رواية رحلة الآثام الفصل الخامس عشر 15 بقلم منال سالم
الفصل الخامس عشر – الجزء الأول
(حيرة)
كل ما سيطر عليها في لقائها المنفرد به بالقرب من مقر عمله هو التأكد من إقناعه بالموافقة على ما قررته بشأن ابنة شقيقتها، غير مبالية بجريرة ما ستتعرض له هذه المضطهدة على نفسيتها، المهم ألا تمس سمعة العائلة بسوء. أصرت "أفكار" على المجيء بمفردها، فإذ ربما مع الضغط والحرج تتراجع شقيقتها، وتصبح في موقف عسير، لذا تجنبت كل ما قد يفسد خطتها، وأطلعته عليه كأنها مسألة عادية مفروغ النقاش فيها! لولا كونهما في الشارع، وحولهما عموم الناس لصرخ "عوض" استنكارًا وتنديدًا على ما أفصحت به. اشتعل وجهه بحمرة الغضب، ورمقها بنظرة حادة مدمدمًا في استهجانٍ متعاظم:
-إيه الكلام ده يا خالة؟!!
ببرودٍ مناقض له أخبرته بلهجة الذي يقرر مصائر البشر:
-ده اللي المفروض يتعمل.
أبدى رأيه صراحةً، ودون رهبة منها:
-أنا مش موافق عليه...
حدجته بنظرة منتقدة له، فتابع مشددًا بنفس الاستهجان:
-ده ما يرضيش ربنا نهائي.
خشيت أن يزيد إلحاحها من عِناده، فحاول اللجوء لحيلة المسكنة، فخاطبته في صوت هادئ، على أمل أن تمتص غضبته المندلعة:
-بس الناس آ...
استفزته بكلامها الأخير، فقاطعها قبل أن تنهي ما بدأته:
-وأنا مالي ومال الناس، بقى عاوزاني أغضب ربنا عشان أرضي الناس؟
ضغطت على شفتيها في امتعاضٍ، فسألها في شيءٍ من الاستعطاف:
-والغلبانة دي ذنبها إيه تتعرض لحاجة زي كده؟
زرَّت عينيها بتدقيقٍ، فتابع على نفس النبرة المتسائلة في حمئةٍ:
-وهي أصلًا موافقة على ده؟
هتفت فيه بهجومٍ:
-الذنب من الأول ذنب أخوك، واحنا بنحاول نلم الدنيا.
أحس بموجاتٍ من الضيق تغمره، فهي لم تخطئ في إلقاء اللوم على عائلته، ابتلع غصة مريرة في حلقه، وظل مركزًا نظره معها وهي لا تزال تكلمه:
-ومتقلقش، احنا مطمنين من بنتنا، بس يهمنا سمعتنا وشرفنا قصاد الغُرب.
جاهد لإثنائها على رأيها، فاستطرد بزفيرٍ محموم:
-يا خالة آ....
إيجاد المبررات والأعذار، والتعلل بأي حجج لم يكن مطروحًا في قاموسها، لذا رفضت الإنصات إليه، وقاطعته حاسمة الأمر:
-شوف من الآخر كده، اللي قولتلك هيتعمل، سواء كنت موافق عليه ولا لأ!
اتسعت عيناه حنقًا، فغضت بصرها عنه، وأولته ظهرها استعدادًا لذهابها قائلة بجمودٍ:
-مش هعطلك أكتر من كده، فوتك بعافية!
بقي في مكانه متسمرًا، مستهجنًا لكل ما يدور، ضرب كفه بالآخر، وراح يخاطب نفسه في حزنٍ متزايد:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني مش كفاية اللي حصلها سابق، نيجي نكمل على الباقي فيها؟!
حرك رأسه يمينًا ويسارًا، وتابع في أسى بعدما اختفت من أمامه تمامًا:
-لطفك بينا يا رب!
...........................................
لم يتوقف عن هز ساقه في توترٍ مشوب بالعصبية وهو يجلس بالخارج على المقعد المعدني في الردهة الخاصة بهذا المشفى الاستثماري الشهير. رفع يده أعلى رأسه، ثم خفضها قليلًا ليفرك مؤخرة عنقه وهو لا يصدق ما حدث في دقائق، وكأن الحظ يُعانده ويعطيه فقط أسوأ ما لديه، كان على وشك الظفر بمكانة لا تقدر عند أبيه، وحينئذ كان سيحظى بكل ما تمناه لنفسه، الاهتمام، الاحترام، اعتلاء عرش العائلة المهيب؛ لكن ضاعت أحلامه في لمح البصر وتحولت لهباءٍ منثور. حرر "سامي" زفرة ثقيلة معبأة بالحقد من رئتيه، وأراح ظهره للخلف مرددًا في جنبات أعماقه:
-مكانش على البال إن "فؤاد" باشا يدخل يعمل عملية قلب!
عكس وجهه ما تخفيه نفسه، فبدا كظيمًا، ومغلولًا، وهو ما زال مستغرقًا في تفكيره. ظل يكرر في غيظٍ حانق:
-لأ، ومين اللي يبقى واقف مع طقم الدكاترة اللي جوا.. "مهاب" بنفسه!
كز على أسنانه مُطلقًا سبَّة خافتة قبل أن يتكلم بصوتٍ خافت:
-مش لو كان اتأخر شوية كنت آ...
لم يستطع إتمام جملته من شدة غيظه، وتساءل بملامح غائمة للغاية:
-طب أعمل إيه تاني عشان مايشوفش إلا أنا؟!!
توقف عن تفكيره التحليلي عندما وجد الباب الخاص بالتوجه لغرفة العمليات يُفتح، هبَّ واقفًا، واتجه إلى شقيقه الذي أطل عليه منه، رمقه بهذه النظرة الحائرة المتسائلة، فتولى "مهاب" الكلام باسمًا في حبورٍ:
-الحمدلله العملية عدت على خير، شوية وهيتنقل العناية المركزة.
وكأنه لم يسمع ما قاله، هاجمه دون مبرر، بصوتٍ حاد ومرتفع:
-لو جراله حاجة هتكون إنت السبب.
سدد له "مهاب" هذه النظرة المستخفة، تركه يظن أنه المسيطر على الوضع، إلى أن أخرسه بتعقيبه الصادم:
-وإنت نفسك تخلص منه عشان تورث الإمبراطورية، مش كده يا "سامي"؟
ارتفع حاجباه للأعلى، ونظر له مذهولًا للحظة، هربت الدماء من وجهه، وبدا مهتزًا وهو يرد مدافعًا عن اتهامه الواضح:
-إنت بتقول إيه؟
بنفس النبرة الهادئة، والملامح المستكينة، أخبره مؤكدًا:
-أنا أكتر حد فاهمك، إنت زي الكتاب المفتوح قدامي!
ثم ربت على كتفه قائلًا بصوتٍ هازئ يحمل الإهانة في طياته:
-ومش عاوزك تشيل هم إني هاخد مكانك، لأني مش زيك أبدًا...
اشتدت قسمات شقيقه الأكبر، وحدجه في نظرة قلقة سرعان ما تحولت للغيظ الشديد عندما أكمل بإهانةٍ صريحة:
-تابع، مستني اللي يديني الأوامر!
وكأنه سكب فوق رأسه دلوًا من الماء المثلج، انتفض ثائرًا في وجهه، محاولًا لملمة ما تبعثر من كرامته المهانة:
-لو بابا جراله حاجة هخليك تندم، سامع!!!
مجددًا ربت "مهاب" على كتفه قائلًا بشبه ابتسامة:
-مش هتقدر تعملي حاجة.
اشتاط غضبًا على غضب، وأطلق صيحة هادرة فيه:
-إنت متعرفنيش كويس يا "مهاب".
تقدم منه شقيقه، ومال عليه مُحدثًا إياه في أذنه بنبرة جمعت بين السخرية والصرامة:
-بلاش تزعق، إنت هنا في مستشفى، وده بيقل منك يا كبير العيلة.
احتقنت نظرات "سامي" أكثر، فما كان من شقيقه الأصغر إلى أن تركه يغلي في مكانه حقدًا، واستدار مبتعدًا عنه، كور الأول قبضته متوعدًا:
-هنشوف، مين هيضحك في الآخر!
.................................................
حاصر الهم ملامحها، فكانت مكللة بأحزانها، ولما لا تستاء وشقيقتها قد طلبت منها فعل ما تعجز عن البوح به لابنتها؟ ظلت "عقيلة" تتحاشى الجلوس بمفردها معها، لئلا تضطر لإخبارها بما قررته خالتها بالنيابة عنها في ليلة زفافها، مما دفع "فردوس" للاسترابة في أمرها، فوالدتها كانت غريبة التصرفات مؤخرًا. لم تترك عقلها لخواطرها المحيرات، واستطردت تسألها في جديةٍ حينما كانت منزوية بالشرفة:
-يامه إنتي بقالك كام يوم متغيرة، في حاجة حصلت؟
اضطربت، وارتبكت، واعتلى وجهها القلق، في التو أنكرت ما يشغل تفكيرها مرددة:
-لأ يا "دوسة"، كله تمام.
ومع ذلك لم تشعر بالارتياح، ما زال هناك ما يؤرق والدتها، وهذا الشيء كان جليًا في نظراتها الآسفة نحوها. صممت عليها دون اقتناعٍ:
-أومال أنا حاسة ليه إنك مخبية عني حاجة.
اهتزت نظراتها إليها، وبدا وكأن الدموع تشق طريقها إلى عينيها، استشعرت "فردوس" الخطر، وسألتها في شكٍ:
-"عوض" مش عاوز يكمل الجوازة؟ مغصوب عليها زي أخوه؟
شهقت صغيرة خرجت من بين شفتيها، ثم هتفت نافية ذلك في الحال:
-وربنا ما حصل.
سألتها في إلحاحٍ مستنكر:
-طب في إيه؟
ادعت رغم نبرة الصدق الظاهرة في صوتها:
-زعلانة إنك هتفارقيني زي أختك، بقالها أد كده لا حس ولا خبر منها، ربنا يهدي سرها.
أكدت لها بلا تفكيرٍ، وقد التمعت عيناها بالدموع المتأثرة:
-أنا هفضل جمبك، ويوم والتاني هتلاقيني عندك.
شاركتها في إحساسها المرهف، وقالت وهي تسحبها لتضمها إليها في صدرها:
-تعيشي يا ضنايا.
.................................................
طمس الوقائع، وما على هذه الشاكلة، لم يؤثر على الحقيقة الجلية بأن الحياة معه لن تكون إلا جحيمًا ممتدًا، وهي لا تتحمل ذلك أبدًا، في لحظة بعينها ستنهار، وقد تفعل ما لا يُحمد عقباه. مرة ثانية استغربت "تهاني" من مجيء "ممدوح" لزيارتها؛ لكنها لم تكن كالسابق في وضعٍ مهمل ومزري، بدت هادئة أكثر، وأنيقة. استقبلته في الصالون برسميةٍ وجمود، ومع ذلك بدا شديد الأريحية معها، انتظرت ذهاب الخادمة لتسأله دون استهلالٍ:
-ممكن أعرف سبب إنك موجود هنا تاني؟
نظر لها مليًا، بعينين تتفرسان فيها بتدقيقٍ، وهو يغوص بجسده في الأريكة، فأكملت بنبرة متهكمة ومغلفة بالمرارة:
-أنا دلوقتي أحسن، مافيش خوف مني.
حمحم قائلًا بهدوء، وعيناه مرتكزان عليها تمامًا، ليرى ردة فعلها:
-دي وصية "مهاب"!
سألته في تحفزٍ مصحوب بالضيق:
-ليه؟ معينك الحارس الخاص؟
استمتع برؤيتها تبدي التعبير الذي أراده، ثم أجابها باسمًا، وهو يرفع حاجبه للأعلى قليلًا:
-ممكن تقولي حاجة زي كده، ولو إني أفضل إنك تعتبريني ملاكك الحارس!
كررت كلمته الأخيرة في استنكارٍ:
-ملاك؟
هز رأسه إيجابًا، فأخبرته بتهكمٍ ممزوجٍ بالإهانة:
-أنا مشوفتش هنا إلا شياطين وبس!!
وكأنها أعطتهما الوصف الملائم لشخصيهما الوضيعين، فسألها متغاضيًا عما فاهت به:
-سيبك من ده وقوليلي عاملة إيه دلوقتي؟
أغمضت عينيها للحظةٍ، وأجابتها في صوتٍ شبه حزين وآسف:
-زي ما أنا، خسرت أحلامي، وبقيت محبوسة هنا بين أربع حيطان.
ساد وجهه علامات المكر، وسألها في تعاطف خبيث:
-ليه بس؟ ما إنتي تقدري تخرجي وتروحي أي مكان طالما أنا معاكي فيه.
حدجته بهذه النظرة الغريبة، فتابع على نفس المنوال:
-ولو حابة ترجعي شغلك تاني مافيش أي مشكلة.
قالت بغير اقتناعٍ:
-شغلي؟
قال مؤكدًا لها عن ثقة عجيبة:
-أيوه، فرصة تلهي نفسك في حاجة بدل الفراغ الكبير اللي إنتي فيه، وخصوصًا إني زعلت لما عرفت إنك سبتي دراستك، مكانش لازم تعملي كده.
تعمد إثارة هذا الموضوع مرة ثانية بداخلها ليزيد من كراهيتها له، ونجح ببساطة في مسعاه، تبدلت تعبيراتها للوجوم، وهتفت في ضيقٍ قد ملأ صدرها:
-شوفتني كنت موافقة يعني؟
ادعى اهتمامه بأمرها، فاعتذر في التو:
-أنا أسف، المفروض أفهم إنه كان غصب عنك، عمومًا المهم عندي دلوقتي إنك تكوني بخير.
وقتئذ طالعته "تهاني" مطولًا بشيءٍ من الحيرة والتخبط، خاصة مع سوء اختيارها وتبعات ذلك، وفهم "ممدوح" ذلك من نظراتها إليه، فبات شبه واثقٍ من الدرب الذي سيسلكه لإفساد راحة رفيقه.
