اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل الثالث عشر 13 بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل الثالث عشر 13 بقلم منال سالم


لفصل الثالث عشر
(نهاية الحلم الوردي)
طريق الحب الوعر معه لم يكن قد امتلأ بالندوب والجراح فقط، بل تضمن كسر الروح، تحطيم المشاعر، وفَطر القلوب. لم تشفع توسلاتها، ولم يمنعه بكائها الحارق من التوقف عن ممارسة أساليب خسته اللا آدمية معها، للمرة الأولى تكتشف جانبه المظلم، بل الأكثر إظلامًا على الإطلاق، ما فاق حدود تخيلها. عجزت "تهاني" عن صد هجماته النهمة الآكلة لكل ما هو إنساني بداخلها، استحقرت نفسها، واشمئزت مما عايشته معه. بعد وقتٍ ظنت أنه لن يمضي أبدًا، انتهى "مهاب" من الظفر بليلة جامحة، وحشية، ولا يُمكن نسيانها، نهض قائمًا بعدما ترك زوجته مقيدة إلى عارضة الفراش، وآثار ما بدا أشبه بضربات السياط تلهب كامل جلدها، لم يترك فيها بقعة إلا وجعلها تصرخ من الألم، وكأنه يشبع ذلك النزعة الســـــادية المستحوذة عليه.
فرغ من استحمامه دون أن يكلف نفسه عناء حل قيدها، أبقى عليها على تلك الحالة للإمعان في إذلالها أكثر، تقدم منها وهو يصفف شعره الرطب بيده قائلًا في استمتاع مريض:
-دي مجرد قرصة ودن صغيرة ليكي عشان لو جه في بالي تتعدي حدودك.
حاولت رفعت وجهها المبلل بدموعها لتنظر إليه، فآلم ذلك رقبتها، ومع ذلك صاحت فيه ببكاءٍ مقهورٍ:
-إنت مش بني آدم.
ضحك في تسلية عظيمة، ثم جلس مجاورًا لها، ليمد يده ويمسد على شعرها قائلًا:
-عارف.
نفرت منه بشدةٍ، وجاهدت لتبعد رأسها عن ملمس يده؛ لكنها لم تستطع، انتفضت بذعرٍ عندما خفض يده ليلامس عنقها، كانت عاجزة تمامًا عن منعه من فعل أي شيء يريده، تسلى وانتشى برؤيتها تتلوى بغير مقدرة على صده، ما إن اتلف أعصابها بمداعباته المؤذية لها حتى تكلم هامسًا بالقرب من أذنها، ليزيد من سحق كبريائها:
-أنا رايح عند الحلوة اللي ضايقتك، هجيبهالك هنا.
نجح في إصابة هدفه، فسرت في دمائها دفقات من الغل الحارق، مما جعلها تثور وتزأر في تشنج:
-إنت مجنون! شخص مريض!
انحنى عليها ليقبل كتفها قائلًا بنبرة معاتبة، وهذا العبوس الزائف يملأ محياه:
-كده أزعل منك، بعد الحب اللي اديتهولك؟
أصابها الغثيان والتقزز من تودده إليها، صرخت به رافضة طريقته تمامًا:
-ماتلمسنيش!
سرعان ما سقط قناع البرود من على ملامحه ليعود إلى شراسته هادرًا بها، وقد قبض بيده على فكها ضاغطًا عليه بقسوة:
-مش واحدة زيك هتديني أوامر!
انخرطت في بكاءٍ جديد، أشد حرقة، وأعلى صوتًا، فأرخى أصابعه قليلًا، وشملها بهذه النظرة الغريبة، وكأنه يظهر تعاطفًا غير محسوسٍ لها، ليضيف في هدوء بما استفزها:
-بس تعرفي، شكلك وإنتي متعصبة تحفة ومغري.
