اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل الرابع عشر 14 بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل الرابع عشر 14 بقلم منال سالم


الفصل الرابع عشر
(ندم)
المفاجأة غير المتوقعة جعلت تفكيرها يُشل للحظات، تداركت نفسها بعد هنيهة، واستلت نفسها من حضنه المطبق عليها، لتنظر إليه في ارتياعٍ غير مشكوك فيه. انتصب "مهاب" في وقفته السامقة يُطالعها بترقبٍ، ولم يقل شيئًا، كأنما ينتظر منها التأكيد على جملته الأخيرة، أحست "تهاني" حينها بأنها على وشك الانهيار عصبيًا من سكوته الذي يرعبها عن كلامه. تلجلجت وبررت له في صوت مرتعش:
-إنت فاهم غلط...
حاولت إخفاء النتائج خلف ظهرها وهي تواصل الكذب المكشوف:
-دي تحاليل واحدة زميلتي.
رفع حاجبه للأعلى متسائلًا باقتضاب مريب:
-بجد؟
أكدت له بهزات متتالية من رأسها وهي تطوي الورق لئلا يقرأ ما دُون فيه:
-أيوه.
زم فمه للحظةٍ، ثم دنا منها متسائلًا بهذه النبرة الغريبة:
-وإنتي بنفسك جاية تشوفيها؟
ابتلعت ريقًا غير موجودٍ في حلقها، وأخبرته برجفة بائنة في صوتها:
-دي خدمة ليها.
تقوست شفتاه عن ابتسامة ساخرة أتبعها قوله الهازئ:
-فعلًا قلبك حنين.
جاهدت لتبدو مقنعة وهي تظهر ضيقها من تهكمه:
-لو سمحت مافيش داعي للتريقة، أنا بشوف شغلي.
أولته ظهرها واتجهت للطاولة الموضوعة لتسحب بضعة ملفات، وضعتها فوق ورقة النتائج التي تخصها، لعل وعسى تنجح في إخفائها وسطهم، ثم خاطبته دون أن تنظر ناحيته:
-وبعدين أنا خلصت اللي ورايا، والوقت اتأخر، مش المفروض نمشي؟
أنهت عبارتها وهي تلتفت ناظرة إليه، فوجدته يرمقها بهذه النظرات الغامضة، ثم أومأ قائلًا باقتضابٍ:
-أكيد.
ومع ذلك ظل شعور الخوف مظللًا عليها، يشعرها بأنه يضمر لها شيئًا ضدها. أشار لها لتتبعه مكملاً في أدبٍ مريب:
-اتفضلي.
تحركت أمامه وهي شبه ترتجف، فنظرته التي صحبتها لم تكن مريحة بالمرة؛ لكنها توارت خلف قناع الجمود الذي وضعته على وجهها، محاولة ألا تظهر اضطرابها فيستغل هذه النقطة لصالحه، ويتحرى أكثر عما ظنت أنها نجحت في تخبئته.
............................................
تقمص روح الوداعة الممزوجة بالحماقة لتعتقد أن حيلتها الساذجة قد انطلت عليه، وأنه بالفعل صدق ما قالته بشأن نتائج تحاليل الحمل الخاصة بإحدى رفيقاتها في العمل، لم يكن على هذا القدر من الغباء لينخدع بسهولة، حافظ على صمته المشحون بالكثير طوال طريق عودتهما، لكن ما إن ولج الاثنان إلى داخل بيته حتى استوقفها بسؤاله الذي جعل كلها يرتج، تاركًا الباب مواربًا:
-رايحة فين؟
تجمدت في مكانها، ثم رفعت عينيها إلى وجهه خائفة وهي تسأله بترقبٍ مشوب بالارتباك:
-عاوز مني حاجة؟
ببطءٍ أهلك أعصابها تقدم في خطواته ناحيتها، حتى أصبح ما يفصل بينهما مسافة خطوة، دس يديه في جيبي بنطاله، وحدجها بنظرة قاسية، لا تنوي خيرًا، شعرت بها تنفذ داخلها، تعريها تمامًا. بهتت ملامحها عندما سألها في استعتاب حاد:
-مش عيب يا دكتورة لما تكدبي على جوزك وتستهوني بذكائه؟
اهتزت نظراتها وهي تردد في صيغة متسائلة:
-أنا؟
ارتفعت نبرته فجأة فبدا صوته كالهدير وهو يستطرد:
-إنتي مفكرة إن الكدبة الهبلة اللي قولتيها دي دخلت عليا وصدقتها؟
انتفضت مرتعشة أمامه، فأمسك بها من منبتي ذراعيها يهزها بعنف صائحًا بها:
-بتخبي عليا حملك؟
تلعثمت وهي تحاول تبرير موقفها:
-أنا آ...
