رواية رحلة الآثام الفصل السادس عشر 16 بقلم منال سالم
لفصل السادس عشر
(مكيدة ساذجة)
غادر الجميع تباعًا، تعلو وجوههم الفرحة والاعتزاز؛ لكنهم تركوها غارقة وسط إحساسها بالمهانة، والانكسار، لم تجد اليد الحنون التي تطبب من جراحها، أو حتى تهون عليها صعوبة ما اختبرته، ولم تشعر بالأمان في حضور من أصبح زوجها، كان كأنه لم يكن من الأساس، تخلى عنها وانساق وراء ما رغب فيه الآخرين. سالت دموعها أنهارًا، فبللت كامل وجهها، وأفسدت زينتها، فأصبحت قبيحـــة المنظر، ومع ذلك لم تكترث للحظة، فما أصابها مزقها من الداخل قبل الخارج.
وقف "عوض" على باب غرفة النوم حائرًا، مترددًا، لم يعرف ما الذي يجب عليه فعله لاسترضائها وتعويضها عما مرت به، تطلع إليها من موضعه مليًا وبإشفاقٍ حزين، كانت منكمشة على نفسها، توليه ظهرها، ترتجف إلى حدٍ ما، صوت بكائها المسموع إليه حز في قلبه بشدة، نكس رأسه بعدما هزها يمينًا ويسارًا أسفًا عليها. استجمع الكلمات في رأسه، وتكلم سائلًا إياها بحذرٍ:
-إنتي كويسة دلوقتي؟
استشعر سخافة سؤاله، فكيف لها أن تصبح في أحسن حال وهي منخرطة في نوبة بكاءٍ عنيفة؟ تدارك خطئه، ولم يتوقع أن ترد عليه، يكفيها ما هي فيه الآن، ازدرد ريقه، وتابع:
-حقك عليا، أنا لو كان بإيدي مكونتش خليت حد يجي ناحيتك، بس حكم القوي!
ارتفع صوت نحيبها، فأحس بالندم أكثر، فقال مغيرًا الحديث:
-أنا هسيبك على راحتك، نامي على السرير، وأنا هفضل برا.
لم تنظر "فردوس" تجاهه، بل أحنت رأسها لتخبئها بين ركبتيها المضمومتين إلى صدرها، وواصلت بكائها المرير. شعوره بالذنب تضاعف، فلم يكن أمامه سوى الفرار من هذا الإحساس القــــاتل، فأنهى حواره أحادي الجانب قائلًا بعدما التقط منامته من على طرف السرير:
-لو عوزتي حاجة نادي بس عليا.
انسحب في هدوء، وأغلق الباب ورائه ليعطيها مساحة من الخصوصية؛ لكن في الحقيقة كان يريد الهروب من هذا الجو الخانق المعبأ بكل ما هو موجع لكليهما!
.............................................
لم تتوقف عن معاتبة نفسها منذ عودتها إلى المنزل، فإحساسها بالذنب تجاه ابنتها كان ينهشها بشدة، بكت في صمتٍ كلما استحضرت في ذهنها طيفها وهي تستجدي عاطفتها الأمومية لنجدتها ممن يحاولون المساس بها بحجة الشرف والسمعة؛ لكنها ظلت أمام رجاواتها الحارقة كتمثالٍ من الحجر، لا تحرك ساكنًا، تخلت عنها، وتركتها للأيادي الغريبة تكشف سرها، على أمل أن تبتهج في النهاية بعفتها؛ لكنها لم تفعل حينما تم الأمر، كانت تحترق لأجلها، ينفطر قلبها حزنًا على اغتيــــال فرحتها. نظرت "عقيلة" إلى شقيقتها الماكثة معها في بيتها مطولًا، كانت الأخيرة مسترخية، لا يبدو بالها مشغولًا بشيء، لذا استطردت قائلة بصوتٍ شبه مختنق؛ وكأنها تؤنبها:
-مكانش لازم نعمل كده، كسرنا فرحة البت، وآ...
قاطعتها "أفكار" ببرودٍ مغلف بالقساوة:
-لأ ياختي، ده كان ضروري، أومال نسيب الناس تتكلم وتألف حوارات؟ أهوو كله كان على عينك يا تاجر.
ضاقت عينيها في استنكارٍ واضح، فهذه لم تكن أحلامها بشأن زيجة ابنتها، ومع ذلك لم تلقِ "أفكار" أي بالٍ لأحزانها، بل أضافت في زهوٍ مغيظ:
-ده إنتي حقك دلوقتي تحطي صوابعك في عين أي حد يفتح بؤه بنص كلمة عنها.
اعترفت لها وهي تمسح بطرف كم عباءتها المنزلية دموعها التي تملأ صفحة وجهها:
-صعبانة عليا أوي، حاسة إني كسرتها.
ضحكت في استهزاءٍ قبل أن تقول بابتسامة سخيفة:
-علقة تفوت ولا حد يموت...
ثم مالت ناحيتها، وغمزت لها في شيءٍ من المكر:
-دي زمانها غرقانة في العسل وجوزها مدلعها.
لم تبدُ "عقيلة" مطمئنة لهذه الدرجة، فالألم لن يمضي على خير كما تظن، خاصة ما يؤثر بالنفس. انتبهت مجددًا لشقيقتها الكبرى وهي تخاطبها بعدما نهضت من موضع جلوسها:
-بينا نعملها فطور العرسان.
تبعتها في خطواتٍ متعبة ولسانها يهمهم داعيًا:
-ربنا يهدي سِرك يا بنتي، ويريح بالك!
..........................................
كان من غير الطبيعي بالنسبة له، الذهاب هكذا ببساطة وتركه وهو لا يزال في هذا الوضع الصحي الحرج، قرر "مهاب" إرجاء سفره لمدة غير معلومة، وملازمة والده ريثما يتماثل تمامًا للشفاء، وكذلك ليُبقي عينيه على شقيقه الأكبر الذي على ما يبدو يكيد له بعض المكائد الخبيثة، لإفساد ما بينه وبين أبيه على أمل أن يحظى بمكانة عالية لديه، ويفوز بالكعكة كاملة ودون نقصان. راجع مرة ثانية ما لديه من أوراق وتقارير وهو جالس بالمكتب الذي تم تجهيزه له في هذا المشفى الاستثماري الضخم، ليكون خاصًا به خلال أدائه لعمله كطبيب متخصص في الجراحة هنا. قاطع انشغاله في كتابة بعض الملحوظات الضرورية اقتحام "سامي" للحجرة دون استئذان ليهاجمه كالعادة بالمستهلك على الأذن من عبارات التهديد السقيمة، لم يغلق الباب خلفه، وسار مختالًا ناحيته وهو يردف بسخرية مستفزة:
-ده أنا فكرتك حاجز أول طيارة ومسافر.
رفع "مهاب" بصره تجاهه، ثم نظر إليه شزرًا، ليعلق بعدها مستخفًا به:
-للأسف تخمينك مش في محله، أنا مش مسافر.
