رواية لعنة الخطيئة الفصل الخامس عشر 15 بقلم فاطمة احمد
الفصل الخامس عشر : تهجم.
_________________
مرَّ أسبوع آخر كان فيه الجو مستقرا بعض الشيء داخل السرايا، لم يحدث أي احتكاك بين حكمت ونيجار التي عجزت عن إيجاد فرصة أخرى للتواصل مع إبن عمها وتنبيهه
في صباح يوم جديد كان أفراد العائلة متجمعين حول مائدة الفطور حينما دخلت الخادمة وبدأت بتوزيع الأطباق بعناية ونيجار تقف بعيدا نسبيا تنتظر أي أوامر قد تصدرها السيدة حكمت فهي لا تريد أن تكون غائبة فتضطر لسماع توبيخاتها.
وبالفعل نطقت هذه الأخيرة وهي تعتدل في جلستها بوقار :
- بخصوص العزيمة اللي عملناها لحريم كبار البلد امبارح في واحدة منهم طلبت مني اتوسطلها عندك عشان ولدها الكبير هو عايز يعمل مشروع مستقل وبعيد عن والده وبتسأل لو بيقدر يدخل في شراكة معاك ...
قطب حاجباه بتغضن هاتفا :
- مين ده وبعدين هو لو عايز يشتغل معايا مجاش بنفسه كلمني ليه من امتى الحريم بتتوسط عشان رجالتهم وولادهم.
- وانا قولتلها كده فعلا بس هي قالتلي ولدها مش عارف انها هتحكيلي هو فتح الموضوع معاها وكان متردد يجي يكلمك ... ده بيبقى سامح ولد الحج جمال.
- مش ده اللي كان بيدرس في المدينة وفتح محل هناك ؟
- ايوة نفسه ورجع من شهرين علشان يكمل شغله هنا انت ايه رأيك.
سألته حكت بجدية ليجيبها بلا مبالاة :
- هشوف لو جه لعندي وساعتها هفكر في الموضوع ... يلا انا هروح دلوقتي عندي شغل كتير ولازم الحق عليه.
نهض عن الطاولة ومرَّ على نيجار دون النظر إليها فأوقفته نيجار بتلقائية :
- استنى انا هجيبلك البالطو بتاعك.
حدجها آدم بغرابة لأنها علمت بأنه يريد الصعود للغرفة لإحضاره لكنه لم يهتم كثيرا بهذا وبعد لحظات عادت نيجار ومدت يديها تعطيه البالطو الخاص به فتنحنح وأخذه منها ثم غادر.
بينما نهضت ليلى آخذة مستلزماتها وخرجت هي أيضا كي تذهب لجامعتها وجدت محمد شقيق فاروق واقفا وعندما رآها فتح الباب مغمغما بجدية :
- اتفضلي.
شكرته ببضع كلمات ثم ركبت وأسندت رأسها على زجاج النافذة كان محمد صامتا طوال الطريق ولم ينظر لها قط عكسها هي التي كانت تطالعه بطرف عينها من حين لآخر وداخلها مليء بالمشاعر المتناقضة.
لقد جاء هذا الشاب منذ سنة وبدأ بالعمل كسائق لديها يأخذها صباحا ويعيدها مساءً دون التفوه بحرف واحد وهذا ما جعل الفضول يراودها ناحيته ودون شعور منها أصبحت تترقب موعد حضوره لربما تراه يتخلى عن القشرة الصلبة المحيطة به.
حمحمت ليلى محاولة منها لتبادل أطراف الحديث معه :
- كأن الجو حر النهارده أنا حاسة بسخونية كده.
انتظرت حتى يجيبها لكنها تفاجأت بمحمد يُنزل زجاج النافذة وهو يطالع الطريق أمامه فجزت على أسنانها بغيظ من بروده وحدثت نفسها :
- يعني ده اللي فهمه من الجو حر ده تلاجة ولا ايه.
كتمت شعورها بداخلها وصمتت محافظة على ما تبقى من كرامتها لكنها شهقت فجأة حينما توقفت السيارة على حين غرة وارتدت هي للأمام بذعر متمتمة :
- في ايه !