قاطعها قبل أن تسترسل في كذبة جديدة بصوته العالي والمخيف، مواصلًا هزها بعصبيةٍ:
-إنتي موجودة معايا في المستشفي دي بالذات عشان تكوني تحت عيني طول الوقت.
برزت عيناها في اتساعٍ شديد، فأكمل باستهزاءٍ وهو يسدد لها نظرة احتقارية مهينة:
-فحاجة عبيطة زي دي مش هتعدي بالساهل!
سلاح المواجهة كان الشيء الوحيد المتاح لها لمقاومته، انتفضت مُبعدة قبضتيه عنها، وتراجعت للخلف مسافة خطوتين لتهدر به في انفعالٍ:
-وده هيفرق معاك في حاجة يا دكتور "مهاب" إني أكون حامل ولا لأ؟
نظر لها بعينين تشتعلان بشدة، فتابعت ما بدا بالهجوم اللفظي عليه:
-ماظنش إن حد بمستوى عيلتك الغنية يفكر إنه يخلف من واحدة زيي فقيرة، من حي شعبي، فمافيش داعي تكبر الحكاية وتعمله موضوع مهم.
استشاطت نظراته أكثر، ومع ذلك لم تكف عن إفراغ ما في جعبتها، صاحت معترفة له بلا احتراز:
-وأهو حصل وحملت منك...
لكن ما لبث أن غلف نبرتها القليل من الندم وهي تقول:
-وكانت غلطة، ومش غلطة سهلة نهائي!
حملق فيها بتحفزٍ، فاستمرت تضيف بعزمٍ مناقض لما كانت عليه قبل لحظة من شعور بالأسف:
-وهصلحها وأنزله.
أشار لها بسبابته مرددًا في نزعة تملكية متعنتة:
-برضوه القرار ده مش بمزاجك.
اندهشت من معارضته للأمر رغم يقينها أنه ضد مسألة الحمل برمتها، فكيف لشخص مثله أن ينجب طفلًا يصبح فيما بعد نسخة منه؟ ومنها هي تحديدًا؟ أهو يسخر منها أم يتعمد استفزازها لتخرج أسوأ ما فيها؟ تحيرت في أمره، وسألته بتشنجٍ:
-إنت عاوز مني إيه بالظبط؟
رؤيتها تثور تستحث فيه هذه النزعة المتأصلة في أعماقه بضبط تمردها، بإخماد مقاومتها، بفرض طغيانه عليها، نظر لها مليًا وهي تصيح أكثر:
-قولتلك طلقني وسبني لحال سبيلي.
امتدت يده فجأة لتقبض على فكها، أسره بين أصابعه قائلًا باستمتاعٍ مغيظٍ لها:
-لسه مزهقتش منك!
ضربت قبضته بعنف لتتمكن من تخليص فكها، ثم منحته هذه النظرة الاحتقارية وهي تخاطبه في حدة متزايدة:
-تصدق، إنت لو آخر راجل في الكون، فأنا مش هخلف منك مهما حصل.
ثم هرولت مبتعدة عنه، وراحت تكور قبضتيها لتلكم بها أسفل معدتها بلكمات متعاقبة في عنف مختلط بالعصبية، وصراخها يتضاعف:
-أهوو .. أهوو، مش عاوزة أفضل معاك.
