رواية رحلة الآثام الفصل السابع عشر 17 بقلم منال سالم
الفصل السابع عشر
(نجمٌ في السماء)
رغم مضي الوقت على ذكرى ليلتهما المأســـــاوية إلا أن ذلك الحاجز الوهمي ظل قائمًا بينهما، فهي لم تمنحه الأذن بعد للاقتراب منها، ولم يسعَ هو لفرض نفسه عليها، كانا يعيشان تحت سقف واحد؛ لكن فصلت عشرات الأميــال بينهما. ما زال إحساسه بالذنب يؤلمه، يؤرق مضطجعه، يشعره بأنه لم يكن جديرًا بحماية زوجته. حاول مغالبة هذا الشعور القاسي، والتعامل معها بودية ومحبة لتألف وجوده معها؛ لكن هذه النظرة اللائمة المطلة من عينيها ضاعفت من شعوره بالخزي والخذلان. راقبها "عوض" وهي منهمكة في أداء أعمال المنزل التي لا تفرغ منها أبدًا، وكأنها وسيلتها للانشغال والتشاغل عنه. لم تخرج لمرة واحدة من البيت رغم إلحاحه عليها، حتى ما يلزم البيت من طعام وشراب كان يبتاعه هو. كان مدركًا للسبب المنطقي وراء عزلتها وانقطاعها، حتمًا هي تخشى مواجهة الناس، وتسعى لتجنب نظرات المعارف والجيران لها، فموضوع ليلة زفافهما كان ومازال يؤلمها. توقف عن الاستغراق في تفكيره، وتنحنح بصوت خشن لتنتبه لوجوده، ثم سألها بنبرة مهتمة:
-ناقصك أي طلبات؟
ردت "فردوس" بهزة نافية من رأسها:
-لأ، كله موجود.
لف يده حول عنقه يحكه قليلًا، ثم استطرد متابعًا:
-طيب، أنا هتأخر شوية، ورايا مأموريات ومشاوير..
علقت عليه باقتضابٍ:
-ماشي.
فكر في الترويح عنها، فاقترح عليها بإصرارٍ:
- لو حابة تروحي عند الست أمك وتقضي النهار معاها، فالبسي عشان أوصلك في سكتي.
نظرت له باستغرابٍ للحظةٍ، ثم حسمت رأيها مرددة:
-طيب.
.................................................
استحوذ بمكرٍ ودهاء على الفراغ الكبير الذي ملأ حياتها لأشهرٍ، وجعلها فريسة سهلة الاستدراج لأي إغراء بسيط، وبالتدريج لم تعد تشعر بهذه الوَحشة المسيطرة على نمط يومها الرتيب، وتناقص بداخلها شعور النقم والكراهية، لتصبح أكثر تقبلًا للمستجد في حياتها. تطلعت "تهاني" إلى "ممدوح" وهو يسير معها على البساط الأحمر الممتد بطول الردهة الخاصة بقاعة المؤتمرات حينما استطرد حديثه الباسم إليها:
-مبسوط إنك خدتي القرار ده.
رغم التوتر الذي اعتراها إلا أنها أخفته وراء ابتسامة رقيقة منمقة، لترد في إيجازٍ:
-شكرًا.
لم تصدق أنها استطاعت الانسياق وراء دعوته الملحة بطرح أفكارها المتفردة على المجتمع العلمي، ترددت في البداية، وعارضت قبولها؛ لكنها استسلمت مع تصميمه، وخاضت التجربة غير متوقعة نجاحها؛ لكنه أمدها بكل السبل والوسائل التي جعلت أحلامها تصبح حقيقة ملموسة، لتحفر بذلك اسمها بين جموع العلماء والأطباء المعروف عنهم دومًا بإقدامهم على تقديم مبادرات علمية مفيدة للغير، مما دفعها لتكون من ضمن المرشحين الأوائل للمشاركة في أي مؤتمر علمي. موجة من الارتباك عصفت بها وكأنها مرتها الأولى التي تتولى فيها الحديث عندما اقتربت من مدخل القاعة، شعر "ممدوح" باضطرابها، فقال مُلطفًا:
-ماتقلقيش أنا موجود جمبك في كل لحظة.
هزت رأسها في امتنان، فأكمل بشيءٍ من التوصية وهو يخفض بصره نحو بطنها المنتفخ والبارز من أسفل ثوبها الأسود اللامع:
-حاولي ماتتعبيش نفسك كتير...
لتتحول نبرته لشيء من اللؤم وهو يختتم عبارته:
-إنتي غالية عندنا.
أحست بتلميحٍ متوارٍ في جملته، استدعى سيرة من لا تحبذ التفكير فيه، فما كان منها إلا أن ضحكت قائلة في شيء من الاستهزاء:
-إيه دكتور "مهاب" موصيك عليا؟
صحح لها بتوضيحٍ شبه جاد:
-لأ، أنا بقالي مدة معرفش عنه حاجة، بس حقيقي أنا خايف عليكي، مش حابب إنك تتعبي.
ارتبكت من طريقته في إظهاره لاهتمامٍ مبالغٍ بها، وقالت كأنما تتهرب منه:
-عن إذنك، أنا اتأخرت.
تنحى للجانب، ورد دون أن تخبت بسمته:
-اتفضلي، وهتلاقيني مستنيكي لما تخلصي.
اكتفت بالإيماء برأسها قبل أن تتسارع خطواتها لتبتعد عنه، وذلك الإحساس الغريب والمتناقض تجاهه يناوشها بقوةٍ، حاولت مقاومة التشوش الذي يسود مشاعرها، بل وينعكس تأثيره الطاغي على تفكيرها، فهناك أشياء لا تزال معلقة، تحتاج للحسم قبل التفكير في أي أمر جديد.
..........................................
جمع الأوراق الرسمية من أمامه بعدما فرغ من التوقيع عليها جميعًا، ليضعها بحرصٍ في مغلفٍ أبيض اللون، ثم نقل المظروف إلى داخل حقيبته الجلدية، وأغلقها قبل أن ينتقل من موضع وقوفه إلى حيث كان يجلس في مواجهته عند قدومه لحجرة مكتبه. رفع المحامي نظره إلى رب عمله عندما شدد عليه بلهجته الصارمة:
-زي ما فهمتك يا حضرت الأفوكاتو.
في طاعة تامة علق عليه:
-اطمن يا "فؤاد" باشا، كل اللي أمرت بيه هيتعمل.
تأكد الأخير أنه لم يغفل عن شيء مما كُلف به، وأضاف في تهذيبٍ:
-استأذن معاليك.
أشار له "فؤاد" بيده لينصرف قائلًا:
-اتفضل.
أثناء خروجه تقابل مصادفة مع "سامي" الذي رمقه بنظرة حائرة مستغربة لوجوده، حاول استدراجه في الحديث ليعرف سبب زيارته؛ لكنه لم يمنحه ما يسد به رمق فضوله، فاتجه الأخير في الحال إلى مكتب أبيه، ظل يراوغ ويحاور في مواضيع شتى إلى أن انتهى به المطاف متسائلًا بنبرة مالت للتحقيق وهو يتفرس في قسماته:
-هو المحامي بيعمل إيه هنا يا باشا؟
أخبره بوجهٍ شديد الصرامة دون أن ينظر إليه:
-موضوع مايخصكش.
بهتت ملامحه للغاية من إحراجه المتعمد له، وقال حفظًا لماء وجهه المُراق:
-أنا بس بطمن لأحسن يكون في مشكلة ولا حاجة، يعني مافيش داعي حضرتك تتعب نفسك، كل اللي يمهني سلامتك، وأنا موجود عشان آ...
قاطعه في صوتٍ آمر غير متساهل:
-روح على مكتبك دلوقتي، لما أحتاجك هناديلك.
تحول حرجه لعاصفة من الضيق، اضطر مرغمًا لكظم ما يعتريه، وقال متصنعًا الابتسام:
-تمام يا باشا.
بدا في وجهه التذمر لأنه لم يعرف السر الذي يخفيه والده عنه، خاصة مع تكرار قدوم محاميه الخاص، دون أن يتم استدعائه لحضور لقائهما، والذي يرتبط في الأغلب بالعمل والاتفاقات المتعلقة به، لذا شك أن يكون الأمر أخطر مما يجيء في تصوره. تكلم "سامي" مع نفسه بعزمٍ وهو يسير نحو مكتبه:
-لازم أعرف إيه اللي بيدور من ورايا!
............................................
انتابتها قشعريرة مريبة ومبررة عندما وطأت خارج جدران بيتها، ندمت لأنها وافقت على ذلك، وسارت -وشعورها بالرهبة يغمرها- مجاورة لزوجها، اختلست النظرات على من حولها، كانت تخشى من أي ردة فعل غير متوقعة حينما يراها أحدهم، فقد توهمت أن الجميع مازالوا يذكرون تفاصيل ليلتها الدامـــية بعدما شاهدوا بأعينهم ما جرى حينها. هدأت خواطرها المتوترة نسبيًا عندما وجدت أن هواجسها غير حقيقية. استعادت جأشها، ومشت بخوفٍ أخذٍ في التناقص حتى بلغت بنايتها القديمة. تركها "عوض" عند المدخل، وقال:
-سلمي على الجماعة فوق، وأنا هطلع عندهم لما أرجع.
أولته ظهرها مرددة بوجهٍ شبه عابس:
-طيب.
