اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل الثامن عشر 18 بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل الثامن عشر 18 بقلم منال سالم


فصل الثامن عشر – الجزء الأول
(أَوْس)
بعد نجاح عملية الولادة القيصرية لها، تم نقلها إلى غرفة منفردة، لتقوم إحدى الممرضات برعايتها الرعاية اللازمة، ريثما تستفيق كليًا. كانت "تهاني" تشعر بآلام متفرقة في أنحاء عظام جسدها، وذلك كردة فعل طبيعية جراء اصطدامها العنيف والمتكرر على طول درجات السلم. تأوهت في صوت واهن، وهي تحرك رأسها للجانبين على الوسادة، تجمعت الدموع في عينيها، وراح صوت أنينها يرتفع بالتدريج، انحنت عليها الممرضة لتضبط غطاء شعرها البلاستيكي، وسألتها إن كانت تريد شيئًا، فأخبرتها الأخيرة بسؤالٍ، وبهمسٍ شبه مسموع:
-اللي في بطني عايش؟
أجابتها في التو، وبابتسامة مشرقة على محياها:
-أيوه، ما شاء الله ابنك بخير.
خفق قلبها بقوةٍ، وردت بصدرٍ ينهج:
-ابني!!
استغرقها الأمر لحظاتٍ معدودة لتخامر هذا الشعور الرائع بكونها قد أنجبت وصارت أمًا. بلهفة ممزوجة بالحماس هتفت تطلب منها رغم انخفاض نبرتها:
-عاوزة أشوف ابني.
ربتت الممرضة بحنوٍ على كتفها قائلة بنفس الوجه الباسم:
-اطمني، هيجيلك هنا كمان شوية.
أغمضت "تهاني" عينيها لهنيهة مستمتعة بذلك الإحساس الخلاب، لتظل تردد على لسانها بتنهيدة متشوقة:
-ابني.
راودتها ذكرى مشوشة للحظة سقوطها من على الدرج، فتنفست الصعداء لكونها قد مرت وانقضت على خير، تنبهت لصوت الباب وهو يفتح لتجد أحد الأطباء يلج منه مخاطبًا إياها بشيء من الودية:
-حمدلله على السلامة يا دكتورة.
نظرت تجاهه، وردت وهي تحاول الابتسام:
-الله يسلمك.
تفقد اللوح المعدني المدون عليه آخر الملحوظات المتعلقة بشأنها، والمتدلي من على طرف فراشها، ثم سألها مهتمًا:
-حاسة بإيه؟
تحسست جبينها، وأخبرته بإيجازٍ:
-تعبانة.
هز رأسه في تفهمٍ، وقال:
-متقلقيش، شوية وهترتاحي.
اقترب منها ليفحصها عن قربٍ، ثم أضــاف:
-أنا موصي الممرضة وهي هتقوم باللازم معاكي.
استمر في فحص أنبوب المحلول الموصول برسغها وهو يخاطبها:
-بصراحة أنا مكونتش متخيل إن رغم صعوبة وضع العملية إنها تعدي على خير.
ضيقت عيناها ناحيتها، فابتسم أكثر وقال:
-إنتي والمولود كويسين.
عند ذكر رضيعها صاحت تسأله في لهفةٍ:
-عاوزة أشوف ابني، هو فين؟
أجابها ببساطةٍ وهو يكتف ساعديه أمام صدره:
-مع دكتور "مهاب"، باباه!
عندئذ انتابها الفزع، هربت الدماء من وجهها المتعب، وهمهمت في صوتٍ متقطع، مستشعرة تلاحق دقـــات قلبها:
-"مهاب"!!
اندهش للتغير الذي طرأ على ملامحها، وبدا متعجبًا أكثر حين سألته في صوتٍ خائف للغاية:
-هو فين؟
لم يعرف بماذا يجيب، فشأنهما معًا لا يخصه، لذا فضل أن يتحدث بحيادية، فتكلم في هدوءٍ:
-أنا عاوزك تهتمي بصحتك بجانب اهتمامك بالمولود، ده جرح خطير، محتاج وقت عقبال ما يلم، وإنتي فاهمة طبعًا يا دكتورة.
كان الشائع في هذه الفترة الزمنية وضع النساء لحملهن بصورة طبيعية، فكان من النادر اللجوء للولادة القيصرية، إلا في الحالات القصوى التي تتطلب ذلك، وبالتالي اضطر الطبيب أن يزيد من الاستفاضة في إسداء النصح لها تجنبًا لأي مضاعفات قد تنعكس بالسلب عليها، فأكمل على نفس النهج:
-ويا ريت تظبطي مع دكتورة نسا، بحيث تاخدي وسيلة قبل ما تفكري تحملي تاني.
تجاهلت كل ما قاله، وهتفت ترجوه بنظرتها قبل نبرتها:
-أنا.. عاوزة .. ابني.
أومأ برأسه مرددًا وهو يهم بالتحرك مبتعدًا عن سريرها الطبي:
-متقلقيش.
شيعته بنظراتها اللهفى إلى أن خرج من غرفتها وهي تتحرق بشدة لرؤية وليدها، تنفست بعمقٍ قبل أن تحرر الهواء من صدرها في هيئة زفير بطيء، تعلقت عيناها بسقف الغرفة، وأخذت تحدث نفسها في قليل من الراحة:
-ابني كويس، الحمدلله.
....................................................
طال انتظار وصول رضيعها إليها، وراح شعور الاطمئنان الذي غمرها يتلاشى، ليحل كبديل عنه شعور الخوف والاضطراب. تضاعفت مخاوفها بصورة مرعبة عندما وجدت زوجها يقف عن عتبة الباب يراقبها بنظرات قاسية للغاية، جعلتها ترتجف في رقدتها، حاولت الاعتدال فاجتاحتها موجة من الألم؛ لكنها لم تتفوق على رهبتها منه، تمتمت باسمه في صوت مرتعش:
-"مهاب"!