تفاجأ بما تفعله، واندفع تجاهها دون لتفكير ليمسك بها من معصميها صائحًا في استنكارٍ جلي:
-إنتي اتجننتي؟
ردت عليه بهديرٍ صارخ وهي تتلوى بكامل جسدها لتتخلص منه:
-الجنان هو إني أفضل عايشة مع واحد زيك.
استحقرته بنظرتها قبل أن تواصل إخباره بما أطبق على صدرها، وفاض من قلبها:
-عملت إيه في دنيتي عشان ربنا يبتليني بحد زيك؟
اشتعل وجهه من اعترافاتها المتوالية على رأسه، ومع ذلك تعامل معها بهدوءٍ، واستمر في تقييده لها، مانعًا إياها من إيذاء ما تحمله في أحشائها. استاءت من تحجيمه لها، من وأده لأي مقاومة تبديها، فلم يبقَ لها إلا الصراخ اليائس، لذا أخذت تنعته بالوصف الملائم له:
-إنت شيطان.
أدارها في لمح البصر وألصقها بظهره، ثم لف ذراعيها حولها، وأحكم تشديد قبضتيه القويتين عليها، لتصبح أكثر عجزًا عن التحرر منه، مما استثار أعصابها على الأخير، وجعلها في أوج ثورتها الانفعالية.
.....................................
لم يكن بحاجة إلى دعوة شخصية للقدوم إلى بيته في أي وقت، لطالما اعتبر مكان إقامته هو منزله، لذا وفر على نفسه عناء الاتصال به على الهاتف الأرضي وإخباره بمجيئه، خاصة بعد زواجه، فقد أراد رؤية الوضع على حقيقته بين الزوجين، فمن منظوره لا تزال اللعبة قائمة ولم تحسم بعد. عليه فقط أن يتحين اللحظة المناسبة للانقضاض عليها واقتناصها. ما إن صفَّ سيارته بالخارج حتى وصل إليه ضجيج متداخل لشجار ناشب بين الاثنين، أسرع في خطاه دافعًا الباب الذي كان لا يزال مفتوحًا بيده، اقتحم البهو متسائلًا في استنكارٍ:
-في إيه يا "مهاب"؟ صوتكم جايب لبرا.
أبصره وهو مقيد لزوجته بكلتا يديه، فخطا تجاهه مسلطًا نظره بالكامل على "تهاني" التي لم تكف عن الصراخ الهائج:
-ابعد عني بقى.
اهتاجت وخرجت عن السيطرة بارتفاع نبرتها المتشنجة:
-حــــــرام عليك، أنا تعبت، عاوز إيه مني؟
كما بلغت ثورة غضبها العنان، راحت تخمد مرة واحدة بشكلٍ يدعو للقلق والخوف، غشيت فجأة، وفقدت وعيها ودموعها لا تزال مسالة على وجهها، شعر "مهاب" بتراخي جسدها وثقلها عليه، للحظة شعر بالتعاطف معها، وهتف يناديها:
-"تهاني"!
بحذرٍ وحرص قام بحملها بين ذراعيه متجهَا بها إلى غرفته، ومن ورائه "ممدوح" يسأله مستفهمًا:
-إنت عملت فيها إيه؟
أجاب بوجه مكفهر:
-ولا حاجة.
علق عليه بجديةٍ:
-أظن إنك وصلتها لانهيار عصبي.
لم يبدُ مستعدًا لسماع سخافاته، وزوجته تعاني من تبعات نوبة انفعال عنيفة، مددها على فراشه بتريثٍ، فسحب "ممدوح" الغطاء ليساعده في تغطيتها بعدما ضبط لها الوسادة لتسند رأسها عليه. وقف كلاهما يتطلعان إليها بنظرات جمعت بين الحيرة والتوتر. مرر "ممدوح" يده بين خصلات شعره مقترحًا:
-الأفضل إننا نحاول نشوفلها حاجة مهدئة.
اعترض عليه في تجهمٍ:
-مش هينفع.
