك مقدمًا.
............................................
أخذت الكلمات تنسل من جوفه متدافعة كالسيل وهو يقص على زوجته الوظيفة التي حصل عليها مصادفة، وإن كانت تفاصيلها غير واضحة بعد. انعكست الفرحة عليه، وأراد مشاركة حماته سعادته، فاستأذن بالدخول إلى غرفتها. ظلت الحماسة تشوب صوت "عوض" وهو يكلمها بوجه بشوش، ونظرات متفائلة:
-أهل الخير كتير، وإن شاءالله يا حاجة هنوديكي عند أحسن دكتور في البلد.
ثم استدار برأسه متطلعًا إلى زوجته ليكمل باقي جملته:
-الشيخ "عبد الستار" وعدني هيكلم حد من معارفه، وهيتكفل بكل حاجة.
ردت "فردوس" في رجاء طامح:
-ياه لو ده حصل يا "عوض".
أكد لها عن يقينٍ:
-هيحصل، استبشري خير بس.
ارتكزت نظراتها على جسد والدتها المسجي على الفراش، وقالت بعينين تلمعان بالدموع:
-نفسي أشوف أمي واقفة على رجلها من تاني.
نهض واقفًا ليدنو منها، ربت بخفةٍ على كتفها هاتفًا:
-بإذن الله، احنا هنعمل اللي علينا، وربنا يكرم.
لفظت الهواء بقوةٍ، وعقبت:
-يا مسهل الحال يا رب.
بعدئذ تجاوزته "فردوس" لتقترب من فراش والدتها، تطلعت إليها وهي تمسح الدموع العالقة في أهدابها متسائلة:
-سامعة يامه الكلام؟
جثت على ركبتها أمامها، وراحت تضيف في صوت مفعم بالأمنيات:
-بكرة هتخفي وتروقي، وترجعي تنزلي الحتة وتنوريها.
التعبير الجامد على وجه والدتها، بالإضافة لاتساع نظراتها، جعل قلبها ينقبض، ويتوجس خفية من وقوع ما تخشاه، هزتها في توترٍ وهي تسألها بجزعٍ:
-إنتي ما بترديش؟ مالك يامه؟
صاحت في لوعة منادية زوجها الذي كان قد خرج لتوه من الغرفة ليبدل ثيابه:
-إلحق يا "عوض"، أمي مابتردش عليا.
هرول ركضًا تجاه السرير، وقام بفحصها ظاهريًا، بينما زوجته تسأله بقلب منخلع:
-هي جرالها إيه؟
أدرك أن ملك الموت قد زارها، واسترد الخالق وديعته، فالتفت مواجهًا زوجته مرددًا:
-لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
بهتت ملامحها كليًا، وجحظت بعينيها متسائلة في صوت مرتعش، كأنما ترفض تصديق الحقيقة المفجعة:
-يعني إيه؟
ضمها إلى صدره ليقول في حزنٍ مواسيًا إياها:
-هي راحت عند اللي أحسن مني ومنك، ادعيلها يا "فردوس".
باتت شكوكها صحيحة، وفارقتها أمها للأبد، لتظل بلا حضن يأويها، ولا أمان يحتويها، انفلتت من أعمق أعماقها صرخة مليئة بكل الوجع واللوعة:
-يـــــــامه!
..............................................
بمجرد أن عادت إلى بيته، والتقت به، انهالت عليه بعشرات القبلات بلا توقفٍ، كأنما تعوض ما فاتها خلال فترة حرمانها منه، ولما لا والسعادة كلها تجتمع في حضنه البريء المنزه من شرور من حوله؟ زادت "تهاني" من ضمها إلى صغيرها في أحضانها، واعترفت له بنبرة مشتاقة للغاية:
-"أوس"! حبيبي، وحشتني أوي.
فرت من مقلتيها دمعات متأثرة وهي تخبره:
-أنا كنت خايفة أتحرم منك.
حاوطها الصغير بذراعيه، وتعلق في عنقها مخاطبًا إياها:
-ماما، ماتسبنيش تاني.
بلا تفكيرٍ أكدت له:
-حاضر يا حبيبي، أنا هفضل جمبك طول العمر مهما حصل.
قطع لحظة تواصلهما العاطفي المشحون بمشاعر المحبة والشوق صوت "مهاب" المتسائل في غلظةٍ طفيفة، فقيدها الخوف ارتياعًا من احتمالية إقصائها مجددًا:
-خلصتي سلام؟
أدركت أن وراء قدومه شرًا مستترًا، توقفت مرغمة عن احتضان صغيرها، ونظرت تجاهه في بغض غير قابل للشك، قبل أن ترد بملامحٍ عابسة:
-أيوه.
نظرته المميتة المسددة إليها جعلت معدتها تتقلص، ارتفع حاجباها للأعلى في إنكارٍ عندما قبض على كفها ليضع في يدها طوقًا من الجلد وهو يأمرها:
-حطي ده حوالين رقبتك.
سألته بصوتٍ مال للارتجاف:
-إيه ده؟
أحنى رأسه على وجهها كأنما يريد تقبيلها من وجنتها؛ لكنه همس لها في هسيس شيطاني:
-عايزك تجيلي زاحفة من هنا لحد الأوضة عندي، ويا ريت ماتتأخريش، ده لو حابة تفضلي هنا.
تخشبت، وانتفض داخلها لهنيهة محاولة استيعاب فجاجة ما يطلبه منها بوقاحة منقطة النظير، سرعان ما اشتاطت نظراتها بشدة، ومع ذلك لم تجرؤ على الاحتجاج بكلمةٍ، لتردد في جنبات نفسها:
-ربنا ينتقم منك يا ظــــالم.
حاولت مواراة ما يعتريها من إحساسٍ بالألم والقهر بابتسامة ناعمة، داعبت ذقن صغيرها تطلب منه في رقة:
-حبيبي، ممكن تخليك في الأوضة لحد ما أروح أشوف بابا عاوز إيه؟
تعلق بيدها بكلتا قبضتيه، وهتف في تجهمٍ، وبجبين مقتضب:
-ماتمشيش!
استلت بصعوبة يدها منه، لتمسح على رأسه في حنوٍ، أبقت ابتسامتها حاضرة على شفتيها وهي تؤكد له:
-أنا راجعة تاني.
ثم أحنت رأسها على جبينه لتقبله منه مطولًا وهي تُسمعه بصدقٍ:
-بحبك.
..............................................