تقدم مُختالًا في خطواته ناحيتها، دون أن ينطق بشيء، فقط عيناه تحومان عليها، كأنما يتعمد استثارة أعصابها، وزيادة ارتياعها منه. تسارعت نبضات قلبها، وسألته في صوتٍ لاهج ما زال مرتجفًا:
-فين ابني؟
وقف أمام فراشها، يُطالعها من علياه بنظرات دونية، احتقارية، تحمل الإهانة في طياتها، أجابها مقتضبًا في الكلام، بعد صمت بدا لها ممتدًا، وكأنه لا ينتهي أبدًا:
-موجود.
نظرته إليها لم تكن مريحة بالمرة، شعرت من خلال تأملها المرتعب لملامحه أنه يكمن لها شيئًا، وزاد ذلك الهاجس قوة عندما استطرد قائلًا من جديد:
-بس الأول في حاجة لازم أقولهالك.
هزت رأسها كأنما تسأله دون كلام، فأخبرها باسمًا في تشفٍ أصابها بالصدمة العظيمة:
-إنتي طالق!
جحظت عيناها في ذهول مرتاعٍ، وغمغمت بلا تصديقٍ:
-إيه؟
تابع معلقًا في لذة مغيظة لها، وممتعة له:
-مش ده اللي كان نفسك فيه من زمان.
شعرت حينها وكأن أنفاسها انقطعت، بتوقف عضلة قلبها، بظلامٍ تام ساد ما حولها. اخترقت كلماته المسمومة طبلتي أذنيها وهو يواصل إخبارها ببرود وقسوة:
-وجه الوقت اللي أقولك فيه أنا مابقتش عاوزك.
كانت تنظر إليه كالموتى، الصدمة المفاجئة جعلت ذهنها عاجزًا عن التفكير، ورغم هذا استمر يفرغ ما في جعبته هاتفًا بنبرة هازئة متهكمة بشدة:
-روحي اثبتي نفسك كدكتورة مالكيش مثال، وانجحي، إنتي حرة.
بدأ عقلها يعمل من جديد، ليوضح لها فداحة قراره، وأكد لها ذلك بقوله الحاسم:
-بس ابني مالكيش دعوة بيه، وأنا هعرف أربيه بمعرفتي.
آنئذ خرجت عن طور جمودها اللحظي لتفجر صارخة فيه، متجاوزة في إحساسها بالقهر والعجز أي شعور بالألم الجسدي:
-حرام عليك يا "مهاب"، إنت بتعمل فيا كده ليه؟
انتصب في وقفته، وقال وهو يحدجها بنظرة مزدرية:
-قولتلك كل حاجة بتتعمل بمزاجي.
سدد لها نظرة احتقارية جعلت داخلها يتفتت، وقلبها يتمزق إربًا وهو يتابع:
-وإنتي ماتلزمنيش دلوقتي.
إعلانه بطرده من جنته المزعومة جعل كيانها يتبدل كليًا، انتفضت من رقدتها لتمد ذراعها نحو يده، أمسكت بكفه تشده منه متوسلة إياه في حرقةٍ:
-أبوس إيدك ماتحرمنيش من ابني.
استجدت فيه عاطفة إنسانية غير موجودة به من الأساس، فلم يرأف بها، ولم يكترث لشأنها، بل نفض يدها بقوةٍ كأنه ينفر من لمستها المقززة، بكت في قهرٍ، وهي ترى منه هذه المعاملة المتجافية. انسحق قلبها بين ضلوعها عندما رأته يستدير ليتجه نحو باب الغرفة تمهيدًا لمغادرته، أحست بناقوس الخطر يدق، إن تلكأت أو فكرت لربما خسرت وليدها الذي لم تره بعد للأبد، لم تنتظر كثيرًا، بل اندفعت ناهضة من على الفراش، وطوفان من الألم الجارف يجتاح كل ذرة فيها، انفلتت منها صرخات متقطعة، وهي تجاهد للحاق به، تاركة خلفها بقعة من الدماء تلوث فراشها، كان كل ما فيها يرتج، ومع ذلك لم يشفق عليها، ولم يبالِ لأمرها كعهده معها. بالكاد استوقفته عند العتبة، فركعت في الحال على ركبتيها عند قدميه، وقتئذ نظر إليها باستحقارٍ أكبر مستلذًا بتحقيق انتصار زهيد من لا شيء. بلا تفكير أو وعي راحت تردد متسولة مشاعره:
-أنا هعيش خدامة تحت رجلك، بس خليني جمب ابني.
أمام إحساس الأمومة، ورائحة الصغار الملائكية يهون كل شيء وأي شيء! بيديها المرتعشتين، تعلقت بساقه، وظلت تتوسله في انكسارٍ:
-مش هعصالك أمر مهما كان، اللي هتؤمرني بيه هنفذه مهما كان.
ثم أحنت رأسها بطواعية كاملة، كأنما تريد تقبيل حذائه، وتابعت في ألمٍ شديد:
-أبوس رجلك ماتبعدهوش عني.
كانت كالعبدة الذليلة، مشهدًا لطالما أغراه، وعايشه مع العابثات المتمرسات في طقوس العشق الآثم، واليوم يتجدد بشكل أكثر واقعية وتأثيرًا عليه، ورغم هذا علق بجمودٍ مستخفًا بما تفعله:
-ماظنش إنك هتستحملي، إنتي واحدة عندك طموح وآ...
قاطعته رافعة بصرها إليه قبل أن يكمل جملته للنهاية مؤكدة لها عن انصيـــاع صريح له:
-لأ، جربني، ولو عصيتك طلقني تاني.
مط فمه قليلًا، فواصلت توسلها المهين:
-بس ماتحرمنيش من ابني.
كانت لترضى بأي احتمال طالما أنه لا يتضمن حرمانها من رضيعها، ذل الخدمة أهون عليها بكثير من وجع الفراق! تركها "مهاب" تلتاع بشوقها وأنينها معقبًا في النهاية بعدما نفض ساقه ليتخلص من قبضتيها:
-تمام يا دكتورة، هشوف.