تقابلت عند صعودها على الدرج مع جارتها "إجلال" التي كانت تنفض السجاد، سعدت الأخيرة للغاية لرؤيتها، وهللت في سرور متعاظم:
-"دوسة" حبيبتي.
احتضنتها، وانهالت عليها بعشرات القبلات على كل وجنة، وعاتبتها برقةٍ:
-كده يا "دوسة"؟ تنسيني يا حبيبتي؟
ردت بوجومٍ بائن:
-معلش.
تصنعت "إجلال" الضحك، ومازحتها:
-شكل صحتك مش جاية على الجواز.
لم تجد منها أي تعليق، فندمت على طرفتها على الموفقة، وتساءلت لتغير من مجرى الحوار:
-إنتي عاملة إيه؟ بقالنا كتير مشوفناكيش هنا، هو سي "عوض" مانعك تزوري خالتي ولا إيه؟
نفت بهزة من رأسها، وأجابتها صراحةً، وبنبرة مشوبة بالهم:
-لأ، أنا اللي مكونتش حابة انزل من البيت.
تفهمت للأمر، وقالت بودٍ وهي تميل عليها بوجهه لتقبلها:
-مش هعطلك يا "دوسة"، عشان تلحقي تقعدي مع خالتي شوية، إن شاءالله نتقابل تاني.
تنهدت مغمغمة في نفس النبرة الموحية بالتعاسة:
-ربنا يسهل.
شهدت "إجلال" كيف يمكن لمشاعر الحب حينما يتم الغدر بها أن تتبدل لأخرى على النقيض، ناقمة، ساخطة، وغير مقبلة على الحياة، لأن أحد الطرفين كان منذ البداية مستغلًا، ومنافقًا.
.................................................
رغم استقبالها الحميمي والحار لها إلا أنها شعرت بأنها مجرد ضيفة عابرة، بأن ما في المنزل ما عاد يخصها. اقتضبت في الحديث مع والدتها، والتهت بتنظيف ما احتوى على الغبار لئلا تحادثها بما لا تريد البوح به، خاصة ما يخص طبيعة علاقتها الفاترة مع زوجها. انقلبت سحنتها حينما جاءت خالتها على غير ميعاد، وكأنها لا تبدو مرحبة بوجودها. سألتها "أفكار" بفضولٍ وهي تجول بعينيها عليها من رأسها لأخمص قدميها:
-مالك يا "دوسة" خاسة كده ليه؟
ردت عليها وهي تجفف الأرضية المبتلة تحت قدميها بمنشفة جافة:
-أنا زي ما أنا.
تدخلت "عقيلة" في الحوار، وأخبرتها بعد زمة سريعة لشفتيها:
-وربنا أنا قولت هي مابتكلش.
سكتت "أفكار" لهنيهة، ثم تكلمت عاليًا وبنزق:
-لأحسن تكوني حبلى؟!!
شهقت "فردوس" مصدومة، وتوقفت عن التجفيف وهي منحنية على ركبتيها لتتطلع إليها بعينين مصدومتين، في حين تابعت خالتها متسائلة بمكرٍ:
-هو إنتو بقالكو كام شهر سوا؟
ردت عليها بوجومٍ:
-عيب يا خالتي الكلام ده.
ضحكت في تسلية، وأصرت عليها بسخافةٍ:
-يا بت هتعملي مكسوفة ولا إيه؟ علينا برضوه!
مرة ثانية شاركتهما "عقيلة" الحديث، وقالت بتعبيرٍ شبه جدي:
-أكيد لو في حاجة هتقول.
لم تبدُ شقيقتها مقتنعة بذلك، وأردفت في نفس الأسلوب السمج المستفز:
-ده احنا بقالنا شهور مابنشوف وشك، يعني لازمًا غرقانين في العسل، والدلع، وآ...
ضجرت "فردوس" من سماعها لمثل هذه التلميحات المتجاوزة، وكأنها حقًا تنعم بحياة هانئة مع من اختارت، لذا أنكرتها في التو، وبغير احترازٍ:
-محصلش، هو احنا أصلًا بنقعد سوا!!!
توقفت كلتاهما عن الكلام لتحدقا في وجهها بنظراتٍ جمعت بين الدهشة والذهول، آنئذ أدركت "فردوس" أنها أخطأت في إبلاغهما بحقيقة وضعها. استقامت واقفة، ومسحت كفيها في جانبي قميصها المنزلي، لتتجه بعدئذ بعينيها نحو أمها عندما لطمت على صدرها تسألها في جزعٍ:
-يا نصيبتي؟ ليه كده يا بت؟
أجابتها بوجهٍ ممتعض:
-مافيش يامه، مالناش نفس لبعض.
نظرت لها "أفكار" شزرًا، وعقبت بنبرة مليئة بالاستهجان، ويدها تشير إليها باحتقارٍ:
-طبعًا، ونفسه هتتفتح إزاي؟ شوفي بوزها ممدود شبرين لقدام!
اشتعل وجهها غيظًا من أسلوبها الفظ، فلم تكف عن مضايقتها، واستمرت تقول:
-بقى ده شكل واحدة هتخلي جوزها يلبد في البيت؟ ليه حق يكون معظم الوقت طفشان!
هتفت بها في حدةٍ، وقد اشتاطت غضبًا:
-مالوش لازمة الكلام ده يا خالتي!
لم تكترث لأمرها، وحذرتها بشيءٍ من الهجوم:
-إنتي لو فضلتي على نفس الحال مش بعيد تلاقيه متجوز عليكي.
انقبض قلبها، وراحت تصيح بالتياعٍ ممزوج بالضيق:
-ماتقوليش كده...
منحتها خالتها نظرة مستخفة بها، فدافعت عنه بثقةٍ عمياء:
-"عوض" مالوش في الكلام ده.
أكدت لها بما زعزع يقينها تجاهه:
-يا عين أمك الرجالة كلهم صنف واحد، لو ملاقوش الراحة في بيتهم هيدوروا عليها برا!
ثم مصمصت شفتيها، وسألتها في جرأة:
-على كده بقى بتلبسي ليه الشفتشي؟!!
تضرج وجهها بحمرة خجلة، ورمشت بعينيها مهمهمة:
-عيب كده!
ضحكت ساخرة منها، ووكزتها في جانب ذراعها، لتخبرها بعد ذلك بنبرة ذات مغزى:
-يا خايبة! وربنا الراجل ده ليه الجنة إنه مستحمل منك نشفان الريق!
كزت على أسنانها في حنقٍ، ومع ذلك لم تعلق عليها، بينما استمرت "أفكار" تتكلم مخاطبة شقيقتها كنوعٍ من التحذير:
-وعيها يا "عقيلة"، بدل ما ترجع تقعد جمبك بخبيتها الكبيرة!
على الرغم من فظاظة طريقتها إلا أنها كانت محقة في إنذارها، وهذا ما جعل شقيقتها ترتاع من احتمالية انفصــال ابنتها، أو على الأغلب زواجه بأخرى لتعاني بقســــاوة من الأمرين.
.........................................
مع مرور الوقت نما بينهما شيء أعمق من الود؛ لكنه ما زال مغلفًا بالحيطة والحرص، ولم يتجاوز الحدود، فرغم هجر "مهاب" لها إلا أنها حافظت على مسمى علاقتهما إلى أن تنتهي بشكلٍ رسمي. لن ينكر "ممدوح" أن مشاعر الغيرة قد بلغت منتهاها لديه عندما انكشفت له شخصية "تهاني" الإنسانية، تلك التي لم ولن ينظر إليها رفيقه مطلقًا، كم حقد عليه لكونه تفوق عليه في الظفر بها! آه لو سبقه في النيل منها، لربما اختلف كل شيء الآن. مرة أخرى اصطحبها لأحد المؤتمرات الطبية، وكالعادة أصر على اشتراكها في محاضرة الضيوف، ولم تعارضه مثلما فعلت في السابق، فخبرتها لم تعد محدودة في هذا المجال. تقوست شفتا "تهاني" عن ابتسامة مشرقة وهي تستطرد:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح" على كل حاجة عملتها عشاني، حد تاني كان استغل الموقف واتخلى عني، مش يدعمني بالشكل الكبير ده عشان أنجح.
رمقها بهذه النظرة الدافئة المليئة بقدرٍ من العتاب قبل أن يرد:
-هزعل منك بجد لو فضلتي تقولي كده!
تلونت بشرتها بحمرة نضرة، فقال عن قصدٍ ليزيد من إرباك مشاعرها:
-إنتي غالية عندي.
افتقارها لسماع ما يداعب مشاعرها المرهفة كأنثى جعلها تواقة دومًا لمثل هذه العبارات الناعمة التي تجعلها متأهبة لاستقبال المزيد. نظرت إليه بنظرة مختلفة، وهو يؤكد لها مبتسمًا:
-وأنا واثق إنك قريب أوي هترتاحي من كل مشاكلك.
تضمن جملته تلميحًا حذرًا يخص علاقتها الشائكة مع زوجها، تنهدت مليًا، وهمهمت في رجاءٍ كبير:
-يا ريت.
............................................
أدهشه تفوقها العلمي، ولباقتها الأدبية، فكانت لأغلب الوقت محط أنظاره، لا يرى سواها، ولا يسمع غيرها، كان في كامل انتباهه لكل شاردة وواردة تصدر عنها رغم جلوسه في مؤخرة القاعة؛ لكن زاويته أتاحت له رؤيتها بشكلٍ أفضل ودون إثارة الريبة أو التساؤلات، بقي مستغرقًا في تأملها إلى أن هبط عليه ظلًا غريبًا، جعله يدير رأسه للجانب ليمعن النظر فيمن حجب الرؤية عنه، سرعان ما اعتلت قسماته صدمة جلية، فهتف في غير تصديق، وقد اتسعت نظراته بشدة:
-"مهاب"!