ما إن أغلقت باب غرفة صغيرها، حتى أمسكت بالطوق المعدني الذي أعطاه لها، ونظرت إليه بعينين متحسرتين، طافت ببصرها حولها، وجدت الخدم متراصين، كأن الأمر قد جاءهم بالبقاء وانتظار ما تفعله، تيقنت أنه يُمعن هذه المرة في إذلالها بشكل لا يمكن نسيانه، لئلا تفكر مجددًا في مناطحته الرأس بالرأس، حاولت ألا تبدو منهزمة، محطمة، فادعت ثباتها، ورفعت الطوق بعدما فردته إلى عنقها، لتقوم بلفه حول رقبتها، أحكمت ربطه، وانحنت بكامل جسدها على الأرض لتبدأ في الزحف على ركبتيها ويديها نحو غرفة زوجها تنفيذًا لأمره المهين، وكل من في المنزل من خدمٍ يشاهدها بذهولٍ مستنكر!
نظرة الشماتة التي رمقتها بها المربية الأجنبية كانت كافية لإحــــراقها حية، انقهرت أكثر، ومع هذا واصلت الزحف بثباتٍ، ما لبث أن بدأت أطرافها ترتعش حينما أصبحت قاب قوسين أو أدنى من غرفته. توقفت "تهاني" عند عتبة الباب، حينما رأت قدميه أمامها، لم تجرؤ على رفع رأسها إليه بعد سحقها بلا هوادة؛ لكنه قال بنبرة متشفية حقودة:
-برافو، أحبك وإنتي بتسمعي الكلام كده!
سمح لها بالمرور زحفًا للداخل ليغلق الباب ورائها، كانت على وشك النهوض لتقف مستقيمة؛ لكنه جمدها في مكانها بإشارة من سبابته، فظلت على وضعها المهين، ومع ذلك سألته بصوتٍ جريح:
-إنت بتعمل فيا كده ليه؟
انتصب في وقفته المغيظة أكثر، وقال من عُلياه:
-بفهمك وضعك إيه هنا يا دكتورة...
نظرت له بعينين ضيقتين، تكنان له كل كراهية الدنيا، فأكمل بردٍ قاسٍ كالسهام، فأصاب كبريائها في مقتل:
-أوعي تفتكري عشان الناس بتحترمك برا بقالك قيمة!! أنا اللي عملتك، وأنا برضوه اللي أقدر أكســرك، وأهـــدك!
ابتلعت مرارة الإهانة، وألم الذل قسرًا، لتسأله برأس محني، وهي لا تزال جاثية على قوائمها الأربع:
-عاوز مني إيه؟
أمسك بطرف الطوق المعدني الملتف حول عنقها، جذبها منه بغتة، فتأوهت من الألم المهين، ورفعت عينيها الحمراوين لتنظر إليه في انكسارٍ ومذلة. ابتسم لها بشكلٍ شيطاني، وأخبرها بما جعل كل ما فيها يرتجف بقوة:
-كل خير يا ... مراتي الحلوة!
.....................................
من قال أن الأحزان تخبت بمرور الشهور والأيام؟ بل إنها تزداد عمقًا وترسخًا في الوجدان! عام كامل انقضى على رحيل والدتها، ورغم ذلك لم تنسَ هذه اللحظة العصيبة التي عاشتها بكل جوارحها، أصبح الحزن الكبير من نصيبها، ملازمًا لها، كما كان معها من قبل، لم يتغير أي شيء حولها سوى أنها باتت بالفعل وحيدة، تعيسة، متباعدة بمشاعرها حتى عن زوجها. مدت "فردوس" يدها ووضعت كوبي الشاي الفارغين في الصينية، ونظرت إلى جارتها "إجلال" عندما خاطبتها بصوتِ شبه معاتب:
-بقالك سنة ياختي لابسة أسود، مش ناوية تقلعيه؟ كفاية حزن بقى!
ردت عليها بمرارةٍ:
-وإيه يفرح في دنيتي عشان ألبس ملون عليه؟ الحزن معشش خلاص جوا القلوب.
تأثرت لحالها، وتعاطفت معها بشدة، فحاولت تخفيف وطأة ما تُعايشه بكلامها المطبب لجرجها الذي لم يندمل بعد:
-هوني على نفسك يا "دوسة".
بالكاد حاولت مغالبة دموعها القريبة وهي تعقب عليها:
-أنا بقيت مقطوعة من الدنيا.
شعرت "إجلال" وكأنها عاجزة عن مواساتها، فحاولت تغيير الموضوع لآخر، وسألتها بشكلٍ عفوي:
-ولسه برضوه مافيش أخبار عن "تهاني"؟
حينئذ اسودت ملامحها، واشتعل وجهها على الأخير، لتنفجر فيها بغضبٍ مشحون:
-ماتجبيش سيرتها الجاحدة الظالمة بنت الـ (...) دي، كفاية إنها جابت المرض والعيا لأمي، وفي الآخر ماتت بحسرتها عليها، هي دي أخت دي؟!!!
بحذرٍ واضح قالت:
-الله أعلم ظروفها إيه!
واصلت هجومها العدائي عليها بشراسة، فانطلقت الكلمات اللاعنة من بين شفتيها كالسيل العرم:
-ربنا يجحمها مطرح ماهي أعدة إن كانت حية ولا ميتة، ولا تشوف طيب أبدًا لا دنيا ولا آخرة!
ندمت جارتها للفكرة غير الموفقة في الحديث عن شقيقتها، ورجتها بضيقٍ منزعج:
-خلاص بقى، صلي على النبي في قلبك.
نفخت "فردوس" عاليًا وهي ترد:
-عليه الصلاة والسلام.
نهضت "إجلال" دافعة كرسي طاولة السفرة للخلف قليلًا، وقالت بإصرارٍ وهي تجمع ما تبقى من أطباق كانت مملوءة بالفاكهة والبسكويت:
-عنك أنا هودي الصينية المطبخ وأشطف اللي فيها.
اعترضت عليها "فردوس" قائلة:
-مافيش داعي تتعبي نفسك، الحكاية مش مستهلة.
صممت بترحابٍ:
-ولا تعب ولا حاجة.
غابت بعدئذ لدقائق في المطبخ ريثما انتهت من تنظيف كل شيء، لتخرج وهي تمسح يديها المبللتين في جانبي عباءتها، متحدثة إلى "فردوس":
-أنا هنزل دلوقتي شقتي، وأبقى أفوت عليكي وقت تاني، خدي بالك من نفسك يا حبيبتي.
أنهت جملتها وهي تقبلها على وجنتيها بالتتابع، لترد عليها الأخيرة باقتضابٍ:
-طيب.
ألقت عليها التحية قبل أن تسحب الباب ورائها لتغلقه:
-سلام عليكم.