زحفت على يديها في عجزٍ واضح نحو الخارج وصوتها الباكي يرجوه في حرقةٍ أشد:
-"مهاب"، رجعلي ابني، خليني أطل عليه.
لم يلتفت إليها، بل انصرف في نشوة مريضة لترتكن بظهرها على الجدار المجاور لغرفتها وهي تنوح في حسرة متعاظمة:
-آه، يا وجع قلبي عليك يا ضنـــايا!
...............................................
تأهبت ابتسامتها المبتهجة للبزوغ عندما سمعت صوت زوجها يأتي من الخارج، خاصة مع امتلاء رأسها بعشرات النصائح والحكايات المخجلة عن العلاقات بين الزوجين لضمان استمرار اشتعال جذوة الحب بينهما لأطول فترة ممكنة، فتحمست لإسقاط ذلك الحاجز الوهمي الفاصل بينهما، ومحاولة إعطاء الفرصة لقدرٍ من الملاطفة والتقارب، لعل وعسى تنجذب إليه، وتجد فيه ما يعيد دفقات المياه إلى مجاريها الطبيعية. أوشكت "فردوس" على الذهاب إليه لاستقباله؛ لكن خالتها منعتها من الخروج لتؤنبها بنبرتها، وكذلك بنظرتها الحادة إليها:
-إنتي هتطلعي كده؟
سألتها مندهشة وهي تخفض بصرها لتتأمل سريعًا ثوبها المنزلي الفضفاض القديم، وذي اللون البرتقالي:
-ماله شكلي؟
بفظاظةٍ واضحة صارحتها:
-يقطع الخميرة من البيت.
عبست كليًا، وانطفأت الفرحة في عينيها، بل إنها كادت تبكي تأثرًا من كلامها اللاذع؛ لكن خالتها لم تعبأ بما تفوهت به، واستمرت في تعنيفها:
-أومال احنا كنا بنتكلم فيه إيه من صباحية ربنا؟
كادت تبرر موقفها بأنها أمضت النهار بطوله في تنظيف المنزل، وغسل الثياب، والقيام بكافة الأعمال العالقة تخفيفًا من العبء المُلقى على كتفي والدتها؛ لكن الأخيرة لم تهتم بمجهودها المستهلك، وهتفت تأمرها:
-روحي الأوضة خديلك قميص عِدل من بتوع "تهاني" البسيه.
الإتيان على ذكر نوعية ثياب شقيقتها نشط ذاكرتها باهتمامها بانتقاء الجيد من الأقمشة، والمواكب لما يسمى بصيحات الموضة، وإن كان كاشفًا للأكتاف، بارزًا للمنحنيات، وملتصقًا بالأجساد؛ لكنها كانت تفتقر للشجاعة لارتداء ذلك، فتلبكت، وقالت باعتراضٍ حرج:
-بس آ...
في التو منعتها من الاحتجاج بإصرارها الحاسم:
-من غير بسبسة، عاوزين الجدع مايشوفش غيرك.
مع سيل الإهانات المتواصل فقدت حماسها لمواصلة الأمر، فردت بإحباطٍ:
-يا خالتي أنا ماليش نفس.
زمت شفتيها هاتفة بها بغيظٍ مكتوم:
-أومال هيبقالك إمتى؟ لما يرجعلك معلق في دراعه واحدة تانية تفرسك؟
ارتفع حاجباها للأعلى، فلكزتها "أفكار" بقبضتها المضمومة في ذراعها، وحذرتها:
-مايبقاش مخك ضِلم.
لم تبدُ راضية عما تسعى لإجبارها عليه، فتابعت خالتها إعطاء تعليماتها عليها:
-ماتضيعيش الوقت، أمك هتفضل معاه، وإنتي البسي حاجة مدندشة من هدوم أختك الجديدة.
ردت على مضضٍ، وكأنها تستصعب تنفيذ ذلك:
-طيب.
قبل أن تغادر استوقفتها مرة ثانية آمرة إياها:
-استني كده وريني خدودك!!
قطبت جبينها متسائلة في تحيرٍ:
-مالهم دول كمان؟
أمسكت بهما بأصابعها وراحت تضغط عليهما بشكلٍ أوجعها وهي توضح لها ما تقوم به:
-خليني أقرصهم عشان يبان فيهم الدموية كده.
تأوهت من الألم، ورجتها:
-بالراحة يا خالتي.
تجاهلت شكواها، واستمرت في جذب خديها بقساوةٍ طفيفة لتكسبهما هذه الحمرة الشديدة، ثم تصعبت بشفتيها، لتدمدم بعدها في سخطٍ:
-بلا خيبة!
..................................................
ابتسامة حقيقية صادقة، نابعة من أعماق قلبها، ظهرت على صفحة وجهها الباكي، عندما عاد إليها بعد وقت طويل وهو يحمل رضيعها، كانت قد فقدت الأمل في رجوعه، حقًا شعرت وكأن روحها قد ردت إليها حينما رأته، أقبلت عليه بذراعين مفتوحتين لتضمه في لهفة وشوق، متناسية ما بها من أوجــاع، وكأن في ضمته البلسم الشافي لجراحها الغائرة، هانت كل المصاعب مع احتضانها له. قبلت "تهاني" وليدها من كفه الضئيل والدموع تطفر بغزارة من طرفيها، كلمته في صوت رقيق رغم اختلاطه بالبكاء:
-ابني حبيبي.
وجوده معها، وبين أحضانها، جعلها تقبل وترتضي بأي مهانة مهلكة لها في مقابل عدم خسارته، راحت تهمس له في أذنه برجاءٍ شديد:
-ربنا ما يحرمني منك أبدًا.
كفكفت دمعها بظهر كفها، وتابعت:
-فداك كل حاجة يا حبيبي، المهم تفضل في حضني.