لم ينجح هذه المرة في استثارة أعصابه، بل بدا "سامي" هادئًا للغاية وهو يسأله في تهكمٍ:
-معقولة تسيب حياة الرفاهية والأضواء، وتفضل معانا؟
رد عليه بما جعل قناع البرود الزائف يسقط في التو:
-"فؤاد" باشا يستاهل إني أضحي بكل حاجة عشانه، ما تنساش أنا المفضل عنده.
لم يتمكن من ضبط انفعالاته طويلًا، أو السيطرة على ردة فعله التي يسهل استفزازها، سرعان ما صعدت الدماء إلى رأسه، فصاح في صوتٍ شبه محتد:
-من إمتى الحنية دي؟ أنا أكتر واحد فاهمك.
قال مصححًا له بنفس الوتيرة الهادئة:
-إنت أكتر حد ماتعرفنيش.
اشتعل وجهه بغضبه، وأطلت من عينيه نظرات كارهة حاقدة، ترك "مهاب" ما بيده جانبًا، لينهض من على مقعده قائلًا:
-رأيي يا "سامي" بدل ما تركز في اللي بعمله، ركز في حياتك إنت.
انفلتت منه صيحة حانقة:
-إنت هتعرفني أعمل إيه ومعملش إيه؟ نسيت نفسك؟ ده أنا مداري على كل بلاويك.
وقفت "مهاب" في مواجهته، لا يبدو على ملامحه أدنى تغيير، بينما استمر "سامي" في إطلاق سهام غضبه المحموم عليه:
-ولا تكون فاكر إنك بكلمتين هتضحك على "فؤاد" باشا، ويرجع يصدقك من تاني؟!!
ابتسم له شقيقه الأصغر بغير اكتراث ليجعل بذلك نيران الغيرة تأكله أكثر، ثم تكلم إليه وهو يربت على جانب ذراعه:
-اعمل اللي إنت عاوزه، في النهاية كل اللي يهمني صحة بابا وسلامته.
استشاطت نظراته بشدة، فقابلها "مهاب" بابتسامة وديعة واثقة، قبل أن يوليه ظهره ليسير عائدًا تجاه مكتبه، التقط أحد الملفات من على سطحه، وقال وهو ينظر إليه من طرف عينه:
-مضطر أسيبك تهري مع نفسك وأشوف اللي ورايا هنا.
بدا وجه "سامي" محمرًا للغاية، عاكسًا لما يستعر في داخله من حقد مشوب بالغيرة العظيمة، تابع "مهاب" سيره نحو الباب قائلًا بلهجةٍ شبه آمرة:
-ابقى اقفل الباب بعد ما تطلع.
انتظر ذهابه ليلعنه:
-غبي، مفكر نفسه مسيطر على كل حاجة.
اتجه إلى حيث الهاتف الأرضي، أمسك بالسماعة، ولف القرص الدوار مُحدثًا نفسه:
-استعد بقى لنهايتك.
..........................................
أمضى الليل غافلًا على الأريكة في صالة بيته، فشعر حينما استيقظ بتيبس فقرات عنقه، وبألم متفرق في أنحاء جسده المتعب مسبقًا. كان وجهه مرهقًا، أسفل عينيه شبه أسود، فقد بقي يقظًا لما بعد الفجر بقليل إلى أن غلبه النعاس، وسقط نائمًا صريع الإنهاك. تمطى "عوض" بذراعيه، ودعك برفقٍ الأجزاء التي ما زالت تؤلمه ليخفف من حدة الوجع، وضب مكان نومه، ثم نهض سائرًا تجاه الحمام ليغسل وجهه. تباطأ في مشيه حينما نظر إلى باب غرفته المغلق، كل ما دار في خلده في هذه اللحظات هو أحوال زوجته، أراد تفقد أحوالها؛ لكنه تراجع عن هذه الفكرة في التو، محاولًا منحها المزيد من الوقت لتتجاوز حادثة الأمس.
لم يكن قد انتهى بعد من تجفيف وجهه حتى سمع الطرقات المتعاقبة على باب المنزل، ألقى بالمنشفة على المشجب الموجود خلف باب الحمام الخشبي، وأسرع الخطى نحو الخارج. ما إن فتح الباب حتى انطلقت في وجهه زغرودة مبتهجة، أعقبها هذه الجملة التقليدية الفرحة من خالة زوجته:
-صباحية مباركة يا عريس.
تنحى للجانب ليفسح لها بالمرور مع ما تحمل في يديها قائلًا:
-الله يبارك فيكي، اتفضلي يا خالة، البيت بيتك.
كذلك ألقى التحية على حماته، وحمل عنها الأغراض التي جاءت بها هاتفًا:
-عنك ..
نظر إلى ما أحضرته الاثنتان بدهشةٍ حرجة، فكلتاهما جاءتا محملتين بكل ما لذ وطاب لإطعامه هو وزوجته التي لم يرها منذ الأمس. تنحنح مرددًا بحرجٍ ظاهر على قسماته قبل نبرته:
-مكانش ليه لزوم التعب ده!
ضحكت "أفكار" مرددة في مرحٍ:
-دي حاجة بسيطة ترم بيها عضمك...
لم تخبت ابتسامتها المتسعة وهي تتم جملتها:
-وعقبال ما نشوف عوضكم يا رب.
قال مجاملًا وهو ينقل ما جاءتا به إلى داخل المطبخ:
-إن شاءالله.
استوقفته حماته بسؤالها المهتم:
-أومال العروسة فين؟
بلع ريقه، وقال:
-جوا، تقدروا تخشوا عندها.
ردت عليه "أفكار" بأسلوبها المبتهج:
-تعيش يا "عوض".
أمل في قرارة نفسه أن تكون زوجته قد استراحت بدنيًا وذهنيًا مما خاضته ليلة الأمس، وإلا لوقعت أسيرة حصار جديد من اللوم والعتاب، فهذه هي طبيعة الحياة هنا في المناطق الشعبية، لا مكان للخصوصية، ولا مجال لتقدير المشاعر الإنسانية حينما تكون منتهكة ومستنزفة.
.............................................
مرة ثانية انطلقت الزغاريد عاليًا من حلقها، وهي تضع يدها على المقبض لتفتح الباب استعدادًا لرؤية ابنتها العروس الخجلى في أبهى صورة لها. أطلت بوجهها باحثة بنظراتها اللهفى عنها، ولسانها يسبقها في التهنئة:
-مبروووك يا "دوسة"، آ...
بترت عبارتها عن عمدٍ حينما وجدتها لا تزال متكومة على طرف الفراش وترتدي ثوب عرسها، انفلتت منها شهقة مستهجنة، وأسرعت ناحيتها تسألها في جزعٍ:
-إيه ده؟ إنتي لسه بفستانك؟
لحقت "أفكار" بها، ونظرت إليها مصدومة قبل أن تعنفها في استياءٍ، وبمشاعرٍ متحجرة:
-يا خيبتك!