همَّت "فردوس" بالاستدارة والذهاب إلى غرفة نومها؛ لكن استوقفها في منتصف الطريق قرع الجرس، تساءلت في استغرابٍ:
-هي "إجلال" نسيت حاجة ولا إيه؟
في تلقائية واضحة نادت من موضعها دون أن تفتح الباب بعد لترى من الطارق:
-أيوه يا "إجلال"!
تجمدت في مكانها مذهولة، وقد أبصرت من أذاقها قساوة الغدر يقف قبالتها بشحمه ولحمه، همهمت باسمه في صدمة جلية:
-"بدري"!
كانت لا تزال على دهشتها وهو يسألها بروتينية مشوبة بالحرج:
-إزيك يا مرات أخويا؟
في التو اكتسب وجهها طابعًا مستنكرًا، وتحولت نظراتها للسخط، لتظهر عدم ترحيبها بظهوره المفاجئ. تنحنح "بدري" بصوت خفيض قبل أن يستطرد:
-لا مؤاخذة إن كنت جيت كده على غفلة...
راقبته في نظرات متحفزة، فاستمر يخاطبها:
-أنا لسه راجع، وسألت عن "عوض" أخويا، والناس قالولي إنه لسه ساكن هنا..
لاذت بالصمت المريب، وكأن حضوره غير المتوقع قد جمدها. سألها "بدري" بعفوية وبعشمٍ غير موفق:
-هنفضل واقفين كده على الباب؟ مش هتقوليلي أتفضل يا مرات أخويا؟
ما بينهما لم يكن عاديًا، بل كان حافلًا بالكثير، الأحرى أن يقال أن هجره لها بهذه الخسة تسبب لها لاحقًا فيما تعرضت له من ذل وهوان. عاملته بجفاءٍ صريح حين ردت في عبوس:
-جوزي مش موجود، مقدرش أقولك اتفضل وأنا ست لوحدي.
تفهم موقفها هاتفًا:
-اللي إنتي شايفاه صح اعمليه.
حك مؤخرة عنقه، ليتابع بعدها بشيءٍ من التردد الحرج:
-عمومًا، أنا كنت عاوز أقولك كلمتين، أنا محقوقلك في اللي عملته زمان، ونفسي تسامحيني.
نظرت له بحنقٍ قبل أن تخبره عن عمدٍ، قاصدة التعبير عن كراهيتها الصريحة لما اقترفه في حقها قديمًا:
-ربنا بيخلص من كل واحد اللي عمله.
هز رأسه قليلًا، ليضيف بغموضٍ، وبصوتٍ يعبر عن الأسى:
-معاكي حق، واهوو ربنا انتقم مني وشوفت المرار كله.
طالعته بتحيرٍ، فلم يوضح أكثر، واكتفى بالطلب منها:
-لما يرجع "عوض" قوليله إن أخوه جه وسأل عليه، وأمه نفسها تشوفه.
أوجزت في ردها عليه، كأن شأن عائلته مع زوجها لا يعنيها بالمرة:
-طيب.
استدار "بدري" استعدادًا لانصرافه، ومع ذلك توقف ليقول بندمٍ:
-حقك عليا مرة تانية يا ست البنات.
اعتصر الألم قلبها للحظة، فقتـــلت ذلك الشعور الموجع، وتحركت عائدة لبيتها، ولسان حالها يهمهم في حسرةٍ:
-يفيد بإيه الندم بعد ما كله خلاص راح واتكسر ............................... !!
(طوق الأشواك)
بعدما هاتفته لتلتقي به بصورة عاجلة في هذا المكان العام، وتحديدًا ذلك المطعم الراقي، جلست متحفزة، متلفة الأعصاب، لم تخجل، ولم تكف عن ذرف الدموع علنًا وهي تسرد لـ "ممدوح" بإيجازٍ ما حدث من مشادة كلامية تطورت إلى تطليقها وطردها بشكلٍ مهين من بيتها، ليترتب على ذلك حرمانها من صغيرها الوحيد. ارتفع صوت نواحها ليلفت أكثر الأنظار إليهما وهي تتوسله بحرقةٍ:
-اتصرف يا "ممدوح"، أرجوك أعمل حاجة.
نظر حوله بتوجسٍ، قبل أن يطلب منها بصوتٍ جاد؛ لكنه مهتم:
-طب اهدي بس، الناس بتتفرج علينا.
صرخت "تهاني" في تحفزٍ، وقد بدت منهارة الأعصاب تمامًا:
-متقوليش أهدى أو أسكت، مش فارق معايا حد هنا خالص، المهم عندي ابني...
انسالت دموعها أكثر، وراحت تتابع بصعوبةٍ، وبصوتٍ شبه متقطع:
-"مهاب" استحالة يردني تاني، أنا ممكن أروح فيها لو اتحرمت من "أوس".
تطلع إليها مدعيًا إشفاقه عليها؛ لكنه كان متوقعًا مثل تلك النهاية في يومٍ ما، أصغى إليها حين استمرت تستفيض بألمٍ متعاظم:
-أنا استحملت فوق طاقة البشر حاجات كتير عشان ابني يفضل في حضني.
بالطبع كان يصل إليه ما يدور بين الزوجين أثناء لقائه برفيقه حينما يتشاركان المجون مع الفتيات العابثات، فكان "مهاب" يتفاخر بأفعاله غير السوية معها وتباريه في تهشيم روحها، وبعثرة كرامتها بطرق مختلفة، وكأن في ذلك تميزًا فريدًا؛ لكنه جعله يتمنى في نفسه أن يتمكن من اصطياد هذه الغنيمة ليُريها الفارق بينهما في منح طقوس الحب الجامحة. أخفى حقده، وغيرته، وما يحمله من تفكير سيء وراء هذا القناع الهادئ، ليسحب من جيب سترته الأمامي منديله القماشي، ثم مده به يده تجاهها، وخاطبها في شيءٍ من الثقة:
-متقلقيش، أنا ليا لي طريقتي معاه.
تناولت منه المنديل، وكفكفت به عبراتها المنسكبة وهي تسأله:
-هتعمل إيه؟
لجوئها إليه، وقلة حيلتها، تعزز بداخله القليل من القوة، فاستغل الفرصة، ورد باسمًا بغرورٍ محسوس في نبرته:
-كل خير...
ثم ادعى الاهتمام المبالغ فيه بشأنها عندما لاحقها بجملته التالية:
-المهم قوليلي دلوقتي هتباتي فين؟ عاوز أطمن عليكي.