....................................................
سعل سعلة حرجة آلمت حلقه، فأشار بيده للممرضة المرابطة بجوار فراشه لتأتي له بالماء، ساعدته على شرب القليل، ثم أراح رأسه على الوسادة وهو يحدق أمامه لينظر إلى ابنه وهو يتفقد باهتمامٍ شديد التقارير اليومية التي تخص متابعة حالته بعدما استقر في هذه الغرفة. رفع "مهاب" بصره تجاهه، واستطرد في ابتسامة لطيفة:
-حمدلله على السلامة يا باشا.
لم ينبس السيد "فؤاد" بشيء، فعاتبه ابنه بوديةٍ حذرة:
-كده تقلقنا عليك؟
عندئذ لامه والده بوجه مكفهر:
-يعني مش عارف أنا تعبت من إيه؟
سلط "مهاب" عينيه على الممرضة ليشير لها بالانصراف دون أن يفوه بكلمة، امتثلت لأمره غير المنطوق، وغادرت الغرفة في هدوءٍ تام، ليقترب بعدها من فراش أبيه متحدثًا إليه بابتسامته المعهودة:
-اطمن يا "فؤاد" باشا، أنا عمري ما أخذلك.
سأله في استعتاب غليظٍ:
-وجوازتك الخايبة دي؟ تسميها إيه؟
سحب "مهاب" المقعد ليضعه على مقربة منه، جلس عليه، وأخبره بكلماتٍ شبه موحية:
-راجل ومتغرب، وعايش لواحدي .. يعني محتاج واحدة تشوف طلباتي.
ضاقت عينا "فؤاد" بغير رضا، ومع ذلك أنصت لابنه وهو يوضح له أسبابه باستفاضةٍ:
-وأنا قاصد أتجوز واحدة كده، مقطوعة من شجرة، تكون تحت رجلي، وفي أي لحظة أقدر أرميها من غير مشاكل ولا وجع دماغ، ده غير إني عاوز أجبر بيها واحدة في دماغي من صفوة المجتمع تغِير، ما هو في ستات ماتحسش بالقهر إلا من واحدة من جنسها، والنار تغلي في عروقها لما تكون أقل منها!
زوى ما بين حاجبيه سائلًا:
-واسم العيلة؟
أكد له بما لا يدع مجالًا للشك:
-اطمن .. محفوظ، وعمري ما اسمح لحد يلطخه، ولو عاوزني أطلقها في لحظة، هعمل كده.
أبقى والده على صمته، ولم يعلق بشيء، مما دفع ابنه للتأكيد مرة ثانية عليه:
-كلها مصالح، وأنا فاهم بعمل إيه كويس.
ثم مد يده ليمسك بكفه، ضغط عليه برفقٍ، وطلب منه بحذرٍ:
-المهم عندي ماتتعبش نفسك دلوقتي، وترتاح.
من الناحية الأخرى، وعلى مقربة منهما، تلصص "سامي" عليهما في حيطةٍ ليعرف ما الذي يدور بينهما من ورائه، امتلأ صدره بالغل والحقد وهو يرى كيف استطاع خداع أبيه، وجعله يتخذ صفه، أطبق على شفتيه في غضبٍ، وهمهم مع نفسه:
-عرفت تضحك عليه تاني، طب أعمل إيه عشان أكسبه في صفي؟!!
...............................................
قبل أن تتشبث برأيها، وتحلق خلف أحلامها، كانت مدركة للهوة العميقة التي وُجدت بينها وبين عائلتها، ومع ذلك اشتاقت كثيرًا لنزاعهما الخالي من أي مكائد، ففي الأخير لم تقم والدتها بإيذائها، ولا شقيقتها بهدم مستقبلها، هي من أقدمت بتهورٍ على ما دمر مخططاتها ظنًا منها أنها ستحظى بنعيم الدنيا ومتعها، وفي النهاية سقطت في قعر الجحيم. كم ودت لو هاتفتها وأطلعتها على ما مرت به؛ لكنها خشيت من عتابها القاسي! تراجعت عن رغبتها تلك، وانخرطت في همومها.
ملازمته لها خلال هذه الفترة أفادها إلى حدٍ ما، وهونت عليها الكثير، بالرغم من إنكارها للتصريح بذلك علنيًا، أثرت الاحتفاظ بما تشعر به لنفسها، تجنبًا لأي مشاكل قد تطرأ من لا شيء. خرجت "تهاني" بصحبة "ممدوح" بناءً على دعوة مُلحة منه لتمضية السهرة في أحد المسارح. انتظرت رفع الستار لمشاهدة العرض الاستعراضي لإحدى فرق الأداء القادمة من الخارج. كانت جالسة في الصفوف الأمامية، في المنطقة المخصصة لأهم الضيوف، لم تشعر ككل مرة بالفخر والغبطة، بل بدت مشاعرها فاترة، مشوبة بالضيق، نظرت حولها في غير مبالاة، إلى أن تكلم "ممدوح" فجأة وهو يمد يده بعلبةٍ ما صغيرة الحجم، مُغلفة بورقٍ مفضض:
-اتفضلي.
سألته وهي تتناولها منه:
-إيه دي؟
احتفظ بابتسامته الهادئة وهو يخبرها:
-هدية بسيطة.
اندهشت من الأمر، وسألته مستفهمة وهي تحرك يدها بها:
-في مناسبة معينة؟
أجابها في بساطة شديدة جعل داخلها يرتبك تحيرًا:
-لأ، بس أنا كنت حابب أجيبلك حاجة تفرحك.
ترددت في أخذها منه، وقالت بحرجٍ وهي تعيدها إليه:
-شكرًا، مكانش ليها داعي.
أصر عليها بملامحٍ جادة:
-هزعل جدًا لو رفضتي تاخديها.
ظلت ذراعها ممدودة تجاهه، فوضع كفه على راحتها القابضة على العلبة، ودفعها برفقٍ ناحيتها دون أن يتكلم، سرعان ما سحبت "تهاني" يدها، وبدأت تفض الورق اللامع لتنظر إلى ما أحضره، تفاجأت بزجاجة عطرٍ باهظة الثمن، رفعتها إلى مستوى نظرها متأملة إياها بانبهارٍ واضح قبل أن تتحول عيناها إليه متمتمة بابتسامة رقيقة:
-برفان!
بادلها الابتسام وهو يقول بشيءٍ من التمني:
-يا رب يعجبك، أنا مش عارف إنتي بتحبي أنهو نوع، بس حسيت إن ده مناسب لشخصيتك أكتر.
نزعت الغطاء، ونثرت القليل من العطر في الهواء لتستنشق رائحته بعمقٍ، تغلغلت في رئتيها، وأنعشتها، مجددًا نظرت ناحيته لتخاطبه بملامح مبتهجة قليلًا:
-ريحته جميلة أوي.
علق عليها في انتشاءٍ:
-مبسوط إنه عجبك.
وضعت العلبة مع غلافها المفضض في حقيبتها، وواصلت كلامها إليه:
-متشكرة جدًا يا دكتور "ممدوح".
قال عن قصدٍ ليزيد من ربكتها:
-أنا اللي شاكر جدًا للبهجة اللي بترسميها بوجودك في المكان.
رمشت بعينيها في دهشة متعجبة، فاستأنف بهدوءٍ، وكأنه لم يقل إلا ما رآه مناسبًا:
-وماتنسيش لو احتاجتي حاجة فأنا جاهز أساعدك.
عجزت عن إيجاد المناسب من العبارات لتوصيف ما يفعله، فعبرت عن ذلك بغير مبالغة:
-مش عارفة أقول إيه قصاد اللي بتعمله ده كله.
رسم على ثغره هذه الابتسامة الرائعة مخاطبًا إياها:
-ولا حاجة، كفاية إني أشوفك مبسوطة كده.
وليضمن إبقاء تأثيره عليها، أضاف عن عمدٍ:
-وما تشليش هم "مهاب"، أنا كفيل أقنعه بأي حاجة.
بلا تفكيرٍ أخبرته في نزقٍ:
-يا ريت لو تقدر تخليه يطلقني.
سكت للحظاتٍ قبل أن يفوه بحذرٍ:
-هحاول، بس خدي بالك هو دايمًا عنيد في حاجات معينة.
بغصة مؤلمة في حلقها اعترفت بألمٍ:
-المشكلة إني مش فارقة معاه أصلًا.
رد عليها بصوته الهادئ:
-الوضع بقى دلوقتي مختلف.
وكأنه تتأكد مما لمح إليه فسألته:
-قصدك بسبب الحمل؟
أجابها مقتضبًا:
-أيوه.
غامت تعابير وجهها، فأوضح لها بنوعٍ من التحذير المستتر:
-ده هيخليه يفكر مليون مرة قبل ما ياخد قرار، باعتبار إن اللي في بطنك يخصه.
قالت في أسى:
-صعب أجيب طفل أظلمه بأب زيه، إنت مش عارف هو وحش إزاي.
انتهز الفرصة، وحاول استمالتها قدر المستطاع لتثق أكثر فيه قائلًا:
-كل مشكلة وليها حل، خلينا بس دلوقتي نستمتع بالأجواء الجميلة دي.
هزت رأسها موافقة، وسألته:
-هو العرض هيبدأ امتى؟
قال مشيرًا بعينيه نحو الستارة الحمراء:
-أظن خلال 5 دقايق بالكتير.
حركت رأسها بإيماءة خفيفة، لتتوقف عن النظر ناحيته، وقد راح الحزن الممزوج بالخوف يلفها من جديد، فمستقبلها مع زوجها لا يزال غامضًا، ناهيك عن كونه محفوفًا بالتهديدات المستمرة ............................................. !!
(حيرة)
كل ما سيطر عليها في لقائها المنفرد به بالقرب من مقر عمله هو التأكد من إقناعه بالموافقة على ما قررته بشأن ابنة شقيقتها، غير مبالية بجريرة ما ستتعرض له هذه المضطهدة على نفسيتها، المهم ألا تمس سمعة العائلة بسوء. أصرت "أفكار" على المجيء بمفردها، فإذ ربما مع الضغط والحرج تتراجع شقيقتها، وتصبح في موقف عسير، لذا تجنبت كل ما قد يفسد خطتها، وأطلعته عليه كأنها مسألة عادية مفروغ النقاش فيها! لولا كونهما في الشارع، وحولهما عموم الناس لصرخ "عوض" استنكارًا وتنديدًا على ما أفصحت به. اشتعل وجهه بحمرة الغضب، ورمقها بنظرة حادة مدمدمًا في استهجانٍ متعاظم:
-إيه الكلام ده يا خالة؟!!
ببرودٍ مناقض له أخبرته بلهجة الذي يقرر مصائر البشر:
-ده اللي المفروض يتعمل.
أبدى رأيه صراحةً، ودون رهبة منها:
-أنا مش موافق عليه...
حدجته بنظرة منتقدة له، فتابع مشددًا بنفس الاستهجان:
-ده ما يرضيش ربنا نهائي.
خشيت أن يزيد إلحاحها من عِناده، فحاول اللجوء لحيلة المسكنة، فخاطبته في صوت هادئ، على أمل أن تمتص غضبته المندلعة:
-بس الناس آ...
استفزته بكلامها الأخير، فقاطعها قبل أن تنهي ما بدأته:
-وأنا مالي ومال الناس، بقى عاوزاني أغضب ربنا عشان أرضي الناس؟
ضغطت على شفتيها في امتعاضٍ، فسألها في شيءٍ من الاستعطاف:
-والغلبانة دي ذنبها إيه تتعرض لحاجة زي كده؟
زرَّت عينيها بتدقيقٍ، فتابع على نفس النبرة المتسائلة في حمئةٍ:
-وهي أصلًا موافقة على ده؟
هتفت فيه بهجومٍ:
-الذنب من الأول ذنب أخوك، واحنا بنحاول نلم الدنيا.
أحس بموجاتٍ من الضيق تغمره، فهي لم تخطئ في إلقاء اللوم على عائلته، ابتلع غصة مريرة في حلقه، وظل مركزًا نظره معها وهي لا تزال تكلمه:
-ومتقلقش، احنا مطمنين من بنتنا، بس يهمنا سمعتنا وشرفنا قصاد الغُرب.
جاهد لإثنائها على رأيها، فاستطرد بزفيرٍ محموم:
-يا خالة آ....
إيجاد المبررات والأعذار، والتعلل بأي حجج لم يكن مطروحًا في قاموسها، لذا رفضت الإنصات إليه، وقاطعته حاسمة الأمر:
-شوف من الآخر كده، اللي قولتلك هيتعمل، سواء كنت موافق عليه ولا لأ!
اتسعت عيناه حنقًا، فغضت بصرها عنه، وأولته ظهرها استعدادًا لذهابها قائلة بجمودٍ:
-مش هعطلك أكتر من كده، فوتك بعافية!
بقي في مكانه متسمرًا، مستهجنًا لكل ما يدور، ضرب كفه بالآخر، وراح يخاطب نفسه في حزنٍ متزايد:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني مش كفاية اللي حصلها سابق، نيجي نكمل على الباقي فيها؟!
حرك رأسه يمينًا ويسارًا، وتابع في أسى بعدما اختفت من أمامه تمامًا:
-لطفك بينا يا رب!
...........................................
لم يتوقف عن هز ساقه في توترٍ مشوب بالعصبية وهو يجلس بالخارج على المقعد المعدني في الردهة الخاصة بهذا المشفى الاستثماري الشهير. رفع يده أعلى رأسه، ثم خفضها قليلًا ليفرك مؤخرة عنقه وهو لا يصدق ما حدث في دقائق، وكأن الحظ يُعانده ويعطيه فقط أسوأ ما لديه، كان على وشك الظفر بمكانة لا تقدر عند أبيه، وحينئذ كان سيحظى بكل ما تمناه لنفسه، الاهتمام، الاحترام، اعتلاء عرش العائلة المهيب؛ لكن ضاعت أحلامه في لمح البصر وتحولت لهباءٍ منثور. حرر "سامي" زفرة ثقيلة معبأة بالحقد من رئتيه، وأراح ظهره للخلف مرددًا في جنبات أعماقه:
-مكانش على البال إن "فؤاد" باشا يدخل يعمل عملية قلب!