نظرت "عقيلة" إلى شقيقتها بنظرة سريعة، ثم حولت بصرها عنها لتسأل ابنتها في جزعٍ متصاعد، وعيناها تتفحصان وجهها المنتفخ بقلقٍ أكب:
-مالك؟ عاملة كده ليه؟
بدلًا من إجابتها أجهش بالبكاء المرير، فانقبض قلب أمها عليها، في حين وبختها "أفكار" بتعبيرٍ ممتعض:
-بذمتك ده منظر عروسة تفتح نفس جوزها في صباحيتها؟
ردت عليها "عقيلة" تعاتبها:
-بالراحة عليها يا "أفكار"، خلينا بس نفهم في إيه؟
زمت شفتيها مرددة في سخطٍ وهي تشير بيدها:
-ما هي الحكاية مش محتاجة تفسير، الجواب باين من عنوانه!!
جلست "عقيلة" مجاورة لابنتها، ومدت يدها لتمسح عنها الدموع وهي تتساءل في توترٍ:
-احكيلي في إيه حصل؟
من بين بكائها الشديد ردت نافية:
-محصلش حاجة يامه، أنا صعبان عليا نفسي واللي جرالي.
هدأت مهاج "عقيلة" إلى حدٍ ما، وحاولت مواساتها بكلماتها الآسفة:
-متزعليش يا بنتي، كله مقدر ومكتوب.
مرة ثانية مصمصت "أفكار" شفتيها، وأضافت بازدراءٍ:
-وربنا وشك يقطع الخميرة من البيت!
لم تتحمل "فردوس" أي إهانة وهي في هذه الحالة البائسة، سلطت نظراتها على خالتها، وصاحت في حنقٍ:
-عاوزاني أقوم أرقص وأفرح بعد اللي اتعمل فيا؟
هزت "أفكار" كتفيها مرددة، وبإيماءة من رأسها:
-أيوه، وتجيبي طبل وزمر، وتمشي رافعة راسك وسط الخلق.
نظرت "عقيلة" إليها بحاجبين معقودين، فتابعت شقيقتها بلؤمٍ:
-يا عبيطة لو مكانش ده حصل كانوا قالوا عنك في الخمر يا ليل.
ثم أشارت لشقيقتها لتنهض لتجلس مكانها، واستمرت في إخبارها:
-إنما دلوقتي إنتي تقدري تقولي للأعور إنت أعور في وشه من غير ما تحسي إنك قليلة.
راحت "فردوس" تكفكف دمعها بظهر كفها، فطلبت منها خالتها بلهجةٍ مالت للأمر:
-قومي كده تعالي معايا نغيرلك هدومك.
أخبرتها في صدقٍ وهي تشير بيدها إلى موضع قلبها:
-أنا موجوعة من جوايا، ومن آ...
عجزت عن إكمال جملتها حرجًا؛ لكن بدت شكواها مفهومة لأمها وخالتها، فوخزات الأمس الحادة لن تتعافى بين عشية وضحاها. ضحكت "أفكار" مستخفة بألمها، وعلقت وهي تقوم واقفة:
-بلاش دلع مرئ!
ثم جذبتها من ذراعها عنوة وهي تلح عليها:
-قومي يالا بلا هم، ده إنتي عروسة لسه بكرتونتها، مش خرج بيت!
رغم التجهم المستحوذ على ملامح وجه "عقيلة" إلا أنها كانت مثل شقيقتها، لا تريد لابنتها الوقوف عند لحظة بعينها، وتناسي مسئولياتها الجديدة كزوجة عليها ترسيخ دعائم علاقتها مع زوجها، لتضمن استمرار حياتها في ظل وجود والدته المتسلطة، فالأخيرة ذات تأثير مهدد لاستقرارهما كعائلة.
...........................................
لم يمر على وجوده بالمشفى عدة أسابيع، إلا وكل بضعة أيام تظهر شكوى غريبة في حقه، على أمل النيل من سمعته وزعزعة وضعه كجراحٍ مخضرم، ومع ذلك كان قادرًا على التعامل بحنكة مع ما يتعرض له من شكاوي مغرضة، متوقعًا من يقف خلفها لإزعاجه ومضايقته، لكنه غض الطرف عن هذه التفاهات إلى أن انتهى المطاف بوجود قوة من أفراد الشرطة تحاصره في مكتبه، وكأنه مجرم خطير على وشك الهروب، حيث تم اتهامه في محضر رسمي بالتسبب في وفاة أحد المرضى عن طريق الخطأ. أنكر "مهاب" هذا الاتهام الصريح، وهتف نافيًا إياه بتحيزٍ ثائر:
-دي تخاريف!
رد عليه الضابط المسئول برسميةٍ بحتة:
-يا دكتور البلاغ بيقول إنك عملت العملية كمان بدون موافقة أهل المريض، ودي مشكلة تانية خطيرة.
طرق بقبضته المتكورة في تعصبٍ على السطح الزجاجي، ورد مؤكدًا في غضبٍ مبرر:
-محصلش!
أشار له الضابط بالتحرك وهو يخاطبه في لهجة جامدة:
-يا ريت حضرتك تتفضل معانا بهدوء على القسم، وهناك هتعرف كل التفاصيل.
كان من الصواب في مثل هذه الظروف التصرف بتعقلٍ وروية لكشف الحقائق، بدلًا من إثارة البلبلة بلا داعٍ، لذا سحب "مهاب" نفسًا عميقًا يثبط به انفعالاته الثائرة، وقال بعد زفيرٍ سريع:
-مافيش مانع عندي، بس الأول هكلم المحامي بتاعي.
رد الضابط في هدوءٍ مقتضب:
-براحتك.
..........................................
المحنة التي ظن أنها ستقضي على مسيرته الطبية دون ذنبٍ فعلي حُلت بخبرة فريق المحامين المخضرمين، وتم كشف ملابسات البلاغ المدسوس من أجل إيقاعه في وقت وجيز، فالمريض الذي اتهم بالتسبب في وفاته خطئًا كان اسمه غير مسجل بسجلات المشفى الرسمية، وبالتالي كان من غير المعقول أن يقوم "مهاب" بإجراء جراحة له وهو لا يمارس عمله إلا بذلك المشفى فقط، ناهيك عن عدم تخصصه في إنهاء أي إجراءات قانونية تخص أي مريض، فمهمته كانت محددة القيام بالعمليات الجراحية فور تأكد فريق يعمل تحت يديه من إعداد كل شيء.
أثبتت التحريات صحة ما قُدم من بيانات رسمية، وأطلق سراحه في الحال، ليتجه "مهاب" إلى مقر شركة عائلة "الجندي" وقد عرف من يقف وراء ذلك الملعوب الخبيث. دون استئذان اقتحم غرفة المكتب الخاصة بوالده، حيث يمكث فيها "سامي" معتقدًا أنه قد بات المسئول الوحيد عن إدارة كافة الأعمال ويملك السلطة المطلقة لتسيير الأمور وفق رغباته هو ولا أحد غيره. توتر، وانتفض، واضطرب في جلسته حينما رأى شقيقه الأصغر بشحمه ولحمه يقف قبالته؛ وكأن شيئًا لم يمسه. استطرد الأخير متكلمًا في صوتٍ ينم عن قوة مهيبة:
-كنت مفكر إن حركة عبيطة زي دي هتجيب نتيجة معايا؟
تلجلج وهو يرد عليه متسائلًا بعدما نهض واقفًا:
-إنت قصدك إيه؟
حاول بحيلة مكشوفة تعنيفه للتغطية على رهبته منه مشيرًا له بسبابته:
-وبعدين إنت إزاي تتدخل عليا المكتب كده؟!!!