سأله بابتسامةٍ ساخطة:
-مستخسر فيها العلاج؟ مش للدرجادي يا دكتور.
رمقه بهذه النظرة المستهجنة قبل أن يقول بتردد ملحوظ:
-لأ .. بس آ..
أبدى "ممدوح" اهتمامه الكامل لسماعه، فصدمه بما لم يطرأ على باله:
-"تهاني" طلعت حامل.
بهتت ملامحه تمامًا وهو يعلق في ذهول شديد:
-بتقول إيه؟
..........................................
كان بحاجة للخروج من البيت بعدما أزعجه هذا الشعور باحتمالية خسارة شيء يخصه، رغم عدم امتلاكه فعليًا له؛ لكنه يعود إليه، أصله منسوب منه. ترك "مهاب" زوجته الغافلة في رعاية ممرضة مسئولة عنها، بالإضافة إلى خادمة لتولي شئونها، جلس كعادته في واحدٍ من المطاعم الراقية بصحبة رفيقه الذي لم يكف عن معرفة تفاصيل ما غاب عنه، فمنحه ما يريد وأفضى له بكل شيء، وكأنه يزيح بذلك هذا الثقل الجاثم على صدره. طالعه "ممدوح" بنظرات عادية قبل أن يجود عليه بما اعتبرها نصيحته الثمينة:
-وإيه المشكلة إنها تكون حامل؟ سهل جدًا تنزله.
غامت ملامحه، وأظلمت نظراته في احتجاجٍ صامت على اقتراحه غير المبالي، بينما استمر "ممدوح" في كلامه وهو يتفرس بتدقيق معني في أدنى تغيير يطرأ على صديقه؛ كأنما يتأكد من شيء بعينه جعل الشكوك تبزغ بداخله:
-مش حاجة مهمة تخاف منها.
هتف ضاربًا بيده السطح الزجاجي للطاولة معترضًا عليه:
-أنا اللي أقرر!
استغرب من تحيزه معقبًا بتشكيكٍ متزايد:
-ما إنت ياما نمت مع ستات كتير.
رد عليه في صوتٍ أجش:
-بس دي مراتي.
جاء تعليقه باردًا للغاية:
-ورقة سهل تتلغى في أي لحظة.
ازدادت تعابيره سوادًا، فأيقن أنه على وشك التأكد مما يشك فيه، لهذا لم يطل في المماطلة، وسأله مباشرة ليعرف نواياه ناحيتها:
-ولا إنت عاوزها تكمل حمل؟
راوغه في الرد، وقال بتشديدٍ وهو يشير له بإصبعه:
-بعدين هشوف، بس دلوقتي أنا عاوزك تاخد بالك منها وتراقبها الفترة اللي أنا مسافر فيها، اعرفي دماغها فيها إيه.
بالرغم من المساوئ المشتركة لكليهما، إلا أن رابط صداقتهما لم يتزعزع، فوثق فيه "مهاب" دونًا عن غيره ليكلفه بهذا الأمر العجيب الذي يلغي أي حدود في العلاقات الأسرية ذات الطابع الخصوصي وكأنه أمر متاح وعادي. قطب "ممدوح" جبينه متسائلًا بفضولٍ قليل:
-رايح فين؟
بعد زفرة سريعة جاوبه:
-"فؤاد" باشا باعتلي، واضح كده إنه شم خبر بجوازي من "تهاني".
ضحك في مرح قبل أن يشير بيده معتذرًا ليخبره:
-قوله بتسلى شوية.
لم يبدُ مسترخيًا في جلسته حين قال:
-أنا عارف هتصرف معاه إزاي!
عادت نظراته لتشرد قبل أن يهمهم بقلقٍ غريب:
-بس اللي شاغل دماغي "تهاني"، مش عاوزها تنزل الجنين.
تعجب أكثر لأحواله المتبدلة، وأردف محاولًا فهم ما يدور في رأسه:
-أنا مستغربك بصراحة، لو كانت واحدة تانية مكانها كنت أجبرتها تجهض.