ابتسامتها المشوبة بالبكاء ضاعت فجأة، وحل الفزع على قسماتها عندما حادثها "مهاب" فجــأة:
-احتمال يجوا يحققوا معاكي.
سألته بقلبٍ ازدادت وتيرة دقاته وهي تضم رضيعها إلى صدرها في خوفٍ، كما لو كانت تخشى من أخذه قســـرًا منها:
-في إيه؟
أجاب بنبرة هادئة:
-بخصوص وقوعك من على السلم.
في البداية تطلعت إليه ببلاهةٍ، وكأنها تحاول استحضار تفاصيل مشاجرتها الأخيرة معه، لم تضع الوقت في الصمت، وقالت من تلقاء نفسها:
-أنا دوخت ووقعت من نفسي.. إنت ملكش دخل.
نظر إليها مبتسمًا قليلًا، واستحسنت ردها:
-كويس.
أشاحت بنظراتها بعيدًا عنه، لتعاود التحديق في الوجه النائم هامسة :
-حبيبي.
مجددًا تكلم "مهاب" ليشتت نظراتها عن الرضيع:
-صحيح أنا خلاص قررت أسمي ابني "أَوْس"!
كررت الاسم باندهاش غريب:
-"أوس"!
قال متباهيًا بحُسن اختياره:
-أيوه، حاجة مختلفة، وتليق بيه.
تأملته "تهاني" بتعجبٍ، فواصل توضيحه المملوء بالزهو:
-"أوس الجندي"، اسم يليق بحفيد الباشا "فؤاد الجندي"!
...............................................
تبعثرت خيوط الكلمات وتفرقت أثناء حديثه مع حماته عندما رأى زوجته تطل من الداخل وهي متأنقة في ثوبٍ ضيق، من اللون الأحمر، له فتحة صدرٍ متسعة، يكاد ما يبرز أسفلها من مقومات مغرية يعلن عن وجوده المشوق. بدا متأهبًا في جلسته، وعجز عن إبعاد نظراته الفضولية عنها، فقد كان غير معتاد على رؤيتها هكذا، تدلى فكه للأسفل باستغرابٍ، وراح يتأملها مليًا، ليتسلل في حرجٍ واضح من تحديقه الذي طال بها عندما هتفت به "أفكار" في مكرٍ، وابتسامتها العابثة تتراقص على شفتيها:
-امسك الصينية عن مراتك يا "عوض"، ده بيتك، إنت مش غريب.
نهض من موضع جلوسه متجهًا إليها ليحمل عنها صينية الشاي قائلًا وهو مطرق الرأس:
-عنك.
ردت عليه "فردوس" باقتضابٍ:
-تسلم
اختطف نظرة سريعة نحو نتوءاتها الشهية، فانتفضت به حواسه الكامنة، تنحنح في حرجٍ، وباعد عينيه عنها ليعاود الجلوس في مكانه، محاولًا قدر المستطاع تحاشي النظر ناحيتها، وتوجيه الحديث إلى "عقيلة"، لئلا يبدو اشتهائه للاقتراب منها واضحًا. استمرت "أفكار" في اللعب على وتيرة تحفيز الزوجين، فقالت مدعية وجود الألم بظهرها:
-يستر عرضك يا "دوسة" اعدلي طرف السجادة لأحسن مش قادرة أوطي.
حملقت فيها "فردوس" بغرابة، وتعابيرها تعكس حيرة جلية، وكأنها لا تفهم مقصدها، فأشارت لها خالتها بعينيها نحو البقعة القريبة من زوجها، لتظهر تأثيرها عليه كأنثى عند وجودها في محيطه. أكملت "أفكار" جملتها مزيدة في توضيحها:
-بدل ما حد يتكعبل فيها.
-حاضر.
قالتها "فردوس" وهي تسير إلى النقطة المشار إليها، من وجهة نظرها كان البساط مفرودًا، لا يحتاج لإعادة ترتيب، ومع ذلك مالت بجسدها مدعية انشغالها بتسوية أطرافه، وهي غير مدركة أن ما تقوم به من حركات عادية تعمل كمؤثرات محفزة لمشاعر زوجها المكبوتة. اعتدلت في وقفتها، فأمرتها "عقيلة" وهي تشير بيدها:
-شوفي جوزك لو ناقصة حاجة هتيهاله.
قال معتذرًا بمجاملة مهذبة وقد أطرق رأسه قليلًا:
-لأ كده فضل ونعمة، كتر خيركم.
ثم التفت ناظرًا إلى زوجته التي بدت مغرية، قبل أن يخاطبها في صوت جاهد ليجعله جادًا:
-مش يالا بينا بقى، عشان نسيب الجماعة يرتاحوا.
هزت رأسها موافقة، فنهض قائمًا ليضيف:
-هستناكي تحت عقبال ما تغيري هدومك.
قالت وهي تشرع في السير:
-طيب.
لكنها توقفت عندما اقترحت خالتها بخبث، ونظرة عبثية تلمع في عينيها:
-مالوش لازمة تعطلي جوزك، حطي عليكي العباية.
همَّت "فردوس" بقول شيء محتج يعبر عن انزعاجها من محاولة فرض وجودها عليه بهذا الشكل السافر؛ لكنها ابتلعت الأحرف في جوفها عندما منحتها خالتها هذه النظرة المحذرة، لتضطر مرغمة على إطاعتها في صمت، بينما رددت والدتها في سرها بتنهيدة راجية:
-ربنا يجعل في وشك القبول والرضا يا بنتي .................................... !!


(أَوْس)
أثناء سيرها معه كانت ساهمة، تمشي مدفوعة بتوجيهه وبشكل آلي عبر الطرقات إلى حيث يقطنان، دار في رأسها عشرات الأفكار، ورسمت العديد من السيناريوهات لما ستكون عليه ليلتهما بعد كل ذلك المجهود المبذول من قِبل خالتها لتحلية صورتها في عينيه، انتبهت "فردوس" لزوجها، وانتفضت كالملسوعة فجأة عندما تكلم في نبرة معاتبة:
-إنتي مش معايا خالص!!