ركز محمد بعينيه على السيارة التي توقفت معترضة طريقه وأطلق مسبة بداخله ثم التف لها وسألها بجدية :
- انتي كويسة حصلك حاجة ؟
- لا انا كويسة بس مين ده.
ردت عليه وهي تشير للرجل الذي خرج فقال الآخر بوعيد :
- هشوف هو مين متطلعيش من العربيه.
ترجل واقترب من ذاك الغريب والذي لم يكن سوى مراد وردد بغضب :
- خير انت مش شايف العربيات قدامك ولا البيه فاكر الطريق ده بتاعه.
حدق به مراد بهدوء ثم رمى بصره على الفتاة الجالسة في السيارة متأملا إياها ولاحظ محمد ذلك فقبض على يده مغمغما بحدة :
- انا اللي بكلمك هنا بُصلي انا.
استفاق من شروده وتنهد قائلا :
- لمؤاخذة ده غلطي لو عايز مني تعويض فـ أنا جاهز.
استنكر ردة فعله وغطرسته الواضحة وكاد يدخل معه في شجار لكنه لم يرغب في افتعال المشاكل في وجود شقيقة رب عمله لهذا حاول تهدئة نفسه وردد :
- ابقى خد بالك تاني مرة عشان متتسببش في حادث ودلوقتي ممكن تبعد عربيتك عشان نمشي !
تركه وركب السيارة مجددا لتسأله ليلى بتوجس :
- مين ده وانت قولتله ايه.
أجابها محمد بنزق :
- معرفش مين البلوة ديه بس شكله مش في وعيه خلاص سيبك منه حضرتك متأكدة انك بخير ؟
أومأت ببسمة وهي تشكر ذلك الغريب لأنه جعل محمد يتخلى عن جموده ويتحدث معها :
- اه الحمد لله محصليش حاجة بس ممكن نمشي لأننا تأخرنا.
- أكيد.
انطلق مجددا بينما ظلت نظرات مراد تلاحقهما مركزا على ليلى حتى اختفى أثرهما وفجأة رن هاتفه ففتح الخط :
- نعم يا صفوان.
رد عليه الآخر بضيق :
- أنا قعدت مع المستثمر أحمد بيه بس مقدرناش نتفق ع الشروط وفوق ده كله عايز ياخد النسبة الأكبر من الربح ولما رفضت قالي انه مش هيقدر يوقع ع العقد في الوضع ده.
- ايوة انت عايز ايه يعني.
- هكون عايز ايه مش انت أقنعته يتراجع عن الشراكة مع ابن سلطان ورشحتني ليه اقنعه دلوقتي يتساهل معايا.
مط مراد شفته بتهكم وعقب عليه :
- لا والله ايه رأيك اشتغل بدالك بالمرة وانت تاخد كل حاجة ع الجاهز ! بص انا عملت اللي عليا وخليت احمد بيه ينسحب من شراكة الصاوي بحجة آدم مشغول في عدة مشاريع حاليا ومش هيقدر يلتهي معاه بس اقناعه والاتفاق معاه مسؤوليتك انت وبعدين حضرتك كنت فاكر أن الموضوع سهل كده ولا ايه ده بيبقى مستثمر كبير وأكيد مش هيتساهل معاك.
- اشمعنا ابن سلطان قدر يتفق معاه بسهولة بيفرق ايه عني !
- احنا هنضحك على بعض يا شرقاوي انت فين و آدم فين ده سمعته سابقاه وأراضيه واسعة ومعندوش ديون مش زيك انت.
تقوس حاجبا صفوان بضيق واستشعر الإهانة منه فجز على أسنانه مغمغما :
- ايه لزوم الكلام ده وبعدين أنا ليا سمعتي زيه والديون قربت اقفلها كمان مش فاضل غير حاجة بسيطة.
رد عليه مراد بتأكيد :
- وده اللي عايز اوصله انت قفلت ديونك بفلوسي أنا ورجعت عملت أرضك بفلوسي برضو علشان كده خد بالك تضيعهم ع الفاضي لأني ساعتها مش عارف ممكن اعمل ايه فاهم !