عكس وجهه ما تخفيه نفسه، فبدا كظيمًا، ومغلولًا، وهو ما زال مستغرقًا في تفكيره. ظل يكرر في غيظٍ حانق:
-لأ، ومين اللي يبقى واقف مع طقم الدكاترة اللي جوا.. "مهاب" بنفسه!
كز على أسنانه مُطلقًا سبَّة خافتة قبل أن يتكلم بصوتٍ خافت:
-مش لو كان اتأخر شوية كنت آ...
لم يستطع إتمام جملته من شدة غيظه، وتساءل بملامح غائمة للغاية:
-طب أعمل إيه تاني عشان مايشوفش إلا أنا؟!!
توقف عن تفكيره التحليلي عندما وجد الباب الخاص بالتوجه لغرفة العمليات يُفتح، هبَّ واقفًا، واتجه إلى شقيقه الذي أطل عليه منه، رمقه بهذه النظرة الحائرة المتسائلة، فتولى "مهاب" الكلام باسمًا في حبورٍ:
-الحمدلله العملية عدت على خير، شوية وهيتنقل العناية المركزة.
وكأنه لم يسمع ما قاله، هاجمه دون مبرر، بصوتٍ حاد ومرتفع:
-لو جراله حاجة هتكون إنت السبب.
سدد له "مهاب" هذه النظرة المستخفة، تركه يظن أنه المسيطر على الوضع، إلى أن أخرسه بتعقيبه الصادم:
-وإنت نفسك تخلص منه عشان تورث الإمبراطورية، مش كده يا "سامي"؟
ارتفع حاجباه للأعلى، ونظر له مذهولًا للحظة، هربت الدماء من وجهه، وبدا مهتزًا وهو يرد مدافعًا عن اتهامه الواضح:
-إنت بتقول إيه؟
بنفس النبرة الهادئة، والملامح المستكينة، أخبره مؤكدًا:
-أنا أكتر حد فاهمك، إنت زي الكتاب المفتوح قدامي!
ثم ربت على كتفه قائلًا بصوتٍ هازئ يحمل الإهانة في طياته:
-ومش عاوزك تشيل هم إني هاخد مكانك، لأني مش زيك أبدًا...
اشتدت قسمات شقيقه الأكبر، وحدجه في نظرة قلقة سرعان ما تحولت للغيظ الشديد عندما أكمل بإهانةٍ صريحة:
-تابع، مستني اللي يديني الأوامر!
وكأنه سكب فوق رأسه دلوًا من الماء المثلج، انتفض ثائرًا في وجهه، محاولًا لملمة ما تبعثر من كرامته المهانة:
-لو بابا جراله حاجة هخليك تندم، سامع!!!
مجددًا ربت "مهاب" على كتفه قائلًا بشبه ابتسامة:
-مش هتقدر تعملي حاجة.
اشتاط غضبًا على غضب، وأطلق صيحة هادرة فيه:
-إنت متعرفنيش كويس يا "مهاب".
تقدم منه شقيقه، ومال عليه مُحدثًا إياه في أذنه بنبرة جمعت بين السخرية والصرامة:
-بلاش تزعق، إنت هنا في مستشفى، وده بيقل منك يا كبير العيلة.
احتقنت نظرات "سامي" أكثر، فما كان من شقيقه الأصغر إلى أن تركه يغلي في مكانه حقدًا، واستدار مبتعدًا عنه، كور الأول قبضته متوعدًا:
-هنشوف، مين هيضحك في الآخر!
.................................................
حاصر الهم ملامحها، فكانت مكللة بأحزانها، ولما لا تستاء وشقيقتها قد طلبت منها فعل ما تعجز عن البوح به لابنتها؟ ظلت "عقيلة" تتحاشى الجلوس بمفردها معها، لئلا تضطر لإخبارها بما قررته خالتها بالنيابة عنها في ليلة زفافها، مما دفع "فردوس" للاسترابة في أمرها، فوالدتها كانت غريبة التصرفات مؤخرًا. لم تترك عقلها لخواطرها المحيرات، واستطردت تسألها في جديةٍ حينما كانت منزوية بالشرفة:
-يامه إنتي بقالك كام يوم متغيرة، في حاجة حصلت؟
اضطربت، وارتبكت، واعتلى وجهها القلق، في التو أنكرت ما يشغل تفكيرها مرددة:
-لأ يا "دوسة"، كله تمام.
ومع ذلك لم تشعر بالارتياح، ما زال هناك ما يؤرق والدتها، وهذا الشيء كان جليًا في نظراتها الآسفة نحوها. صممت عليها دون اقتناعٍ:
-أومال أنا حاسة ليه إنك مخبية عني حاجة.
اهتزت نظراتها إليها، وبدا وكأن الدموع تشق طريقها إلى عينيها، استشعرت "فردوس" الخطر، وسألتها في شكٍ:
-"عوض" مش عاوز يكمل الجوازة؟ مغصوب عليها زي أخوه؟
شهقت صغيرة خرجت من بين شفتيها، ثم هتفت نافية ذلك في الحال:
-وربنا ما حصل.
سألتها في إلحاحٍ مستنكر:
-طب في إيه؟
ادعت رغم نبرة الصدق الظاهرة في صوتها:
-زعلانة إنك هتفارقيني زي أختك، بقالها أد كده لا حس ولا خبر منها، ربنا يهدي سرها.
أكدت لها بلا تفكيرٍ، وقد التمعت عيناها بالدموع المتأثرة:
-أنا هفضل جمبك، ويوم والتاني هتلاقيني عندك.
شاركتها في إحساسها المرهف، وقالت وهي تسحبها لتضمها إليها في صدرها:
-تعيشي يا ضنايا.
.................................................
طمس الوقائع، وما على هذه الشاكلة، لم يؤثر على الحقيقة الجلية بأن الحياة معه لن تكون إلا جحيمًا ممتدًا، وهي لا تتحمل ذلك أبدًا، في لحظة بعينها ستنهار، وقد تفعل ما لا يُحمد عقباه. مرة ثانية استغربت "تهاني" من مجيء "ممدوح" لزيارتها؛ لكنها لم تكن كالسابق في وضعٍ مهمل ومزري، بدت هادئة أكثر، وأنيقة. استقبلته في الصالون برسميةٍ وجمود، ومع ذلك بدا شديد الأريحية معها، انتظرت ذهاب الخادمة لتسأله دون استهلالٍ:
-ممكن أعرف سبب إنك موجود هنا تاني؟
نظر لها مليًا، بعينين تتفرسان فيها بتدقيقٍ، وهو يغوص بجسده في الأريكة، فأكملت بنبرة متهكمة ومغلفة بالمرارة:
-أنا دلوقتي أحسن، مافيش خوف مني.
حمحم قائلًا بهدوء، وعيناه مرتكزان عليها تمامًا، ليرى ردة فعلها:
-دي وصية "مهاب"!
سألته في تحفزٍ مصحوب بالضيق:
-ليه؟ معينك الحارس الخاص؟
استمتع برؤيتها تبدي التعبير الذي أراده، ثم أجابها باسمًا، وهو يرفع حاجبه للأعلى قليلًا:
-ممكن تقولي حاجة زي كده، ولو إني أفضل إنك تعتبريني ملاكك الحارس!
كررت كلمته الأخيرة في استنكارٍ:
-ملاك؟
هز رأسه إيجابًا، فأخبرته بتهكمٍ ممزوجٍ بالإهانة:
-أنا مشوفتش هنا إلا شياطين وبس!!
وكأنها أعطتهما الوصف الملائم لشخصيهما الوضيعين، فسألها متغاضيًا عما فاهت به:
-سيبك من ده وقوليلي عاملة إيه دلوقتي؟
أغمضت عينيها للحظةٍ، وأجابتها في صوتٍ شبه حزين وآسف:
-زي ما أنا، خسرت أحلامي، وبقيت محبوسة هنا بين أربع حيطان.
ساد وجهه علامات المكر، وسألها في تعاطف خبيث:
-ليه بس؟ ما إنتي تقدري تخرجي وتروحي أي مكان طالما أنا معاكي فيه.
حدجته بهذه النظرة الغريبة، فتابع على نفس المنوال:
-ولو حابة ترجعي شغلك تاني مافيش أي مشكلة.
قالت بغير اقتناعٍ:
-شغلي؟
قال مؤكدًا لها عن ثقة عجيبة:
-أيوه، فرصة تلهي نفسك في حاجة بدل الفراغ الكبير اللي إنتي فيه، وخصوصًا إني زعلت لما عرفت إنك سبتي دراستك، مكانش لازم تعملي كده.
تعمد إثارة هذا الموضوع مرة ثانية بداخلها ليزيد من كراهيتها له، ونجح ببساطة في مسعاه، تبدلت تعبيراتها للوجوم، وهتفت في ضيقٍ قد ملأ صدرها:
-شوفتني كنت موافقة يعني؟
ادعى اهتمامه بأمرها، فاعتذر في التو:
-أنا أسف، المفروض أفهم إنه كان غصب عنك، عمومًا المهم عندي دلوقتي إنك تكوني بخير.
وقتئذ طالعته "تهاني" مطولًا بشيءٍ من الحيرة والتخبط، خاصة مع سوء اختيارها وتبعات ذلك، وفهم "ممدوح" ذلك من نظراتها إليه، فبات شبه واثقٍ من الدرب الذي سيسلكه لإفساد راحة رفيقه.
....................................................
سعل سعلة حرجة آلمت حلقه، فأشار بيده للممرضة المرابطة بجوار فراشه لتأتي له بالماء، ساعدته على شرب القليل، ثم أراح رأسه على الوسادة وهو يحدق أمامه لينظر إلى ابنه وهو يتفقد باهتمامٍ شديد التقارير اليومية التي تخص متابعة حالته بعدما استقر في هذه الغرفة. رفع "مهاب" بصره تجاهه، واستطرد في ابتسامة لطيفة:
-حمدلله على السلامة يا باشا.
لم ينبس السيد "فؤاد" بشيء، فعاتبه ابنه بوديةٍ حذرة:
-كده تقلقنا عليك؟
عندئذ لامه والده بوجه مكفهر:
-يعني مش عارف أنا تعبت من إيه؟
سلط "مهاب" عينيه على الممرضة ليشير لها بالانصراف دون أن يفوه بكلمة، امتثلت لأمره غير المنطوق، وغادرت الغرفة في هدوءٍ تام، ليقترب بعدها من فراش أبيه متحدثًا إليه بابتسامته المعهودة:
-اطمن يا "فؤاد" باشا، أنا عمري ما أخذلك.
سأله في استعتاب غليظٍ:
-وجوازتك الخايبة دي؟ تسميها إيه؟
سحب "مهاب" المقعد ليضعه على مقربة منه، جلس عليه، وأخبره بكلماتٍ شبه موحية:
-راجل ومتغرب، وعايش لواحدي .. يعني محتاج واحدة تشوف طلباتي.
ضاقت عينا "فؤاد" بغير رضا، ومع ذلك أنصت لابنه وهو يوضح له أسبابه باستفاضةٍ:
-وأنا قاصد أتجوز واحدة كده، مقطوعة من شجرة، تكون تحت رجلي، وفي أي لحظة أقدر أرميها من غير مشاكل ولا وجع دماغ، ده غير إني عاوز أجبر بيها واحدة في دماغي من صفوة المجتمع تغِير، ما هو في ستات ماتحسش بالقهر إلا من واحدة من جنسها، والنار تغلي في عروقها لما تكون أقل منها!
زوى ما بين حاجبيه سائلًا:
-واسم العيلة؟
أكد له بما لا يدع مجالًا للشك:
-اطمن .. محفوظ، وعمري ما اسمح لحد يلطخه، ولو عاوزني أطلقها في لحظة، هعمل كده.
أبقى والده على صمته، ولم يعلق بشيء، مما دفع ابنه للتأكيد مرة ثانية عليه:
-كلها مصالح، وأنا فاهم بعمل إيه كويس.
ثم مد يده ليمسك بكفه، ضغط عليه برفقٍ، وطلب منه بحذرٍ:
-المهم عندي ماتتعبش نفسك دلوقتي، وترتاح.
من الناحية الأخرى، وعلى مقربة منهما، تلصص "سامي" عليهما في حيطةٍ ليعرف ما الذي يدور بينهما من ورائه، امتلأ صدره بالغل والحقد وهو يرى كيف استطاع خداع أبيه، وجعله يتخذ صفه، أطبق على شفتيه في غضبٍ، وهمهم مع نفسه:
-عرفت تضحك عليه تاني، طب أعمل إيه عشان أكسبه في صفي؟!!
...............................................
قبل أن تتشبث برأيها، وتحلق خلف أحلامها، كانت مدركة للهوة العميقة التي وُجدت بينها وبين عائلتها، ومع ذلك اشتاقت كثيرًا لنزاعهما الخالي من أي مكائد، ففي الأخير لم تقم والدتها بإيذائها، ولا شقيقتها بهدم مستقبلها، هي من أقدمت بتهورٍ على ما دمر مخططاتها ظنًا منها أنها ستحظى بنعيم الدنيا ومتعها، وفي النهاية سقطت في قعر الجحيم. كم ودت لو هاتفتها وأطلعتها على ما مرت به؛ لكنها خشيت من عتابها القاسي! تراجعت عن رغبتها تلك، وانخرطت في همومها.
ملازمته لها خلال هذه الفترة أفادها إلى حدٍ ما، وهونت عليها الكثير، بالرغم من إنكارها للتصريح بذلك علنيًا، أثرت الاحتفاظ بما تشعر به لنفسها، تجنبًا لأي مشاكل قد تطرأ من لا شيء. خرجت "تهاني" بصحبة "ممدوح" بناءً على دعوة مُلحة منه لتمضية السهرة في أحد المسارح. انتظرت رفع الستار لمشاهدة العرض الاستعراضي لإحدى فرق الأداء القادمة من الخارج. كانت جالسة في الصفوف الأمامية، في المنطقة المخصصة لأهم الضيوف، لم تشعر ككل مرة بالفخر والغبطة، بل بدت مشاعرها فاترة، مشوبة بالضيق، نظرت حولها في غير مبالاة، إلى أن تكلم "ممدوح" فجأة وهو يمد يده بعلبةٍ ما صغيرة الحجم، مُغلفة بورقٍ مفضض:
-اتفضلي.