تنفست بعمقٍ، وطردت الهواء من رئتيها دفعة واحدة، لتجيبه بعدها:
-أنا كلمت واحدة زميلتي هبات عندها كام يوم لحد ما أشوف هتسرى الأمور على إيه.
اقترح عليها بخبثٍ:
-لو ينفع أسيبلك شقتي تباتي فيها، وآ...
رفضت مقترحه بشكلٍ قاطع:
-لأ طبعًا، إنت بتقول إيه؟ استحالة أوافق بده.
برر لها مقصده بنفس الابتسامة الليئمة التي يخفي خلفها شيطانه الماجن:
-أنا حابب أشوفك بخير، ومش متبهدلة.
وضعت "تهاني" يدها على قلبها، مستشعرة نبضاته الموجوعة، وأخذت تدعو في عجزٍ:
-منك لله يا "مهاب"، هتعمل فيا أكتر من كده إيه؟
تجرأ "ممدوح" ووضع راحة كفه على ظهرها ليمسد عليه في رفقٍ، قبل أن يكرر طلبه عليها:
-من فضلك اهدي، أنا وعدتك إني هتصرف.
لم تبدُ منتبهة بقدرٍ كافٍ لتمانع ما يفعله، بل رجته باستجداءٍ أكبر:
-عشان خاطري روحله واتكلم معاه.
هز رأسه قائلًا بتأكيد:
-حاضر.. ماتشليش هم ...
ثم سحب ذراعه ليمسك بكأس العصير الموضوع أمامها، وأصر عليها وهو يبتسم ابتسامة صغيرة:
-اشربي بس العصير ده وروقي دمك.
....................................................
صارت الأيام متشابهة عليه، لا جديد فيها، ولا مكان متاح له ليعمل فيه، يئس من ضيق ذات اليد، ومن انعدام مصادر الدخل، نضب ما في جيبه، ولم يعد لديه ما ينفق به على بيته. سار متخاذل الأقدام، بالكاد يحبس دموعه، إلى أن بلغ منطقته الشعبية، رفع "عوض" بصره للأعلى فوجد المسجد أمامه، التجأ إليه، فخلع نعليه، وولج إلى الداخل قاصدًا الوضوء أولًا ليتطهر، كان محيط المسجد خاليًا، لا يتواجد به أحد، فمشى ببطءٍ إلى أحد الأركان، وافترش الأرضية جالسًا على ركبتيه، ورافعًا كفيه للسماء. انهمرت عبراته بتتابع وهو يشكو إلى المولى ما أصبحت عليه أحواله:
-يا رب كل أبواب الدنيا اتقفلت في وشي، ومافيش غير بابك اللي دايمًا مفتوح ليا.
نكس رأسه في خزي قبل أن يدفن وجهه بين راحتيه متابعًا شكواه:
-أنا مبقتش عارف أعمل إيه.
استمرت عيناه تبكيان، وقلبه يتألم وهو لا يزال يبوح بما يطبق على صدره:
-محدش راضي يشغلني، وأنا قليل الحيلة، مابفهمش في حاجات كتير.
عاد ليرفع وجهه للأعلى مناديًا في رجاءٍ وتضرع:
-يــــا رب أنا ماليش غيرك، وإنت الكريم الوهاب..
استفاض في مناجاته قائلًا:
-انظر لي بعين الرأفة يا رحمن، واكرمني بفضلك يا مُنعم!
ثم صمت عن الكلام وظل يسبح بحمد ربه، إلى أن جاء من خلفه شيخ الجامع، رجل خمسيني العمر، نحيف، له لحية رمادية اللون، ووجه هادئ الملامح. جلس أمام "عوض"، ووضع يده في حنو على كتفه متسائلًا بوجه بشوش وباسم:
-مالك؟ مهموم ليه؟
تصنع الابتسام وهو يرد بعد تنهيدة طويلة مليئة بالأسى:
-الحمدلله يا شيخ "عبد الستار"، أنا راضي بنصيبي، وباللي ربنا قسمه ليا.
ألح عليه في تصميم:
-قول ما تكسفش.
أطلق العنان لما عبأ صدره من همومٍ وأثقال، ولم يقاطعه الشيخ، تركه حتى فرغ تمامًا، ليخبره متبسمًا، وكأنه يأتيه بالبشارة الطيبة:
-طب أنا عندي ليك حل، بس مش عارف إن كان هيعجبك ولا لأ.
خفق قلبه وهو يسأله في لهفة ظاهرة على نظراته:
-خير يا شيخنا؟
ظل محافظًا على بسمته الهادئة وهو يوضح بهدوءٍ:
-احنا دايمًا متعودين نعمل ليالي محمدية وإحياء للذكر في أماكن كتير، وبنحتاج حد يساعدنا في نقل الحاجة وتوزيع الطلبات.
تحير فيما يريده منه، وقرأ الشيخ هذه الحيرة في عينيه، لذا سأله مباشرة:
-فإيه رأيك تبقى معانا؟
وكأن دعوته الصادقة قد استجيبت من فوق سبع سماوات، فهتف متسائلًا في غير تصديقٍ بعدما انفرجت أساريره:
-إنت بتتكلم جد يا شيخنا؟
أكد عليه بإيماءة إيجابية من رأسه:
-طبعًا، هي شغلانة بسيطة، بس باب رزق يجيلك منه أي حاجة.
تهلل على الأخير، وبدا مرحبًا للغاية بهذه الوظيفة المتواضعة عندما قال:
-طالما بالحلال فأنا راضي.
ثم رفع بصره وكفيه للسماء شاكرًا رب العزة على فيض نعمه:
-اللهم لك الحمد والشكر يا رب، ياما إنت كريم يا رب.
استحسن الشيخ ما يُظهره من رضا، وربت على كتفه في محبةٍ، فأسرع "عوض" بإمساك يده يريد تقبيلها وهو يقول في امتنانٍ:
-إيدك يا شيخنا.
سحبها في التو معاتبًا إياه بنظرة صغيرة:
-استغفر الله، احنا كلنا عبيد إحسانه جل وعلا.
وكأن روحه الملتاعة والمعذبة قد وجدت راحتها أخيرًا بعد أيام من الشقاء والحزن، لم يتوقف "عوض" عن ترديد عبارات الشكر والتضرع للمولى حتى خرج من المسجد، يريدُ أن يطلع زوجته على الأنباء السارة.
..........................................