كاد صفوان يتكلم لكنه سمع صافرة إنهاذ المكالمة فلعنه بداخله وتمتم :
- ماله ده كمان مش طايق هدومه ليه هو هيفضل شايف نفسه عليا كده ... لولا حاجتي مكنتش هقبل مساعدته مراد فاكرني ناوي افضل في منافسة مع آدم ونعمل مسابقة مين الأفضل ومش فاهم اني بستغله علشان وضعي يتحسن شويا وارجع اخلص من ابن سلطان بس معلش كل حاجة ليها وقتها.
_________________
داخل سرايا الصاوي.
كانت نيجار ترتب الغرفة وتلملم الملابس المنثورة هنا وهناك وهي تتمتم :
- ديه أول مرة آدم بيسيب هدومه ع الأرض كده شكله كان مستعجل فعلا وملحقش يرتبهم زي عوايده هو أصلا منظم اكتر مني.
استقامت في وقفتها وفتحت الخزانة لترى إن كان هناك قطع غير مرتبة لكنها تذكرت أن آدم سبق وحذرها من العبث بأشيائه الخاصة فكادت تتراجع إلا أن فضولها تغلب عليها ووجدت نفسها تتلمس مستلزماته من الملابس والساعات والعطور، قربت إحدى الزجاجات من أنفها وشمَّتها لتبتسم بتلقائية هامسة :
- معقولة ده نفس البرفيوم اللي كان بيستخدمه ...
Flash back
( قبل سبعة أشهر.
امتطت الفرس وركضت به نحو البحيرة التي يلتقيان بها عادة وعند وصولها ربطت فرسها على جذع الشجرة وبدأت تمرر يدها عليها بشرود حتى قالت :
- مش مطمنة للي بعمله ده يعني كنت مخططة اقعد مع آدم واسحب الكلام منه عشان اعرف هو هيخبي السبايك فين بس مقدرتش والقصة شكلها قلبت جد ... أنا خايفة انه يفتكرني واحدة بتحب تتسلى ويحاول يقرب مني ساعتها مش هقدر استحمل ويمكن اهاجمه.
تنهدت بإحباط مضيفة :
- ياربي انا مش عارفة الموضوع ده هيخلص عـ ايه يا "مهرة" بس اللي بعرفه اني لازم الاقي مكان السبايك وبكده آدم هيقع في وضع صعب جدا وصفوان يقدر ياخد مكانه انتي ايه رأيك.
صهلت الفرس بإنزعاج وكأنها تفهمها فضحكت نيجار وقالت :
- كأنك مش موافقة يا مهرة اوعى تكوني حبيتي آدم وصعب عليكي ده مينفعش خالص لأنه عدو عيلتنا واحنا مستعدين نعمل أي حاجة عشان العيلة مش كده.
اخترق خلوتها مع فرسها صوت ركض الحصان فاِلتفتت ووجدت آدم يدخل للمكان قفز من على حصانه وربطه بجانب مهرة ثم قال :
- انا اتأخرت عليكي صح بس كنت في اجتماع مع العمدة علشان كده مقدرتش اوصل بدري.
ابتسمت وهزت رأسها بتفهم مصطنع :
- ولا يهمك بس الاجتماع طول خير في مشكلة.
سألته محاولة حثه على الحديث إلا أن آدم رد عليها بعدم اكتراث وهو يشير لها للسير بجانبه :
- متشغليش بالك قوليلي انتي عامله دلوقتي كنتي بتكحي جامد من يومين.
حمحمت نيجار مجيبة :
- بقيت أحسن بفضل الدوا اللي اديتهولي انا عادة مبينفعش معايا أي علاج تاني بس المرة ديه ضبطت معايا.
- كويس حمد لله على سلامتك.
نظر لها بتفصيل جعلها تتوتر مدت يدها لتعيد خصلة من شعرها خلف أذنها فسقط القرط على الأرض لتنخفض هي كي تلتقطه وانحنى آدم في نفس الوقت وهنا أصبحا قريبان من بعضهما البعض واستطاع أنفها التقاط الرائحة الرجولية المنبعثة منه بشكل أفضل فنالت إعجابها و احمرَّ وجهها بحرج طفيف نتيجة لذلك.
لكنها سرعان ماتمالكت نفسها ووقفت مرددة بينما يعطيها هو القرط في يدها :
- شكرا.