سألته بحرجٍ وهي ترمش بعينيها:
-هو .. إنت كنت بتقول حاجة؟
كرر عليها سؤاله مبتسمًا في بساطةٍ:
-كنت بسألك ناقصك حاجة نجيبها في سكتنا؟
هزت رأسها قائلة:
-لأ، ماظنش.
عاد الصمت يخيم بينهما من جديد، فسعى "عوض" لفتح سبل الكلام مجددًا، فقال بشيءٍ من الصدق، وكأنه يعبر لها عن مشاعره المتأثرة بها:
-بس تعرفي النهاردة كان شكلك حلو.
تفاجأت بمدحه غير المتوقع، فسكتت للحظةٍ، تحاول استجماع جملة ملائمة، فقالت كالبلهاء:
-كتر خيرك.
تفهم التردد الظاهر عليها، وأكد لها باهتمامٍ متزايد:
-أنا مش بجاملك دي الحقيقة.
على عكسه كانت متبلدة، جامدة، تجد صعوبة في مجاراة طريقته السلسة في البوح بما يناوش القلب، فاكتفت بالصمت، وتحاشت النظر ناحيته، لتتطلع للأمام ممعنة النظر في الحواجز المعدنية التي تسد مقدمة الطريق، هتفت متسائلة في استغراب حائر:
-هو الشارع مقفول ولا إيه؟
دقق النظر هو الآخر في الناصية المزدحمة بعشرات البشر، وقال:
-مش عارف، بس أول مرة يحطوها هنا.
تباطأت خطواتهما، واستطالت عنق "عوض" محاولًا تبين ما يحدث عبر الحشد الذي يملأ جنبات المكان، علق مُبديًا تحيره:
-ده في زحمة ودوشة قدام.
توجس قلبها خيفة من حدوث مكروه ما، فرددت بتلقائيةٍ:
-ربنا يستر..
أشار لها بيده لتتوقف قائلًا بلهجة شبه آمرة:
-استني كده أما أسأل.
استجابته له هاتفة في إيجازٍ:
-طيب.
سارع "عوض" في خطواته بعدما تركها واقفة في مكانٍ غير مزدحم ليستطلع بنفسه الأمر، آملًا ألا يكون خلف ذلك التجمهر كارثة مفجعة.
............................................
بدأ قلبها يدق بسرعة كعادته كلما ولج إلى الغرفة، ارتاعت فرائصها ظنًا منها أنه قد جاء لأخذ رضيعها قسرًا، شددت من ضمه له، ونظرت إلى "مهاب" بقلقٍ معكوس بقوة على محياها، ازدادت مخاوفه مع صمته المدروس، فما كان منها إلا أن سألته بصوتٍ ما زال مرتعشًا:
-هتردني لعصمتك تاني؟
لم يمنحها الرد الشافي، ترك هواجسها المخيفة تأكل رأسها، وقبل أن تفكر في تكرار سؤالها المُلح عليه اقتحم الغرفة دون استئذان "ممدوح" ليلقي نظرة شاملة على "تهاني" والرضيع القابع في حضنها، اندلعت مشاعر الغيرة بدواخله تجاه رفيقه، فانتفض الحقد في مقلتيه، فهو دومًا يظفر بكل ما يتمنى دون عناءٍ، على عكسه، فهو يتلقى الفتات والمتبقي منه. أخفى ما يضمره في صدره وراء ابتسامة متكلفة، وتساءل وهو يتبختر مقتربًا من الفراش:
-أنا جيت في وقت مش مناسب ولا إيه؟
احتفظ "مهاب" بصمته، وصاحبه بنظراته الغامضة وهو لا يزال يتقدم للأمام، في حين تابع "ممدوح" كلامه قائلًا:
-حبيت أطمن على الدكتورة.
ثم وجه حديثه إليها متسائلًا باهتمامٍ:
-إيه الأخبار؟
توترت "تهاني" من وجوده، وتضاعفت دقاتها، فإن كانت مشاعرها قد انجذبت إليه بسبب لطافته ووديته معها، إلا أنها لن تضحي بقطعة منها لأجل أهواءٍ وقتية نتجت جراء الوحدة والشعور بالفراغ. ارتجفت في رجفتها عندما أجاب "مهاب" بنبرة موحية:
-ماتقلقش عليها.
حينئذ تكلمت من فورها، وبصورة رسمية استغربها:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح"، أنا كويسة.
اندهش الأخير من الجفاء المريب الذي تظهره ناحيته، وكأنها راحت تعيد بطواعية وضع الحواجز بينهما، كان فطنًا للدرجة التي جعلته يخمن انصياعها الواضح، فقال مشيرًا بيده:
-الدكتور برا قالي إن في حد جاي يسألها عن تفاصيل الحادثة.
أخبرته دون أن تفكر للحظة، كما لو كان الجواب معدًا بشكل مسبق:
-ده قضاء وقدر، والحمدلله إنه اكتبلي أنا وابني عمر جديد، وده اللي يهمني دلوقتي.
مط فمه في إعجابٍ، ثم حول نظراته تجاه "مهاب" الذي كان يحدجه بنظرته المتباهية، اقترب بعدئذ منه، مال ناحيته، وهمس له:
-برافو، عرفت تطلع من المشكلة دي كمان من غير خساير...
هز "مهاب" رأسه في نشوةٍ، بدا متفاخرًا بتحقيق نصرًا جديدًا في معركة لم يبذل فيها مجهودًا، استكمل "ممدوح" الناقص من جملته، فاستطرد بسخريةٍ محسوسة في نبرته:
-وبعيل كمان.
صحح له بصرامةٍ رغم خفوت صوته:
-اسمه "أوس"، يا ريت تحفظه.