دون ميعادٍ مسبق، التقى به في غرفة مكتبه بمسكنه، ليشاركه تناول المشروب، ويدعي كذلك تباهيه بما اعتبره إنجازًا جديدًا في تطور علاقته بـ "تهاني". ملأ "ممدوح" كأسه بالمزيد من هذا النوع الفاخر من الخمر، ووضع مكعبات الثلج فيه، ليحمله مع الآخر الذي أعده لرفيقه ممتدحًا تصرفه وهو يقترب من الأريكة ليجاوره في جلسته المسترخية:
-إنت جبار يا "مهاب"، حقيقي ماشوفتش في حياتي حد زيك.
وضع الأخير ساقه فوق الأخرى بتفاخرٍ، وعقب بإيجازٍ، وهذه النظرة المغترة تلمع في حدقتيه:
-ولسه!
تجرع قدرًا كبيرًا من الخمر، بلعه دفعة واحدة، وواصل الكلام:
-واحدة غيرها كان زمانها خلصت على نفسها عشان تترحم منك ومن اللي بتعمله فيها.
ضحك في زهوٍ، فأكمل "ممدوح" على نفس النهج المادح:
-دايمًا بتبهرني بأسلوبك.
أشار له "مهاب" بكأسه الذي يقبض عليه بيده، وقال:
-اتعلم من الأستاذ.
كان "ممدوح" على وشك النطق بشيءٍ، لكن الطرقة الصغيرة على الباب جعلته يتوقف، وينظر إلى حيث أطلت المربية الأجنبية، أومأت برأسها في خفةٍ، وأبدت اعتذارها اللبق قائلة:
-عذرًا للمقاطعة سيدي...
سمح لها "مهاب" بالكلام، فأوضحت بقليلٍ من الضيق:
-لكن "أوس" يرفض تناول طعامه، ولا يكف عن مناداة والدته.
التفت "ممدوح" برأسه لينظر إلى رفيقه متفرسًا بتدقيق في ملامحه، رأى كيف غامت تعبيراته، وكساها الوجوم، أخفض "مهاب" كأسه الفارغ وأمرها:
-استدعيه إلى هنا.
ردت في طاعة قبل أن تغادر مسرعة لتحضره:
-كما تأمر سيدي.
في نوعٍ من الفضول تساءل "ممدوح" بخبثٍ:
-هتعمل معاه إيه؟
قبل أن يفكر في إجابته اقترح عليه دون تفكيرٍ:
-أنا من رأيي تألف أي حكاية تضحك بيه عليها وتريح دماغك، ما إنت مش هتخلص من زن العيال.
لم يعلق عليه "مهاب" بكلمة، فاستمر يضيف بنزقٍ:
-أو الأحسن إنك تبعته مدرسة داخلي.
نظر له رفيقه بجمودٍ قبل أن يحذره بصوت غير متساهل:
-موضوعه مايخصكش.
استشعر تحفزه من صوته، فتراجع ضاحكًا ضحكة مكشوفة، ليعلل بعدها بسخافةٍ:
-أنا بفكر معاك بصوت عالي.
تحول بناظريه تجاه الباب عندما اقتحم الصغير "أوس" الغرفة ركضًا، توقف أمام أبيه متسائلًا دون تمهيدٍ:
-فين ماما؟
اعتدل "مهاب" في جلسته المسترخية، وأنزل ساقه لينظر إليه من مستواه قبل أن يضع قبضتيه على كتفيه مُجيبًا إياه:
-مسافرة.
في عنادٍ طفولي رفض تصديق كذبته هاتفًا بصوت منفعل:
-لأ أنا عاوزها، خليها ترجع.
عامله بهدوءٍ تام، وقال:
-بعدين يا "أوس"، أنا عاوزك تسمع الكلام وتاكل.
رفض الإصغاء إليه كليًا، أو حتى الاقتناع بما فاه به، وركل بقدمه الأرض في عصبية، مواصلًا الصراخ:
-لأ، إنت مشيتها من هنا، أنا عاوزها.
ضجر "ممدوح" مما اعتبره تدللًا زجًا، وصاح فيه بصوتٍ أجش:
-كفاية صداع يا ابني، هي مش راجعة تاني، حط ده في دماغك.
حينئذ تحولت نظرات "أوس" إليه وحدجه بكراهيةٍ صريحة، قبل أن يتدخل والده لينهره عن التدخل فيما لا يعنيه، وخاصة شأنه مع ابنه بقوله الصارم:
-"ممدوح"! ماتدخلش!
تلبك من إحراجه بهذا الشكل السافر، وأمام من؟ ابنه الذي لا يتجاوز طوله منتصف خصره، رسم ابتسامة متكلفة على ثغره مرددًا بتبريرٍ:
-أنا حبيت أساعد.
كرر عليه رفيقه بتصميمٍ شديد اللهجة:
-دي حاجة تخصني مع ابني!
نهض من جواره بوجه منقلب، وهتف بعبوسٍ مصحوب بنظرة نارية مسلطة على "أوس" تحديدًا:
-اللي تشوفه.
النظرة الجادة في عيني "مهاب"، مع نبرته الهادئة، كانتا وسيلته لإقناع صغيره بالتخلي عن عناده الطفولي، فاستطرد على مهلٍ:
-بص يا حبيبي، يومين وماما هترجع تاني، بس عشانها غلطت وزعلت بابا جامد، فاحنا مخاصمينها كام يوم، فما ينفعش إنت كمان تزعلني! عاوزك تسمع الكلام وتاكل، وأنا بنفسي هجيبها لحد عندك، اتفقنا؟
بعد لحظة من الصمت المترقب، اكتفى "أوس" بهز رأسه بالموافقة، فاستحسن والده ردة فعله، وقال في مدحٍ:
-برافو عليك.
أخذه إلى حضنه، وهمس له بشيءٍ في أذنه، لم يتمكن "ممدوح" من سماعه أو تفسيره بوضوح، ليخاطب بعدها "مهاب" المربية بلهجته الآمرة:
-انتبهي إليه جيدًا.
ردت باسمة:
-سمعًا وطاعة.
ثم ضمت الصغير من كتفيه، واصطحبته إلى الخارج، ونظرات "ممدوح" عليهما حتى غابا عن المشهد، ليقهقه هازئًا وهو يعيد ملء كأسه بالخمر:
-حتى ابنك عرفت تضحك عليه!
تأمله "مهاب" مليًا، وبنظرة غامضة، قبل أن يرد عليه:
-ومين قالك كده؟
توقف قبل أن يرفع الكأس إلى فمه متسائلًا في ذهول مندهش:
-معقولة هترجع "تهاني" تاني؟
ومضت فكرة جهنمية في رأسه، وأبت أن تبارح عقله بسهولة، كل ما فكر فيه لحظتها هو تطبيقها، لهذا أجابه مؤكدًا باسترخاء واضح عليه:
-أيوه.