ضرب كتفه بيده، وجلس إلى جواره قائلًا بعنجهيةٍ:
-مفاجأة مش كده؟
سحب "ممدوح" شهيقًا عميقًا، ليضبط به نوبة الاضطراب التي أصابته، لفظه على مهلٍ، ثم سأله مستفهمًا في صوتٍ شبه هادئ:
-ماقولتش إنك جاي ليه؟ على الأقل كنت روحت بنفسي أستقبلك في المطار!!
رد عليه في خبثٍ، ونظرة غامضة تصدح من مقلتيه:
-وأبوظ المفاجأة عليكم؟
تحفز "ممدوح" في جلسته، وسألته بتحيرٍ قلق بعدما اختفت البسمة من على محياه:
-إنت عرفت منين إن احنا هنا؟
رفع حاجبه للأعلى قليلًا، وأجابه:
-مافيش حاجة بتستخبى عليا.
ثم اتجه ببصره للأمام، لتقع عيناه على زوجته، وتابع بنبرة موحية:
-أنا شايف إنك قايم بواجبك على الآخر، مقصرتش مع "تهاني".
قال كأنما يسخر منه:
-مش إنت موصيني؟
مجددًا ضرب على كتفه بيده قبل أن ينهض ليخبره:
-وإنت الصراحة عملت بالوصية، وعوضت غيابي.
كلماته كانت منتقاة، ومبطنة بتلميح مفهوم، نظر إليه بشيءٍ من التوجس والقلق، ثم تساءل كمحاولة للتغطية على ذلك:
-أخبار "فؤاد" باشا إيه؟
مط فمه للحظةٍ، وأجابه:
-بقى أحسن.
تصنع الابتسام معقبًا:
-طب كويس.
أشار "مهاب" برأسه نحو المنصة، ثم خاطبه في تشفٍ، وهذه الابتسامة اللئيمة تتراقص على زاوية فمه:
-فرصة بقى أطلع أشجع مراتي، ولا إيه رأيك؟
غام وجهه كليًا، وانعكس ذلك أيضًا في نظراته إليه، بصعوبة حاول مبادلته الابتسام حينما رد عليه:
-اتفضل.
كاد ينهض ليسير معه؛ لكنه ضغط على كتفه ليبقيه جالسًا في مقعده وهو يكلمه بلهجة الآمر الناهي:
-خليك مطرحك، أنا عارف سكتي كويس!
ثم أطلق ضحكة خافتة كأنما يستهزئ به، قبل أن يوليه ظهره، ويتقدم للأمام تاركًا إياه يغلي بين أحقاده.
.................................................
ركزت عينيها على زجاجة الماء البلاستيكية الموضوعة أمامها إلى أن أحست بانقباضة غير مريحة تضرب في صدرها، وكأن حدسها يخبرها بشكلٍ غير مباشر باتخاذ حذرها، في عفوية تامة، تطلعت للأمام، وأبصرته، كانت مفاجأة مدوية، ما لبث أن استدعى عقلها لحظات المذلة والإهانة وهو يسير في خيلاء تجاهها، وكامل نظراته عليها، توقفت عن التنفس، كما جحظت عيناها على اتساعهما، ورددت بقلبٍ يدق في هلع:
-"مهاب"!
بقيت على حالتها المصدومة للحظاتٍ إلى أن استعادت رشدها، فنهضت مستأذنة من على منصة الحضور، محاولة الفرار منه قبل وصوله؛ لكن لحظها التعس شعرت بذراعه القوية تطوق كتفيها لتجبرها على الاستدارة للجانب، والنظر إليه، انفرجت شفتاها، وحملقت فيه بذهولٍ كبير، فاقدة لقدرتها على النطق بكلمة، مال نحو أذنها، وهمس لها بحرارة كانت ترتجف منها:
-حبيبتي، وحشتيني.
انطلقت شارات الإنذار في عقلها لتجبرها على الاستفاقة من حالة التيه التي سيطرت عليها بوجوده المؤثر، أيمكن لمتحجر القلب ومن يدعس على أرواح البشر أن يكون صادقًا في اهتمامه بأحدهم؟ ربما لانطلى عليها ذلك لو لم يتابع مرددًا بأسلوبه المتملك:
-فكرتيني مش راجع ولا إيه؟
حدجها بنظرة لها مدلولها وهو يسألها:
-"ممدوح" كان شايف شغله معاكي كويس؟
أدركت بصفاءٍ كامل أنه يحاول استفزازها، تهديد سلامها الذي ظنت أنها قد بدأت تعيش فيه بغيابه الدائم عنها، سرعان ما تحفزت ضده بوضوحٍ، تملصت من ذراعه، وتراجعت عنه متسائلة في حدة:
-إنت عاوز مني إيه؟
ألقى نظرة على الانتفاخ البارز في جسدها معلقًا:
-شكلك نسيتي إنك مراتي، وإن اللي في بطنك ده يخصني.
بغريزة أمومية وضعت يدها على بطنها تحميه، وهتفت في نوعٍ من الهجوم اللفظي عليه:
-مش شايف يا دكتور إنك اتأخرت على الطلاق؟ المفروض ورقتي كانت توصلني من زمان.
تفشى فيها الخوف حينما منحها هذه النظرة النهمة التي تجردها مما يسترها، قبل أن يخبرها مؤكدًا:
-ومين قالك إني هطلقك دلوقتي؟ ده أنا حتى ماشبعتش منك!
أحست بدفقاتٍ من العرق البارد تغمرها وقد لمحت "ممدوح" قادمًا من على بعد لينضم إليهما، ارتعشت شفتاها وهي تنطق باسمه:
-دكتور "ممدوح"!
التفت زوجها لينظر إليه صائحًا بصوتٍ مسموعٍ لكليهما:
-بيتهيألي دورك خلص لحد كده.
تجمد الأخير بمكانه ناظرًا إلى "تهاني" بتحيرٍ وضيق، أصبح أكثر حقدًا عليه عندما طلب منه "مهاب" في وقاحةٍ:
-محتاج أختلي بمراتي شوية، يا ريت تمشي!
اكتسب وجهه تعبيرًا ساخطًا رغم ترديده الهادئ:
-طبعًا، خدوا راحتكم.
انصرف مغادرًا وهو يبرطم بسبة خافتة، في حين انطلقت "تهاني" مواصلة فقرة هجومها الكاره عليه:
-إزاي قابل على نفسك تفضل مع واحدة مش طايقاك؟
وضع يده في جيب بنطاله، وانتصب أكثر في وقفته السامقة المتعجرفة، ليسألها في استعلاءٍ:
-للدرجادي نسيتي كنتي عاملة إزاي أول ما شوفتيني؟
ببساطة شديدة اعترفت له مسترسلة:
-كنت غبية، وعامية، ومش فاهمة حاجة.
وجوده كان كالهم على القلب، جعلها في حالة من الغضب والانفعال، وازداد ذلك بقوله المستمتع:
-تعرفي، أنا فكرت إنك نزلتي الحمل، بس إنتي فاجئتني.
رفعت سبابتها في وجهه، وهتفت في تحيزٍ حانق:
-أنا احتفظت بيه عشاني مش عشانك إنت.
وضع إصبعيه على طرف ذقنه قبل أن يقول:
-أكيد، ماهي فرصة ليكي برضوه تستفيدي عن طريقه.
الآن ترى صورة مختلفة عنه، حقيقته البشعة التي حجبها حبها الأعمى عن رؤيتها؛ شخصية مؤذية، متعجرفة، متملكة، تفرض سطوتها بكل الحيل والسبل لتحوز على ما لا تستطيع امتلاكه. استمرت في قولها المتعصب وهي تناطحه الند بالند:
-إنت غلطان يا دكتور.
امتدت يده تجاه وجهها لتلامس راحته صدغها، فانتفضت نافرة منه، ومع ذلك لم يبدُ مزعوجًا من تصرفها، بل قال في برودٍ تام:
-حبيبتي، أنا قريتك من أول لحظة!
احتقنت نظراتها بشدة، فتابع مستفيضًا في وصفها بتبجحٍ:
-واحدة طماعة، دورت على فرصة حلوة عشان تركب عليها، بس للأسف اللي حصل العكس!
وصلها وصفه الجارح والمهين، فاندفعت ناحيته بعصبية وهي تكور قبضتها لتلكزه في صدره صارخة به:
-إنت سافل ومش محترم.
أمسك بها من رسغها ضاغطًا عليه بقسوةٍ، أخفض يده مدمدمًا في صوتٍ صارم ومحذر:
-ماتنسيش نفسك!
انتشلت يدها من قبضته، واستمرت في مهاجمته كلاميًا:
-إنت واخد قلم كبير في نفسك...
قطب جبينه مظهرًا ضيقًا نسبيًا منها، فأكملت على نفس المنوال:
-أنا من غيرك أقدر أحقق أحلامي بنفسي، مش مستنية أستفيد منك بحاجة.
في التو هددها مباشرة:
-وأنا سهل عليا جدًا أدمرها، ومن غير مجهود.
اشتعلت عيناها على الأخير، فقال باستخفافٍ:
-ماتبصليش كده.
تأويهة خافتة انفلتت منها عندما أطبق على فكها يعتصره وهو يخاطبها:
-اللعب معايا مش سهل خالص يا دكتورة.