أعاد صياغة ما قاله مؤكدًا له:
-بالظبط، أنا اللي أتحكم فيها، مش العكس!
ما زال أمره يُحيره، وجملته الأخيرة مجرد ستار زائف لإخفاء ما لا يريد البوح به، أوهمه أنه اقتنع بما أفصح عنه، وردد في ترحيبٍ:
-متقلقش، أنا موجود وهسد مكانك.
..............................................
تسليتها المتاحة كانت في تمضية نهارها بقضاء العالق من المشاوير، وتبادل الأحاديث العابرة مع الجيران، وصل بها المطاف بعد جولة لا بأس بها بالسوق إلى الجمعية الاستهلاكية، فوقفت بالصف، وانتظرت دورها بصبرٍ طويل، في البداية لم تعبأ "أفكار" بالثرثرة النسائية المحيطة بها، إلى أن قامت اثنتان بالحديث عن أمرٍ بعينه، شعرت في قرارة نفسها أنه يخص ابنة شقيقتها، أرهفت السمع لإحداهما وهي تسترسل بوقاحةٍ:
-يا ختي بيقولوا شيلوا أخوه الليلة لأنهم ماشيين مع بعض في الحرام.
ردت عليها الأخرى في نبرة مستنكرة:
-يادي الحوسة.
انقبض قلب "أفكار" في توجسٍ مرتاع، وحاولت قدر المستطاع ألا تعلق بشيء، بينما أضافت الأولى من جديد في استحقارٍ، كأنما تتعمد إثارة البلبلة والمزيد من اللغط بنشر الأكاذيب غير الحقيقية:
-ولما الحكاية اتكشفت حاولوا يلموها.
مصمصت الثانية شفتيها مرددة في استهجانٍ مشمئز:
-الله يسترها على ولايانا.
أضافت المرأة الأولى مرة ثانية في شيء من الإهانة المتعمدة، قاصدة بذلك أن تُسمع "أفكار" ذلك الكلام اللئيم:
-ناس بجحة وعينها قادرة.
ردت عليها الأخرى تؤيدها:
-على رأيك، الناس دول الشرف عندهم مايسواش نكلة!
صرت "أفكار" على أسنانها في غيظٍ، وتوعدتهما في سرها:
-آخ يا ولاد الـ (...)، بكرة تندموا على كلامكم الـ (...) ده!!
..............................................
حينما استعادت وعيها كانت تشعر وكأن عشرات المطارق تدق في رأسها، تأوهت من الألم الذي ما زال مصاحبًا لها، أحست بإجهاد غريب ينتشر في كامل جسدها، وكأنها قد بذلت مجهودًا عجيبًا فاق طاقتها بكثير. نهضت "تهاني" عن الفراش بعدما ألقت نظرة متأنية مصحوبة بالدهشة لمحتوياتها، أدركت أنها لم تكن ماكثة بغرفتها، وإنما بحجرة هذا الوضيع الذي يتلذذ بإيذائها معنويًا ونفسيًا. خرجت منها في الحال قاصدة الاتجاه إلى غرفتها؛ لكن استوقفها وجود هذا الضيف الغريب الماكث بالردهة، وكأنه صاحب مكان. استنكرت تواجده، وسألته وهي تضبط بيديها شعرها المهوش، وثيابها غير المهندمة:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
ترك المجلة التي كان يطالعها جانبًا، ثم نهض واقفًا ليلقي عليها التحية متمتمًا بوديةٍ واضحة:
-حمدلله على سلامتك يا دكتورة.
كانت غير راضية عن أريحيته المتجاوزة معها، فتساءلت في تحفزٍ متجاهلة مظهرها غير اللائق لاستقباله:
-فين "مهاب"؟
أجابها ببساطةٍ وهو يدنو منها:
-سافر.