رغم أن سنوات الصداقة بينهما ممتدة، إلا أنه لم يستطع سبر أغوار ما يدور في رأسه بسهولة، تحرك "ممدوح" صوبه مرددًا في استغراب حائر:
-إنت غريب بجد، وأنا مابقتش فاهمك بصراحة.
ترك حيرته تأكله، فاغتاظ من تجاهله المستفز، وسأله في تبرمٍ وهو يعاود الجلوس على الأريكة:
-لما إنت هتردها تاني ليه من الأساس طلقتها؟
بدا "مهاب" لحظتها وكأن نظراته شردت بعيدًا، متذكرًا الشجاعة التي كانت عليها في مواجهته، ليقول بعدها:
-بربيها، أو تقدر تقول بكسر مناخيرها، وأذلها أكتر.
ظل رفيقه يتابعه بعينين تعكسان تعجبه من موقفه، و"مهاب" لا يزال يتكلم:
-مش عاوزها في يوم تشوف نفسها عليا.
علق عليه "ممدوح" مشيرًا بيده:
-إنت بكده بتعقدها في حياتها!
نظر تجاهه، واستطرد ساخرًا بكلمات مبطنة، كان متأكد أن مغزاها وصل إليه كاملًا:
-كفاية الدلع اللي شايفاه على إيدي.
تصنع الضحك، وأخبره غامزًا بعينه:
-وإنت سيد مين يدلع .. بالكربـــــاج!
ضغط على كلمته الأخيرة ليشير إلى ســـــاديته، ووحــشيـته في التعامل مع زوجته وإهانتها دومًا. ابتسم "مهاب" في فخرٍ، ورد:
-بالظبط.
دون كلامٍ عرض "ممدوح" على رفيقه إعادة ملء كأسه بالمشروب، فوافق، وأعطاه له، نهض للمرة الثالثة ليعبئ الكأس مستطردًا في مكرٍ:
-بقولك إيه؟ أنا محتاج قرشين كده أمشي بيهم أموري.
وسَّد "مهاب" ذراعه خلف رأسه ليستريح عليه، وسأله مستفهمًا:
-ناوي على صيدة جديدة؟
التف ناظرًا إليه وهو يؤكد له شكوكه:
-يعني حاجة زي كده، والفلوس اللي معايا خلصت.
وقتئذ قام "مهاب" واقفًا، واتجه إلى الخزانة الموضوعة بجوار المكتب على طاولة صغيرة مستقلة، فتحها بمفتاحها الذي أخرجه من جيب بنطاله، وأخرج من رزم الأوراق النقدية اثنتين، ألقاهما على سطح مكتبه في إهمالٍ، ثم أشار لهما قائلًا بلهجة بدت آمرة:
-خد دول.
لم يمانع "ممدوح" أي لهجة يخاطبه بها، المهم أن يحصل على ما يجعله دومًا يظهر بشكلٍ مادي لائق أمام علية القوم. ناوله كأسه المملوء بالشراب المُسكر، وسار نحو المكتب ليلتقط النقود وهو يشكره في نبرة تضمنت لمحة تهكم:
-تسلم يا صاحبي، ومبروك مقدمًا.
............................................
أخذت الكلمات تنسل من جوفه متدافعة كالسيل وهو يقص على زوجته الوظيفة التي حصل عليها مصادفة، وإن كانت تفاصيلها غير واضحة بعد. انعكست الفرحة عليه، وأراد مشاركة حماته سعادته، فاستأذن بالدخول إلى غرفتها. ظلت الحماسة تشوب صوت "عوض" وهو يكلمها بوجه بشوش، ونظرات متفائلة:
-أهل الخير كتير، وإن شاءالله يا حاجة هنوديكي عند أحسن دكتور في البلد.
ثم استدار برأسه متطلعًا إلى زوجته ليكمل باقي جملته:
-الشيخ "عبد الستار" وعدني هيكلم حد من معارفه، وهيتكفل بكل حاجة.
ردت "فردوس" في رجاء طامح:
-ياه لو ده حصل يا "عوض".
أكد لها عن يقينٍ:
-هيحصل، استبشري خير بس.
ارتكزت نظراتها على جسد والدتها المسجي على الفراش، وقالت بعينين تلمعان بالدموع:
-نفسي أشوف أمي واقفة على رجلها من تاني.
نهض واقفًا ليدنو منها، ربت بخفةٍ على كتفها هاتفًا:
-بإذن الله، احنا هنعمل اللي علينا، وربنا يكرم.
لفظت الهواء بقوةٍ، وعقبت:
-يا مسهل الحال يا رب.
بعدئذ تجاوزته "فردوس" لتقترب من فراش والدتها، تطلعت إليها وهي تمسح الدموع العالقة في أهدابها متسائلة:
-سامعة يامه الكلام؟
جثت على ركبتها أمامها، وراحت تضيف في صوت مفعم بالأمنيات:
-بكرة هتخفي وتروقي، وترجعي تنزلي الحتة وتنوريها.
التعبير الجامد على وجه والدتها، بالإضافة لاتساع نظراتها، جعل قلبها ينقبض، ويتوجس خفية من وقوع ما تخشاه، هزتها في توترٍ وهي تسألها بجزعٍ:
-إنتي ما بترديش؟ مالك يامه؟
صاحت في لوعة منادية زوجها الذي كان قد خرج لتوه من الغرفة ليبدل ثيابه:
-إلحق يا "عوض"، أمي مابتردش عليا.
هرول ركضًا تجاه السرير، وقام بفحصها ظاهريًا، بينما زوجته تسأله بقلب منخلع:
-هي جرالها إيه؟
أدرك أن ملك الموت قد زارها، واسترد الخالق وديعته، فالتفت مواجهًا زوجته مرددًا:
-لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
بهتت ملامحها كليًا، وجحظت بعينيها متسائلة في صوت مرتعش، كأنما ترفض تصديق الحقيقة المفجعة:
-يعني إيه؟
ضمها إلى صدره ليقول في حزنٍ مواسيًا إياها:
-هي راحت عند اللي أحسن مني ومنك، ادعيلها يا "فردوس".
باتت شكوكها صحيحة، وفارقتها أمها للأبد، لتظل بلا حضن يأويها، ولا أمان يحتويها، انفلتت من أعمق أعماقها صرخة مليئة بكل الوجع واللوعة:
-يـــــــامه!
..............................................