سألته وهي تتناولها منه:
-إيه دي؟
احتفظ بابتسامته الهادئة وهو يخبرها:
-هدية بسيطة.
اندهشت من الأمر، وسألته مستفهمة وهي تحرك يدها بها:
-في مناسبة معينة؟
أجابها في بساطة شديدة جعل داخلها يرتبك تحيرًا:
-لأ، بس أنا كنت حابب أجيبلك حاجة تفرحك.
ترددت في أخذها منه، وقالت بحرجٍ وهي تعيدها إليه:
-شكرًا، مكانش ليها داعي.
أصر عليها بملامحٍ جادة:
-هزعل جدًا لو رفضتي تاخديها.
ظلت ذراعها ممدودة تجاهه، فوضع كفه على راحتها القابضة على العلبة، ودفعها برفقٍ ناحيتها دون أن يتكلم، سرعان ما سحبت "تهاني" يدها، وبدأت تفض الورق اللامع لتنظر إلى ما أحضره، تفاجأت بزجاجة عطرٍ باهظة الثمن، رفعتها إلى مستوى نظرها متأملة إياها بانبهارٍ واضح قبل أن تتحول عيناها إليه متمتمة بابتسامة رقيقة:
-برفان!
بادلها الابتسام وهو يقول بشيءٍ من التمني:
-يا رب يعجبك، أنا مش عارف إنتي بتحبي أنهو نوع، بس حسيت إن ده مناسب لشخصيتك أكتر.
نزعت الغطاء، ونثرت القليل من العطر في الهواء لتستنشق رائحته بعمقٍ، تغلغلت في رئتيها، وأنعشتها، مجددًا نظرت ناحيته لتخاطبه بملامح مبتهجة قليلًا:
-ريحته جميلة أوي.
علق عليها في انتشاءٍ:
-مبسوط إنه عجبك.
وضعت العلبة مع غلافها المفضض في حقيبتها، وواصلت كلامها إليه:
-متشكرة جدًا يا دكتور "ممدوح".
قال عن قصدٍ ليزيد من ربكتها:
-أنا اللي شاكر جدًا للبهجة اللي بترسميها بوجودك في المكان.
رمشت بعينيها في دهشة متعجبة، فاستأنف بهدوءٍ، وكأنه لم يقل إلا ما رآه مناسبًا:
-وماتنسيش لو احتاجتي حاجة فأنا جاهز أساعدك.
عجزت عن إيجاد المناسب من العبارات لتوصيف ما يفعله، فعبرت عن ذلك بغير مبالغة:
-مش عارفة أقول إيه قصاد اللي بتعمله ده كله.
رسم على ثغره هذه الابتسامة الرائعة مخاطبًا إياها:
-ولا حاجة، كفاية إني أشوفك مبسوطة كده.
وليضمن إبقاء تأثيره عليها، أضاف عن عمدٍ:
-وما تشليش هم "مهاب"، أنا كفيل أقنعه بأي حاجة.
بلا تفكيرٍ أخبرته في نزقٍ:
-يا ريت لو تقدر تخليه يطلقني.
سكت للحظاتٍ قبل أن يفوه بحذرٍ:
-هحاول، بس خدي بالك هو دايمًا عنيد في حاجات معينة.
بغصة مؤلمة في حلقها اعترفت بألمٍ:
-المشكلة إني مش فارقة معاه أصلًا.
رد عليها بصوته الهادئ:
-الوضع بقى دلوقتي مختلف.
وكأنه تتأكد مما لمح إليه فسألته:
-قصدك بسبب الحمل؟
أجابها مقتضبًا:
-أيوه.
غامت تعابير وجهها، فأوضح لها بنوعٍ من التحذير المستتر:
-ده هيخليه يفكر مليون مرة قبل ما ياخد قرار، باعتبار إن اللي في بطنك يخصه.
قالت في أسى:
-صعب أجيب طفل أظلمه بأب زيه، إنت مش عارف هو وحش إزاي.
انتهز الفرصة، وحاول استمالتها قدر المستطاع لتثق أكثر فيه قائلًا:
-كل مشكلة وليها حل، خلينا بس دلوقتي نستمتع بالأجواء الجميلة دي.
هزت رأسها موافقة، وسألته:
-هو العرض هيبدأ امتى؟
قال مشيرًا بعينيه نحو الستارة الحمراء:
-أظن خلال 5 دقايق بالكتير.
حركت رأسها بإيماءة خفيفة، لتتوقف عن النظر ناحيته، وقد راح الحزن الممزوج بالخوف يلفها من جديد، فمستقبلها مع زوجها لا يزال غامضًا، ناهيك عن كونه محفوفًا بالتهديدات المستمرة ............................................. !!
(ليلة مغلفة بالدموع)
ما لم تفهمه حتى هذه اللحظة، هو إصرار رفيقه على ملازمتها كظلها ليل نهار، وكأن لا عمل له سواها هي وحدها، يبذل أقصى طاقاته للترفيه عنها، والترويح عن نفسها، فتنسى الفترة العصيبة التي مرت بها. استنكرت "تهاني" استغراقها في التفكير في شأنه أكثر من الحد المقبول، وكيف لها ألا تفعل وقد استحوذ على الفراغ الطويل المستبد بها بحضوره وتسليته في ظل غياب زوجها المستمر؟ لن تنكر أنه أظهر لها جانبًا من الاحترام، ذاك الذي تمنت أن يكون صادرًا من شريك حياتها المزعوم؛ لكن للأسف الأخير تعامل معها كوعاءٍ لإفراغ عواطفه بها، لا ككيان رقيق وهش، يحتاج للعناية والرعاية.
زجاجة العطر التي أهادها لها "ممدوح" بعد ليلة دافئة وعامرة بالاهتمام، كانت شاهدًا على الفارق بين الصديقين في المعاملة، نثرت "تهاني" رائحتها المثيرة على جسدها وهي مُسجاة على سريرها، استنشقت عبيرها الساحر بعمقٍ، حتى شعرت بها تُسكرها، تبسَّمت في مرارة، وخاطبت نفسها في ندمٍ:
-مش لو كنت صبرت شوية، كنت آ...
عجزت عن إكمال جملتها للنهاية، وكأن الكلمات تجمدت على طرف لسانها، فلم تستطع الإفلات من بين شفتيها، كان من غير الصواب أن تعقد مثل هذه المقارنة بينهما؛ لكنه من دفعها لذلك بتصرفاته القاســــية معها. تغلغلت الرائحة أكثر في رئتيها، فتذكرت كلام "ممدوح" معها وهو يستحثها على العودة لمتابعة دراستها مع وعده بتقديم كامل العون لها لتحقق ذاتها، جرفها ذلك الإغراء العلمي للتمسك بأملٍ جديد في عدم الاستسلام لحصار "مهاب" المهلك، عليها بمقاومته، فإذ ربما تظفر بأي شيء ينسيها خطئها.
...............................................
امتلأ السطح عن آخره بالمدعوين من الجيران والمعارف والأقرباء لحضور حفل الزفاف الشعبي، خاصة مع انتشار الشائعات والأخبار عن طبيعة هذه الليلة الخاصة، لكونها تمس سمعة وشرف إحدى قاطنات المنطقة. بدا الجميع متشوقًا لمشاهدة ما يحدث فور وقوعه، لذا كان الزحام غير عادي بالنسبة لعائلتين لا تملكان الكثير من الصلات القوية. شعرت "فردوس" وهي تجلس على المقعد الخشبي المبطن بقماش القطيفة الأحمر، مجاورة لزوجها الجالس على مقعد مماثل، بوجود خطب ما، فالأعين كلها مرتكزة عليها بشكل أرعبها، وكأنهم ينتظرون منها شيء ما زالت جاهلة به.
على قدر المستطاع تغاضت عن نظراتهم المزعجة، ورسمت هذه الابتسامة المسرورة على محياها، بالرغم من الارتباك الطبيعي الذي يساورها. مالت عليها والدتها، فانتشلتها من شرودها السريع حينما ربتت على كتفها في حنوٍ، نظرت إليها متسائلة بعينيها، فهمست لها في أذنها بتضرعٍ:
-ربنا يجعل ليلتك مبروكة، ويفرح قلبك يا ضنايا، إنتي صبرتي كتير.
ردت بنفس الابتسامة:
-يا رب.
اعتدلت "عقيلة" واقفة، واتجهت ببصرها نحو شقيقتها التي راحت تصفق بكلتا يديها في حماسٍ، وهي تخاطب من حولها:
-ساكتين ليه يا حبايب، زغرطوا كده، وإملوا الدنيا بهجة، خلي الكل يفرح ويتبسط.
أطلقت مثل النساء زغرودة عالية، قبل أن تدندن مع نغمات الأغنية الدائرة في الخلفية، بينما همهمت "عقيلة" بصوتٍ شبه حزين، وملتاع، كأنما تكلم نفسها:
-ياما كان نفسي أختك تبقى حاضرة معانا.
سمعت "فردوس" هذه الشكوى رغم اختلاطها بالصخب، فسألتها كنوعٍ من الاستعلام:
-ماتصلتش خالص يامه بعد ما بعتي جواب ليها؟
أجابتها بحزنٍ ما زال حيًّا بداخلها:
-لأ يا "دوسة"، زي ما تكون نسيتنا.
ردت مؤكدة عليها:
-مسيرها تكلمنا، ما إنتي عارفة لما بتحط دماغها في العلام والمذاكرة ما بتعرفش حد.
لم تكن مقتنعة تمامًا بتبريرها، وقالت في إنكارٍ:
-بس مش للدرجادي، هي في غربة، وبعيدة عننا.
قبل أن تضيف أي شيءٍ جاءت "أفكار"، وسحبت شقيقتها من ذراعها للجانب قائلة بوجه مبتسم على الأخير:
-وسعي ياختي شوية أما أكلم "دوسة" كلمتين.
طالعتها "فردوس" بغرابةٍ، وسألتها في قليلٍ من التوجس الحائر:
-خير يا خالتي؟
ظلت محتفظة ببسمتها الغامضة وهي تخبرها:
-بصي يا حبيبتي، إنتي عارفة غلاوتك عندي، وما بعملش إلا اللي فيه مصلحتك وبس، صح كلامي؟
أومأت برأسها مرددة:
-مظبوط.
تابعت خالتها حديثها بنفس الأسلوب الغامض:
-لما ليلتك تخلص على خير، عاوزاكي تنفذي اللي هقولك عليه بالحرف عشان نفرح بيكي كلنا.
سألتها بقلقٍ أخذٍ في التصاعد:
-في إيه؟
منحتها نظرة ذات مغزى، ورائها الكثير مما حيرها، قبل أن تجيبها بما لم يرحها أبدًا
-هتعرفي بعدين، بس اسمعي كلامي وإنتي تكسبي.
ثم قبلت فوق رأسها، قبل أن تعاود التصفيق والتهليل الفرح تاركة ابنة شقيقتها على وضعها الحائر المتخبط، تأكل رأسها الأسئلة والخواطر المزعجة.
..........................................
من المفترض أن ينصرف الضيوف بعدما ينتهي ذلك التجمع؛ لكن للغرابة ظل الغالبية حاضرين بالأسفل، متجمهرين أمام مدخل البناية، كما لو كانوا يترقبون حدوث شيء ما، لم تعلق "فردوس" على ذلك، وتغاضت عنه مثلما اعتادت أن تتغاضى عما يؤرقها مؤخرًا. هبطت الدرجات على مهلٍ، وساعدتها "إجلال" على رفع طرف ثوب عرسها لئلا تتعثر فيه، وتتعرقل على السلم. انتابها التوتر واختلط برهبتها من مجرد محاولة التفكير في تفاصيل ما سيأتي من ليلتها، لم توضح لها والدتها أي شيء، واكتفت بالقول الشائع عند العموم:
-جوزك فاهم وعارف هيعمل إيه.
وكأن في جهلها نعمة! لم تسعَ لاستنباط ما اعتبرته متجاوزًا ولا يليق الحديث عنه، طالما هي لا تزال عذراء. ضحكت "إجلال" وخاطبتها في مرحٍ:
-عاوزاكي بقى تدلعي يا "دوسة"، ده يومك النهاردة.
ردت عليها وهي تحاول النظر إليها من طرف عينها:
-ما توترنيش أكتر من كده.
ضحكت مجددًا، وأكدت لها بمحبة صافية نابعة من قلبها:
-هتعدي على خير، إنتي بنت حلال، و"عوض" أفندي راجل محترم وبيعرف في الأصول.
حادت ببصرها عنها محدثة نفسها في استياءٍ:
-وأنا أعرفه منين، ده زيه زي الغريب عندي.
سرعان ما انتشر الحزن على صفحة وجهها لتتابع حديث نفسها المهمومة، وقد دلفت من باب منزلها:
-منها لله اللي حرمتني من فرحتي الحقيقية!
........................................
الطريق إلى غرفة النوم الخاصة بالعروسين كان معروفًا، ومع ذلك لم تتركها والدتها أو خالتها بمفردها، بقيت كلتاهما معها وهي تنتظر جالسة على الفراش قدوم زوجها للانفراد بها، خجلت "فردوس" من تبديل ثوب عرسها، وارتداء هذا الزي الوردي الشفاف الكاشف لكل ما هو مشوق. شبكت كفيها معًا، ونظرت إليهما في استحياءٍ، أرادت أن تعتاد أولًا على وجوده، قبل أن تباشر طقوس هذه الليلة المميزة. بادرت "أفكار" بالكلام حينما ساد الصمت لوقتٍ، فقالت بجديةٍ غريبة رغم خفوت صوتها:
-الناس مستنية البشارة.