وضعت يدها على كفه تريد انتزاعه، فأرخى أصابعه عنها لتهمهم في ألمٍ:
-أنا بكرهك.
استخدم يده الأخرى في المسح على وجنتها قائلًا:
-كويس، عاوزك تفضلي كده.
انتفضت من لمسته التي اعتبرتها مقززة، وهتفت به:
-كنت غبية لما صدقت إن واحد زيك كويس.
لم تنتظر رده على كلامها، بل تحركت منصرفة بعيدًا عنه بخطواتٍ شبه مسرعة نحو سلم الدرج، ليلحق بها هاتفًا:
-أنا ماسمحتلكيش تمشي.
ثم قبض عليها من ذراعها ليوقفها عنوة، لم تقبل بإمساكه لها، وثارت عليه محاولة انتشــال ذراعه من بين أصابعه:
-ماتمسكنيش، شيل إيدك عني.
نجحت في الإفلات منه مستخدمة كامل قوتها، واستدارت بعصبيتها الجمة للأمام غير منتبهة لموضع قدمها، فزلت، وانكفأت على وجهها، فاقدة لاتزانها، لتسقط في حلقات دائرية بطول سلم الدرج وصوت صراخها المفزوع يرن في جنبات المكان. تسمر "مهاب" في مكانه مصدومًا مما حدث لها، وصاح يناديها:
-"تهانــــــــي"!
.........................................
مغلفًا بصمته، ومستغرقًا في تفكير عميق، مكث "مهاب" في الرواق على أحد المقاعد الجلدية بالمشفى، بعدما تصاعدت الأحداث واتخذت مسارًا مفاجئًا غير الذي كان مرسومًا له. بالطبع لكون الحادثة التي تعرضت لها زوجته خطيرة، رغم أنها لم تكن بقصدٍ منه، إلا أنها جعلته محط الاتهام والتساؤلات، فخضع للتحقيق المدقق كإجراء قانوني متبع، شهد بما حدث، موضحًا تفاصيل وقوعها، إلا أنه تغاضى عن الإبلاغ بشجارهما الذي نشب، مدعيًا أنها كانت متلهفة للعودة إلى منزلهما لتجديد شوقهما، فغفلت عن الانتباه لخطواتها وتعرقلت على الدرج، ولم يتمكن من إنقاذها.
استفاق "مهاب" من شروده عندما سأله رفيقه:
-عملت إيه؟ التحقيقات خلصت ولا لسه؟
أجابه بتعبيرات واجمة:
-لسه.
استطرد "ممدوح" يسأله في خبثٍ، كأنما يتأكد من شكوكه ناحيته:
-هما مفكرين إنك زقتها على السلم ولا إيه؟
حدجه بنظرة نارية قبل أن يجيبه:
-لو حابب أخلص منها طبيعي أعمل ده من غير شهود يا "ممدوح"، أنا مش غبي أوي كده.
توقف عن التحديق في وجهه عندما خرج إليه أحد الأطباء من الداخل ليخاطبه:
-دكتور "مهاب"...
نهض قائمًا، فاستأنف الطبيب كلامه بترددٍ:
-احنا للأسف مضطرين نلجأ للولادة القيصرية.
ظهر القلق الشديد على وجه "ممدوح"، بينما ظلت تعابير "مهاب" غير مقروءة، خاصة والطبيب يؤكد بنبرة شبه آسفة:
-الوضع صعب، والتدخل الفوري مطلوب حفاظًا على حياة الأم والجنين اللي في بطنها.
لم ينبس بكلمة، وأبقى على صمته المريب، فكرر عليه الطبيب لمرة أخرى:
-محتاجين موافقتك، باعتبارك زوج المريضة.
ظهرت الحيرة في عيني "ممدوح"، وابتلع ريقه متوقعًا الرفض من قِبل رفيقه، فمنذ متى يهتم لأحدهم؛ لكنه فاجأه عندما هتف بصوتٍ حازم:
-اعمل المطلوب.
هز الطبيب رأسه بالإيجاب، فتابع "مهاب" إملاء أوامره عليه:
-اسمعني كويس، اللي يهمني الجنين، مفهوم؟
قال بعد زفرة سريعة:
-احنا هنعمل اللي علينا وزيادة.
بعينين متحفزتين، تطلع "ممدوح" إليه، رغم كل شيء لم يمنعه ضيقه من سؤاله غير المتدبر:
-هي مش فارقة معاك ولا إيه؟
لم ينظر تجاهه، وهمهم وهو يستقر جالسًا على مقعده:
-مش وقته الكلام ده!
بحث عن شيء ليخبره به؛ لكنه لم يجد، لذا هسهس مع نفسه في استحقارٍ:
-للنـــدالة عنوان!
.................................................
الانتظار الطويل المحمل بالتكهنات بالخارج كان مزعجًا له، ربما لو استخدم سلطته لولج بلا أي تعقيد لداخل غرفة العمليات وتابع ما يدور بنفسه؛ لكنه للمرة الأولى في حياته يرتاع من فكرة تواجده، فقطعة منه تسبب بدون قصد منه في إيذائها. تأهب في جلسته، وانتفض دفعة واحدة عندما أطل الطبيب من الداخل ليعطيه البشارة بوجه مبتسم:
-ألف مبروك يا دكتور "مهاب"، الحمدلله الخطر زال، والأم والولد بخير.
غفل عن الجزء المتعلق بزوجته، وأبدى كامل تركيزه مع كلماته الأخيرة متسائلًا ليتأكد مما سمع:
-هي جابت ولد؟
رد بنفس الوجه المبتسم، وبإيماءة من رأسه:
-أيوه.
انفرجت أساريره بابتسامةٍ كانت مصحوبة بخفقة قوية في صدره، رأى "ممدوح" ما طرأ عليه من تغيير غريب ومريب، وراقبه دون تدخلٍ، عاد الطبيب ليكلمه:
-شوية وهننقل المدام بعد ما تفوق على أوضة خاصة بيها.
مرة ثانية لم يكترث لحديثه عنها، وسأله "مهاب" مستعلمًا:
-الولد كويس؟
جاوبه في الحال:
-بخير، بيتم فحصه جوا، اطمن...
أحس "مهاب" بنوبة من الارتياح تتخلل أوصاله، بينما الطبيب لا يزال يحادثه:
-صحيح الولادة كانت بدري عن ميعادها، بس الحمدلله عدت على خير.
ضنَّ عليه بأي رد يظهر اهتمامه بها، وانشغل بتفكيره في المولود الصغير الذي سيحمل اسمه، ولقب عائلته. انتبه لرفيقه عندما هنأه وهو يربت على ظهره بخفةٍ:
-مبروك يا صاحبي، بقيت أب.
ثم تصنع الضحك، واستأنف يسأله في لؤمٍ:
-أكيد الباشا الكبير هيفرح لما يعرف بخبر عظيم زي ده، ولا هو معندوش خبر بجوازك؟
حينئذ برزت نظرة مسيطرة في عيني "مهاب" وهو يقول بغرورٍ واثق:
-لأ عرف، ولاد الحلال خدموني الصراحة!
خيل إليه أنه يتهمه بنظرته تلك، كاد أن يبرر له لولا أن خرجت إحدى الممرضات من الداخل وهي تحمل لفافة قماشية، تقدمت بها نحو "مهاب" وهي تخاطبه:
-اتفضل يا دكتور، ابن حضرتك.
وكأنه صعق بلمسة غير متوقعة من سلك يسري فيه تيار كهربي حينما امتدت ذراعاه، وحمل عنها طفله البكري، قربه من صدره ببطءٍ، وراح يتأمله بنظرات ملية، مدهوشة، حائرة، غير مصدقة حقًا أنه يضم بين يديه لحمه ودمه. راقبه "ممدوح" بسحنةٍ مغتاظة، طغى عليه غليل نفسه، وأردف معلقًا عليه في أسلوب شبه متهكم ليحقر من أهمية هذه اللحظة الفريدة التي يعايشها:
-منظرك غريب أوي، مين كان يصدق إن الدكتور "مهاب" يبقى أب بالسرعة دي، أكيد إنت مصدوم!
للغرابة لم يبالِ "مهاب" بسخريته الظاهرة، ولا باستخفافه بمسألة إنجاب زوجته لطفل في ولادة مبكرة، بل كان منشغلًا بما يحمل، بقيت نظراته تحوي رضيعه دون غيره، وأخبره بصدقٍ عجيب:
-هتصدقني لو قولتلك إن دي لحظة ما تتعوضش.
وكأنه يزيد من اندلاع النيران بأعماقه بالإفصاح عن حقيقة مشاعره، لذا استهان بها مدعيًا ضحكه:
-معقولة؟ إنت بتحس؟ صعب أقتنع بصراحة!
سدد له نظرة مزدرية قبل أن يعقب عليه:
-تقتنع أو لأ مايهمنيش دلوقتي.
ابتلع إهانته البادية في نظرته إليه، وسأله كنوعٍ من المزاح:
-ماشي يا سيدي، على كده ناوي تسميه إيه بقى؟
كان كمن صعد نجمه إلى السماء في طرفة عين بميلاده غير المرتب له، خاصة إن علم والده أن حفيده البكري ذكرًا، فكم كان ينتظر لحظة كتلك، وإن لم يكن راضيًا عن زيجته! ابتسم في حبورٍ، ليترك لرضيعه سبابته ليلف أصابعه الضئيلة عليه، ثم قال في شموخٍ:
-بفكر في .. "أَوْس" ...........