بمجرد أن عادت إلى بيته، والتقت به، انهالت عليه بعشرات القبلات بلا توقفٍ، كأنما تعوض ما فاتها خلال فترة حرمانها منه، ولما لا والسعادة كلها تجتمع في حضنه البريء المنزه من شرور من حوله؟ زادت "تهاني" من ضمها إلى صغيرها في أحضانها، واعترفت له بنبرة مشتاقة للغاية:
-"أوس"! حبيبي، وحشتني أوي.
فرت من مقلتيها دمعات متأثرة وهي تخبره:
-أنا كنت خايفة أتحرم منك.
حاوطها الصغير بذراعيه، وتعلق في عنقها مخاطبًا إياها:
-ماما، ماتسبنيش تاني.
بلا تفكيرٍ أكدت له:
-حاضر يا حبيبي، أنا هفضل جمبك طول العمر مهما حصل.
قطع لحظة تواصلهما العاطفي المشحون بمشاعر المحبة والشوق صوت "مهاب" المتسائل في غلظةٍ طفيفة، فقيدها الخوف ارتياعًا من احتمالية إقصائها مجددًا:
-خلصتي سلام؟
أدركت أن وراء قدومه شرًا مستترًا، توقفت مرغمة عن احتضان صغيرها، ونظرت تجاهه في بغض غير قابل للشك، قبل أن ترد بملامحٍ عابسة:
-أيوه.
نظرته المميتة المسددة إليها جعلت معدتها تتقلص، ارتفع حاجباها للأعلى في إنكارٍ عندما قبض على كفها ليضع في يدها طوقًا من الجلد وهو يأمرها:
-حطي ده حوالين رقبتك.
سألته بصوتٍ مال للارتجاف:
-إيه ده؟
أحنى رأسه على وجهها كأنما يريد تقبيلها من وجنتها؛ لكنه همس لها في هسيس شيطاني:
-عايزك تجيلي زاحفة من هنا لحد الأوضة عندي، ويا ريت ماتتأخريش، ده لو حابة تفضلي هنا.
تخشبت، وانتفض داخلها لهنيهة محاولة استيعاب فجاجة ما يطلبه منها بوقاحة منقطة النظير، سرعان ما اشتاطت نظراتها بشدة، ومع ذلك لم تجرؤ على الاحتجاج بكلمةٍ، لتردد في جنبات نفسها:
-ربنا ينتقم منك يا ظــــالم.
حاولت مواراة ما يعتريها من إحساسٍ بالألم والقهر بابتسامة ناعمة، داعبت ذقن صغيرها تطلب منه في رقة:
-حبيبي، ممكن تخليك في الأوضة لحد ما أروح أشوف بابا عاوز إيه؟
تعلق بيدها بكلتا قبضتيه، وهتف في تجهمٍ، وبجبين مقتضب:
-ماتمشيش!
استلت بصعوبة يدها منه، لتمسح على رأسه في حنوٍ، أبقت ابتسامتها حاضرة على شفتيها وهي تؤكد له:
-أنا راجعة تاني.
ثم أحنت رأسها على جبينه لتقبله منه مطولًا وهي تُسمعه بصدقٍ:
-بحبك.
..............................................
ما إن أغلقت باب غرفة صغيرها، حتى أمسكت بالطوق المعدني الذي أعطاه لها، ونظرت إليه بعينين متحسرتين، طافت ببصرها حولها، وجدت الخدم متراصين، كأن الأمر قد جاءهم بالبقاء وانتظار ما تفعله، تيقنت أنه يُمعن هذه المرة في إذلالها بشكل لا يمكن نسيانه، لئلا تفكر مجددًا في مناطحته الرأس بالرأس، حاولت ألا تبدو منهزمة، محطمة، فادعت ثباتها، ورفعت الطوق بعدما فردته إلى عنقها، لتقوم بلفه حول رقبتها، أحكمت ربطه، وانحنت بكامل جسدها على الأرض لتبدأ في الزحف على ركبتيها ويديها نحو غرفة زوجها تنفيذًا لأمره المهين، وكل من في المنزل من خدمٍ يشاهدها بذهولٍ مستنكر!
نظرة الشماتة التي رمقتها بها المربية الأجنبية كانت كافية لإحــــراقها حية، انقهرت أكثر، ومع هذا واصلت الزحف بثباتٍ، ما لبث أن بدأت أطرافها ترتعش حينما أصبحت قاب قوسين أو أدنى من غرفته. توقفت "تهاني" عند عتبة الباب، حينما رأت قدميه أمامها، لم تجرؤ على رفع رأسها إليه بعد سحقها بلا هوادة؛ لكنه قال بنبرة متشفية حقودة:
-برافو، أحبك وإنتي بتسمعي الكلام كده!
سمح لها بالمرور زحفًا للداخل ليغلق الباب ورائها، كانت على وشك النهوض لتقف مستقيمة؛ لكنه جمدها في مكانها بإشارة من سبابته، فظلت على وضعها المهين، ومع ذلك سألته بصوتٍ جريح:
-إنت بتعمل فيا كده ليه؟
انتصب في وقفته المغيظة أكثر، وقال من عُلياه:
-بفهمك وضعك إيه هنا يا دكتورة...
نظرت له بعينين ضيقتين، تكنان له كل كراهية الدنيا، فأكمل بردٍ قاسٍ كالسهام، فأصاب كبريائها في مقتل:
-أوعي تفتكري عشان الناس بتحترمك برا بقالك قيمة!! أنا اللي عملتك، وأنا برضوه اللي أقدر أكســرك، وأهـــدك!
ابتلعت مرارة الإهانة، وألم الذل قسرًا، لتسأله برأس محني، وهي لا تزال جاثية على قوائمها الأربع:
-عاوز مني إيه؟
أمسك بطرف الطوق المعدني الملتف حول عنقها، جذبها منه بغتة، فتأوهت من الألم المهين، ورفعت عينيها الحمراوين لتنظر إليه في انكسارٍ ومذلة. ابتسم لها بشكلٍ شيطاني، وأخبرها بما جعل كل ما فيها يرتجف بقوة:
-كل خير يا ... مراتي الحلوة!
.....................................
من قال أن الأحزان تخبت بمرور الشهور والأيام؟ بل إنها تزداد عمقًا وترسخًا في الوجدان! عام كامل انقضى على رحيل والدتها، ورغم ذلك لم تنسَ هذه اللحظة العصيبة التي عاشتها بكل جوارحها، أصبح الحزن الكبير من نصيبها، ملازمًا لها، كما كان معها من قبل، لم يتغير أي شيء حولها سوى أنها باتت بالفعل وحيدة، تعيسة، متباعدة بمشاعرها حتى عن زوجها. مدت "فردوس" يدها ووضعت كوبي الشاي الفارغين في الصينية، ونظرت إلى جارتها "إجلال" عندما خاطبتها بصوتِ شبه معاتب:
-بقالك سنة ياختي لابسة أسود، مش ناوية تقلعيه؟ كفاية حزن بقى!