تقدم "مهاب" ناحيته وهو يشمله بنظرات احتقارية، تحمل ضغينة عميقة تجاهه، فما تعرض له كان بإيعازٍ منه، بالكاد حافظ على هدوء نبرته وهو يخاطبه هازئًا:
-المرادي ذكائك المحدود خانك يا "سامي".
إهانته لشخصه كانت صريحة، غير متوارية، لم يتحملها كعادته، وصاح به متشنجًا:
-إنت إزاي تكلمني كده؟ أنا أخوك الكبير وآ...
قاطعه في صوتٍ مهدد:
-ما تفكرش إني هعديهالك...
انعكس الذعر على محياه، فتوجس خيفة منه وهو يرى نظراته المميتة مرتكزة عليه؛ وكأنه يود الفتك به، ما لبث أن هوى قلبه بين قدميه حينما أكد له بلهجة غير متساهلة إطلاقًا:
-لأني مش برحم اللي يفكر بس يأذيني.
.............................................
استغرقها الأمر الكثير من الوقت لتعود إلى ممارسة روتين حياتها اليومي بشكلٍ شبه طبيعي، وكان أول ما قررت فعله، هو مهاتفة والدتها بعد انقطاع دام لأشهرٍ، خجلت خلالها من الاعتراف لها بالخطأ الجسيم الذي ارتكبته في حق نفسها. تلمست "تهاني" بطنها المتكور، ودارت بيدها عليها في حركة دائرية رقيقة بعدما أحست بوكزة خفيفة في جانبها، لاح على ثغرها بسمة ناعمة، فهي لم تظن أنها ستكمل ذلك الحمل؛ لكن بذرة المشاعر الأمومية التي صحت بداخلها جعلتها تتراجع عن فكرة التخلص منه رغم مساوئ زواجها غير الموفق من "مهاب"، شجعها على ذلك أيضًا غيابه عنها، ودعم "ممدوح" لها، فقد أصبح أكثر قربًا منها، وتخطت مكانته لديها حدود الرفيق المخلص، لتتوطد صداقتهما بشكلٍ غير معقول؛ لكنها لم تتجاوز حدود المباح، حيث أبقت على وجود مسافة حذرة في علاقتها به.
انتشلها من شرودها الذي طال صوت والدتها شبه الباكي حينما أجابت عليها بعد انتظار استمر لما يقرب من دقيقة:
-كل الغيبة دي يا "تهاني"؟ هونت عليكي يا بنتي؟
افتقادها لوجودها في حياتها جعل تأثير سماعها لصوتها جليًا، دق قلبها، وكتمت بيدها أنفها لتمنع نفسها من البكاء، لترد مدعية كذبًا بصعوبةٍ:
-معلش يا ماما، مشاغل.
جاء ردها مستعتبًا:
-مشاغل إيه اللي وخداكي كل ده؟ مافضتيش دقيقة تكلميني فيها؟
نفرت من مقلتيها الدموع، فتابعت بعد نحنحة سريعة:
-غصب عني، بس المهم، قوليلي إنتو أخباركم إيه؟
أجابتها "عقيلة" بعد شهيق مسموع:
-الحمدلله، ناوية ترجعي امتى؟
مسحت "تهاني" بإصبعها دمعها من على وجنتها، وأخبرتها:
-صعب دلوقتي، أومال "فردوس فين؟
في شيء من البهجة جاوبتها:
-مش اتجوزت والحمدلله.
ردت بشكلٍ آلي مقتضب:
-مبروك.
أضافت والدتها بعدئذ بتلقائية أمومية:
-عقبالك إنتي كمان يا ضنايا، وساعتها نعملك أحلى ليلة هنا بمشيئة ربنا.
حينئذ اعتصر الألم قلبها، فكيف لها أن تخبرها عبر مكالمة هاتفية خاطفة أنها تزوجت؟ بل وعلى وشك الإنجاب بعد أشهر قليلة؟! سكتت لهنيهة وهي تشعر بالخزي من حالها، فهذا ليس ما خططت له، وما ظلت تردده على مسامع الجميع! أعمتها في لحظة غادرة أطماعها، وغطت أحلامها الواهية على رجاحة عقلها، فحينما انتهت سَكرة الحب انكشفت الحقائق، وأصبح كل شيء واضحًا. حاولت "تهاني" أن تبرر صمتها الذي شعرت به أمها بقولها الكاذب:
-أنا.. مش بفكر غير في دراستي وشغلي.
ردت عليها برجاءٍ:
-ربنا يقويكي ويهديلك العاصي.
-يا رب.
أوصتها والدتها قبل أن تنهي معها المكالمة في نبرة التياعٍ:
-ما تطوليش عليا يا "تهاني"، اسألي عليا من وقت للتاني.
حبست شهقة بكائها للحظة الأخيرة، لترد في إيجازٍ:
-حاضر.
ثم وضعت السماعة وهي تنفجر باكية في حرقة وتأثر، قلبها اشتاق إليها، وروحها تتعذب في بُعادها عنها، لازمها الحزن من جديد، وجعلها تتجرع بقساوة مرارة اختيارها غير الموفق.
............................................
لم يساوره أدنى شك أن ابنه كان يبذل قصارى جهده ليطمئن على استقرار وضعه الصحي، وها هو اليوم ينعم في قصره الضخم بمظاهر العافية وعلامات النشاط والحيوية؛ لكنه سرعان ما عبس، وقلب شفتيه، لتنتفض في نظراته شارات الغضب بعدما قرأ ما تناولته الجرائد والصُحف اليومية عن خبر اتهام "مهاب" الكاذب، استدعى ابنه على عجالة قبل ذهابه للمشفى، واستعلم منه عن تفاصيل هذه الأخبار، فأخبره بلا انفعال عن الأمر، لينهي كلامه قائلًا:
-أنا بلغتك يا باشا باللي حصل، ولأنه أخويا فأنا لميت الموضوع.
النظر في وجه "فؤاد" في هذه اللحظة كان مخيفًا، فتعابيره كانت توحي بشرٍ خطير، استمر "مهاب" في الحديث مردفًا:
-مهما كان اسم العيلة مش لازم حد يمسه، بس للأسف الخبر وصل الجرايد.
لم ينطق والده بكلمة، كان واجم الملامح، قاسي النظرات، في حين واصل ابنه إخباره بجديةٍ تامة:
-من بكرة هينزل تكذيب عن الأخبار دي في كل مكان، وهحاسب المسئول عن النشر، مش عاوزك تشيل هم يا باشا.
فجـــأة رفع "فؤاد" كفه أمام وجه ابنه ليقول في صوت رخيم وغامض:
-خلاص يا "مهاب"...
كان الأخير مقطبًا لحاجبيه وهو يصغي إليه دون مقاطعة، تحفز في جلسته أكثر عندما تابع بنبرة أكدت على عدم منحه لأي صكٍ من صكوك الغفران لابنه البكري مهما أظهر من دوافعٍ وتفسيرات:
-أخوك ليه حسابه معايا، فمتدخلش ............