حدجته بهذه النظرة المقيتة الكارهة، فاستقبلها بترحاب غريب، وراح يتلمس الندوب الملتهبة التي تركها على ظهرها بأطراف أصابعه في رقةٍ مناقضة لوحشيته وهو يخاطبها:
-يشجع الواحد إنه آ...
زاد من وتيرة إيقاظ هلعها ببتر عبارته، ليجعل الخواطر المخيفة تدور في رأسها، فيتضاعف استمتاعه بمشاهدتها تعاني هكذا، ظل تأثيره طاغيًا، يصيبها بكل ما هو منفر، وهو لا يزال يستنزف طاقاتها بأساليبه الملتوية والمراوغة، إلى أن رن الهاتف الأرضي، حينئذ توقف عن اللعب معها قائلًا في ضيق طفيف:
-حظك، التليفون هيعطلني شوية عنك، بس راجعلك تاني!.
ضم شفتيه ليرسل لها قبلة في الهواء قبل أن ينهض متجهًا إليه، رفع السماعة من موضعها، وألصقها بأذنه متسائلًا بصوتٍ جاد:
-ما الأمر؟
أتاه الرد في صوتٍ متوترٍ:
-سيدي، نعتذر عن إزعاجك في هذا التوقيت، لكن تم استدعائك لعملية جراحة عاجلة في مشفى (...)، والطبيب "بيدرو" أصر على حضورك.
سلط "مهاب" نظراته الغامضة على زوجته، وقال على مضضٍ رغم عدم رضائه:
-حسنًا، سأحضر في الحال.
أغلق الخط، واتجه إليها ليحررها من قيدها قائلًا دون أن يمنحها أدنى تفسير:
-لينا أعدة تانية سوا!
احتضن وجهها الغارق بدموعها براحتيه، أبعد خصلات شعرها الملتصقة به للجانبين، وخاطبها بلهجة لا تمزح:
-نصيحتي ما تزعلنيش تاني، وخلينا حلوين سوا.
ودَّت لو بصقت في وجهه لتشعره بمدى وضاعته واحتقارها الشديد له؛ لكنها كانت تعلم أن ذلك سيزيد الأمر سوءًا، ولن تنال إلا ما يؤلمها فقط، لذا اكتفت بكظم غضبها، وحدجه بهذه النظرة الساخطة، فربت على وجنتها بخفةٍ قبل أن يتركها لحال سبيلها ويمضي بعيدًا عنها مكملًا ارتداء ملابسه. ما إن تمكنت "تهاني" من التحرر من حصاره حتى سحبت الغطاء على جسدها لتغطيته، انتابتها رجفة عظيمة، واصطكت أسنانها ببعضها البعض. همهمت بصوتٍ خافت للغاية وهي تراقبه بعينين مشبعتين بحمرة واضحة ناتجة من شدة حنقها:
-حيوان، قــذر!
غادر "مهاب" وهو يدندن بصافرة خفيضة، فتضاعفت رجفتها أكثر، وراحت تلطم على صدغيها متسائلة في حسرة ووجع:
-أنا إيه اللي عملته في نفسي ده؟!
طاحت أحلامها بمستقبل باهر، وذهبت أدراج الرياح، وتحولت أمانيها إلى هباءٍ منثور. احتل مخيلتها في هذه اللحظة طيفًا باهتًا لوجه والدتها الحزين، تألم قلبها وتمزق لبُعدها عنها، كم رجت لو كانت معها فارتمت في حضنها، لتحس بشعور الأمان المسلوب منها! لكن كيف لها أن تخابرها وتخبرها بما صار معها وهي المذنبة من الأساس؟ ألم تتجاهل حتى الاتصال بها لتُعلمها بما انتوت على فعله؟ أليست هي من أصرت على ذلك الارتباط مهما كانت العواقب طمعًا وراء زهوة المال، ونشوة السلطة؟ كلما تذكرت كيف صدقت أكاذيب هذا المخادع المحنك في اصطياد ضحاياه لعنت سذاجتها وسطحيتها! فواحدة مثلها كان من المفترض أن تنتبه أكثر إليه؛ لكنها سقطت في شباكه كالغبية، وها هي تتجرع الكأس المرير بلا شفقة! ضربت أعلى رأسها بكفيها وهي تردد في ندم:
-طب هاقول لأهلي إيه؟
.............................................