- العفو. )
Back
عادت من ذكرياتها بملامح منبسطة سرعان ما تشجنت عندما فُتح البلب ودخلت السيدة حكمت بوقار مطالعة كل ركن في الغرفة حتى استقرت عيناها عليها فكتمت نيجار ضيقها من دخولها بهذه الطريقة وسألتها :
- خير يا حكمت هانم في مشكلة عايزاني اعمل حاجة ؟
نظرت للملابس بين يديها وقالت بهدوء :
- ايه اللي فـ ايدك ده.
ردت عليها هي ببساطة :
- زي حضرتك ما شايفة انا بلم الهدوم اللي محتاجة غسيل بعد ما رتبت الأوضة وهنزل دلوقتي عشان اغسلهم.
همهمت حكمت وعلقت عليها ساخرة :
- الواضح ان دور الزوجة المطيعة بدأ يعجبك الصبح بتجري تجيبي بالطو حفيدي وحاليا عايزة تغسلي هدومه ولا ديه طريقة جديدة عشان تقدري توقعيه في شباكك من تاني.
شعرت نيجار بالإستفزاز ولسعتها كرامتها للجواب خاصة أنها مازالت حاقدة على هذه العجوز الشمطاء بسبب ما فعلته بمستلزماتها، لكنها استطاعت تمالك نفسها بأعجوبة وردت عليها ببسمة باردة مستفزة :
- والله أنا بعمل المطلوب مني مش انتي بردو اللي بقالك شهرين مشغلاني خدامة في السرايا الكبيرة ديه فيها ايه لما اخدم جوزي نفسه و اخد بالي منه.
صمتت قليلا ثم تابعت بتحدي :
- إلا لو حضرتك خايفة يرجع يتعلق بيا بجد ويطلع عن شورك.
دنت منها حكمت بضع خطوات حتى وقفت أمامها مباشرة وطالعتها بإحتقار ثم هتفت :
- من ناحية يتعلق بيكي من تاني فـ انسي لأن ولاد الصاوي لو غلطو مرة مش هيعيدوها في التانية وانتي حاليا مجرد واحدة ملهاش قيمة بتخدم أهله الصبح وبتخدمه هو بليل وقت يجيبه مزاجه ليها يعني متطمعيش في الأكتر بس خدي بالك من حاجة واحدة ومتنسيهاش.
سكتت نيجار منتظرة إنهاء حديثها لتفعل حكمت ذلك وهي تحذرها بعينين حادتين :
- اوعى تفكري تحملي وتخلفي منه مفهوم لأن نسل الصاوي مستحيل يستمر من عيلة الشرقاوي ولو مسمعتيش الكلام وجربتي تلعبي بديلك ساعتها اتأكدي من اني هندمك.
لكن هذه الأخيرة لم تركز على تهديدها بل نصبت اهتمامها على الكلمات الأولى وهمست بغرابة :
- احمل و اخلف ؟ ازاي يعني.
سمعتها حكمت وقطبت حاجباها بإستنكار :
- ايه هتعملي نفسك غبية قدامي ومبتعرفيش الستات بتحمل ازاي ! سيبك من اللعب ده وافهمي تحذيري و اوعى يا بنت الشرقاوي تفكري تتحديني.
ألقت عليها نظرة ساخطة وغادرت بينما وقفت نيجار تفكر قليلا حتى اتسعت عيناها بدهشة محدثة نفسها :
- يعني حكمت هانم مبتعرفش ان آدم مقربش مني غير فـ ليلة الفرح وبعدها سابني انام ع الأرض ! ده انا كنت فاكرة انها عارفة وبتشمت فيا بس طلع العكس تماما وحاطة في دماغها احتمالية الحمل كمان.
وقفت للحظات محاولة التفكير في الأمر ثم ابتسمت بتهكم ونزلت إلى الأسفل بينما تردد :
- قال حمل قال ع أساس هموت واخلفلكم ماهو ده اللي ناقصني.