(مكيدة ساذجة)
غادر الجميع تباعًا، تعلو وجوههم الفرحة والاعتزاز؛ لكنهم تركوها غارقة وسط إحساسها بالمهانة، والانكسار، لم تجد اليد الحنون التي تطبب من جراحها، أو حتى تهون عليها صعوبة ما اختبرته، ولم تشعر بالأمان في حضور من أصبح زوجها، كان كأنه لم يكن من الأساس، تخلى عنها وانساق وراء ما رغب فيه الآخرين. سالت دموعها أنهارًا، فبللت كامل وجهها، وأفسدت زينتها، فأصبحت قبيحـــة المنظر، ومع ذلك لم تكترث للحظة، فما أصابها مزقها من الداخل قبل الخارج.
وقف "عوض" على باب غرفة النوم حائرًا، مترددًا، لم يعرف ما الذي يجب عليه فعله لاسترضائها وتعويضها عما مرت به، تطلع إليها من موضعه مليًا وبإشفاقٍ حزين، كانت منكمشة على نفسها، توليه ظهرها، ترتجف إلى حدٍ ما، صوت بكائها المسموع إليه حز في قلبه بشدة، نكس رأسه بعدما هزها يمينًا ويسارًا أسفًا عليها. استجمع الكلمات في رأسه، وتكلم سائلًا إياها بحذرٍ:
-إنتي كويسة دلوقتي؟
استشعر سخافة سؤاله، فكيف لها أن تصبح في أحسن حال وهي منخرطة في نوبة بكاءٍ عنيفة؟ تدارك خطئه، ولم يتوقع أن ترد عليه، يكفيها ما هي فيه الآن، ازدرد ريقه، وتابع:
-حقك عليا، أنا لو كان بإيدي مكونتش خليت حد يجي ناحيتك، بس حكم القوي!
ارتفع صوت نحيبها، فأحس بالندم أكثر، فقال مغيرًا الحديث:
-أنا هسيبك على راحتك، نامي على السرير، وأنا هفضل برا.
لم تنظر "فردوس" تجاهه، بل أحنت رأسها لتخبئها بين ركبتيها المضمومتين إلى صدرها، وواصلت بكائها المرير. شعوره بالذنب تضاعف، فلم يكن أمامه سوى الفرار من هذا الإحساس القــــاتل، فأنهى حواره أحادي الجانب قائلًا بعدما التقط منامته من على طرف السرير:
-لو عوزتي حاجة نادي بس عليا.
انسحب في هدوء، وأغلق الباب ورائه ليعطيها مساحة من الخصوصية؛ لكن في الحقيقة كان يريد الهروب من هذا الجو الخانق المعبأ بكل ما هو موجع لكليهما!
.............................................
لم تتوقف عن معاتبة نفسها منذ عودتها إلى المنزل، فإحساسها بالذنب تجاه ابنتها كان ينهشها بشدة، بكت في صمتٍ كلما استحضرت في ذهنها طيفها وهي تستجدي عاطفتها الأمومية لنجدتها ممن يحاولون المساس بها بحجة الشرف والسمعة؛ لكنها ظلت أمام رجاواتها الحارقة كتمثالٍ من الحجر، لا تحرك ساكنًا، تخلت عنها، وتركتها للأيادي الغريبة تكشف سرها، على أمل أن تبتهج في النهاية بعفتها؛ لكنها لم تفعل حينما تم الأمر، كانت تحترق لأجلها، ينفطر قلبها حزنًا على اغتيــــال فرحتها. نظرت "عقيلة" إلى شقيقتها الماكثة معها في بيتها مطولًا، كانت الأخيرة مسترخية، لا يبدو بالها مشغولًا بشيء، لذا استطردت قائلة بصوتٍ شبه مختنق؛ وكأنها تؤنبها:
-مكانش لازم نعمل كده، كسرنا فرحة البت، وآ...
قاطعتها "أفكار" ببرودٍ مغلف بالقساوة:
-لأ ياختي، ده كان ضروري، أومال نسيب الناس تتكلم وتألف حوارات؟ أهوو كله كان على عينك يا تاجر.
ضاقت عينيها في استنكارٍ واضح، فهذه لم تكن أحلامها بشأن زيجة ابنتها، ومع ذلك لم تلقِ "أفكار" أي بالٍ لأحزانها، بل أضافت في زهوٍ مغيظ:
-ده إنتي حقك دلوقتي تحطي صوابعك في عين أي حد يفتح بؤه بنص كلمة عنها.
اعترفت لها وهي تمسح بطرف كم عباءتها المنزلية دموعها التي تملأ صفحة وجهها:
-صعبانة عليا أوي، حاسة إني كسرتها.
ضحكت في استهزاءٍ قبل أن تقول بابتسامة سخيفة:
-علقة تفوت ولا حد يموت...
ثم مالت ناحيتها، وغمزت لها في شيءٍ من المكر:
-دي زمانها غرقانة في العسل وجوزها مدلعها.
لم تبدُ "عقيلة" مطمئنة لهذه الدرجة، فالألم لن يمضي على خير كما تظن، خاصة ما يؤثر بالنفس. انتبهت مجددًا لشقيقتها الكبرى وهي تخاطبها بعدما نهضت من موضع جلوسها:
-بينا نعملها فطور العرسان.
تبعتها في خطواتٍ متعبة ولسانها يهمهم داعيًا:
-ربنا يهدي سِرك يا بنتي، ويريح بالك!
..........................................
كان من غير الطبيعي بالنسبة له، الذهاب هكذا ببساطة وتركه وهو لا يزال في هذا الوضع الصحي الحرج، قرر "مهاب" إرجاء سفره لمدة غير معلومة، وملازمة والده ريثما يتماثل تمامًا للشفاء، وكذلك ليُبقي عينيه على شقيقه الأكبر الذي على ما يبدو يكيد له بعض المكائد الخبيثة، لإفساد ما بينه وبين أبيه على أمل أن يحظى بمكانة عالية لديه، ويفوز بالكعكة كاملة ودون نقصان. راجع مرة ثانية ما لديه من أوراق وتقارير وهو جالس بالمكتب الذي تم تجهيزه له في هذا المشفى الاستثماري الضخم، ليكون خاصًا به خلال أدائه لعمله كطبيب متخصص في الجراحة هنا. قاطع انشغاله في كتابة بعض الملحوظات الضرورية اقتحام "سامي" للحجرة دون استئذان ليهاجمه كالعادة بالمستهلك على الأذن من عبارات التهديد السقيمة، لم يغلق الباب خلفه، وسار مختالًا ناحيته وهو يردف بسخرية مستفزة:
-ده أنا فكرتك حاجز أول طيارة ومسافر.
رفع "مهاب" بصره تجاهه، ثم نظر إليه شزرًا، ليعلق بعدها مستخفًا به:
-للأسف تخمينك مش في محله، أنا مش مسافر.