راحت سكرة الحب، وجاءت الصحوة الصادمة، فما ظنت أنها أيام السعادة والهناء انقضت بلا رجعة، وحل محلها التعاسة والشقاء. تسترت "تهاني" بثيابها، ومع ذلك شعرت بأنها مجردة من كل شيء، وكيف لها ألا تشعر بذلك وكرامتها قد دعست وسحقت بين شقي الرحى؟ انتظرت عودته بصبرٍ شبه فارغ، تركها لهواجسها فتنهش منها. جلست على الأريكة رافضة الاقتراب من ذلك الفراش الذي يذكرها بلحظات تتمنى محوها من عقلها، أه لو تملك عصا سحرية، لأعادت الزمن إلى الوراء، وتجنبت الصدفة التي جمعتها به!
جاء "مهاب" متأخرًا، شبه مرهق من تمضية ليلة مشحونة بالعمل، ورغم هذا لم يكن في مزاج متكدر، بل بدا مستمتعًا للغاية، وتضاعف استمتاعه حين رأى زوجته جالسة في موضعها بجمودٍ، وهذه النظرة النارية تنتفض في عينيها. ابتسم في استفزازٍ، وسألها ساخرًا وهو يطوف بناظريه عليها:
-مش معقولة تكوني مستنياني لحد دلوقتي؟
هتفت في تصميم ظاهر بقوة في صوتها وقد قامت وافقة لتواجهه:
-أنا عاوزة أطلق!
بخطواتٍ متمهلة دار حولها، وحدجها بهذه النظرة المستخفة قبل أن يخبرها وهي يجلس مكانها:
-وقت لما أزهق منك.
التفت إليه تصرخ في وجهه بتعصبٍ، دون أن تقترب منه، وأصابعها تشتد وتلتف معًا لتشكل قبضة متشنجة:
-خلي عندك كرامة وطلقني.
نظر لها مليًا، بعينين حادتين كالصقر، لا يظهر فيما سوى البرود تام، داعب طرف ذقنه بإصبعيه، وسألها مستنكرًا بلهجةٍ مالت أيضًا للاستهزاء بها:
-قبل شهر العسل ما يخلص؟ ده حتى عيب!
ازداد صراخها به، كادت تهجم عليه لتفرغ فيه شحنة غضبها المستعرة بداخلها تجاهه؛ لكنها تمالكت نفسها في اللحظة الأخيرة، وكبحت ثورتها، ومع ذلك خرج صوتها محتجًا:
-إنت مصدق كدبك ده؟
وسَّد ذراعيه خلف رأسه وهو يغوص في المقعد أكثر ليقول بجمودٍ، ونظراته مسلطة عليها:
-طالما مبسوط، فمش فارق معايا.
تقدمت ناحيته، حتى أصبح ما يفصلها عنه مسافة خطوة، نظرت له باحتقارٍ كبير، وصاحت في اعتراضٍ ناقم وهي تلوح بيدها في الهواء:
-إنت مش خدت اللي عاوزه مني؟ سيبني لحال سبيلي.
اعتدل في جلسته، ثم أمسك بها بغتة من معصمها، فارتعدت فرائصها وقاومت شده لها، ارتسمت على شفتيه هذه البسمة وهو يخاطبها بتلذذٍ:
-ده احنا لسه في الأول يا حلوة.
ارتفع صوتها وهي تجاهد لانتشال يدها من قبضته المحكمة عليها:
-ابعد إيدك.