وضعت الملابس في الغسالة وانشغلت في القيام بأشغال أخرى حتى لمحت أم محمود تضع هاتفها جانبا والذي نادرا ما تتركه وصعدت بسلة الغسيل النظيف الى السطح قصد نشره، عضت نيجار على شفتها باِحتراز وتوجس قبل أن تحسم أمرها وتلتقط الهاتف ثم تدخل إلى المطبخ وتطلب رقم صفوان لم يجب على المكالمة من أول مرة وهذا ماجعلها تعيد الإتصال بسخط ليرد عليها :
- الو مين معايا.
- صفوان ديه أنا.
همست نيجار باِضطراب فتجمد صفوان مكانه بدهشة سرعان ما تلاشت وردد على الفور :
- نيجار ديه انتي ازاي اتصلتي ومنين.
- من تلفون الشغالة بقالي كتير بحاول اتصل بيك ومقدرتش اعملها غير دلوقتي.
- خير في حاجة انتي اتصلتي ليه.
رفعت حاجبها بغرابة واستهزاء معقبة :
- مكنش ده أول سؤال انا مستنياه.
ضرب جبينه بغلظة واعتذر :
- اسف كنت لسه هسألك ان كنتي كويسة ولا لأ بس اتصالك فاجأني جدا.
تنهدت متجاوزة الأمر وأطلت برأسها للخارج تتأكد من عدم وجود أحد بينما تهمس بحذر :
- انت سبق وقولتلي انك دخلت في صفقة وخدت قرض من واحد عشان تقدر تصلح الأراضي اللي اتحرقت بس الواضح ان آدم عرف بالموضوع ده وبيدور ع الشخص اللي ساعدك لأنه هددني من اسبوع بحرق الأرض لو منفذتش كلامه.
تغضنت ملامحه بضيق مفكرا في كيفية معرفة آدم بهذه المعلومة، حسنا سيكون عاديا لو علم بها اليوم فالأخبار تنتشر بسرعة في القرية لكن نيجار ذكرت مرور أسبوع كامل أي حينما كان الأمر مخفيا عن الجميع اذا كيف استطاع هو اكتشاف مسألة اقتراضه بتلك السرعة.
وعند سماعه بالتهديد قبض على يده بعصبية متشدقا :
- يحرق ايه هو فاكر نفسه هيقدر يعمل كده تاني أنا هقتله قبل ما يتجرأ يعملها.
زفرت نيجار مغمغمة :
- معرفش بس هو كان واثق جدا من كلامه ابقى خد بالك يلا هقفل دلوقتي واوعى تتصل ع الرقم ده لأنه مش بتاعي ... سلام.
أغلقت الخط وأعادت الهاتف لمكانه في نفس اللحظة التي وجدت فيها حكمت تنزل على السلم فاِصطنعت مسح المنضدة لتقف الأخرى أمامها وتقول :
- انتي خلصتي شغلك ؟
حمحمت وردت عليها بنبرة أكسبتها بعض الهدوء :
- لسه فاضل شويا في حاجة تانية اعملها ؟
رمقتها حكمت بنظرات غامضة وهتفت :
- أيوة، الراجل المسؤول عن الطلبات غايب النهاردة والمؤونة قربت تخلص علشان كده عايزاكي انتي تروحي تجيبيهم.
اتسعت عيناها بدهشة وفغرت فمها بعدم تصديق لما تقوله فعادت تسألها كي تتأكد من أنها لم تسمعها بشكل خاطئ :
- عايزاني أنا اجبلك الطلبات !
حدجتها الأخرى بعنهجية مستنكرة ذهولها :
- مالك تنحتي كده ليه اوعى يكون الشغل ده مش قد المقام.
استعادت نيجار رشدها ونفت رأسها بإمتعاض مرددة بشك :
- يعني طلبك غريب انا جيت لهنا بقالي شهرين ونص مسمحتوليش فيهم اخرج من البيت غير مرة واحدة ازاي فجأة كده عايزاني اطلع واتمشى في الشوارع كمان.
- لأن ده اللي انا رايداه كل حاجة بتحصل هنا بتبقى بمزاجي وأنا دلوقتي عاوزاكي تنفذي أوامري وتروحي تجيبي طلبات البيت وياويلك لو نقصتي حاجة او اتأخرتي نص ساعة وتكوني هنا.
هدرت بلهجة حادة جعلت نيجار تأخذ نفسا عميقا كي تكتم غضبها ولا تتهجم عليها مجددا ثم تشدقت من بين أسنانها :
- أمرك يا هانم بس آدم عارف اني هخرج ولا حضرتك مقولتيلوش.