حدجتها "عقيلة" بنظرة محذرة قبل أن تردد في تجهمٍ عجيب، باعث على الاسترابة:
-مالوش لازمة نحكي فيه دلوقتي.
استغربت "فردوس" من حديثهما الغامض والموحي، شعرت أنه متعلق بها، وإلا لما بقيت والدتها على تكشيرتها تلك منذ مطلع النهار وحتى الآن، لم تترك نفسها لحيرتها، وتساءلت بقدرٍ من الشك:
-هو في إيه؟
انعكس التردد بشكلٍ واضح على وجه أمها، ألقت نظرة سريعة على شقيقتها التي بدت غير مبالية على الإطلاق بما يصير مع ابنتها، حولت ناظريها عنها، وحاولت التفسير لها، لكن الكلمات لم تسعفها، تعذر عليها إيجاد جملة مناسبة تستهل به بوحها بهذا الأمر العويص، لذا خرج صوتها مذبذبًا، مغلفًا بالاضطراب:
-بصي يا بنتي، إنتي لازمًا تبقي متأكدة إنه كلنا غرضنا نطمن عليكي، تكوني آ....
قبل أن تشرع في الشرح لها باستفاضة، قاطعتها قدوم إحدى السيدات المتشحات باللون الأسود من رأسها لأخمص قدميها، حيث اقتحمت الغرفة هاتفة بتهليلٍ:
-مبروك يا عروسة، إن شاءالله الكل يفرح بيكي وأهلك يرفعوا راسهم لفوق.
كانت المرأة غريبة كليًا عنها، لم ترها مسبقًا، ولا تذكر أنها التقت بها في أي مناسبة سابقة، كانت تعابير وجهها عابسة، نظراتها توحي بالإظلام، أحست بالخوف يتسرب إليها، ورغم ذلك غالبت شعورها الغريزي لتستنكر وجودها غير المسموح به هنا، لذا سألتها "فردوس" في استفهامٍ مشوب بالحيرة:
-إنتي مين؟ وبتعملي إيه هنا؟
لم تتمكن من الحصول على جوابها، حيث لحقت بها امرأة أخرى تماثلها في ارتدائها للثياب السوداء، وفي ضخامة الجسم، وكذلك الملامح الجادة المكفهرة، أمرتها الثانية في صوتٍ صارم، وهي تشير بيدها:
-افردي ضهرك كده يا عروسة.
انقبض قلبها خيفة منها، فنهضت واقفة لتوجه سؤالها إلى والدتها في توترٍ متزايد:
-مين دول يامه؟
شاركتها في الشعور بمشاعرها الخائفة، وحاولت بث الطمأنينة إليها، فقالت وهي تمسح على وجنتها:
-متخافيش يا ضنايا، دول هنا عشانك.
في التو انزوى ما بين حاجبيها، وعلقت متسائلة في خوف أكبر:
-عشاني؟ ليه؟
بلعت ريقها، وقالت وهي تنظر من فوق كتفها للمرأتين المنتظرتين في الخلف:
-دلوقتي هتفهمي.
صاحت المرأة الأولى تأمرها في صوتٍ غليظ:
-اسمعي الكلام يا عروسة عشان ننجز في ليلتنا الحلوة دي.
ارتاعت "فردوس" من طريقتها المريبة في التعامل معها، ناهيك عن تحيرها الكامل من سبب وجودها في غرفة نومها في مثل هذا اليوم، راح شعور الضيق يتسلل إليها، فالتفتت إليهما متسائلة في شيءٍ من الهجوم:
-إنتو عاوزين مني إيه؟
هنا تولت "أفكار" دفة الكلام، وأخبرتها في حنانٍ زائف:
-بصي يا "دوسة"، مش أنا فهمتك فوق إن في حاجات هنعملها بعد ما الزفة تخلص عشان فرحتك تكمل؟
استدارت ناظرة إليها، وقالت وهي تومئ برأسها:
-أيوه، بس مين دول برضوه؟
أجابتها بغموضٍ جعل داخلها يرتجف:
-دول اللي هيقطعوا لسان أي حد اتكلم بالسوء عنك.
استشعرت الخطر بين طيات حديثها المفزع، وسألتها بوجهٍ راحت الدماء تفر منه بالتدريج:
-يعني إيه؟
ألصقت بفمها هذه الابتسامة السمجة، وطلبت منها وهي تدفعها برفقٍ تجاه الفراش:
-اسمعي بس الكلام، وهتعرفي.
مرة ثانية استطردت المرأة الأولى مخاطبة "فردوس" بنفس الصوت الآمر:
-نامي على ضهرك يا عروسة.
اضطرت أن تستجيب لأمرها المريب، وتمددت على الفراش بعدما تزحَّفت للخلف لتريح ظهرها على عارضته الخشبية. افترقت المرأتان، وجلست كل واحدة منهما على طرف الفراش، فأصبحت "فردوس" محاصرة بينهما. مجددًا تكلمت المرأة الأولى تأمرها بصوتها الجاف:
-لما نبدأ سيبي نفسك وبلاش تتشنجي.
رمقتها بهذه النظرة الحيرى، قبل أن تدور بعينيها الزائغتين باحثة عن والدتها، نكست الأخيرة رأسها في خزي، فقد كانت لا حول لها ولا قوة، تقف بلا حراكٍ، تنتظر مثل البقية ما سيحدث. تكلمت المرأة الأولى في صيغة آمرة:
-نادوا على العريس.
تحركت "أفكار" من موضع وقوفها هاتفة في حماس غريب:
-أنا هاروحله.
اندهشت "فردوس" من برود خالتها، أنبأها حدسها بأنها على علم مسبق بما يجري، وأنها أرجأت إطلاعها على ذلك خوفًا من رفضها، اختفت "أفكار" قبل أن تتمكن من الاستفسار منها، لذا لم يكن أمامها سوى والدتها لتسألها في تخبطٍ مخيف:
-هو هيعملوا فيا إيه يامه؟
لم تجرؤ على النظر في عينيها، وإعلامها بما تم تقريره، ظلت تقول في شيءٍ من الأسى والتعاطف:
-مش عارفة أقولك إيه والله، بس نصيبك كده.
راحت تتصارع الهواجس المرعبة في رأسها بشكلٍ جعل بدنها يرتجف، زاد تلاحق دقات قلبها، حتى كلمات والدتها لها لم تكن مشجعة بالمرة، صاحت فيها مرة أخرى، كأنما تستنجد بها:
-يامه قوليلي بس، إنتو ناويين على إيه؟
تنهدت في مرارةٍ، وقالت بما ضاعف من هلعها:
-اصبري واستحملي.
استطردت المرأة الأولى تتساءل بجديةٍ:
-في حد من أهل العريس برا؟
جاء رد "عقيلة" مصحوبًا بإيماءة من رأسها:
-أيوه، عمته، وكام حد تبعه.
أمرتها في نبرة حازمة:
-خلي 2 منهم يجيوا معانا.
استبد بـ "فردوس" كل القلق، وتساءلت في فزعٍ بائن في صوتها، وأيضًا نظراتها:
-ليه كمان؟
امتثلت "عقيلة" لأمر المرأة، وسارت تجاه باب الغرفة، والحزن يشع من عينيها، بينما هدرت "فردوس" محتجة عندما شرعت المرأة في الإمساك بها من كتفها، كأنما تثبتها في موضعها:
-ابعدي إيدك عني، مكتفاني ليه؟
زادت من قوتها عليها، ثم أمرتها في نبرة غير متساهلة، ونظرة مخيفة تنبعث من حدقتيها:
-ريحي جتتك يا عروسة، احنا جايين نطمن عليكي ونطمن الحبايب كلهم!
قذف قلبها بقوةٍ عظيمة، فهتفت تستغيث بأمها وهي تحاول التخلص من قبضتها المحكمة عليها:
-يامه! إنتي هتسبيني معاهم؟
ردت دون أن تنظر تجاهها:
-جايلك على طول.
لم تهدأ خواطرها، ولم يستكين داخلها، بل بدا وكأن كل خوفها قد تجمع الآن ليزيد من فزعها، أصبحت "فردوس" الآن في موضع لا تُحسد عليه، تترقب بغير معرفة ما سيحدث لها.
.............................................
تمنى لو انشقت الأرض وابتلعته، فلا يكون ضليعًا في أمر مخزٍ كذلك، سعى "عوض" بشتى الطرق لإيقاف هذه الفعلة النكراء، ورغم كل جهوده المبذولة إلا أنه لم يفلح أمام طوفان إصرار "أفكار" العنيد، وكأنها اتخذت الأمر ثأرًا شخصيًا إرضاءً لحفنة من البشر، لا يهمهم سوى نهش أعراض الأبرياء، والنيل من سمعة الأنقياء. ظل باقيًا بالأسفل، رافضًا الصعود والمشاركة فيما يعرف به قبل وقت سابق، ادعى انشغاله بتوديع من جاء لتهنئته، محاولًا إضاعة الوقت؛ لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، حيث نادته "أفكار" من عند بداية سلم الدرج بصوت مرتفع، ومليء بالابتهاج، كما لو كانت تفتخر حقًا بكشف ستر لحمها:
-سي "عوض"، جماعتك مستنين جوا، عاوزينك تبشرنا.
تحرج كثيرًا من كلامها شبه الفاضح، والذي أتبعه ضحكات عابثة ممن يقفون حوله، تلاها تعليقات شبه متجاوزة، كنوعٍ من التحفيز له. ابتعد عنهم ليدنو منها، وعلى قسماته هذه التكشيرة الكبيرة، همس لها وهو يكز على أسنانه محتجًا:
-اللي إنتي طالباه مني مش هيحصل.
لطمت على صدرها صائحة في استنكارٍ:
-يا نصيبتي!!!
ارتبك من صوتها المرتفع، وتلفت حوله ليتأكد من عدم متابعة أحدهم لحوارهما، لم تكن مثله تخشى من لفت الأنظار، بل قالت في تحدٍ مغيظ له:
-عاوز تفضح البت قصاد الخلق؟!!
عقب عليها في عنادٍ:
-وأغضب ربنا عشان أرضي الناس؟
زمت شفتيها متمتمة:
-ربنا غفور رحيم...
ثم لكزت جانب ذراعه تستحثه في تصميمٍ أشد:
-اللي يهمنا دلوقتي سمعة بنتنا، والكل واقف وشاهد.
أخبرها بمعارضة تفوق إصرارها:
-محدش فارق معايا من الناس.
هاجمته في تحفزٍ، وقد ارتفعت نبرتها إلى حدٍ كبير:
-يعني مش مكفيك عمايل أخوك؟ جاي تكمل عليها وقصاد أمة لا إله إلا الله؟
مجددًا التفت ورائه لينظر للحفنة المرابطة خارج مدخل البناية، كانوا لا يزالون منشغلين عنه، عاود النظر إلى "أفكار"، وقال بصوتٍ خفيض:
-هي بقت مراتي، واللي بينا مايصحش حد يعرفه!
أصرت عليه بلهجة من يقرر، رافضة النقاش أو حتى مراجعتها في الأمر:
-إلا دي بالذات، الكل هيتأكد من ختم ربنا، ولو مش ناوي تعمل ده بنفسك، يبقى تقف وتتفرج.
برزت عيناه في صدمةٍ، لم تتدعه لذهوله، وأكملت إملاء أوامرها عليه في حسمٍ:
-وما تعلقش، تاخد الأمارة وتفرح كل الموجودين.
توسلها في رجاءٍ:
-يا خالة آ...
قاطعته بلا تفهمٍ:
-ده اللي عندي!
رمقته بهذه النظرة الازدرائية قبل أن تهم بالصعود على الدرج، ليضطر في أسف أن يتبعها وهو مشفق تمامًا على زوجته التي ستختبر نوعًا شديدًا من المهانة، تلك التي لن تُمحى تفاصيلها من الذاكرة مُطلقًا!
..........................................
تكالبت عليها النساء، وأحطن بها من كل جانب لتثبيتها، فانتفضت، وثارت، وحاولت مقاومة تجريدهن لما يسترها. صرخت، واستغاثت، وارتفع صوت توسلاتها؛ لكن الكل سد أذنه عنها، تركوها تبكي بلا ذرة إشفاق منهن، حتى حينما جاء "عوض"، واستنجدت به، تجمد موضعه ولم يقدم لها العون، كان مثلهن شاهدًا على ســحق روحها. ضاقت أنفاسها، وتساقط عرق غزيز منها وهي تقاومهن، سرعان ما تشنج جسدها، وتقلصت عضلاتها، ارتعشت أكثر عندما قامت إحدى المتواجدات بالمباعدة بين ساقيها، صاحت بها من يُقال عنها أنها عمة زوجها تأمرها:
-اتني رجلك شوية يا عروسة.
لم تسهل عليها الأمر، وضمتهما بقوةٍ، لتحول دون وصولها إلى موطن سرها؛ لكن امرأة أخرى من أقارب زوجها عاونتها على فصل ساقيها. هتفت "فردوس" تلوم والدتها بحرقة تقطع نياط القلوب:
-هتسبيهم يامه يعملوا فيا كده؟
رأفةً بها، كادت "عقيلة" تتحرك تجاهها، وتوقف ما يفعلن، إلا أن شقيقتها منعتها، وأمسكت بها من رسغها ضاغطة عليه بقدرٍ من القوة، فاضطرت أن تقول في أسفٍ وهي تطأطأ رأسها خجلًا من خذلانها لها:
-على عيني يا ضنايا والله!
قامت عمة زوجها بسؤالها في شيءٍ من التحدي:
-خايفة من إيه يا عروسة؟ ده احنا جايين نخرس الألسن، ونوريهم البشارة.
أحست "فردوس" بالفزع يتولاها من كل جانب، بأنها تغرق في دوامة مظلمة، لا نجاة لها منها، صرخت عاليًا بصوت كان أقرب للبكاء، لعل وعسى تتخلى عن جمودها وتزيح هذه الأيادي عنها:
-غتيني يامه.