زوت ما بين حاجبيها مرددة باستغرابٍ يشوبه الاستنكار:
-سافر؟
هز رأسه مؤكدًا عليها ما سمعته منه، سرعان ما انفعلت هاتفة في صوتٍ أقرب للصراخ:
-أه طبعًا، ما أنا وجودي زي عدمه، هفرق معاه في إيه؟
في التو جاءت الممرضة من الداخل تطلب منها، وهي تمد ذراعها ناحيتها:
-دكتورة "تهاني"، من فضلك اهدي، أنا التعليمات آ...
قاطعتها في عصبية:
-مش عايزة حد يقرب مني.
تدخل "ممدوح" قائلًا في روية، وقد أشار للممرضة ليصرفها:
-مافيش داعي للزعيق، احنا عاوزين تكوني هادية عشان صحتك...
استجابت له الممرضة في طاعة، وغادرت، فأتم "ممدوح" جملته بترقبٍ:
-وصحة اللي في بطنك.
تلقائيًا وضعت يدها على أسفل معدتها تتحسسها بارتعاشٍ، ثم صرخت في نفورٍ، وقد أبعدت يدها في الحال:
-أنا مش عاوزة حاجة تربطني بيه، هنزله.
بنفس أسلوبه السهل اللين تقدم ناحيتها أكثر، ثم رفع كفه أمام وجهها قائلًا بتفهمٍ:
-اللي إنتي عاوزاه هيتعمل، بس بالهدوء مش بالعصبية.
حدجته بهذه النظرة القاتمة، قبل أن تسأله في نبرة تلومه:
-كنت عارف إنه كده؟
تنحنح مرددًا بجديةٍ شابت نبرته:
-أنا حاولت أحذرك.
تذكرت هذا اللقاء معه في القارب المستأجر، فضربت جبينها بيدها هاتفة في ندمٍ:
-وأنا زي الغبية مشيت ورا الأوهام.
عندما استبد بها غضبها، انعكس تأثيره السلبي عليها، أحست بقليلٍ من الدوار يصيبها، فسارت نحو أقرب أريكة، وارتمت عليها، تجمعت الدموع في عينيها وهي تسترسل بلا توقف:
-افتكرت إنها فرصة العمر لما أتجوز واحد زيه، عنده اسمه وشهرته، وعيلة كبيرة، كنت بضحك على نفسي وآ...
جلس مجاورًا لها، وقاطعها في تريثٍ:
-تسمحيلي أخدك أخرجك برا شوية تغيري جو.
استغربت من اقتراحه المريب، ورفضته في صوت مستهجن:
-مش عاوزة.
أوشك "ممدوح" أن يراهن نفسه بقدرته على ترجيح كفة الميزان لصالحه، وكسب ثقة "تهاني" دون عناء، فقط إن أشعرها أنه الشخص الجدير بذلك، عليه فقط أن يتعامل معها بالحيلة والدهاء. في وداعة محفورة على ملامحه، مال عليها هامسًا في خبثٍ:
-صدقيني ده هيفيدك، وفرصة تتكلمي وتطلعي اللي جواكي من غير ما حد يراقبك.
رمقته بنظرة مستريبة، فألح عليها بتصميمٍ:
-من فضلك.
...................................................
كالأفعى المجلجلة راح يفح سمومه في أذنيه بقدرٍ معقول، كلما سنحت له الفرصة بذلك، ليوغر صدره أكثر ضده، ويجعله ينقلب عليه، فلا يتخذ صفه مثلما كان يفعل قبل وقتٍ سابق، وبالتالي يظفر هو بالمكانة التي حُرم منها طوال سنوات تفانيه في العمل. تأهب "سامي" في وقفته، وقال بعدما وضع سماعة الهاتف الأرضي في مكانها مخاطبًا والده باحترامٍ:
-السكرتارية بلغوني إن "مهاب" وصل الشركة يا باشا.
دعك السيد "فؤاد" صدره الذي كان يشعر فيه بوخزاتٍ متفرقة، وهتف بعبوسٍ:
-كويس، عشان أحاسبه على اللي عمله.
ابتسم من ورائه في نشوة عارمة، وظل يردد عليه، وعيناه تعبران عن كراهية مختلطة بالشماتة:
-لازم يعرف يا باشا إن عيلة "الجندي" فوق أي حد.