(نجمٌ في السماء)
رغم مضي الوقت على ذكرى ليلتهما المأســـــاوية إلا أن ذلك الحاجز الوهمي ظل قائمًا بينهما، فهي لم تمنحه الأذن بعد للاقتراب منها، ولم يسعَ هو لفرض نفسه عليها، كانا يعيشان تحت سقف واحد؛ لكن فصلت عشرات الأميــال بينهما. ما زال إحساسه بالذنب يؤلمه، يؤرق مضطجعه، يشعره بأنه لم يكن جديرًا بحماية زوجته. حاول مغالبة هذا الشعور القاسي، والتعامل معها بودية ومحبة لتألف وجوده معها؛ لكن هذه النظرة اللائمة المطلة من عينيها ضاعفت من شعوره بالخزي والخذلان. راقبها "عوض" وهي منهمكة في أداء أعمال المنزل التي لا تفرغ منها أبدًا، وكأنها وسيلتها للانشغال والتشاغل عنه. لم تخرج لمرة واحدة من البيت رغم إلحاحه عليها، حتى ما يلزم البيت من طعام وشراب كان يبتاعه هو. كان مدركًا للسبب المنطقي وراء عزلتها وانقطاعها، حتمًا هي تخشى مواجهة الناس، وتسعى لتجنب نظرات المعارف والجيران لها، فموضوع ليلة زفافهما كان ومازال يؤلمها. توقف عن الاستغراق في تفكيره، وتنحنح بصوت خشن لتنتبه لوجوده، ثم سألها بنبرة مهتمة:
-ناقصك أي طلبات؟
ردت "فردوس" بهزة نافية من رأسها:
-لأ، كله موجود.
لف يده حول عنقه يحكه قليلًا، ثم استطرد متابعًا:
-طيب، أنا هتأخر شوية، ورايا مأموريات ومشاوير..
علقت عليه باقتضابٍ:
-ماشي.
فكر في الترويح عنها، فاقترح عليها بإصرارٍ:
- لو حابة تروحي عند الست أمك وتقضي النهار معاها، فالبسي عشان أوصلك في سكتي.
نظرت له باستغرابٍ للحظةٍ، ثم حسمت رأيها مرددة:
-طيب.
.................................................
استحوذ بمكرٍ ودهاء على الفراغ الكبير الذي ملأ حياتها لأشهرٍ، وجعلها فريسة سهلة الاستدراج لأي إغراء بسيط، وبالتدريج لم تعد تشعر بهذه الوَحشة المسيطرة على نمط يومها الرتيب، وتناقص بداخلها شعور النقم والكراهية، لتصبح أكثر تقبلًا للمستجد في حياتها. تطلعت "تهاني" إلى "ممدوح" وهو يسير معها على البساط الأحمر الممتد بطول الردهة الخاصة بقاعة المؤتمرات حينما استطرد حديثه الباسم إليها:
-مبسوط إنك خدتي القرار ده.
رغم التوتر الذي اعتراها إلا أنها أخفته وراء ابتسامة رقيقة منمقة، لترد في إيجازٍ:
-شكرًا.
لم تصدق أنها استطاعت الانسياق وراء دعوته الملحة بطرح أفكارها المتفردة على المجتمع العلمي، ترددت في البداية، وعارضت قبولها؛ لكنها استسلمت مع تصميمه، وخاضت التجربة غير متوقعة نجاحها؛ لكنه أمدها بكل السبل والوسائل التي جعلت أحلامها تصبح حقيقة ملموسة، لتحفر بذلك اسمها بين جموع العلماء والأطباء المعروف عنهم دومًا بإقدامهم على تقديم مبادرات علمية مفيدة للغير، مما دفعها لتكون من ضمن المرشحين الأوائل للمشاركة في أي مؤتمر علمي. موجة من الارتباك عصفت بها وكأنها مرتها الأولى التي تتولى فيها الحديث عندما اقتربت من مدخل القاعة، شعر "ممدوح" باضطرابها، فقال مُلطفًا:
-ماتقلقيش أنا موجود جمبك في كل لحظة.
هزت رأسها في امتنان، فأكمل بشيءٍ من التوصية وهو يخفض بصره نحو بطنها المنتفخ والبارز من أسفل ثوبها الأسود اللامع:
-حاولي ماتتعبيش نفسك كتير...
لتتحول نبرته لشيء من اللؤم وهو يختتم عبارته:
-إنتي غالية عندنا.
أحست بتلميحٍ متوارٍ في جملته، استدعى سيرة من لا تحبذ التفكير فيه، فما كان منها إلا أن ضحكت قائلة في شيء من الاستهزاء:
-إيه دكتور "مهاب" موصيك عليا؟
صحح لها بتوضيحٍ شبه جاد:
-لأ، أنا بقالي مدة معرفش عنه حاجة، بس حقيقي أنا خايف عليكي، مش حابب إنك تتعبي.
ارتبكت من طريقته في إظهاره لاهتمامٍ مبالغٍ بها، وقالت كأنما تتهرب منه:
-عن إذنك، أنا اتأخرت.
تنحى للجانب، ورد دون أن تخبت بسمته:
-اتفضلي، وهتلاقيني مستنيكي لما تخلصي.
اكتفت بالإيماء برأسها قبل أن تتسارع خطواتها لتبتعد عنه، وذلك الإحساس الغريب والمتناقض تجاهه يناوشها بقوةٍ، حاولت مقاومة التشوش الذي يسود مشاعرها، بل وينعكس تأثيره الطاغي على تفكيرها، فهناك أشياء لا تزال معلقة، تحتاج للحسم قبل التفكير في أي أمر جديد.
..........................................
جمع الأوراق الرسمية من أمامه بعدما فرغ من التوقيع عليها جميعًا، ليضعها بحرصٍ في مغلفٍ أبيض اللون، ثم نقل المظروف إلى داخل حقيبته الجلدية، وأغلقها قبل أن ينتقل من موضع وقوفه إلى حيث كان يجلس في مواجهته عند قدومه لحجرة مكتبه. رفع المحامي نظره إلى رب عمله عندما شدد عليه بلهجته الصارمة:
-زي ما فهمتك يا حضرت الأفوكاتو.
في طاعة تامة علق عليه:
-اطمن يا "فؤاد" باشا، كل اللي أمرت بيه هيتعمل.
تأكد الأخير أنه لم يغفل عن شيء مما كُلف به، وأضاف في تهذيبٍ:
-استأذن معاليك.
أشار له "فؤاد" بيده لينصرف قائلًا:
-اتفضل.
أثناء خروجه تقابل مصادفة مع "سامي" الذي رمقه بنظرة حائرة مستغربة لوجوده، حاول استدراجه في الحديث ليعرف سبب زيارته؛ لكنه لم يمنحه ما يسد به رمق فضوله، فاتجه الأخير في الحال إلى مكتب أبيه، ظل يراوغ ويحاور في مواضيع شتى إلى أن انتهى به المطاف متسائلًا بنبرة مالت للتحقيق وهو يتفرس في قسماته:
-هو المحامي بيعمل إيه هنا يا باشا؟
أخبره بوجهٍ شديد الصرامة دون أن ينظر إليه:
-موضوع مايخصكش.
بهتت ملامحه للغاية من إحراجه المتعمد له، وقال حفظًا لماء وجهه المُراق:
-أنا بس بطمن لأحسن يكون في مشكلة ولا حاجة، يعني مافيش داعي حضرتك تتعب نفسك، كل اللي يمهني سلامتك، وأنا موجود عشان آ...
قاطعه في صوتٍ آمر غير متساهل:
-روح على مكتبك دلوقتي، لما أحتاجك هناديلك.
تحول حرجه لعاصفة من الضيق، اضطر مرغمًا لكظم ما يعتريه، وقال متصنعًا الابتسام:
-تمام يا باشا.
بدا في وجهه التذمر لأنه لم يعرف السر الذي يخفيه والده عنه، خاصة مع تكرار قدوم محاميه الخاص، دون أن يتم استدعائه لحضور لقائهما، والذي يرتبط في الأغلب بالعمل والاتفاقات المتعلقة به، لذا شك أن يكون الأمر أخطر مما يجيء في تصوره. تكلم "سامي" مع نفسه بعزمٍ وهو يسير نحو مكتبه:
-لازم أعرف إيه اللي بيدور من ورايا!
............................................
انتابتها قشعريرة مريبة ومبررة عندما وطأت خارج جدران بيتها، ندمت لأنها وافقت على ذلك، وسارت -وشعورها بالرهبة يغمرها- مجاورة لزوجها، اختلست النظرات على من حولها، كانت تخشى من أي ردة فعل غير متوقعة حينما يراها أحدهم، فقد توهمت أن الجميع مازالوا يذكرون تفاصيل ليلتها الدامـــية بعدما شاهدوا بأعينهم ما جرى حينها. هدأت خواطرها المتوترة نسبيًا عندما وجدت أن هواجسها غير حقيقية. استعادت جأشها، ومشت بخوفٍ أخذٍ في التناقص حتى بلغت بنايتها القديمة. تركها "عوض" عند المدخل، وقال:
-سلمي على الجماعة فوق، وأنا هطلع عندهم لما أرجع.
أولته ظهرها مرددة بوجهٍ شبه عابس:
-طيب.
تقابلت عند صعودها على الدرج مع جارتها "إجلال" التي كانت تنفض السجاد، سعدت الأخيرة للغاية لرؤيتها، وهللت في سرور متعاظم:
-"دوسة" حبيبتي.