ارتفعت شهقاتها وامتزجت مع نهنهات بكائها عندما شعرت بيدٍ باردة قاسية، تتوغل بغير رحمة في دواخلها، لتقتحم قلاعها الحصينة بلا هوادة، انتفضت، وزاد تصبب العرق بها فأصبحت كخرقة مبتلة، أتبع ذلك توسلها المتسول لعطفٍ غير موجود في أي من الحاضرين:
-يا خالتي، حوشيهم عني.
تصنعت الضحك، كأنما بذلك تخفف من حدة الأمر عليها، وقالت وهي ترمقها بهذه النظرة الجادة:
-متخافيش يا بت، علقة تفوت ولا حد يموت.
وقتئذ اتجهت "فردوس" بنظراتها التائهة نحو "عوض"، حدجته بنظرة مليئة بالعتاب القاسي، فما كان منه إلا أن أخفض رأسه متحاشيًا عتابها الظاهر، فهمهمت داخلها، بصوتٍ تردد صداه بينها وبين جنبات نفسها:
-مش مسمحاك، إنت غدرت بيا زي أخوك!
صرخت مرات مستغيثة بأي أحدٍ، فما أغاثها مخلوق، الكل ساهم في إثبات براءتها من تهمة أدانها بها شرذمة من الناس، ممن يخوضون في الأعراض بافتراء وتدليس، فقط للقضاء على ملل وقت فراغهم الطويل.
في هذه اللحظات القـــــاتلة ودَّت بلوعةٍ لو كانت شقيقتها حاضرة، لكانت نعم السند لها، ولم تتردد لثانية في منع تلك الأيادي النجسة من المساس بها، آه لو بقت ولم ترحل! آه وألف آه!
..................................................
تُركت بمفردها في غرفة النوم بعدما انتُهكت خصوصيتها، وحصلت عمة زوجها على دليل النقاء والطُهر مصبوغًا في قطعة قماش بيضاء. ارتفعت بالخارج أصوات الزغاريد وملأت الأرجاء، حتى أنها فاقت في حدتها مثيلاتها في حفل الزفاف المتواضع. طوحت "أفكار" بقطعة القماش في الهواء مهنئة من حولها في فخرٍ عظيم:
-قولوا للحبايب يهيصوا، وللعوازل يفلفلوا .. بنتنا مافيش في أدبها ولا شرفها.
ردت إحدى السيدات الحاضرات في الصالة قائلة:
-عقبال ما نبارك نهار حبلها.
نظرت إليها ضاحكة وهي تقول:
-عن قريب إن شاءالله.
ثم وجهت كلامها إلى "عوض" الجالس في حزنٍ على مقعد شبه منزو:
-عريسنا يشد حيلته بس.
تعالت الضحكات العابثات والمخبئات خلف الأيادي الموضوعة على الفم، لتردد "عقيلة" بوجه لا يزال عابسًا:
-سيبوه يتهنى مع عروسته.
هتفت "أفكار" في اعتزازٍ وهي تحاول صرف الضيوف من المنزل بتهذيبٍ:
-نجاملكم في الفرح دايمًا يا حبايب.
عندئذ نهض "عوض" من مكانه عائدًا إلى زوجته التي كانت جالسة فوق الفراش، تولي ظهرها للباب، وتضم ركبتيها إلى صدرها بذراعين مرتجفين. صوت بكائها كان مسموعًا له، حز في قلبه رؤيتها هكذا، اقترب منها مبديًا ندمه وأيضًا تعاطفه:
-حقك عليا.
لم تنظر تجاهه، كانت تبكي في حرقة أشد، فواصل إخبارها بصدقٍ:
-والله حاولت أمنعهم، بس معرفتش.
تجرأ ليضع يده على كتفها، فانتفضت مع لمسته المباغتة لجسدها، وكأن مسًا كهربيًا لامسها، في التو زحفت بمرفقيها بعيدًا عنه، وصرخت به رغم ألمها:
-ماتقربش مني.
رفع كفيه في الهواء ليظهر لها حُسن نواياه، ومع هذا لم تبدُ متهاونة معه، حملته كامل اللوم عن كل ما جرى لها، فهدرت به بانفعال من بين بكائها المتحسر:
-منك لله إنت وأخوك، قهرتوني، وكسرتوا كل حاجة فيا، ربنا ينتقم منكم.
رمقها بنظرة مهمومة، فاستمرت على صياحها اللائم:
-عملت إيه فيكم عشان تهدوني بالشكل ده؟
هزت رأسها في استنكارٍ، واعترفت له في نزقٍ، غير نادمة عليه، لتجعله يزداد إشفاقًا بها:
-يا ريتني ما وافقت أتجوزك، يا ريتني!
......................................................
بعد أن ذاع الخبر، وعرف الجميع عن إصابته المفاجأة، تحول خارج غرفته بالمشفى الخاص إلى ما يشبه أحواض الزهور، فقد امتلأت الردهة بباقات مختلفة الأحجام والأنواع من الورود، كنوعٍ من إرسال التهنئة والمباركة على تماثل رجل الأعمال الشهير للشفاء من أزمته المرضية الأخيرة. لجأ "مهاب" للاستعانة بأفرادٍ من الحراسة المدربين لمنع دخول أي فرد لحجرته دون إذن مسبق منعًا لتطفل رجال الصحافة المزعجين، وكذلك لعدم إرهاقه بالزيارات الكثيرة. استاء "سامي" مما اعتبره تصرفًا فظًا، ولا يليق بمكانة العائلة، فعنفه في غرفة مدير المشفى الماكث بها:
-إنت مفكر نفسك مين عشان تتصرف كده؟
لم يرفع رأسه عن التقارير التي يراجعها، وخاطبه في برودٍ:
-اللي فيه الصح للباشا أنا هعمله.
اغتاظ "سامي" من عجرفته المستفزة، فطرق بقبضته المضمومة على السطح الزجاجي بعصبيةٍ جمة، ليدفعه على النظر إليه، حينها فقط هدر في صوت غاضب:
-إنت عارف مين أصلًا جاي يشوفه؟ دول وزراء، وكبار رجالة البلد.
تطلع إليه بنظرته المتعالية، وأردف في تساؤل غير مكترثٍ:
-وإيه يعني؟
استمر "سامي" في الهجوم عليه، فقال باحتقارٍ ظاهر على وجهه، وكذلك في نظرته إليه:
-شكل جوازك من البت الكحيانة دي غيرك وخلا مخك يفوت، فما بقتش عارف قيمة الناس اللي بنتعامل معاهم!
نهض "مهاب" قائمًا بعدما ترك ما فيه يده، وحذره بنظرة صارمة:
-ما بلاش تغلط!
ثم دار حول المكتب، وتقدم تجاهه حتى وقف قبالته، حينئذ تابع إنذاره له، وهو يضع كفه على كتفه:
-زعلي وحش يا "سامي".
نفض الأخير قبضته عنه في نفورٍ، وزمجر فيه بحقدٍ:
-نزل إيدك.
حدجه "مهاب" بنظرة مستخفة، ليردد بعدها بما أغاظه في الحال كعهده معه، وبهدوءٍ واضح:
-ممم .. قول إنك غيران مني عشان بعرف أعمل اللي أنا عاوزه، وإنت لأ.
صاح به في عصبيةٍ مستعرة:
-أنا مش "فؤاد" باشا اللي سهل تضحك عليه بكلمتين فيصدقهم.
سدد له نظرة هازئة قبل أن يسأله في سخريةٍ:
-طب ما إنت معاه طول الوقت، ليه معرفتش تكسبه في صفك؟
اندلع غضبه أكثر بداخله، وصاح فيه مغتاظًا:
-بلاش هلفطة، أنا أكتر واحد عارف وســــاختك، وألاعيبك، ولحد النهاردة أنا مش عاوز أدمرك، وعمال أداري عليك.
سخِر من محاولته غير الموفقة للمزج بين مواضيع شتى لإظهاره بمظهر الشخص الأهوج، الأرعن، وغير المسئول، ورغم ذلك قابل انفعاله المحتد بنفس البرود الهادئ حين رد:
-وإيه اللي منعك؟!
ناطحه الرأس بالرأس قائلًا بوجه محمومٍ بغضبه:
-ما تتحدانيش!
ضحك مستخفًا به، ليعلق بعدها:
-صدقني إنت اللي هتخسر مش أنا.
واصل "سامي" هجومه غير المبرر عليه زاعقًا في تعصبٍ:
-إنت ولا حاجة من غير لقب "الجندي"!
لم تتغير نبرته مُطلقًا وهو يخبره عندما سار عائدًا إلى المكتب مجددًا:
-صح، بس صدقني اسم "مهاب الجندي" برضوه معروف، حتى لو إنت عامل نفسك مش واخد بالك.
جمع "مهاب" التقارير المفرودة على سطح المكتب، واستعد للمغادرة، فسأله "سامي" بنبرته المتشنجة:
-إنت رايح فين؟ أنا مخلصتش كلامي لسه!
لاحت على زاوية فمه ابتسامة متهكمة، ليسترسل بعدها بتعالٍ صريح:
-بس أنا خلصت...
كاد على وشك النكاية به؛ لكنه أخرسه بإشارة من سبابته:
-مش عاوز أسمع حاجة تاني، بس يا ريت لما ترجع تتخانق معايا توطي صوتك، ما تنساش احنا في مستشفى، و"فؤاد" باشا مش هيكون مبسوط لما يسمع عن خناقنا هنا!
كظم "سامي" حنقه مرغمًا، وشيعه بنظرة نارية ثائرة في حدقتيه إلى أن انصرف، آنئذ كور قبضته في الهواء، وتوعده بين نفسه في كراهية لا تكف عن التعمق أكثر فيه:
-بكرة هتندم، وأنا عارف الطريقة إزاي
ما لم تفهمه حتى هذه اللحظة، هو إصرار رفيقه على ملازمتها كظلها ليل نهار، وكأن لا عمل له سواها هي وحدها، يبذل أقصى طاقاته للترفيه عنها، والترويح عن نفسها، فتنسى الفترة العصيبة التي مرت بها. استنكرت "تهاني" استغراقها في التفكير في شأنه أكثر من الحد المقبول، وكيف لها ألا تفعل وقد استحوذ على الفراغ الطويل المستبد بها بحضوره وتسليته في ظل غياب زوجها المستمر؟ لن تنكر أنه أظهر لها جانبًا من الاحترام، ذاك الذي تمنت أن يكون صادرًا من شريك حياتها المزعوم؛ لكن للأسف الأخير تعامل معها كوعاءٍ لإفراغ عواطفه بها، لا ككيان رقيق وهش، يحتاج للعناية والرعاية.
زجاجة العطر التي أهادها لها "ممدوح" بعد ليلة دافئة وعامرة بالاهتمام، كانت شاهدًا على الفارق بين الصديقين في المعاملة، نثرت "تهاني" رائحتها المثيرة على جسدها وهي مُسجاة على سريرها، استنشقت عبيرها الساحر بعمقٍ، حتى شعرت بها تُسكرها، تبسَّمت في مرارة، وخاطبت نفسها في ندمٍ:
-مش لو كنت صبرت شوية، كنت آ...
عجزت عن إكمال جملتها للنهاية، وكأن الكلمات تجمدت على طرف لسانها، فلم تستطع الإفلات من بين شفتيها، كان من غير الصواب أن تعقد مثل هذه المقارنة بينهما؛ لكنه من دفعها لذلك بتصرفاته القاســــية معها. تغلغلت الرائحة أكثر في رئتيها، فتذكرت كلام "ممدوح" معها وهو يستحثها على العودة لمتابعة دراستها مع وعده بتقديم كامل العون لها لتحقق ذاتها، جرفها ذلك الإغراء العلمي للتمسك بأملٍ جديد في عدم الاستسلام لحصار "مهاب" المهلك، عليها بمقاومته، فإذ ربما تظفر بأي شيء ينسيها خطئها.
...............................................
امتلأ السطح عن آخره بالمدعوين من الجيران والمعارف والأقرباء لحضور حفل الزفاف الشعبي، خاصة مع انتشار الشائعات والأخبار عن طبيعة هذه الليلة الخاصة، لكونها تمس سمعة وشرف إحدى قاطنات المنطقة. بدا الجميع متشوقًا لمشاهدة ما يحدث فور وقوعه، لذا كان الزحام غير عادي بالنسبة لعائلتين لا تملكان الكثير من الصلات القوية. شعرت "فردوس" وهي تجلس على المقعد الخشبي المبطن بقماش القطيفة الأحمر، مجاورة لزوجها الجالس على مقعد مماثل، بوجود خطب ما، فالأعين كلها مرتكزة عليها بشكل أرعبها، وكأنهم ينتظرون منها شيء ما زالت جاهلة به.
على قدر المستطاع تغاضت عن نظراتهم المزعجة، ورسمت هذه الابتسامة المسرورة على محياها، بالرغم من الارتباك الطبيعي الذي يساورها. مالت عليها والدتها، فانتشلتها من شرودها السريع حينما ربتت على كتفها في حنوٍ، نظرت إليها متسائلة بعينيها، فهمست لها في أذنها بتضرعٍ:
-ربنا يجعل ليلتك مبروكة، ويفرح قلبك يا ضنايا، إنتي صبرتي كتير.
ردت بنفس الابتسامة:
-يا رب.
اعتدلت "عقيلة" واقفة، واتجهت ببصرها نحو شقيقتها التي راحت تصفق بكلتا يديها في حماسٍ، وهي تخاطب من حولها:
-ساكتين ليه يا حبايب، زغرطوا كده، وإملوا الدنيا بهجة، خلي الكل يفرح ويتبسط.
أطلقت مثل النساء زغرودة عالية، قبل أن تدندن مع نغمات الأغنية الدائرة في الخلفية، بينما همهمت "عقيلة" بصوتٍ شبه حزين، وملتاع، كأنما تكلم نفسها:
-ياما كان نفسي أختك تبقى حاضرة معانا.
سمعت "فردوس" هذه الشكوى رغم اختلاطها بالصخب، فسألتها كنوعٍ من الاستعلام:
-ماتصلتش خالص يامه بعد ما بعتي جواب ليها؟
أجابتها بحزنٍ ما زال حيًّا بداخلها:
-لأ يا "دوسة"، زي ما تكون نسيتنا.