لم ينظر الأخير إليه، كان مهمومًا بالأخبار غير السارة التي صدمته عن ابنه الذي ظن أنه سيخلفه في كل شيء، ضاعف "سامي" من وتيرة شحنه، ورفع غليل دمائه مضيفًا ببغضٍ صريح:
-وإنه مش بالساهل هتسامحه، ده مش بس أساء لاسم العيلة، ده لحضرتك كمان.
مقاومة هذا الألم الحاد كان مستحيلًا، شعر السيد "فؤاد" وكأن هناك من يحز ضلوعه بسنون خناجره الحامية. تشنج في جلسته، وتقلصت يده الموضوعة على صدره، في نفس اللحظة التي ولج فيها "مهاب" إلى داخل مكتبه ليستطرد ملقيًا التحية عليه بتفخيمٍ:
-"فؤاد" باشا!
صاح به "سامي" مهاجمًا إياه بغيظٍ:
-وليك عين تتكلم ولا كأنك عملت حاجة؟!!
رغم الكدر الظاهر في وجهه إلا أنه لم يرفع من نبرته عندما أخبره بتحقيرٍ:
-كلامي مش معاك إنت.
انفلتت صرخة موجوعة من والدهما، أتبعها ذلك النهجان العسير في صدره. اندفع "مهاب" تجاهه هاتفًا في لوعةٍ قلقة:
-بابا.
قال السيد "فؤاد" بصعوبة، وهو يضغط بقبضته المتشنجة على صدره:
-قلبي.
سأله "سامي" في جزعٍ عظيم:
-إيه اللي حصلك يا باشا؟
كان على وشك هزه لولا أن أمره "مهاب" بصرامةٍ قبل أن يدفعه للخلف:
-ماتحركوش، واطلب الإسعاف بسرعة!
نظر له في ضيقٍ، فلكزه بخشونة في صدره ليأمره بهذه النبرة غير الممازحة:
-إنت لسه واقف، يالا أوام.
اضطر على مضضٍ أن يخرج من المكتب مسرعًا تلبية لأمره، بينما بقي "مهاب" ملازمًا لأبيه وهو يحاول طمأنته في جديةٍ:
-اهدى يا بابا، أنا موجود جمبك، متخافش، أزمة وهتعدي.
...........................................
بغير همةٍ أو اهتمام جلست معه، لا تنظر تجاهه، وتطلعت بنظرات شاردة لأفق لا يراه أحد سواها، سيطر عليها ذلك الإحساس المؤنب بأن مجازفتها كانت في غير محلها، بأن من اختارته لم يستحقها، وأنها جنت فقط نتائج اختيارها السيء. كان في رأسها حوار لا ينقطع، ولا يشاركها فيه أي شخص. كانت "تهاني" بين الحين والآخر تنظر إليه بهذه النظرة الحزينة، فحاول "ممدوح" جرها لتبادل الحديث معه، وقال بلطافةٍ:
-اللمون هنا ممتاز.
أبقت على جمودها، فأضاف ضاحكًا:
-منعش، جربيه مش هتندمي.
كان حائرًا في أمرها، وسعى بشتى الطرق لجذب انتباهها، فلم يكن أمامه سوى التطرق لسيرته المزعجة، وبالفعل تيقظت حواسها عندما تكلم بجديةٍ طفيفة:
-أنا عاوزك ما تشليش هم حاجة، ومتقلقيش من "مهاب"، هو بس متمسك بيكي عشانه متعود إن محدش بيقوله لأ.
ضيقت عينيها إلى حدٍ ما، فابتسم في داخله لأنه نجح في إثاره اهتمامها، ارتشف القليل من مشروبه، وتابع:
-اعملي اللي عاوزه وهتخلصي منه بسرعة.
تحول وجهها إلى ناحية أخرى بعيدة عنه، وصوتها المهموم يردد في خفوتٍ:
-يا ريت.
مجددًا استثار حفيظتها عندما تكلم بنزقٍ، وبلا احتراز:
-بس تعرفي، أنا المفروض أشكره إنه خلاكي تثقي فيا.