لم ينجح هذه المرة في استثارة أعصابه، بل بدا "سامي" هادئًا للغاية وهو يسأله في تهكمٍ:
-معقولة تسيب حياة الرفاهية والأضواء، وتفضل معانا؟
رد عليه بما جعل قناع البرود الزائف يسقط في التو:
-"فؤاد" باشا يستاهل إني أضحي بكل حاجة عشانه، ما تنساش أنا المفضل عنده.
لم يتمكن من ضبط انفعالاته طويلًا، أو السيطرة على ردة فعله التي يسهل استفزازها، سرعان ما صعدت الدماء إلى رأسه، فصاح في صوتٍ شبه محتد:
-من إمتى الحنية دي؟ أنا أكتر واحد فاهمك.
قال مصححًا له بنفس الوتيرة الهادئة:
-إنت أكتر حد ماتعرفنيش.
اشتعل وجهه بغضبه، وأطلت من عينيه نظرات كارهة حاقدة، ترك "مهاب" ما بيده جانبًا، لينهض من على مقعده قائلًا:
-رأيي يا "سامي" بدل ما تركز في اللي بعمله، ركز في حياتك إنت.
انفلتت منه صيحة حانقة:
-إنت هتعرفني أعمل إيه ومعملش إيه؟ نسيت نفسك؟ ده أنا مداري على كل بلاويك.
وقفت "مهاب" في مواجهته، لا يبدو على ملامحه أدنى تغيير، بينما استمر "سامي" في إطلاق سهام غضبه المحموم عليه:
-ولا تكون فاكر إنك بكلمتين هتضحك على "فؤاد" باشا، ويرجع يصدقك من تاني؟!!
ابتسم له شقيقه الأصغر بغير اكتراث ليجعل بذلك نيران الغيرة تأكله أكثر، ثم تكلم إليه وهو يربت على جانب ذراعه:
-اعمل اللي إنت عاوزه، في النهاية كل اللي يهمني صحة بابا وسلامته.
استشاطت نظراته بشدة، فقابلها "مهاب" بابتسامة وديعة واثقة، قبل أن يوليه ظهره ليسير عائدًا تجاه مكتبه، التقط أحد الملفات من على سطحه، وقال وهو ينظر إليه من طرف عينه:
-مضطر أسيبك تهري مع نفسك وأشوف اللي ورايا هنا.
بدا وجه "سامي" محمرًا للغاية، عاكسًا لما يستعر في داخله من حقد مشوب بالغيرة العظيمة، تابع "مهاب" سيره نحو الباب قائلًا بلهجةٍ شبه آمرة:
-ابقى اقفل الباب بعد ما تطلع.
انتظر ذهابه ليلعنه:
-غبي، مفكر نفسه مسيطر على كل حاجة.
اتجه إلى حيث الهاتف الأرضي، أمسك بالسماعة، ولف القرص الدوار مُحدثًا نفسه:
-استعد بقى لنهايتك.
..........................................
أمضى الليل غافلًا على الأريكة في صالة بيته، فشعر حينما استيقظ بتيبس فقرات عنقه، وبألم متفرق في أنحاء جسده المتعب مسبقًا. كان وجهه مرهقًا، أسفل عينيه شبه أسود، فقد بقي يقظًا لما بعد الفجر بقليل إلى أن غلبه النعاس، وسقط نائمًا صريع الإنهاك. تمطى "عوض" بذراعيه، ودعك برفقٍ الأجزاء التي ما زالت تؤلمه ليخفف من حدة الوجع، وضب مكان نومه، ثم نهض سائرًا تجاه الحمام ليغسل وجهه. تباطأ في مشيه حينما نظر إلى باب غرفته المغلق، كل ما دار في خلده في هذه اللحظات هو أحوال زوجته، أراد تفقد أحوالها؛ لكنه تراجع عن هذه الفكرة في التو، محاولًا منحها المزيد من الوقت لتتجاوز حادثة الأمس.
لم يكن قد انتهى بعد من تجفيف وجهه حتى سمع الطرقات المتعاقبة على باب المنزل، ألقى بالمنشفة على المشجب الموجود خلف باب الحمام الخشبي، وأسرع الخطى نحو الخارج. ما إن فتح الباب حتى انطلقت في وجهه زغرودة مبتهجة، أعقبها هذه الجملة التقليدية الفرحة من خالة زوجته:
-صباحية مباركة يا عريس.
تنحى للجانب ليفسح لها بالمرور مع ما تحمل في يديها قائلًا:
-الله يبارك فيكي، اتفضلي يا خالة، البيت بيتك.
كذلك ألقى التحية على حماته، وحمل عنها الأغراض التي جاءت بها هاتفًا:
-عنك ..
نظر إلى ما أحضرته الاثنتان بدهشةٍ حرجة، فكلتاهما جاءتا محملتين بكل ما لذ وطاب لإطعامه هو وزوجته التي لم يرها منذ الأمس. تنحنح مرددًا بحرجٍ ظاهر على قسماته قبل نبرته:
-مكانش ليه لزوم التعب ده!
ضحكت "أفكار" مرددة في مرحٍ:
-دي حاجة بسيطة ترم بيها عضمك...
لم تخبت ابتسامتها المتسعة وهي تتم جملتها:
-وعقبال ما نشوف عوضكم يا رب.
قال مجاملًا وهو ينقل ما جاءتا به إلى داخل المطبخ:
-إن شاءالله.
استوقفته حماته بسؤالها المهتم:
-أومال العروسة فين؟
بلع ريقه، وقال:
-جوا، تقدروا تخشوا عندها.
ردت عليه "أفكار" بأسلوبها المبتهج:
-تعيش يا "عوض".
أمل في قرارة نفسه أن تكون زوجته قد استراحت بدنيًا وذهنيًا مما خاضته ليلة الأمس، وإلا لوقعت أسيرة حصار جديد من اللوم والعتاب، فهذه هي طبيعة الحياة هنا في المناطق الشعبية، لا مكان للخصوصية، ولا مجال لتقدير المشاعر الإنسانية حينما تكون منتهكة ومستنزفة.
.............................................
مرة ثانية انطلقت الزغاريد عاليًا من حلقها، وهي تضع يدها على المقبض لتفتح الباب استعدادًا لرؤية ابنتها العروس الخجلى في أبهى صورة لها. أطلت بوجهها باحثة بنظراتها اللهفى عنها، ولسانها يسبقها في التهنئة:
-مبروووك يا "دوسة"، آ...
بترت عبارتها عن عمدٍ حينما وجدتها لا تزال متكومة على طرف الفراش وترتدي ثوب عرسها، انفلتت منها شهقة مستهجنة، وأسرعت ناحيتها تسألها في جزعٍ:
-إيه ده؟ إنتي لسه بفستانك؟
لحقت "أفكار" بها، ونظرت إليها مصدومة قبل أن تعنفها في استياءٍ، وبمشاعرٍ متحجرة:
-يا خيبتك!