ردت مؤكدة عليها:
-مسيرها تكلمنا، ما إنتي عارفة لما بتحط دماغها في العلام والمذاكرة ما بتعرفش حد.
لم تكن مقتنعة تمامًا بتبريرها، وقالت في إنكارٍ:
-بس مش للدرجادي، هي في غربة، وبعيدة عننا.
قبل أن تضيف أي شيءٍ جاءت "أفكار"، وسحبت شقيقتها من ذراعها للجانب قائلة بوجه مبتسم على الأخير:
-وسعي ياختي شوية أما أكلم "دوسة" كلمتين.
طالعتها "فردوس" بغرابةٍ، وسألتها في قليلٍ من التوجس الحائر:
-خير يا خالتي؟
ظلت محتفظة ببسمتها الغامضة وهي تخبرها:
-بصي يا حبيبتي، إنتي عارفة غلاوتك عندي، وما بعملش إلا اللي فيه مصلحتك وبس، صح كلامي؟
أومأت برأسها مرددة:
-مظبوط.
تابعت خالتها حديثها بنفس الأسلوب الغامض:
-لما ليلتك تخلص على خير، عاوزاكي تنفذي اللي هقولك عليه بالحرف عشان نفرح بيكي كلنا.
سألتها بقلقٍ أخذٍ في التصاعد:
-في إيه؟
منحتها نظرة ذات مغزى، ورائها الكثير مما حيرها، قبل أن تجيبها بما لم يرحها أبدًا
-هتعرفي بعدين، بس اسمعي كلامي وإنتي تكسبي.
ثم قبلت فوق رأسها، قبل أن تعاود التصفيق والتهليل الفرح تاركة ابنة شقيقتها على وضعها الحائر المتخبط، تأكل رأسها الأسئلة والخواطر المزعجة.
..........................................
من المفترض أن ينصرف الضيوف بعدما ينتهي ذلك التجمع؛ لكن للغرابة ظل الغالبية حاضرين بالأسفل، متجمهرين أمام مدخل البناية، كما لو كانوا يترقبون حدوث شيء ما، لم تعلق "فردوس" على ذلك، وتغاضت عنه مثلما اعتادت أن تتغاضى عما يؤرقها مؤخرًا. هبطت الدرجات على مهلٍ، وساعدتها "إجلال" على رفع طرف ثوب عرسها لئلا تتعثر فيه، وتتعرقل على السلم. انتابها التوتر واختلط برهبتها من مجرد محاولة التفكير في تفاصيل ما سيأتي من ليلتها، لم توضح لها والدتها أي شيء، واكتفت بالقول الشائع عند العموم:
-جوزك فاهم وعارف هيعمل إيه.
وكأن في جهلها نعمة! لم تسعَ لاستنباط ما اعتبرته متجاوزًا ولا يليق الحديث عنه، طالما هي لا تزال عذراء. ضحكت "إجلال" وخاطبتها في مرحٍ:
-عاوزاكي بقى تدلعي يا "دوسة"، ده يومك النهاردة.
ردت عليها وهي تحاول النظر إليها من طرف عينها:
-ما توترنيش أكتر من كده.
ضحكت مجددًا، وأكدت لها بمحبة صافية نابعة من قلبها:
-هتعدي على خير، إنتي بنت حلال، و"عوض" أفندي راجل محترم وبيعرف في الأصول.
حادت ببصرها عنها محدثة نفسها في استياءٍ:
-وأنا أعرفه منين، ده زيه زي الغريب عندي.
سرعان ما انتشر الحزن على صفحة وجهها لتتابع حديث نفسها المهمومة، وقد دلفت من باب منزلها:
-منها لله اللي حرمتني من فرحتي الحقيقية!
........................................
الطريق إلى غرفة النوم الخاصة بالعروسين كان معروفًا، ومع ذلك لم تتركها والدتها أو خالتها بمفردها، بقيت كلتاهما معها وهي تنتظر جالسة على الفراش قدوم زوجها للانفراد بها، خجلت "فردوس" من تبديل ثوب عرسها، وارتداء هذا الزي الوردي الشفاف الكاشف لكل ما هو مشوق. شبكت كفيها معًا، ونظرت إليهما في استحياءٍ، أرادت أن تعتاد أولًا على وجوده، قبل أن تباشر طقوس هذه الليلة المميزة. بادرت "أفكار" بالكلام حينما ساد الصمت لوقتٍ، فقالت بجديةٍ غريبة رغم خفوت صوتها:
-الناس مستنية البشارة.
حدجتها "عقيلة" بنظرة محذرة قبل أن تردد في تجهمٍ عجيب، باعث على الاسترابة:
-مالوش لازمة نحكي فيه دلوقتي.
استغربت "فردوس" من حديثهما الغامض والموحي، شعرت أنه متعلق بها، وإلا لما بقيت والدتها على تكشيرتها تلك منذ مطلع النهار وحتى الآن، لم تترك نفسها لحيرتها، وتساءلت بقدرٍ من الشك:
-هو في إيه؟
انعكس التردد بشكلٍ واضح على وجه أمها، ألقت نظرة سريعة على شقيقتها التي بدت غير مبالية على الإطلاق بما يصير مع ابنتها، حولت ناظريها عنها، وحاولت التفسير لها، لكن الكلمات لم تسعفها، تعذر عليها إيجاد جملة مناسبة تستهل به بوحها بهذا الأمر العويص، لذا خرج صوتها مذبذبًا، مغلفًا بالاضطراب:
-بصي يا بنتي، إنتي لازمًا تبقي متأكدة إنه كلنا غرضنا نطمن عليكي، تكوني آ....
قبل أن تشرع في الشرح لها باستفاضة، قاطعتها قدوم إحدى السيدات المتشحات باللون الأسود من رأسها لأخمص قدميها، حيث اقتحمت الغرفة هاتفة بتهليلٍ:
-مبروك يا عروسة، إن شاءالله الكل يفرح بيكي وأهلك يرفعوا راسهم لفوق.
كانت المرأة غريبة كليًا عنها، لم ترها مسبقًا، ولا تذكر أنها التقت بها في أي مناسبة سابقة، كانت تعابير وجهها عابسة، نظراتها توحي بالإظلام، أحست بالخوف يتسرب إليها، ورغم ذلك غالبت شعورها الغريزي لتستنكر وجودها غير المسموح به هنا، لذا سألتها "فردوس" في استفهامٍ مشوب بالحيرة:
-إنتي مين؟ وبتعملي إيه هنا؟
لم تتمكن من الحصول على جوابها، حيث لحقت بها امرأة أخرى تماثلها في ارتدائها للثياب السوداء، وفي ضخامة الجسم، وكذلك الملامح الجادة المكفهرة، أمرتها الثانية في صوتٍ صارم، وهي تشير بيدها:
-افردي ضهرك كده يا عروسة.
انقبض قلبها خيفة منها، فنهضت واقفة لتوجه سؤالها إلى والدتها في توترٍ متزايد:
-مين دول يامه؟
شاركتها في الشعور بمشاعرها الخائفة، وحاولت بث الطمأنينة إليها، فقالت وهي تمسح على وجنتها:
-متخافيش يا ضنايا، دول هنا عشانك.
في التو انزوى ما بين حاجبيها، وعلقت متسائلة في خوف أكبر:
-عشاني؟ ليه؟
بلعت ريقها، وقالت وهي تنظر من فوق كتفها للمرأتين المنتظرتين في الخلف:
-دلوقتي هتفهمي.
صاحت المرأة الأولى تأمرها في صوتٍ غليظ:
-اسمعي الكلام يا عروسة عشان ننجز في ليلتنا الحلوة دي.
ارتاعت "فردوس" من طريقتها المريبة في التعامل معها، ناهيك عن تحيرها الكامل من سبب وجودها في غرفة نومها في مثل هذا اليوم، راح شعور الضيق يتسلل إليها، فالتفتت إليهما متسائلة في شيءٍ من الهجوم:
-إنتو عاوزين مني إيه؟
هنا تولت "أفكار" دفة الكلام، وأخبرتها في حنانٍ زائف:
-بصي يا "دوسة"، مش أنا فهمتك فوق إن في حاجات هنعملها بعد ما الزفة تخلص عشان فرحتك تكمل؟
استدارت ناظرة إليها، وقالت وهي تومئ برأسها:
-أيوه، بس مين دول برضوه؟
أجابتها بغموضٍ جعل داخلها يرتجف:
-دول اللي هيقطعوا لسان أي حد اتكلم بالسوء عنك.
استشعرت الخطر بين طيات حديثها المفزع، وسألتها بوجهٍ راحت الدماء تفر منه بالتدريج:
-يعني إيه؟
ألصقت بفمها هذه الابتسامة السمجة، وطلبت منها وهي تدفعها برفقٍ تجاه الفراش:
-اسمعي بس الكلام، وهتعرفي.
مرة ثانية استطردت المرأة الأولى مخاطبة "فردوس" بنفس الصوت الآمر:
-نامي على ضهرك يا عروسة.
اضطرت أن تستجيب لأمرها المريب، وتمددت على الفراش بعدما تزحَّفت للخلف لتريح ظهرها على عارضته الخشبية. افترقت المرأتان، وجلست كل واحدة منهما على طرف الفراش، فأصبحت "فردوس" محاصرة بينهما. مجددًا تكلمت المرأة الأولى تأمرها بصوتها الجاف:
-لما نبدأ سيبي نفسك وبلاش تتشنجي.
رمقتها بهذه النظرة الحيرى، قبل أن تدور بعينيها الزائغتين باحثة عن والدتها، نكست الأخيرة رأسها في خزي، فقد كانت لا حول لها ولا قوة، تقف بلا حراكٍ، تنتظر مثل البقية ما سيحدث. تكلمت المرأة الأولى في صيغة آمرة:
-نادوا على العريس.
تحركت "أفكار" من موضع وقوفها هاتفة في حماس غريب:
-أنا هاروحله.
اندهشت "فردوس" من برود خالتها، أنبأها حدسها بأنها على علم مسبق بما يجري، وأنها أرجأت إطلاعها على ذلك خوفًا من رفضها، اختفت "أفكار" قبل أن تتمكن من الاستفسار منها، لذا لم يكن أمامها سوى والدتها لتسألها في تخبطٍ مخيف:
-هو هيعملوا فيا إيه يامه؟
لم تجرؤ على النظر في عينيها، وإعلامها بما تم تقريره، ظلت تقول في شيءٍ من الأسى والتعاطف:
-مش عارفة أقولك إيه والله، بس نصيبك كده.
راحت تتصارع الهواجس المرعبة في رأسها بشكلٍ جعل بدنها يرتجف، زاد تلاحق دقات قلبها، حتى كلمات والدتها لها لم تكن مشجعة بالمرة، صاحت فيها مرة أخرى، كأنما تستنجد بها:
-يامه قوليلي بس، إنتو ناويين على إيه؟
تنهدت في مرارةٍ، وقالت بما ضاعف من هلعها:
-اصبري واستحملي.
استطردت المرأة الأولى تتساءل بجديةٍ:
-في حد من أهل العريس برا؟
جاء رد "عقيلة" مصحوبًا بإيماءة من رأسها:
-أيوه، عمته، وكام حد تبعه.
أمرتها في نبرة حازمة:
-خلي 2 منهم يجيوا معانا.
استبد بـ "فردوس" كل القلق، وتساءلت في فزعٍ بائن في صوتها، وأيضًا نظراتها:
-ليه كمان؟
امتثلت "عقيلة" لأمر المرأة، وسارت تجاه باب الغرفة، والحزن يشع من عينيها، بينما هدرت "فردوس" محتجة عندما شرعت المرأة في الإمساك بها من كتفها، كأنما تثبتها في موضعها:
-ابعدي إيدك عني، مكتفاني ليه؟
زادت من قوتها عليها، ثم أمرتها في نبرة غير متساهلة، ونظرة مخيفة تنبعث من حدقتيها:
-ريحي جتتك يا عروسة، احنا جايين نطمن عليكي ونطمن الحبايب كلهم!
قذف قلبها بقوةٍ عظيمة، فهتفت تستغيث بأمها وهي تحاول التخلص من قبضتها المحكمة عليها:
-يامه! إنتي هتسبيني معاهم؟
ردت دون أن تنظر تجاهها:
-جايلك على طول.
لم تهدأ خواطرها، ولم يستكين داخلها، بل بدا وكأن كل خوفها قد تجمع الآن ليزيد من فزعها، أصبحت "فردوس" الآن في موضع لا تُحسد عليه، تترقب بغير معرفة ما سيحدث لها.
.............................................
تمنى لو انشقت الأرض وابتلعته، فلا يكون ضليعًا في أمر مخزٍ كذلك، سعى "عوض" بشتى الطرق لإيقاف هذه الفعلة النكراء، ورغم كل جهوده المبذولة إلا أنه لم يفلح أمام طوفان إصرار "أفكار" العنيد، وكأنها اتخذت الأمر ثأرًا شخصيًا إرضاءً لحفنة من البشر، لا يهمهم سوى نهش أعراض الأبرياء، والنيل من سمعة الأنقياء. ظل باقيًا بالأسفل، رافضًا الصعود والمشاركة فيما يعرف به قبل وقت سابق، ادعى انشغاله بتوديع من جاء لتهنئته، محاولًا إضاعة الوقت؛ لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، حيث نادته "أفكار" من عند بداية سلم الدرج بصوت مرتفع، ومليء بالابتهاج، كما لو كانت تفتخر حقًا بكشف ستر لحمها:
-سي "عوض"، جماعتك مستنين جوا، عاوزينك تبشرنا.
تحرج كثيرًا من كلامها شبه الفاضح، والذي أتبعه ضحكات عابثة ممن يقفون حوله، تلاها تعليقات شبه متجاوزة، كنوعٍ من التحفيز له. ابتعد عنهم ليدنو منها، وعلى قسماته هذه التكشيرة الكبيرة، همس لها وهو يكز على أسنانه محتجًا:
-اللي إنتي طالباه مني مش هيحصل.