احتضنتها، وانهالت عليها بعشرات القبلات على كل وجنة، وعاتبتها برقةٍ:
-كده يا "دوسة"؟ تنسيني يا حبيبتي؟
ردت بوجومٍ بائن:
-معلش.
تصنعت "إجلال" الضحك، ومازحتها:
-شكل صحتك مش جاية على الجواز.
لم تجد منها أي تعليق، فندمت على طرفتها على الموفقة، وتساءلت لتغير من مجرى الحوار:
-إنتي عاملة إيه؟ بقالنا كتير مشوفناكيش هنا، هو سي "عوض" مانعك تزوري خالتي ولا إيه؟
نفت بهزة من رأسها، وأجابتها صراحةً، وبنبرة مشوبة بالهم:
-لأ، أنا اللي مكونتش حابة انزل من البيت.
تفهمت للأمر، وقالت بودٍ وهي تميل عليها بوجهه لتقبلها:
-مش هعطلك يا "دوسة"، عشان تلحقي تقعدي مع خالتي شوية، إن شاءالله نتقابل تاني.
تنهدت مغمغمة في نفس النبرة الموحية بالتعاسة:
-ربنا يسهل.
شهدت "إجلال" كيف يمكن لمشاعر الحب حينما يتم الغدر بها أن تتبدل لأخرى على النقيض، ناقمة، ساخطة، وغير مقبلة على الحياة، لأن أحد الطرفين كان منذ البداية مستغلًا، ومنافقًا.
.................................................
رغم استقبالها الحميمي والحار لها إلا أنها شعرت بأنها مجرد ضيفة عابرة، بأن ما في المنزل ما عاد يخصها. اقتضبت في الحديث مع والدتها، والتهت بتنظيف ما احتوى على الغبار لئلا تحادثها بما لا تريد البوح به، خاصة ما يخص طبيعة علاقتها الفاترة مع زوجها. انقلبت سحنتها حينما جاءت خالتها على غير ميعاد، وكأنها لا تبدو مرحبة بوجودها. سألتها "أفكار" بفضولٍ وهي تجول بعينيها عليها من رأسها لأخمص قدميها:
-مالك يا "دوسة" خاسة كده ليه؟
ردت عليها وهي تجفف الأرضية المبتلة تحت قدميها بمنشفة جافة:
-أنا زي ما أنا.
تدخلت "عقيلة" في الحوار، وأخبرتها بعد زمة سريعة لشفتيها:
-وربنا أنا قولت هي مابتكلش.
سكتت "أفكار" لهنيهة، ثم تكلمت عاليًا وبنزق:
-لأحسن تكوني حبلى؟!!
شهقت "فردوس" مصدومة، وتوقفت عن التجفيف وهي منحنية على ركبتيها لتتطلع إليها بعينين مصدومتين، في حين تابعت خالتها متسائلة بمكرٍ:
-هو إنتو بقالكو كام شهر سوا؟
ردت عليها بوجومٍ:
-عيب يا خالتي الكلام ده.
ضحكت في تسلية، وأصرت عليها بسخافةٍ:
-يا بت هتعملي مكسوفة ولا إيه؟ علينا برضوه!
مرة ثانية شاركتهما "عقيلة" الحديث، وقالت بتعبيرٍ شبه جدي:
-أكيد لو في حاجة هتقول.
لم تبدُ شقيقتها مقتنعة بذلك، وأردفت في نفس الأسلوب السمج المستفز:
-ده احنا بقالنا شهور مابنشوف وشك، يعني لازمًا غرقانين في العسل، والدلع، وآ...
ضجرت "فردوس" من سماعها لمثل هذه التلميحات المتجاوزة، وكأنها حقًا تنعم بحياة هانئة مع من اختارت، لذا أنكرتها في التو، وبغير احترازٍ:
-محصلش، هو احنا أصلًا بنقعد سوا!!!
توقفت كلتاهما عن الكلام لتحدقا في وجهها بنظراتٍ جمعت بين الدهشة والذهول، آنئذ أدركت "فردوس" أنها أخطأت في إبلاغهما بحقيقة وضعها. استقامت واقفة، ومسحت كفيها في جانبي قميصها المنزلي، لتتجه بعدئذ بعينيها نحو أمها عندما لطمت على صدرها تسألها في جزعٍ:
-يا نصيبتي؟ ليه كده يا بت؟
أجابتها بوجهٍ ممتعض:
-مافيش يامه، مالناش نفس لبعض.
نظرت لها "أفكار" شزرًا، وعقبت بنبرة مليئة بالاستهجان، ويدها تشير إليها باحتقارٍ:
-طبعًا، ونفسه هتتفتح إزاي؟ شوفي بوزها ممدود شبرين لقدام!
اشتعل وجهها غيظًا من أسلوبها الفظ، فلم تكف عن مضايقتها، واستمرت تقول:
-بقى ده شكل واحدة هتخلي جوزها يلبد في البيت؟ ليه حق يكون معظم الوقت طفشان!
هتفت بها في حدةٍ، وقد اشتاطت غضبًا:
-مالوش لازمة الكلام ده يا خالتي!
لم تكترث لأمرها، وحذرتها بشيءٍ من الهجوم:
-إنتي لو فضلتي على نفس الحال مش بعيد تلاقيه متجوز عليكي.
انقبض قلبها، وراحت تصيح بالتياعٍ ممزوج بالضيق:
-ماتقوليش كده...
منحتها خالتها نظرة مستخفة بها، فدافعت عنه بثقةٍ عمياء:
-"عوض" مالوش في الكلام ده.
أكدت لها بما زعزع يقينها تجاهه:
-يا عين أمك الرجالة كلهم صنف واحد، لو ملاقوش الراحة في بيتهم هيدوروا عليها برا!
ثم مصمصت شفتيها، وسألتها في جرأة:
-على كده بقى بتلبسي ليه الشفتشي؟!!
تضرج وجهها بحمرة خجلة، ورمشت بعينيها مهمهمة:
-عيب كده!
ضحكت ساخرة منها، ووكزتها في جانب ذراعها، لتخبرها بعد ذلك بنبرة ذات مغزى:
-يا خايبة! وربنا الراجل ده ليه الجنة إنه مستحمل منك نشفان الريق!
كزت على أسنانها في حنقٍ، ومع ذلك لم تعلق عليها، بينما استمرت "أفكار" تتكلم مخاطبة شقيقتها كنوعٍ من التحذير:
-وعيها يا "عقيلة"، بدل ما ترجع تقعد جمبك بخبيتها الكبيرة!
على الرغم من فظاظة طريقتها إلا أنها كانت محقة في إنذارها، وهذا ما جعل شقيقتها ترتاع من احتمالية انفصــال ابنتها، أو على الأغلب زواجه بأخرى لتعاني بقســــاوة من الأمرين.
.........................................
مع مرور الوقت نما بينهما شيء أعمق من الود؛ لكنه ما زال مغلفًا بالحيطة والحرص، ولم يتجاوز الحدود، فرغم هجر "مهاب" لها إلا أنها حافظت على مسمى علاقتهما إلى أن تنتهي بشكلٍ رسمي. لن ينكر "ممدوح" أن مشاعر الغيرة قد بلغت منتهاها لديه عندما انكشفت له شخصية "تهاني" الإنسانية، تلك التي لم ولن ينظر إليها رفيقه مطلقًا، كم حقد عليه لكونه تفوق عليه في الظفر بها! آه لو سبقه في النيل منها، لربما اختلف كل شيء الآن. مرة أخرى اصطحبها لأحد المؤتمرات الطبية، وكالعادة أصر على اشتراكها في محاضرة الضيوف، ولم تعارضه مثلما فعلت في السابق، فخبرتها لم تعد محدودة في هذا المجال. تقوست شفتا "تهاني" عن ابتسامة مشرقة وهي تستطرد:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح" على كل حاجة عملتها عشاني، حد تاني كان استغل الموقف واتخلى عني، مش يدعمني بالشكل الكبير ده عشان أنجح.
رمقها بهذه النظرة الدافئة المليئة بقدرٍ من العتاب قبل أن يرد:
-هزعل منك بجد لو فضلتي تقولي كده!
تلونت بشرتها بحمرة نضرة، فقال عن قصدٍ ليزيد من إرباك مشاعرها:
-إنتي غالية عندي.
افتقارها لسماع ما يداعب مشاعرها المرهفة كأنثى جعلها تواقة دومًا لمثل هذه العبارات الناعمة التي تجعلها متأهبة لاستقبال المزيد. نظرت إليه بنظرة مختلفة، وهو يؤكد لها مبتسمًا:
-وأنا واثق إنك قريب أوي هترتاحي من كل مشاكلك.
تضمن جملته تلميحًا حذرًا يخص علاقتها الشائكة مع زوجها، تنهدت مليًا، وهمهمت في رجاءٍ كبير:
-يا ريت.
............................................
أدهشه تفوقها العلمي، ولباقتها الأدبية، فكانت لأغلب الوقت محط أنظاره، لا يرى سواها، ولا يسمع غيرها، كان في كامل انتباهه لكل شاردة وواردة تصدر عنها رغم جلوسه في مؤخرة القاعة؛ لكن زاويته أتاحت له رؤيتها بشكلٍ أفضل ودون إثارة الريبة أو التساؤلات، بقي مستغرقًا في تأملها إلى أن هبط عليه ظلًا غريبًا، جعله يدير رأسه للجانب ليمعن النظر فيمن حجب الرؤية عنه، سرعان ما اعتلت قسماته صدمة جلية، فهتف في غير تصديق، وقد اتسعت نظراته بشدة:
-"مهاب"!