عن عمدٍ، وبخشونةٍ كذلك، سحبها بقوةٍ أكبر ليُسقطها في حجره، ثم أحاطها بذراعيه، فعجزت عن الفكاك من قبضتيه المقيدتين لحريتها، ظلت تتلوى بجسدها في عجزٍ يائس، فضحك بتسلية وهو يراها كالفأر الذي وقع في المصيدة، اقترب بفمه نحو منحنى عنقها، وهمس لها بأنفاسٍ شعرت بحرارتها تلفح بشرتها المرتجفة:
-ينفع كده نبوظ ليلتنا واحنا لسه عرسان جداد؟
أظهرت اشمئزازها العارم منه، قاومت تودده الكريه إليها، وحاولت إبعاد وجهها عنه وهي ترد بانفعال:
-أنا مش طيقاك.
تشبث أكثر بها، وقال بفحيحٍ جعل قلبها يهوى في قدميها:
-وأنا عاوزك لسه!
................................................
لم يرغب في القيام بهذا الأمر سرًا ودون علمها، اتبع أسلوب البر معها، وأخبرها بالحسنى عن نيته في الزواج بـ "فردوس" عبر مكالمة دولية طارئة، فما كان من والدته إلا أن اعترضت عليه بشدة، معتبرة إياها زيجة مشؤومة وغير موفقة بالمرة، أبدت رفضها القاطع لإتمام ما يريده ابنها البكري بقولها الصريح:
-يعني أخوك مصدق يخلص منها، وإنت رايح تورط نفسك معاها؟
برر لها إصراره على إكمال هذه الزيجة:
-بصلح اللي عمله.
جاء صوتها كالصراخ وهي ترد عليه:
-هو لحق يعمل حاجة؟ ده كتب كتاب بس!
اختطف نظرة سريعة نحو من هم بالقرب منه معتقدًا أنهم سمعوا ما قالته؛ لكن لم يكن أحد منتبهًا لما يدور بينهما، فالكل مشغول بهمومه وأثقاله. أخبرها بعد زفير سريع:
-أهي اتحسبت جوازة على الغلبانة دي.
أتاه صوتها مهددًا:
-طب قسمًا بالله يا "عوض" لو اتجوزتها لا إنت ابني ولا أعرفك.
رغم الصخب والضوضاء المحيطين به إلا أنه حاول صمَّ أذنيه عما حوله ليركز معها، احتج على تعنتها غير المقبول قائلًا بضيقٍ:
-حرام عليكي يامه، بلاش كده.
أكدت عليه بتصميمها المتزمت:
-هو ده اللي عندي.
ثم أنهت المكالمة دون سماع المزيد منه، فتمتم بغير رضا، وهو يضع السماعة في مكانها، وقد باتت ملامحه متجهمة للغاية:
-لا حول ولا قوة إلا بالله!
...........................................
أنهكها بمتطلباته النهمة لما يرضيه هو، فلم تتمكن من منعه أو إيقاف جوعه العاطفي، تألمت أكثر، وتأذت، وأصبح ما ظنت أنه الحب العاصف مجرد وصمة عــار تذكرها دومًا بجريمتها في حق نفسها. كانت تبكي في الحمام بلا صوتٍ، رفضت أن تظهر بمظهر الضعف قبالته، فخنوعها يُمتعه، وانكسارها يُسليه. تصلبت يديها على حافة الحوض عندما سمعته من الخارج يأمرها:
-جهزي نفسك عشان هنرجع النهاردة...
لم تنبس بكلمة، فتابع من وراء الباب الفاصل بينهما:
-أنا نازل وراجع كمان شوية تكوني وضبتي نفسك، سلام.