حدجته بهذه النظرة المُعادية، فقال مُلطفًا الأجواء، لئلا يفسد فرصته السانحة معها:
-مش عاوزك تفهميني غلط، أنا حابب أكون في منزله الصديق ليكي.
صاحت في حديةٍ:
-أنا معنتش بثق في حد.
قال مؤكدًا لها، ونظرة خبيثة تتراءى في عينيه:
-وأنا غير "مهاب"، وبكرة الأيام هتثبتلك ده.
..........................................
نقلت إليها الصورة السائدة بين عموم الناس في المنطقة الشعبية وما يتم تداوله على هيئة شائعات مغرضة، غرضها فقط تشويه سمعة هذه المسكينة من لا شيء، وكأن الجميع قد تكالبوا ضمنيًا على طحن ما تبقى من مشاعرها المحطمة بالمزيد من الإساءات الوضيعة إليها. لطمت "عقيلة" على خدها، وهمست في حسرة، وتعابير وجهها تؤكد هلعها:
-طب هنتصرف إزاي؟
بنفس الصوت الخفيض ردت عليها، وعيناها توحيان بشيء خطير:
-هو حل واحد وبس، مقدمناش غيره!
نظرت لها مستفهمة بعينيها، فتابعت بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا، لكونها تعلم أن ذلك الأمر حساسًا للغاية:
-دخلة بلدي.
وقتئذ انفلتت منها شهقة مستنكرة، ورددت في رفضٍ مستنكر:
-يادي الفضايح! إيه الكلام ده؟
أخبرتها بتصميمٍ، وكأنه لا يوجد حل سواه:
-احنا معندناش اللي نخاف منه، بنتنا أشرف من الشرف، بس الناس ليها الظاهر.
هوى قلبها في قدميها، وأحست بتلاحق أنفاسها، اختطفت "عقيلة" نظرة سريعة نحو المطبخ، لتتأكد من عدم سماع ابنتها لهذا الأمر المخجل بشدة، ثم تساءلت في اضطرابٍ شديد:
-و"فردوس" هتقبل بكده؟
بلا تعاطفٍ قالت:
-غصب عنها لازمًا توافق!
بتحسرٍ متألم لطمت "عقيلة" هذه المرة على صدرها، وهتفت في فزعٍ:
-دي ممكن ترفض الجوازة أصلًا وآ...
لم تدعها شقيقتها تكمل جملتها للنهاية، حيث قاطعتها مشددة عليها:
-احنا مش هنجيبلها سيرة، هنخليها لوقتها.
نظرت لها بغير اقتناعٍ، فتابعت:
-وبكده نبقى خرسنا كل الألسن اللي بتتكلم، وعلى عينك يا تاجر.
كادت أن تفوه بشيءٍ فأخرستها في التو بجملتها الحذرة، وقد لمحت "فردوس" خارجة من المطبخ وهي تحمل في يدها طست الغسيل:
-ششش، لأحسن بنتك جاية.
عمَّ الصمت المريب بينهما، فشعرت "فردوس" بوجود خطب ما، بشيء يدور في الخفاء ربما له علاقها بها، خاصة مع نظراتهما الغريبة ناحيتها، وجهت سؤالها لوالدتها في استفسارٍ حائر، لعلها تخبرها بما ترتاب فيه:
-في حاجة يامه؟
اضطربت كليًا، ونظرت لشقيقتها في توترٍ، ثم تصنعت الابتسام وردت بصوتٍ مرتجف:
-لأ يا ضنايا.
همت بالتحرك وهي تتساءل:
-طب عاوزيني أعملكم شاي بعد ما أخلص نشر الغسيل؟
أجابتها خالتها بترحابٍ:
-أه يا ريت.
هزت رأسها بالإيجاب قبل أن تتابع المشي نحو الشرفة، وهي تخاطب نفسها في تحيرٍ يُخالطه الشك المستريب:
-بيتودودا في إيه دول يا ترى ......

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close