ضرب كتفه بيده، وجلس إلى جواره قائلًا بعنجهيةٍ:
-مفاجأة مش كده؟
سحب "ممدوح" شهيقًا عميقًا، ليضبط به نوبة الاضطراب التي أصابته، لفظه على مهلٍ، ثم سأله مستفهمًا في صوتٍ شبه هادئ:
-ماقولتش إنك جاي ليه؟ على الأقل كنت روحت بنفسي أستقبلك في المطار!!
رد عليه في خبثٍ، ونظرة غامضة تصدح من مقلتيه:
-وأبوظ المفاجأة عليكم؟
تحفز "ممدوح" في جلسته، وسألته بتحيرٍ قلق بعدما اختفت البسمة من على محياه:
-إنت عرفت منين إن احنا هنا؟
رفع حاجبه للأعلى قليلًا، وأجابه:
-مافيش حاجة بتستخبى عليا.
ثم اتجه ببصره للأمام، لتقع عيناه على زوجته، وتابع بنبرة موحية:
-أنا شايف إنك قايم بواجبك على الآخر، مقصرتش مع "تهاني".
قال كأنما يسخر منه:
-مش إنت موصيني؟
مجددًا ضرب على كتفه بيده قبل أن ينهض ليخبره:
-وإنت الصراحة عملت بالوصية، وعوضت غيابي.
كلماته كانت منتقاة، ومبطنة بتلميح مفهوم، نظر إليه بشيءٍ من التوجس والقلق، ثم تساءل كمحاولة للتغطية على ذلك:
-أخبار "فؤاد" باشا إيه؟
مط فمه للحظةٍ، وأجابه:
-بقى أحسن.
تصنع الابتسام معقبًا:
-طب كويس.
أشار "مهاب" برأسه نحو المنصة، ثم خاطبه في تشفٍ، وهذه الابتسامة اللئيمة تتراقص على زاوية فمه:
-فرصة بقى أطلع أشجع مراتي، ولا إيه رأيك؟
غام وجهه كليًا، وانعكس ذلك أيضًا في نظراته إليه، بصعوبة حاول مبادلته الابتسام حينما رد عليه:
-اتفضل.
كاد ينهض ليسير معه؛ لكنه ضغط على كتفه ليبقيه جالسًا في مقعده وهو يكلمه بلهجة الآمر الناهي:
-خليك مطرحك، أنا عارف سكتي كويس!
ثم أطلق ضحكة خافتة كأنما يستهزئ به، قبل أن يوليه ظهره، ويتقدم للأمام تاركًا إياه يغلي بين أحقاده.
.................................................
ركزت عينيها على زجاجة الماء البلاستيكية الموضوعة أمامها إلى أن أحست بانقباضة غير مريحة تضرب في صدرها، وكأن حدسها يخبرها بشكلٍ غير مباشر باتخاذ حذرها، في عفوية تامة، تطلعت للأمام، وأبصرته، كانت مفاجأة مدوية، ما لبث أن استدعى عقلها لحظات المذلة والإهانة وهو يسير في خيلاء تجاهها، وكامل نظراته عليها، توقفت عن التنفس، كما جحظت عيناها على اتساعهما، ورددت بقلبٍ يدق في هلع:
-"مهاب"!
بقيت على حالتها المصدومة للحظاتٍ إلى أن استعادت رشدها، فنهضت مستأذنة من على منصة الحضور، محاولة الفرار منه قبل وصوله؛ لكن لحظها التعس شعرت بذراعه القوية تطوق كتفيها لتجبرها على الاستدارة للجانب، والنظر إليه، انفرجت شفتاها، وحملقت فيه بذهولٍ كبير، فاقدة لقدرتها على النطق بكلمة، مال نحو أذنها، وهمس لها بحرارة كانت ترتجف منها:
-حبيبتي، وحشتيني.
انطلقت شارات الإنذار في عقلها لتجبرها على الاستفاقة من حالة التيه التي سيطرت عليها بوجوده المؤثر، أيمكن لمتحجر القلب ومن يدعس على أرواح البشر أن يكون صادقًا في اهتمامه بأحدهم؟ ربما لانطلى عليها ذلك لو لم يتابع مرددًا بأسلوبه المتملك:
-فكرتيني مش راجع ولا إيه؟
حدجها بنظرة لها مدلولها وهو يسألها:
-"ممدوح" كان شايف شغله معاكي كويس؟
أدركت بصفاءٍ كامل أنه يحاول استفزازها، تهديد سلامها الذي ظنت أنها قد بدأت تعيش فيه بغيابه الدائم عنها، سرعان ما تحفزت ضده بوضوحٍ، تملصت من ذراعه، وتراجعت عنه متسائلة في حدة:
-إنت عاوز مني إيه؟
ألقى نظرة على الانتفاخ البارز في جسدها معلقًا:
-شكلك نسيتي إنك مراتي، وإن اللي في بطنك ده يخصني.
بغريزة أمومية وضعت يدها على بطنها تحميه، وهتفت في نوعٍ من الهجوم اللفظي عليه:
-مش شايف يا دكتور إنك اتأخرت على الطلاق؟ المفروض ورقتي كانت توصلني من زمان.
تفشى فيها الخوف حينما منحها هذه النظرة النهمة التي تجردها مما يسترها، قبل أن يخبرها مؤكدًا:
-ومين قالك إني هطلقك دلوقتي؟ ده أنا حتى ماشبعتش منك!
أحست بدفقاتٍ من العرق البارد تغمرها وقد لمحت "ممدوح" قادمًا من على بعد لينضم إليهما، ارتعشت شفتاها وهي تنطق باسمه:
-دكتور "ممدوح"!
التفت زوجها لينظر إليه صائحًا بصوتٍ مسموعٍ لكليهما:
-بيتهيألي دورك خلص لحد كده.
تجمد الأخير بمكانه ناظرًا إلى "تهاني" بتحيرٍ وضيق، أصبح أكثر حقدًا عليه عندما طلب منه "مهاب" في وقاحةٍ:
-محتاج أختلي بمراتي شوية، يا ريت تمشي!
اكتسب وجهه تعبيرًا ساخطًا رغم ترديده الهادئ:
-طبعًا، خدوا راحتكم.
انصرف مغادرًا وهو يبرطم بسبة خافتة، في حين انطلقت "تهاني" مواصلة فقرة هجومها الكاره عليه:
-إزاي قابل على نفسك تفضل مع واحدة مش طايقاك؟
وضع يده في جيب بنطاله، وانتصب أكثر في وقفته السامقة المتعجرفة، ليسألها في استعلاءٍ:
-للدرجادي نسيتي كنتي عاملة إزاي أول ما شوفتيني؟
ببساطة شديدة اعترفت له مسترسلة:
-كنت غبية، وعامية، ومش فاهمة حاجة.
وجوده كان كالهم على القلب، جعلها في حالة من الغضب والانفعال، وازداد ذلك بقوله المستمتع:
-تعرفي، أنا فكرت إنك نزلتي الحمل، بس إنتي فاجئتني.
رفعت سبابتها في وجهه، وهتفت في تحيزٍ حانق:
-أنا احتفظت بيه عشاني مش عشانك إنت.
وضع إصبعيه على طرف ذقنه قبل أن يقول:
-أكيد، ماهي فرصة ليكي برضوه تستفيدي عن طريقه.
الآن ترى صورة مختلفة عنه، حقيقته البشعة التي حجبها حبها الأعمى عن رؤيتها؛ شخصية مؤذية، متعجرفة، متملكة، تفرض سطوتها بكل الحيل والسبل لتحوز على ما لا تستطيع امتلاكه. استمرت في قولها المتعصب وهي تناطحه الند بالند:
-إنت غلطان يا دكتور.
امتدت يده تجاه وجهها لتلامس راحته صدغها، فانتفضت نافرة منه، ومع ذلك لم يبدُ مزعوجًا من تصرفها، بل قال في برودٍ تام:
-حبيبتي، أنا قريتك من أول لحظة!
احتقنت نظراتها بشدة، فتابع مستفيضًا في وصفها بتبجحٍ:
-واحدة طماعة، دورت على فرصة حلوة عشان تركب عليها، بس للأسف اللي حصل العكس!
وصلها وصفه الجارح والمهين، فاندفعت ناحيته بعصبية وهي تكور قبضتها لتلكزه في صدره صارخة به:
-إنت سافل ومش محترم.
أمسك بها من رسغها ضاغطًا عليه بقسوةٍ، أخفض يده مدمدمًا في صوتٍ صارم ومحذر:
-ماتنسيش نفسك!
انتشلت يدها من قبضته، واستمرت في مهاجمته كلاميًا:
-إنت واخد قلم كبير في نفسك...
قطب جبينه مظهرًا ضيقًا نسبيًا منها، فأكملت على نفس المنوال:
-أنا من غيرك أقدر أحقق أحلامي بنفسي، مش مستنية أستفيد منك بحاجة.
في التو هددها مباشرة:
-وأنا سهل عليا جدًا أدمرها، ومن غير مجهود.
اشتعلت عيناها على الأخير، فقال باستخفافٍ:
-ماتبصليش كده.
تأويهة خافتة انفلتت منها عندما أطبق على فكها يعتصره وهو يخاطبها:
-اللعب معايا مش سهل خالص يا دكتورة.