ردت عليها بمرارةٍ:
-وإيه يفرح في دنيتي عشان ألبس ملون عليه؟ الحزن معشش خلاص جوا القلوب.
تأثرت لحالها، وتعاطفت معها بشدة، فحاولت تخفيف وطأة ما تُعايشه بكلامها المطبب لجرجها الذي لم يندمل بعد:
-هوني على نفسك يا "دوسة".
بالكاد حاولت مغالبة دموعها القريبة وهي تعقب عليها:
-أنا بقيت مقطوعة من الدنيا.
شعرت "إجلال" وكأنها عاجزة عن مواساتها، فحاولت تغيير الموضوع لآخر، وسألتها بشكلٍ عفوي:
-ولسه برضوه مافيش أخبار عن "تهاني"؟
حينئذ اسودت ملامحها، واشتعل وجهها على الأخير، لتنفجر فيها بغضبٍ مشحون:
-ماتجبيش سيرتها الجاحدة الظالمة بنت الـ (...) دي، كفاية إنها جابت المرض والعيا لأمي، وفي الآخر ماتت بحسرتها عليها، هي دي أخت دي؟!!!
بحذرٍ واضح قالت:
-الله أعلم ظروفها إيه!
واصلت هجومها العدائي عليها بشراسة، فانطلقت الكلمات اللاعنة من بين شفتيها كالسيل العرم:
-ربنا يجحمها مطرح ماهي أعدة إن كانت حية ولا ميتة، ولا تشوف طيب أبدًا لا دنيا ولا آخرة!
ندمت جارتها للفكرة غير الموفقة في الحديث عن شقيقتها، ورجتها بضيقٍ منزعج:
-خلاص بقى، صلي على النبي في قلبك.
نفخت "فردوس" عاليًا وهي ترد:
-عليه الصلاة والسلام.
نهضت "إجلال" دافعة كرسي طاولة السفرة للخلف قليلًا، وقالت بإصرارٍ وهي تجمع ما تبقى من أطباق كانت مملوءة بالفاكهة والبسكويت:
-عنك أنا هودي الصينية المطبخ وأشطف اللي فيها.
اعترضت عليها "فردوس" قائلة:
-مافيش داعي تتعبي نفسك، الحكاية مش مستهلة.
صممت بترحابٍ:
-ولا تعب ولا حاجة.
غابت بعدئذ لدقائق في المطبخ ريثما انتهت من تنظيف كل شيء، لتخرج وهي تمسح يديها المبللتين في جانبي عباءتها، متحدثة إلى "فردوس":
-أنا هنزل دلوقتي شقتي، وأبقى أفوت عليكي وقت تاني، خدي بالك من نفسك يا حبيبتي.
أنهت جملتها وهي تقبلها على وجنتيها بالتتابع، لترد عليها الأخيرة باقتضابٍ:
-طيب.
ألقت عليها التحية قبل أن تسحب الباب ورائها لتغلقه:
-سلام عليكم.
همَّت "فردوس" بالاستدارة والذهاب إلى غرفة نومها؛ لكن استوقفها في منتصف الطريق قرع الجرس، تساءلت في استغرابٍ:
-هي "إجلال" نسيت حاجة ولا إيه؟
في تلقائية واضحة نادت من موضعها دون أن تفتح الباب بعد لترى من الطارق:
-أيوه يا "إجلال"!
تجمدت في مكانها مذهولة، وقد أبصرت من أذاقها قساوة الغدر يقف قبالتها بشحمه ولحمه، همهمت باسمه في صدمة جلية:
-"بدري"!
كانت لا تزال على دهشتها وهو يسألها بروتينية مشوبة بالحرج:
-إزيك يا مرات أخويا؟
في التو اكتسب وجهها طابعًا مستنكرًا، وتحولت نظراتها للسخط، لتظهر عدم ترحيبها بظهوره المفاجئ. تنحنح "بدري" بصوت خفيض قبل أن يستطرد:
-لا مؤاخذة إن كنت جيت كده على غفلة...
راقبته في نظرات متحفزة، فاستمر يخاطبها:
-أنا لسه راجع، وسألت عن "عوض" أخويا، والناس قالولي إنه لسه ساكن هنا..
لاذت بالصمت المريب، وكأن حضوره غير المتوقع قد جمدها. سألها "بدري" بعفوية وبعشمٍ غير موفق:
-هنفضل واقفين كده على الباب؟ مش هتقوليلي أتفضل يا مرات أخويا؟
ما بينهما لم يكن عاديًا، بل كان حافلًا بالكثير، الأحرى أن يقال أن هجره لها بهذه الخسة تسبب لها لاحقًا فيما تعرضت له من ذل وهوان. عاملته بجفاءٍ صريح حين ردت في عبوس:
-جوزي مش موجود، مقدرش أقولك اتفضل وأنا ست لوحدي.
تفهم موقفها هاتفًا:
-اللي إنتي شايفاه صح اعمليه.
حك مؤخرة عنقه، ليتابع بعدها بشيءٍ من التردد الحرج:
-عمومًا، أنا كنت عاوز أقولك كلمتين، أنا محقوقلك في اللي عملته زمان، ونفسي تسامحيني.
نظرت له بحنقٍ قبل أن تخبره عن عمدٍ، قاصدة التعبير عن كراهيتها الصريحة لما اقترفه في حقها قديمًا:
-ربنا بيخلص من كل واحد اللي عمله.
هز رأسه قليلًا، ليضيف بغموضٍ، وبصوتٍ يعبر عن الأسى:
-معاكي حق، واهوو ربنا انتقم مني وشوفت المرار كله.
طالعته بتحيرٍ، فلم يوضح أكثر، واكتفى بالطلب منها:
-لما يرجع "عوض" قوليله إن أخوه جه وسأل عليه، وأمه نفسها تشوفه.
أوجزت في ردها عليه، كأن شأن عائلته مع زوجها لا يعنيها بالمرة:
-طيب.
استدار "بدري" استعدادًا لانصرافه، ومع ذلك توقف ليقول بندمٍ:
-حقك عليا مرة تانية يا ست البنات.
اعتصر الألم قلبها للحظة، فقتـــلت ذلك الشعور الموجع، وتحركت عائدة لبيتها، ولسان حالها يهمهم في حسرةٍ:
-يفيد بإيه الندم بعد ما كله خلاص راح واتكسر ............................... !!