تلقائيًا اتجه "ممدوح" بنظراته القاتمة تجاه الرضيع، وعلق بإيجازٍ غامض:
-أكيد.
ربت "مهاب" على جانب ذراعه وهو شبه يطرده بوقاحةٍ:
-بيتهيألي وجودك مالوش لازمة.
حملق فيه مرة ثانية، ابتلع الإهانة المستترة في طريقته المتعالية، واستقبلها بابتسامة متصنعة مرددًا:
-صح، هاسيبكم سوا.
همَّ بالانصــراف؛ لكنه توقف عند الباب ملتفتًا برأسه نحو "تهاني"، أعطاها نظرة لم تسترح لها، قبل أن يدور ببصره ليستقر على وجه "مهاب"، ابتسم في سخافةٍ، وخاطبه قائلًا في تهكم متوارٍ:
-نتقابل بعدين يا .. "أبو أوس"!
...............................
أثار الغبار التي سادت في الأرجاء جعلت الرؤية غير واضحة، مشوشة، والسعال كان منتشرًا بين المتواجدين. حاول "عوض" اختراق صفوف البشر المجتمعين بكثافة ليصل إلى المقدمة، التقطت أذناه عبارات مبهمة عن تواجد مكثف لعناصر الشرطة مع رجال الإسعاف وسيارات الإطفاء، ما إن وصل إلى آخر نقطة كان مسموحًا فيها للحضور بالوقوف حتى استطاع فهم ما حدث، رأى العقــــــار الذي يقطن به وقد انهار تمامًا منذ ساعات، على حسب ما سمع، ليخلف العديد من الضحايا العالقين أسفل أطنان من الركام الخرساني. تدلى فكه للأسفل، وحملق بعينين متسعتين في رعبٍ للأطلال المرابطة كجبل من الحجارة أمامه، حلت الصدمة عليه كالصاعقة، فعجز عن الكلام أو التعليق. تنبه لضربة أحدهم على كتفه وهو يخبره كنوعٍ من المواساة:
-الحمدلله إنك مكونتش موجود، وإلا كنت رحت مع اللي راحوا.
التفت للجانب الآخر عندما خاطبه أحد الجيران:
-ده في ناس اتدفنت بالحيا هنا!
أضاف ثالث من ورائه:
-ده إنت ربنا كتبلك النجاة.
رويدًا رويدًا تدارك عقله ما حدث، وأدرك حقًا أن الدار التي كانت تأويه لم تعد موجودة، اختفت مع كل ما يخص عائلته وزوجته من متعلقات شخصية، وذكريات أسرية، كان "عوض" في هذا الموقف تحديدًا قليل الحيلة، لا يملك زمام نفسه، فما كان منه إلا أن ردد مستسلمًا للواقع المرير:
-لا حول ولا قوة إلا بالله!
هتف أحد المتواجدين من جديد:
-احمد ربنا إنك كنت برا.
استدار تجاهه متسائلًا في تخبطٍ عظيم:
-ده حصل إمتى وإزاي؟
رد عليه الرجل وهو يحك مقدمة رأسه:
-محدش عارف بالظبط، بس آ...
قبل أن يتم جملته قاطعه صوتًا صارمًا لأحد أفراد الشرطة ينهر به الجميع:
-يا جدعان ارجعوا لورا خلونا نشوف شغلنا.
تراجع مع من تراجع للخلف بعيدًا عما كان بيته ولسانه يردد بتحسرٍ موجوعٍ:
-لطفك يا رب، هتصرف إزاي دلوقتي؟
نظر إليه الجيران بتعاطفٍ وشفقة، وعلق عليه أحدهم:
-ليه حق الراجل يكلم نفسه، كان زمانه مع الأموات!
.........................................
انقاد بلا وعي إلى خارج الزحام، وهو مشوش الذهن تمامًا، فاقدًا لقدرته على التفكير السليم، وكيف له أن يفعل وهو في وسط كارثة عظيمة لم تكن موضوعة في الحسبان؟! كانت "فردوس" لا تزال تنتظره عند البقعة التي تركها فيها، ضجرت من الوقوف بمفردها ومع ذلك لم تتجرأ لمخالفة أوامره، لمحته يجتاز الحاجز وهو باهت الملامح، مشتت النظرات، أقبلت عليه تسأله في قلقٍ:
-عرفت في إيه يا "عوض"؟
استجمع قدرًا من شتاته المبرر، ونظر إليها بعينين حزينتين للغاية، فسألته مرة أخرى بتوجسٍ أكبر:
-إيه اللي حصل؟
أجابها وهو بالكاد يحبس دموعه:
-البيت راح.
بدا كلامه مبتورًا، منقوصًا، غير واضحٍ لها، لذا سألته مستفهمة:
-بيت إيه اللي راح؟!
سحب نفسًا عميقًا، وأجابها بصوتٍ مختنق:
-العمارة وقعت كلها.
انخلع قلبها بين ضلوعها، وسألته في صوت أخذ في الارتعاش:
-عمارة مين؟
أجابها بحسرة تملأ كامل وجهه، وهو يغالب دموعه:
-العمارة اللي ساكنين فيها، غير الناس اللي ماتوا وآ..
حينما أدركت الكارثة التي حلت بها صرخت لاطمة على صدرها:
-يا نصيبتي؟!!!
في التو استدارت ناظرة إلى التجمهر الموجود بالأمام وهي تكمل ولولتها المفجوعة:
-يادي الخراب المستعجل.
استوعبت الكارثة التي ألمت بها، فاندفعت بتهورٍ تجاه الحاجز؛ لكن "عوض" استوقفها بالإمساك بها من ذراعه ليسألها:
-استني رايحة فين؟
هتفت في قهرٍ، وهي تذرف الدموع بحرقةٍ من عينيها:
-حاجتي وعفشي، وهدومي.
قال لها بألمٍ:
-استعوضي ربنا.