نظرت "عقيلة" إلى شقيقتها بنظرة سريعة، ثم حولت بصرها عنها لتسأل ابنتها في جزعٍ متصاعد، وعيناها تتفحصان وجهها المنتفخ بقلقٍ أكب:
-مالك؟ عاملة كده ليه؟
بدلًا من إجابتها أجهش بالبكاء المرير، فانقبض قلب أمها عليها، في حين وبختها "أفكار" بتعبيرٍ ممتعض:
-بذمتك ده منظر عروسة تفتح نفس جوزها في صباحيتها؟
ردت عليها "عقيلة" تعاتبها:
-بالراحة عليها يا "أفكار"، خلينا بس نفهم في إيه؟
زمت شفتيها مرددة في سخطٍ وهي تشير بيدها:
-ما هي الحكاية مش محتاجة تفسير، الجواب باين من عنوانه!!
جلست "عقيلة" مجاورة لابنتها، ومدت يدها لتمسح عنها الدموع وهي تتساءل في توترٍ:
-احكيلي في إيه حصل؟
من بين بكائها الشديد ردت نافية:
-محصلش حاجة يامه، أنا صعبان عليا نفسي واللي جرالي.
هدأت مهاج "عقيلة" إلى حدٍ ما، وحاولت مواساتها بكلماتها الآسفة:
-متزعليش يا بنتي، كله مقدر ومكتوب.
مرة ثانية مصمصت "أفكار" شفتيها، وأضافت بازدراءٍ:
-وربنا وشك يقطع الخميرة من البيت!
لم تتحمل "فردوس" أي إهانة وهي في هذه الحالة البائسة، سلطت نظراتها على خالتها، وصاحت في حنقٍ:
-عاوزاني أقوم أرقص وأفرح بعد اللي اتعمل فيا؟
هزت "أفكار" كتفيها مرددة، وبإيماءة من رأسها:
-أيوه، وتجيبي طبل وزمر، وتمشي رافعة راسك وسط الخلق.
نظرت "عقيلة" إليها بحاجبين معقودين، فتابعت شقيقتها بلؤمٍ:
-يا عبيطة لو مكانش ده حصل كانوا قالوا عنك في الخمر يا ليل.
ثم أشارت لشقيقتها لتنهض لتجلس مكانها، واستمرت في إخبارها:
-إنما دلوقتي إنتي تقدري تقولي للأعور إنت أعور في وشه من غير ما تحسي إنك قليلة.
راحت "فردوس" تكفكف دمعها بظهر كفها، فطلبت منها خالتها بلهجةٍ مالت للأمر:
-قومي كده تعالي معايا نغيرلك هدومك.
أخبرتها في صدقٍ وهي تشير بيدها إلى موضع قلبها:
-أنا موجوعة من جوايا، ومن آ...
عجزت عن إكمال جملتها حرجًا؛ لكن بدت شكواها مفهومة لأمها وخالتها، فوخزات الأمس الحادة لن تتعافى بين عشية وضحاها. ضحكت "أفكار" مستخفة بألمها، وعلقت وهي تقوم واقفة:
-بلاش دلع مرئ!
ثم جذبتها من ذراعها عنوة وهي تلح عليها:
-قومي يالا بلا هم، ده إنتي عروسة لسه بكرتونتها، مش خرج بيت!
رغم التجهم المستحوذ على ملامح وجه "عقيلة" إلا أنها كانت مثل شقيقتها، لا تريد لابنتها الوقوف عند لحظة بعينها، وتناسي مسئولياتها الجديدة كزوجة عليها ترسيخ دعائم علاقتها مع زوجها، لتضمن استمرار حياتها في ظل وجود والدته المتسلطة، فالأخيرة ذات تأثير مهدد لاستقرارهما كعائلة.
...........................................
لم يمر على وجوده بالمشفى عدة أسابيع، إلا وكل بضعة أيام تظهر شكوى غريبة في حقه، على أمل النيل من سمعته وزعزعة وضعه كجراحٍ مخضرم، ومع ذلك كان قادرًا على التعامل بحنكة مع ما يتعرض له من شكاوي مغرضة، متوقعًا من يقف خلفها لإزعاجه ومضايقته، لكنه غض الطرف عن هذه التفاهات إلى أن انتهى المطاف بوجود قوة من أفراد الشرطة تحاصره في مكتبه، وكأنه مجرم خطير على وشك الهروب، حيث تم اتهامه في محضر رسمي بالتسبب في وفاة أحد المرضى عن طريق الخطأ. أنكر "مهاب" هذا الاتهام الصريح، وهتف نافيًا إياه بتحيزٍ ثائر:
-دي تخاريف!
رد عليه الضابط المسئول برسميةٍ بحتة:
-يا دكتور البلاغ بيقول إنك عملت العملية كمان بدون موافقة أهل المريض، ودي مشكلة تانية خطيرة.
طرق بقبضته المتكورة في تعصبٍ على السطح الزجاجي، ورد مؤكدًا في غضبٍ مبرر:
-محصلش!
أشار له الضابط بالتحرك وهو يخاطبه في لهجة جامدة:
-يا ريت حضرتك تتفضل معانا بهدوء على القسم، وهناك هتعرف كل التفاصيل.
كان من الصواب في مثل هذه الظروف التصرف بتعقلٍ وروية لكشف الحقائق، بدلًا من إثارة البلبلة بلا داعٍ، لذا سحب "مهاب" نفسًا عميقًا يثبط به انفعالاته الثائرة، وقال بعد زفيرٍ سريع:
-مافيش مانع عندي، بس الأول هكلم المحامي بتاعي.
رد الضابط في هدوءٍ مقتضب:
-براحتك.
..........................................
المحنة التي ظن أنها ستقضي على مسيرته الطبية دون ذنبٍ فعلي حُلت بخبرة فريق المحامين المخضرمين، وتم كشف ملابسات البلاغ المدسوس من أجل إيقاعه في وقت وجيز، فالمريض الذي اتهم بالتسبب في وفاته خطئًا كان اسمه غير مسجل بسجلات المشفى الرسمية، وبالتالي كان من غير المعقول أن يقوم "مهاب" بإجراء جراحة له وهو لا يمارس عمله إلا بذلك المشفى فقط، ناهيك عن عدم تخصصه في إنهاء أي إجراءات قانونية تخص أي مريض، فمهمته كانت محددة القيام بالعمليات الجراحية فور تأكد فريق يعمل تحت يديه من إعداد كل شيء.
أثبتت التحريات صحة ما قُدم من بيانات رسمية، وأطلق سراحه في الحال، ليتجه "مهاب" إلى مقر شركة عائلة "الجندي" وقد عرف من يقف وراء ذلك الملعوب الخبيث. دون استئذان اقتحم غرفة المكتب الخاصة بوالده، حيث يمكث فيها "سامي" معتقدًا أنه قد بات المسئول الوحيد عن إدارة كافة الأعمال ويملك السلطة المطلقة لتسيير الأمور وفق رغباته هو ولا أحد غيره. توتر، وانتفض، واضطرب في جلسته حينما رأى شقيقه الأصغر بشحمه ولحمه يقف قبالته؛ وكأن شيئًا لم يمسه. استطرد الأخير متكلمًا في صوتٍ ينم عن قوة مهيبة:
-كنت مفكر إن حركة عبيطة زي دي هتجيب نتيجة معايا؟
تلجلج وهو يرد عليه متسائلًا بعدما نهض واقفًا:
-إنت قصدك إيه؟
حاول بحيلة مكشوفة تعنيفه للتغطية على رهبته منه مشيرًا له بسبابته:
-وبعدين إنت إزاي تتدخل عليا المكتب كده؟!!!