وضعت يدها على كفه تريد انتزاعه، فأرخى أصابعه عنها لتهمهم في ألمٍ:
-أنا بكرهك.
استخدم يده الأخرى في المسح على وجنتها قائلًا:
-كويس، عاوزك تفضلي كده.
انتفضت من لمسته التي اعتبرتها مقززة، وهتفت به:
-كنت غبية لما صدقت إن واحد زيك كويس.
لم تنتظر رده على كلامها، بل تحركت منصرفة بعيدًا عنه بخطواتٍ شبه مسرعة نحو سلم الدرج، ليلحق بها هاتفًا:
-أنا ماسمحتلكيش تمشي.
ثم قبض عليها من ذراعها ليوقفها عنوة، لم تقبل بإمساكه لها، وثارت عليه محاولة انتشــال ذراعه من بين أصابعه:
-ماتمسكنيش، شيل إيدك عني.
نجحت في الإفلات منه مستخدمة كامل قوتها، واستدارت بعصبيتها الجمة للأمام غير منتبهة لموضع قدمها، فزلت، وانكفأت على وجهها، فاقدة لاتزانها، لتسقط في حلقات دائرية بطول سلم الدرج وصوت صراخها المفزوع يرن في جنبات المكان. تسمر "مهاب" في مكانه مصدومًا مما حدث لها، وصاح يناديها:
-"تهانــــــــي"!
.........................................
مغلفًا بصمته، ومستغرقًا في تفكير عميق، مكث "مهاب" في الرواق على أحد المقاعد الجلدية بالمشفى، بعدما تصاعدت الأحداث واتخذت مسارًا مفاجئًا غير الذي كان مرسومًا له. بالطبع لكون الحادثة التي تعرضت لها زوجته خطيرة، رغم أنها لم تكن بقصدٍ منه، إلا أنها جعلته محط الاتهام والتساؤلات، فخضع للتحقيق المدقق كإجراء قانوني متبع، شهد بما حدث، موضحًا تفاصيل وقوعها، إلا أنه تغاضى عن الإبلاغ بشجارهما الذي نشب، مدعيًا أنها كانت متلهفة للعودة إلى منزلهما لتجديد شوقهما، فغفلت عن الانتباه لخطواتها وتعرقلت على الدرج، ولم يتمكن من إنقاذها.
استفاق "مهاب" من شروده عندما سأله رفيقه:
-عملت إيه؟ التحقيقات خلصت ولا لسه؟
أجابه بتعبيرات واجمة:
-لسه.
استطرد "ممدوح" يسأله في خبثٍ، كأنما يتأكد من شكوكه ناحيته:
-هما مفكرين إنك زقتها على السلم ولا إيه؟
حدجه بنظرة نارية قبل أن يجيبه:
-لو حابب أخلص منها طبيعي أعمل ده من غير شهود يا "ممدوح"، أنا مش غبي أوي كده.
توقف عن التحديق في وجهه عندما خرج إليه أحد الأطباء من الداخل ليخاطبه:
-دكتور "مهاب"...
نهض قائمًا، فاستأنف الطبيب كلامه بترددٍ:
-احنا للأسف مضطرين نلجأ للولادة القيصرية.
ظهر القلق الشديد على وجه "ممدوح"، بينما ظلت تعابير "مهاب" غير مقروءة، خاصة والطبيب يؤكد بنبرة شبه آسفة:
-الوضع صعب، والتدخل الفوري مطلوب حفاظًا على حياة الأم والجنين اللي في بطنها.
لم ينبس بكلمة، وأبقى على صمته المريب، فكرر عليه الطبيب لمرة أخرى:
-محتاجين موافقتك، باعتبارك زوج المريضة.
ظهرت الحيرة في عيني "ممدوح"، وابتلع ريقه متوقعًا الرفض من قِبل رفيقه، فمنذ متى يهتم لأحدهم؛ لكنه فاجأه عندما هتف بصوتٍ حازم:
-اعمل المطلوب.
هز الطبيب رأسه بالإيجاب، فتابع "مهاب" إملاء أوامره عليه:
-اسمعني كويس، اللي يهمني الجنين، مفهوم؟
قال بعد زفرة سريعة:
-احنا هنعمل اللي علينا وزيادة.
بعينين متحفزتين، تطلع "ممدوح" إليه، رغم كل شيء لم يمنعه ضيقه من سؤاله غير المتدبر:
-هي مش فارقة معاك ولا إيه؟
لم ينظر تجاهه، وهمهم وهو يستقر جالسًا على مقعده:
-مش وقته الكلام ده!
بحث عن شيء ليخبره به؛ لكنه لم يجد، لذا هسهس مع نفسه في استحقارٍ:
-للنـــدالة عنوان!
.................................................
الانتظار الطويل المحمل بالتكهنات بالخارج كان مزعجًا له، ربما لو استخدم سلطته لولج بلا أي تعقيد لداخل غرفة العمليات وتابع ما يدور بنفسه؛ لكنه للمرة الأولى في حياته يرتاع من فكرة تواجده، فقطعة منه تسبب بدون قصد منه في إيذائها. تأهب في جلسته، وانتفض دفعة واحدة عندما أطل الطبيب من الداخل ليعطيه البشارة بوجه مبتسم:
-ألف مبروك يا دكتور "مهاب"، الحمدلله الخطر زال، والأم والولد بخير.
غفل عن الجزء المتعلق بزوجته، وأبدى كامل تركيزه مع كلماته الأخيرة متسائلًا ليتأكد مما سمع:
-هي جابت ولد؟
رد بنفس الوجه المبتسم، وبإيماءة من رأسه:
-أيوه.
انفرجت أساريره بابتسامةٍ كانت مصحوبة بخفقة قوية في صدره، رأى "ممدوح" ما طرأ عليه من تغيير غريب ومريب، وراقبه دون تدخلٍ، عاد الطبيب ليكلمه:
-شوية وهننقل المدام بعد ما تفوق على أوضة خاصة بيها.
مرة ثانية لم يكترث لحديثه عنها، وسأله "مهاب" مستعلمًا:
-الولد كويس؟
جاوبه في الحال:
-بخير، بيتم فحصه جوا، اطمن...
أحس "مهاب" بنوبة من الارتياح تتخلل أوصاله، بينما الطبيب لا يزال يحادثه:
-صحيح الولادة كانت بدري عن ميعادها، بس الحمدلله عدت على خير.
ضنَّ عليه بأي رد يظهر اهتمامه بها، وانشغل بتفكيره في المولود الصغير الذي سيحمل اسمه، ولقب عائلته. انتبه لرفيقه عندما هنأه وهو يربت على ظهره بخفةٍ:
-مبروك يا صاحبي، بقيت أب.
ثم تصنع الضحك، واستأنف يسأله في لؤمٍ:
-أكيد الباشا الكبير هيفرح لما يعرف بخبر عظيم زي ده، ولا هو معندوش خبر بجوازك؟
حينئذ برزت نظرة مسيطرة في عيني "مهاب" وهو يقول بغرورٍ واثق:
-لأ عرف، ولاد الحلال خدموني الصراحة!
خيل إليه أنه يتهمه بنظرته تلك، كاد أن يبرر له لولا أن خرجت إحدى الممرضات من الداخل وهي تحمل لفافة قماشية، تقدمت بها نحو "مهاب" وهي تخاطبه:
-اتفضل يا دكتور، ابن حضرتك.
وكأنه صعق بلمسة غير متوقعة من سلك يسري فيه تيار كهربي حينما امتدت ذراعاه، وحمل عنها طفله البكري، قربه من صدره ببطءٍ، وراح يتأمله بنظرات ملية، مدهوشة، حائرة، غير مصدقة حقًا أنه يضم بين يديه لحمه ودمه. راقبه "ممدوح" بسحنةٍ مغتاظة، طغى عليه غليل نفسه، وأردف معلقًا عليه في أسلوب شبه متهكم ليحقر من أهمية هذه اللحظة الفريدة التي يعايشها:
-منظرك غريب أوي، مين كان يصدق إن الدكتور "مهاب" يبقى أب بالسرعة دي، أكيد إنت مصدوم!
للغرابة لم يبالِ "مهاب" بسخريته الظاهرة، ولا باستخفافه بمسألة إنجاب زوجته لطفل في ولادة مبكرة، بل كان منشغلًا بما يحمل، بقيت نظراته تحوي رضيعه دون غيره، وأخبره بصدقٍ عجيب:
-هتصدقني لو قولتلك إن دي لحظة ما تتعوضش.
وكأنه يزيد من اندلاع النيران بأعماقه بالإفصاح عن حقيقة مشاعره، لذا استهان بها مدعيًا ضحكه:
-معقولة؟ إنت بتحس؟ صعب أقتنع بصراحة!
سدد له نظرة مزدرية قبل أن يعقب عليه:
-تقتنع أو لأ مايهمنيش دلوقتي.
ابتلع إهانته البادية في نظرته إليه، وسأله كنوعٍ من المزاح:
-ماشي يا سيدي، على كده ناوي تسميه إيه بقى؟
كان كمن صعد نجمه إلى السماء في طرفة عين بميلاده غير المرتب له، خاصة إن علم والده أن حفيده البكري ذكرًا، فكم كان ينتظر لحظة كتلك، وإن لم يكن راضيًا عن زيجته! ابتسم في حبورٍ، ليترك لرضيعه سبابته ليلف أصابعه الضئيلة عليه، ثم قال في شموخٍ:
-بفكر في .. "أَوْس" ...........