انتشلت ذراعها من يده، وصاحت في صراخٍ مفطور:
-يعني إيه؟ كله راح كده في غمضة عين؟
حاول تهوين الأمر عليها، فعلق:
-قولي الحمد لله إن احنا بخير.
انفجرت تبكي بقهرٍ أشد، وافترشت الرصيف بجسدها لتبدأ في النواح والولولة عاليًا:
-آه، يا وجع قلبي، أنا مش مكتوبلي أفرح وأتهنى أبدًا!!!
..................................................
مجددًا رفعت كوب الماء إلى فمها لترتشف ما به، فتبلل جوفها الجاف، قبل أن تخفضه لتنخرط في نوبة بكاءٍ جديدة مصحوبة بالندب والتحسر، بعدما عادت إلى بيت أمها لتمكث فيه مؤقتًا. نظرت إليها والدتها بأسفٍ وحزن، ففرحتها لم تدم كثيرًا، بل إنها تبخرت كالسراب، لتظل كعهدها تعيسة الحظ، ورفيقة أصيلة للغُلب والشقاء. جاءت "أفكار" لتفقدها، فلم تسلم من لسانها اللاذع الذي لم يترفق بها، زادت من شعورها بالإحباط والألم بقولها السليط:
-أنا مشوفتش واحدة فقر كده في حياتي أكتر منك.
من بين دموعها الغزيرة تأملتها "فردوس" تعاتبها بشيء من اللوم:
-خلاص يا خالتي بقى، كفاية تعتيت في جتتي!
أيدتها "عقيلة" في كلامها قائلة بضيقٍ:
-سبيها في حالها ياختي، الحمدلله إنها بخير.
لم تبدُ مثلهما متعاطفة، حزينة، أو حتى الهم يملأ قلبها، كانت تفكر بالعقل، تحسب كل خطوة وفقًا المستجد من الأوضــاع، لهذا أبدت جمودًا غريبًا وهي تسأل:
-وهتعمل إيه بعد كده؟
أجابتها بتحيرٍ:
-الله أعلم.
لم تتحمل "فردوس" تأنيبها القاسي، وكأنها من تسببت في انهيار المبنى القديم، فنهضت من موضعها لتتجه إلى غرفة نومها القديمة، حتى تختلي بنفسها، بينما زمت "أفكار" شفتيها مغمغمة وهي تشيعها بنفس النظرات الجامدة:
-ده جوزها يعتبر على باب الله، لا عنده أملاك ولا أبعدية.
ثم ركزت بصرها على شقيقتها وتابعت:
-هيدبروا حالهم إزاي؟ هيباتوا في الشارع بقية عمرهم.
لم تجد "عقيلة" ما ترد به عليها، فواصلت شقيقتها الكبرى استرسالها المزعج:
-وموت يا حمار عقبال ما الحكومة تديهم شقة.
يئست من لغوها الزائد، وقالت حاسمة رأيها:
-خلاص يا "أفكار"، هما هيفضلوا هنا معايا، البيت فاضي عليا.
تفاجأت بما قررته فجــأة، ودون ترتيب مسبق، لتظهر رفضها لاقتراحها النزق في صيغة متسائلة:
-وبنتك "تهاني" لما ترجع؟ تلاقي راجل غريب أعد معاكو؟
ردت مصححة لها:
-ده جوز أختها، مش حد غريب.
أصرت على رفضها قائلة:
-برضوه، ده البيت أد كده، وآ...
كانت موقنة أنها لن تسلم من احتجاجها ونقاشها، وإن استمرت طوال النهار، لهذا قاطعتها منهية الجدال في هذا الموضوع:
-ساعتها نبقى نتصرف.
كادت تنطق بشيء؛ لكنها أسكتتها:
-بس مش هاسيب "فردوس" تبات في الشارع ولا على الرصيف.
علقت عليها بتذمرٍ ساخط:
-والشملول جوزها فين؟ المفروض يدور على بديل.
بعد تنهيدة سريعة أجابت:
-أهوو بيعمل اللي عليه.
التفتت "عقيلة" برأسها نحو باب المنزل عندما سمعت الطرقات عليه، نهضت متجهة إليه لتفتحه، فوجدت "إجلال" عند عتبته، أردفت الأخيرة مرددة بأنفاسٍ لاهثة أكدت على لوعتها:
-سلام عليكم، إزيك يا خالتي؟ لا مؤاخذة إن كنت جيت من غير ميعاد، بس أنا أول ما عرفت بالخبر جيت جري أطمن على "دوسة".
رحبت بها قائلة:
-فيكي الخير يا بنتي، خشي واسيها بكلمتين جوا.
كانت ممتنة لاستقبالها، وانطلقت في التو نحو الداخل، لتلازم صديقة الطفولة، وتشاركها في مصابها، طامعة أن تنجح في التهوين عليها.
................................................
منذ الصغر، أدرك الفارق والاختلاف بين الشقيقين؛ فالكبير متهور، ومندفع، لا يحسب الأمور جيدًا بعقله، يفعل ما يطرأ على باله بغير حسبانٍ، والصغير على النقيض، يمتلك من الذكاء والفطنة ما يجعله قادرًا على تسيد الآخرين وقيادتهم، لا يثير المتاعب، وإن وقع في المصائب وجد السبيل للخروج بلا أدنى خسارة، لهذا كان الابن المفضل لديه، مما زرع الغيرة والحقد في نفس ابنه البكري مع مرور الزمان. الأزمة الأخيرة أوضحت له ما ظن أنه غفل عنه، لهذا أراد إعادة توزيع الأدوار خاصة مع التطورات الجديدة. لجأ السيد "فؤاد" لمحاميه لتنفيذ ما فكر فيه في فترة تعافيه، وشرع الأخير في تحقيق مطالبه دون تأخيرٍ، وصار كل شيء مثلما رغب. استغرب "سامي" من استدعاء أبيه له في مكتبه وقت وصوله، سأله بعدما استقر على المقعد المقابل له:
-خير يا باشا؟
في زهوٍ بائن في نبرته، وكذلك على تقاسيمه، جاوبه باسمًا بقدرٍ قليل:
-أخوك بلغني إنه جاب ولد.