مالت شفة حكنت في إبتسامة غامضة استرعت توجس الأخرى خاصة عندما ردت :
- أكيد وهو بنفسه عايزك تعملي الشغل ده بدل الغفير.
لم تكن نيجار غبية لتصدق نيتها السليمة بهذه البساطة فهي تعلم جيدا بأن السماح لها بالخروج يكمن خلفه سبب لا تعلمه ومع ذلك لم تجد فرصة للرفض فأخذت ورقة المستلزمات وخرجت تسير في الأزقة بعقل شارد حتى طرأت الفكرة ببالها وقالت :
- معقول آدم عاوز يختبرني لو هحاول اروح لبيتنا أو اتواصل مع حد فيهم علشان كده خلاها تبعتني لبرا ؟ وممكن كمان يكون باعت واحد ورايا يراقبني.
تلكأت في مشيتها وجالت بأنظارها حولها بسرعة كي تتأكد من شكوكها غير أنها لم تجد أحدا في المكان.
وفي الحقيقة قد كان الزقاق فارغا بدرجة موحشة أثارت ريبتها خاصة أن الوقت قارب على الغروب فبدأت تسرع وفجأة توقفت عند رؤيتها لمجموعة من النساء وهُن يقطعن طريقها.
طالعت نيجار أجسادهن الضخمة وملامحهن الموحشة بريبة مستشعرة الخطر خاصة من نظراتهن الحادة عليها فقبضت بيدها على ثوبها وأسرعت في خطواتها كي تتجاوزهن إلا أن واحدة من النساء منعتها من المرور وهي تردد :
- على فين يا ست الحسن.
جاءت الأخرى متابعة بضحكة مائعة :
- هتمشي كده من غير ما نوجب معاكي.
وفي لحظة وجدت نيجار نفسها وسط دائرة من هؤلاء النسوة اللواتي كان الشر ينضج من وجه كل واحدة منهن مما جعل نبضات قلبها ترتفع وفمها يجف لكن مع ذلك ابتسمت بإستفزاز معلقة :
- مش قطاع الطرق دول كانو رجالة ولا الحريم خدت الصنعة منهم وبقيتو تشتغلو معاهم عموما لو جايين ع طمع فـ مع الأسف معنديش حاجة اديهالكو دوري على غيري بقى.
همهمت المرأة الأولى مشيرة للأخريات بنظرات تلميحية وهي تقول :
- بس احنا مش عايزين غيرك مش انتي المحروسة نيجار بردو.
وهنا تأكدت بأنهن يستهدفنها هي شخصيا لشيء غير السرقة فدفعت إحداهن كي تهرب لكن الأخرى أمسكتها لترفع نيجار يدها في ذات اللحظة وتنزلها على وجه المرأة صارخة :
- اوعى ايدك !
وضعت يدها على مكان الصفعة متحسسة إياها ثم احمر وجهها بملامح إجرامية وأشارت لرفيقتها بإمساك نيجار التي حاولت قدر الإمكان ضربهن وبالفعل أصابتهن في أماكن متفرقة وهي مصممة على عدم الإستسلام لآخر ذرة من طاقتها إلا أنه مثلما يقال الكثرة تغلب الشجاعة وفعلا قامت النسوة بالسيطرة على حركتها بعدما خدشت هذه وصفعت هذه وركلت تلك ...
ثم صاحت بألم حين وقعت ضربة قوية على وجهها تلتها أخرى وأخرى ورغم ما تتعرض له نيجار حاليا إلا أنها ظلت تقاوم حتى سمعت واحدة تضحك بتفاخر مرددة :
- اضربوها كويس يا حريم حكمت هانم وحفيدها متوصيين بيها جامد.
رمقتها هذه الأخيرة بصدمة غير مستوعبة ما قيل وبسبب غفلتها المؤقتة استطعن إلقاءها أرضا وانهالت عليها النسوة بالضرب وسط مقاومتها الفاشلة حتى نفذت طاقتها وتوقفت عن الجدال لتغمض عيناها أخيرا ... وقد سقطت دمعة ساخنة منهما.