تقدم "مهاب" ناحيته وهو يشمله بنظرات احتقارية، تحمل ضغينة عميقة تجاهه، فما تعرض له كان بإيعازٍ منه، بالكاد حافظ على هدوء نبرته وهو يخاطبه هازئًا:
-المرادي ذكائك المحدود خانك يا "سامي".
إهانته لشخصه كانت صريحة، غير متوارية، لم يتحملها كعادته، وصاح به متشنجًا:
-إنت إزاي تكلمني كده؟ أنا أخوك الكبير وآ...
قاطعه في صوتٍ مهدد:
-ما تفكرش إني هعديهالك...
انعكس الذعر على محياه، فتوجس خيفة منه وهو يرى نظراته المميتة مرتكزة عليه؛ وكأنه يود الفتك به، ما لبث أن هوى قلبه بين قدميه حينما أكد له بلهجة غير متساهلة إطلاقًا:
-لأني مش برحم اللي يفكر بس يأذيني.
.............................................
استغرقها الأمر الكثير من الوقت لتعود إلى ممارسة روتين حياتها اليومي بشكلٍ شبه طبيعي، وكان أول ما قررت فعله، هو مهاتفة والدتها بعد انقطاع دام لأشهرٍ، خجلت خلالها من الاعتراف لها بالخطأ الجسيم الذي ارتكبته في حق نفسها. تلمست "تهاني" بطنها المتكور، ودارت بيدها عليها في حركة دائرية رقيقة بعدما أحست بوكزة خفيفة في جانبها، لاح على ثغرها بسمة ناعمة، فهي لم تظن أنها ستكمل ذلك الحمل؛ لكن بذرة المشاعر الأمومية التي صحت بداخلها جعلتها تتراجع عن فكرة التخلص منه رغم مساوئ زواجها غير الموفق من "مهاب"، شجعها على ذلك أيضًا غيابه عنها، ودعم "ممدوح" لها، فقد أصبح أكثر قربًا منها، وتخطت مكانته لديها حدود الرفيق المخلص، لتتوطد صداقتهما بشكلٍ غير معقول؛ لكنها لم تتجاوز حدود المباح، حيث أبقت على وجود مسافة حذرة في علاقتها به.
انتشلها من شرودها الذي طال صوت والدتها شبه الباكي حينما أجابت عليها بعد انتظار استمر لما يقرب من دقيقة:
-كل الغيبة دي يا "تهاني"؟ هونت عليكي يا بنتي؟
افتقادها لوجودها في حياتها جعل تأثير سماعها لصوتها جليًا، دق قلبها، وكتمت بيدها أنفها لتمنع نفسها من البكاء، لترد مدعية كذبًا بصعوبةٍ:
-معلش يا ماما، مشاغل.
جاء ردها مستعتبًا:
-مشاغل إيه اللي وخداكي كل ده؟ مافضتيش دقيقة تكلميني فيها؟
نفرت من مقلتيها الدموع، فتابعت بعد نحنحة سريعة:
-غصب عني، بس المهم، قوليلي إنتو أخباركم إيه؟
أجابتها "عقيلة" بعد شهيق مسموع:
-الحمدلله، ناوية ترجعي امتى؟
مسحت "تهاني" بإصبعها دمعها من على وجنتها، وأخبرتها:
-صعب دلوقتي، أومال "فردوس فين؟
في شيء من البهجة جاوبتها:
-مش اتجوزت والحمدلله.
ردت بشكلٍ آلي مقتضب:
-مبروك.
أضافت والدتها بعدئذ بتلقائية أمومية:
-عقبالك إنتي كمان يا ضنايا، وساعتها نعملك أحلى ليلة هنا بمشيئة ربنا.
حينئذ اعتصر الألم قلبها، فكيف لها أن تخبرها عبر مكالمة هاتفية خاطفة أنها تزوجت؟ بل وعلى وشك الإنجاب بعد أشهر قليلة؟! سكتت لهنيهة وهي تشعر بالخزي من حالها، فهذا ليس ما خططت له، وما ظلت تردده على مسامع الجميع! أعمتها في لحظة غادرة أطماعها، وغطت أحلامها الواهية على رجاحة عقلها، فحينما انتهت سَكرة الحب انكشفت الحقائق، وأصبح كل شيء واضحًا. حاولت "تهاني" أن تبرر صمتها الذي شعرت به أمها بقولها الكاذب:
-أنا.. مش بفكر غير في دراستي وشغلي.
ردت عليها برجاءٍ:
-ربنا يقويكي ويهديلك العاصي.
-يا رب.
أوصتها والدتها قبل أن تنهي معها المكالمة في نبرة التياعٍ:
-ما تطوليش عليا يا "تهاني"، اسألي عليا من وقت للتاني.
حبست شهقة بكائها للحظة الأخيرة، لترد في إيجازٍ:
-حاضر.
ثم وضعت السماعة وهي تنفجر باكية في حرقة وتأثر، قلبها اشتاق إليها، وروحها تتعذب في بُعادها عنها، لازمها الحزن من جديد، وجعلها تتجرع بقساوة مرارة اختيارها غير الموفق.
............................................
لم يساوره أدنى شك أن ابنه كان يبذل قصارى جهده ليطمئن على استقرار وضعه الصحي، وها هو اليوم ينعم في قصره الضخم بمظاهر العافية وعلامات النشاط والحيوية؛ لكنه سرعان ما عبس، وقلب شفتيه، لتنتفض في نظراته شارات الغضب بعدما قرأ ما تناولته الجرائد والصُحف اليومية عن خبر اتهام "مهاب" الكاذب، استدعى ابنه على عجالة قبل ذهابه للمشفى، واستعلم منه عن تفاصيل هذه الأخبار، فأخبره بلا انفعال عن الأمر، لينهي كلامه قائلًا:
-أنا بلغتك يا باشا باللي حصل، ولأنه أخويا فأنا لميت الموضوع.
النظر في وجه "فؤاد" في هذه اللحظة كان مخيفًا، فتعابيره كانت توحي بشرٍ خطير، استمر "مهاب" في الحديث مردفًا:
-مهما كان اسم العيلة مش لازم حد يمسه، بس للأسف الخبر وصل الجرايد.
لم ينطق والده بكلمة، كان واجم الملامح، قاسي النظرات، في حين واصل ابنه إخباره بجديةٍ تامة:
-من بكرة هينزل تكذيب عن الأخبار دي في كل مكان، وهحاسب المسئول عن النشر، مش عاوزك تشيل هم يا باشا.
فجـــأة رفع "فؤاد" كفه أمام وجه ابنه ليقول في صوت رخيم وغامض:
-خلاص يا "مهاب"...
كان الأخير مقطبًا لحاجبيه وهو يصغي إليه دون مقاطعة، تحفز في جلسته أكثر عندما تابع بنبرة أكدت على عدم منحه لأي صكٍ من صكوك الغفران لابنه البكري مهما أظهر من دوافعٍ وتفسيرات:
-أخوك ليه حسابه معايا، فمتدخلش ............