غامت تعابيره للغاية، وهتف غير مصدقٍ ما سمع للتو:
-إيه؟
تابع والده حديثه إليه مهمهمًا:
-بقى لعيلة "الجندي" حفيد.
انزعج من الأريحية الواضحة على والده الأرستقراطي الصارم، فلو كان هو من تصرف برعونة، وتزوج بفتاة مجهولة الحسب والنسب، لربما عوقب بالطرد من جنته، وحُرم من نعيمه وترفه. أظهر "سامي" سخطه ونقمه عليه فقال:
-شايفك يا باشا مبسوط بالخير، يعني بالبساطة دي وافقت تدي لقب العيلة لحد ما نعرفش أصله من فصله؟!!!
حذره السيد "فؤاد" من التمادي في حديثه هاتفًا:
-خد بالك من كلامك يا "سامي"، اللي بتتكلم عنه ده ابن أخوك، من صلبه.
أصر على اعتراضه مدمدمًا بغلٍ يبرز في نظراته:
-بس يا باشا ..
بنفس اللهجة الشديدة الحازمة أمره:
-مش عاوز أسمع كلمة زيادة في الموضوع ده، اتصل بيه باركله وخلاص!
على مضضٍ اضطر أن يعقب، وتعبيرات وجهه تعكس كراهيته:
-اللي تؤمر بيه.
استعد "سامي" لينهض من مكانه؛ لكن جلس مذهولًا عندما أضاف السيد "فؤاد":
-صحيح، المحامي جهزلك ورق الشركة الجديدة.
سأله في صدمة متزايدة، ونظراته تتسع ببهجة لا يمكن إنكارها:
-شركة جديدة؟
أكد له بغموض ضاعف من وتيرة الحماس لديه:
-أيوه.
كان من الأفضل أن يرسله بعيدًا، أن يلهيه بالأعمال فلا يجد وقتًا لتدبير المكائد لشقيقه. استطرد السيد "فؤاد" موضحًا بهدوءٍ:
-في فرع هنفتحه برا مصر، وإنت اللي هتديره، بحكم خبرتك هنا.
وكأنه قد نال مبتغاه، تهللت أساريره، وانعكست آثار الفرحة على محياه، فقال بابتسامة عريضة للغاية:
-إيه؟ معقولة؟ أنا يا باشا؟
تعمد السيد "فؤاد" تجاهل مظاهر السرور البائنة على ابنه، وقال بصرامته المعتادة، كنوعٍ من التحدي:
-وريني هتثبت نفسك إزاي!
وقتئذ هب واقفًا ليخبره بثقةٍ ملأت صدره، ويده تزرر طرفي سترته:
-اطمن يا باشا، أنا هخليك تفتخر بيا.
هز رأسه معقبًا:
-منتظر ده.
انصرف بعدها "سامي" وشعوره بالنشوة يغمره، حادث نفسه في تصميم متحمسٍ للغاية:
-أخيرًا رضا عني "فؤاد" باشا، ودي فرصتي عشان أقدر أوريه الفرق بيني وبين "مهاب"، وساعتها بس هيعرف إنه كان غلطان لما وثق فيه عني!
................................................
بدت وهي جالسة على طرف الفراش، ترتدي ثيابها تأهبًا لخروجها من المشفى، في حالة من الخنوع والاستسلام، امتدت يدها لتداعب برفقٍ حذر أنامل رضيعها النائم إلى جوارها، انتفضت واقفة مرة واحدة عندما فُتح الباب فجــأة، فوخزها جرحها الحي بقوة. تطلعت بنظرات قلقة، تظهر الخوف والتوتر، نحو "مهاب" الذي أطل منه باسمًا في غرور واثق، ابتلعت ريقًا غير موجود في جوفها، وسألته بنبرة مهتزة:
-قرارك إيه؟
تقدم ناحيتها بثباتٍ، وعيناه لا تحيدان عنها، مما أشعرها بالمزيد من الرهبة والارتياع، أحست بمدى ضآلتها أمام بطشـــه اللا محدود، خشيت أن يسحقها باختيارٍ صادم، فبادرت بإبداء استعدادًا تامًا لتنفيذ كل ما يأمرها به، حبست أنفاسها انتظارًا لكلمته الفاصلة، لم تطرف بعينيها وهي تنظر إليه، مــد يده ليحتضن طرف ذقنها، ارتجفت من لمسته التي لم تكن حميمية، أو دافئة، بل شعرت بها كلمسة قاتل يختبر أضعف نقطة في فريسته لـنحــرهــــا منها. حين تكلم شعرت بقلبها ينقبض:
-أنا فكرت ...
شعر "مهاب" برجفتها أسفل لمسته، فاستمتع بمدى تأثيره الطاغي عليها، ابتسم أكثر في انتشاءٍ، وأكمل:
-عشان ابني هردك.
وكأن الحياة قد عادت لتدب في روحها الكسيرة؛ لكن قبل أن تكتمل فرحتها هددها صراحةً، ويده قد أطبقت على فكها تعتصره:
-بس لو في يوم قصرتي في حقه، صدقيني مش بس هحرمك منه، هخليكي تندمي على اليوم اللي عرفتيني فيه!
لم تترك "تهاني" لعقلها الفرصة للتفكير أو التحليل أو حتى مراجعة ما أقره، بل هتفت في الحال رغم الألم الذي انتشر في عظام فكها، مظهرة فروض الطاعة والولاء الكامل له:
-حاضر، أنا مستعدية أعمل أي حاجة عشان أفضل جمب ابني طول العمر.
غابت ملامح التهديد من على قسماته، رمقها بهذه النظرة المتلذذة بانتصاره، ليربت بعدئذ برفق على جانب وجنتها معقبًا في استحسانٍ:
-كده تعجبيني ..................


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close