لطمت على صدرها صائحة في استنكارٍ:
-يا نصيبتي!!!
ارتبك من صوتها المرتفع، وتلفت حوله ليتأكد من عدم متابعة أحدهم لحوارهما، لم تكن مثله تخشى من لفت الأنظار، بل قالت في تحدٍ مغيظ له:
-عاوز تفضح البت قصاد الخلق؟!!
عقب عليها في عنادٍ:
-وأغضب ربنا عشان أرضي الناس؟
زمت شفتيها متمتمة:
-ربنا غفور رحيم...
ثم لكزت جانب ذراعه تستحثه في تصميمٍ أشد:
-اللي يهمنا دلوقتي سمعة بنتنا، والكل واقف وشاهد.
أخبرها بمعارضة تفوق إصرارها:
-محدش فارق معايا من الناس.
هاجمته في تحفزٍ، وقد ارتفعت نبرتها إلى حدٍ كبير:
-يعني مش مكفيك عمايل أخوك؟ جاي تكمل عليها وقصاد أمة لا إله إلا الله؟
مجددًا التفت ورائه لينظر للحفنة المرابطة خارج مدخل البناية، كانوا لا يزالون منشغلين عنه، عاود النظر إلى "أفكار"، وقال بصوتٍ خفيض:
-هي بقت مراتي، واللي بينا مايصحش حد يعرفه!
أصرت عليه بلهجة من يقرر، رافضة النقاش أو حتى مراجعتها في الأمر:
-إلا دي بالذات، الكل هيتأكد من ختم ربنا، ولو مش ناوي تعمل ده بنفسك، يبقى تقف وتتفرج.
برزت عيناه في صدمةٍ، لم تتدعه لذهوله، وأكملت إملاء أوامرها عليه في حسمٍ:
-وما تعلقش، تاخد الأمارة وتفرح كل الموجودين.
توسلها في رجاءٍ:
-يا خالة آ...
قاطعته بلا تفهمٍ:
-ده اللي عندي!
رمقته بهذه النظرة الازدرائية قبل أن تهم بالصعود على الدرج، ليضطر في أسف أن يتبعها وهو مشفق تمامًا على زوجته التي ستختبر نوعًا شديدًا من المهانة، تلك التي لن تُمحى تفاصيلها من الذاكرة مُطلقًا!
..........................................
تكالبت عليها النساء، وأحطن بها من كل جانب لتثبيتها، فانتفضت، وثارت، وحاولت مقاومة تجريدهن لما يسترها. صرخت، واستغاثت، وارتفع صوت توسلاتها؛ لكن الكل سد أذنه عنها، تركوها تبكي بلا ذرة إشفاق منهن، حتى حينما جاء "عوض"، واستنجدت به، تجمد موضعه ولم يقدم لها العون، كان مثلهن شاهدًا على ســحق روحها. ضاقت أنفاسها، وتساقط عرق غزيز منها وهي تقاومهن، سرعان ما تشنج جسدها، وتقلصت عضلاتها، ارتعشت أكثر عندما قامت إحدى المتواجدات بالمباعدة بين ساقيها، صاحت بها من يُقال عنها أنها عمة زوجها تأمرها:
-اتني رجلك شوية يا عروسة.
لم تسهل عليها الأمر، وضمتهما بقوةٍ، لتحول دون وصولها إلى موطن سرها؛ لكن امرأة أخرى من أقارب زوجها عاونتها على فصل ساقيها. هتفت "فردوس" تلوم والدتها بحرقة تقطع نياط القلوب:
-هتسبيهم يامه يعملوا فيا كده؟
رأفةً بها، كادت "عقيلة" تتحرك تجاهها، وتوقف ما يفعلن، إلا أن شقيقتها منعتها، وأمسكت بها من رسغها ضاغطة عليه بقدرٍ من القوة، فاضطرت أن تقول في أسفٍ وهي تطأطأ رأسها خجلًا من خذلانها لها:
-على عيني يا ضنايا والله!
قامت عمة زوجها بسؤالها في شيءٍ من التحدي:
-خايفة من إيه يا عروسة؟ ده احنا جايين نخرس الألسن، ونوريهم البشارة.
أحست "فردوس" بالفزع يتولاها من كل جانب، بأنها تغرق في دوامة مظلمة، لا نجاة لها منها، صرخت عاليًا بصوت كان أقرب للبكاء، لعل وعسى تتخلى عن جمودها وتزيح هذه الأيادي عنها:
-غتيني يامه.
ارتفعت شهقاتها وامتزجت مع نهنهات بكائها عندما شعرت بيدٍ باردة قاسية، تتوغل بغير رحمة في دواخلها، لتقتحم قلاعها الحصينة بلا هوادة، انتفضت، وزاد تصبب العرق بها فأصبحت كخرقة مبتلة، أتبع ذلك توسلها المتسول لعطفٍ غير موجود في أي من الحاضرين:
-يا خالتي، حوشيهم عني.
تصنعت الضحك، كأنما بذلك تخفف من حدة الأمر عليها، وقالت وهي ترمقها بهذه النظرة الجادة:
-متخافيش يا بت، علقة تفوت ولا حد يموت.
وقتئذ اتجهت "فردوس" بنظراتها التائهة نحو "عوض"، حدجته بنظرة مليئة بالعتاب القاسي، فما كان منه إلا أن أخفض رأسه متحاشيًا عتابها الظاهر، فهمهمت داخلها، بصوتٍ تردد صداه بينها وبين جنبات نفسها:
-مش مسمحاك، إنت غدرت بيا زي أخوك!
صرخت مرات مستغيثة بأي أحدٍ، فما أغاثها مخلوق، الكل ساهم في إثبات براءتها من تهمة أدانها بها شرذمة من الناس، ممن يخوضون في الأعراض بافتراء وتدليس، فقط للقضاء على ملل وقت فراغهم الطويل.
في هذه اللحظات القـــــاتلة ودَّت بلوعةٍ لو كانت شقيقتها حاضرة، لكانت نعم السند لها، ولم تتردد لثانية في منع تلك الأيادي النجسة من المساس بها، آه لو بقت ولم ترحل! آه وألف آه!
..................................................
تُركت بمفردها في غرفة النوم بعدما انتُهكت خصوصيتها، وحصلت عمة زوجها على دليل النقاء والطُهر مصبوغًا في قطعة قماش بيضاء. ارتفعت بالخارج أصوات الزغاريد وملأت الأرجاء، حتى أنها فاقت في حدتها مثيلاتها في حفل الزفاف المتواضع. طوحت "أفكار" بقطعة القماش في الهواء مهنئة من حولها في فخرٍ عظيم:
-قولوا للحبايب يهيصوا، وللعوازل يفلفلوا .. بنتنا مافيش في أدبها ولا شرفها.
ردت إحدى السيدات الحاضرات في الصالة قائلة:
-عقبال ما نبارك نهار حبلها.
نظرت إليها ضاحكة وهي تقول:
-عن قريب إن شاءالله.
ثم وجهت كلامها إلى "عوض" الجالس في حزنٍ على مقعد شبه منزو:
-عريسنا يشد حيلته بس.
تعالت الضحكات العابثات والمخبئات خلف الأيادي الموضوعة على الفم، لتردد "عقيلة" بوجه لا يزال عابسًا:
-سيبوه يتهنى مع عروسته.
هتفت "أفكار" في اعتزازٍ وهي تحاول صرف الضيوف من المنزل بتهذيبٍ:
-نجاملكم في الفرح دايمًا يا حبايب.
عندئذ نهض "عوض" من مكانه عائدًا إلى زوجته التي كانت جالسة فوق الفراش، تولي ظهرها للباب، وتضم ركبتيها إلى صدرها بذراعين مرتجفين. صوت بكائها كان مسموعًا له، حز في قلبه رؤيتها هكذا، اقترب منها مبديًا ندمه وأيضًا تعاطفه:
-حقك عليا.
لم تنظر تجاهه، كانت تبكي في حرقة أشد، فواصل إخبارها بصدقٍ:
-والله حاولت أمنعهم، بس معرفتش.
تجرأ ليضع يده على كتفها، فانتفضت مع لمسته المباغتة لجسدها، وكأن مسًا كهربيًا لامسها، في التو زحفت بمرفقيها بعيدًا عنه، وصرخت به رغم ألمها:
-ماتقربش مني.
رفع كفيه في الهواء ليظهر لها حُسن نواياه، ومع هذا لم تبدُ متهاونة معه، حملته كامل اللوم عن كل ما جرى لها، فهدرت به بانفعال من بين بكائها المتحسر:
-منك لله إنت وأخوك، قهرتوني، وكسرتوا كل حاجة فيا، ربنا ينتقم منكم.
رمقها بنظرة مهمومة، فاستمرت على صياحها اللائم:
-عملت إيه فيكم عشان تهدوني بالشكل ده؟
هزت رأسها في استنكارٍ، واعترفت له في نزقٍ، غير نادمة عليه، لتجعله يزداد إشفاقًا بها:
-يا ريتني ما وافقت أتجوزك، يا ريتني!
......................................................
بعد أن ذاع الخبر، وعرف الجميع عن إصابته المفاجأة، تحول خارج غرفته بالمشفى الخاص إلى ما يشبه أحواض الزهور، فقد امتلأت الردهة بباقات مختلفة الأحجام والأنواع من الورود، كنوعٍ من إرسال التهنئة والمباركة على تماثل رجل الأعمال الشهير للشفاء من أزمته المرضية الأخيرة. لجأ "مهاب" للاستعانة بأفرادٍ من الحراسة المدربين لمنع دخول أي فرد لحجرته دون إذن مسبق منعًا لتطفل رجال الصحافة المزعجين، وكذلك لعدم إرهاقه بالزيارات الكثيرة. استاء "سامي" مما اعتبره تصرفًا فظًا، ولا يليق بمكانة العائلة، فعنفه في غرفة مدير المشفى الماكث بها:
-إنت مفكر نفسك مين عشان تتصرف كده؟
لم يرفع رأسه عن التقارير التي يراجعها، وخاطبه في برودٍ:
-اللي فيه الصح للباشا أنا هعمله.
اغتاظ "سامي" من عجرفته المستفزة، فطرق بقبضته المضمومة على السطح الزجاجي بعصبيةٍ جمة، ليدفعه على النظر إليه، حينها فقط هدر في صوت غاضب:
-إنت عارف مين أصلًا جاي يشوفه؟ دول وزراء، وكبار رجالة البلد.
تطلع إليه بنظرته المتعالية، وأردف في تساؤل غير مكترثٍ:
-وإيه يعني؟
استمر "سامي" في الهجوم عليه، فقال باحتقارٍ ظاهر على وجهه، وكذلك في نظرته إليه:
-شكل جوازك من البت الكحيانة دي غيرك وخلا مخك يفوت، فما بقتش عارف قيمة الناس اللي بنتعامل معاهم!
نهض "مهاب" قائمًا بعدما ترك ما فيه يده، وحذره بنظرة صارمة:
-ما بلاش تغلط!
ثم دار حول المكتب، وتقدم تجاهه حتى وقف قبالته، حينئذ تابع إنذاره له، وهو يضع كفه على كتفه:
-زعلي وحش يا "سامي".
نفض الأخير قبضته عنه في نفورٍ، وزمجر فيه بحقدٍ:
-نزل إيدك.
حدجه "مهاب" بنظرة مستخفة، ليردد بعدها بما أغاظه في الحال كعهده معه، وبهدوءٍ واضح:
-ممم .. قول إنك غيران مني عشان بعرف أعمل اللي أنا عاوزه، وإنت لأ.
صاح به في عصبيةٍ مستعرة:
-أنا مش "فؤاد" باشا اللي سهل تضحك عليه بكلمتين فيصدقهم.
سدد له نظرة هازئة قبل أن يسأله في سخريةٍ:
-طب ما إنت معاه طول الوقت، ليه معرفتش تكسبه في صفك؟
اندلع غضبه أكثر بداخله، وصاح فيه مغتاظًا:
-بلاش هلفطة، أنا أكتر واحد عارف وســــاختك، وألاعيبك، ولحد النهاردة أنا مش عاوز أدمرك، وعمال أداري عليك.
سخِر من محاولته غير الموفقة للمزج بين مواضيع شتى لإظهاره بمظهر الشخص الأهوج، الأرعن، وغير المسئول، ورغم ذلك قابل انفعاله المحتد بنفس البرود الهادئ حين رد:
-وإيه اللي منعك؟!
ناطحه الرأس بالرأس قائلًا بوجه محمومٍ بغضبه:
-ما تتحدانيش!
ضحك مستخفًا به، ليعلق بعدها:
-صدقني إنت اللي هتخسر مش أنا.
واصل "سامي" هجومه غير المبرر عليه زاعقًا في تعصبٍ:
-إنت ولا حاجة من غير لقب "الجندي"!
لم تتغير نبرته مُطلقًا وهو يخبره عندما سار عائدًا إلى المكتب مجددًا:
-صح، بس صدقني اسم "مهاب الجندي" برضوه معروف، حتى لو إنت عامل نفسك مش واخد بالك.
جمع "مهاب" التقارير المفرودة على سطح المكتب، واستعد للمغادرة، فسأله "سامي" بنبرته المتشنجة:
-إنت رايح فين؟ أنا مخلصتش كلامي لسه!
لاحت على زاوية فمه ابتسامة متهكمة، ليسترسل بعدها بتعالٍ صريح:
-بس أنا خلصت...
كاد على وشك النكاية به؛ لكنه أخرسه بإشارة من سبابته:
-مش عاوز أسمع حاجة تاني، بس يا ريت لما ترجع تتخانق معايا توطي صوتك، ما تنساش احنا في مستشفى، و"فؤاد" باشا مش هيكون مبسوط لما يسمع عن خناقنا هنا!
كظم "سامي" حنقه مرغمًا، وشيعه بنظرة نارية ثائرة في حدقتيه إلى أن انصرف، آنئذ كور قبضته في الهواء، وتوعده بين نفسه في كراهية لا تكف عن التعمق أكثر فيه:
-بكرة هتندم، وأنا عارف الطريقة إزاي