ظلت على صمتها ودموعها الحارقة تنساب بغزارة. سرت بها رجفات متواترة من الخوف فور سماعها لصوت غلق الباب الخارجي، رفعت رأسها ببطءٍ، وتأملت ملامحها الذابلة في المرآة، تذكرت كيف كان وجهها يشرق بالأمل والإصرار قبل أن ترتبط به، إذًا ما الذي حدث لتُعمى بصيرتها عن رؤية قبحه المنفر، أهو حمق الحب الذي دفعها للهاوية؟ أم أنها بسبب أطماعها ألقت بنفسها في بئر الجحيم؟ نكست رأسها في خزيٍ، وتركت العنان لصوت بكائها ليخرج ممزوجًا باعترافها النادم:
-يا ريتني ما وافقت، يا ريتني!
...........................................
حين كان غافيًا بجوارها في الطائرة، تأملت قسماته عن كثبٍ، كيف لها ألا ترى جانبه المريض؟ انزاح الساتر الذي غطى على صوت العقل، وأصبحت ترى حقيقته البشعة بوضوح، بدا في عينيها وكأنه انجذب ناحيتها فقط إشباعًا لغرائزه، لا لتوق مشاعره، أدركت وقتئذ أنها أساءت الاختيار، ويا له من اختيار مميت! قضى عليها في ريعان شبابها، ولم يترأف بها. أبعدت مقلتيها عنه وهما تلمعان بالدموع. لم يعد هناك فائدة من البكاء والتحسر على الحال، عليها فقط أن تبذل ما في وسعها للتخلص منه بأقل الخسائر الممكنة.
لاذت بالصمت غالبية الوقت، وتحركت كإنسان آلي ليوجهها، حتى استقل كلاهما السيارة للعودة إلى منزله، إلى حدٍ كبير فاق ما كانت تتخيله، كانت موقنة أنه ثري؛ لكن ليس بمثل هذه الدرجة، فقد كان بيته المتواضع –كما يسميه- أشبه بفيلا صغيرة، مستأجرة، لها حديقتها الخاصة، ومحاطة بأسوارٍ عالية، مفروشة بالجديد والفاخر من الأثاث، ومملوءة بالكثير من التحف والأنتيكات. أحست بانقباض صدرها وهي تطأ البهو بقدميها، بهجة العروس الفرحة ببيتها كانت مفقودة، هي جاءت إلى هنا تنفيذًا لرغبته، لا عن طواعية منها. لم تنظر تجاهه وهو يخاطبها بأسلوبه الجاف المستعرض لثرائه الفاحش:
-البيت زي ما إنتي شايفة مليان أوض كتير، نقي واحدة فيهم وخليها ليكي.
همَّت بالتحرك بحثًا عن غرفة ملائمة، وبعيدة عنه كل البعد؛ لكنه استوقفها بقوله الفج والموحي بما أشعرها بالاحتقار:
-ووقت لما أعوزك هتيجي عندي.
استنفرت حواسها، واستدارت تحدجه بنظرة عدائية وهي تخبره باسمة باستهجانٍ:
-طب ما تطلقني أسهل، حتى علشان تاخد راحتك في بيتك أكتر، بدل ما أبقى ضيفة تقيلة عليك.
دنا منها قائلًا بتسليةٍ:
-لما يجيلي مزاج!
كادت تتحرك مرة ثانية؛ لكنه أمسك بها من ذراعها ليشدها إليه قائلًا بوقاحةٍ مغلفة بالإهانة:
-إنت دورك هنا ما يزدش عن كونك واحدة بتلبي طلباتي وبس.
نظرت له شزرًا قبل أن تهتف في تحفزٍ:
-قول إنك متجوز خدامة.
احتضن ذقنها بيده، وقال في نبرة معاتبة هازئة منها:
-إنت أرقى من كده يا دكتورة.
أحست بأصابعه تشتد على فكها، كما لو كان يعتصره، ارتجف قلبها عندما همس لها بنبرة ذات مغزى، ونظرة وضيعة تنطلق من عينيه إليها:
-والصراحة، أنا لسه ما شبعتش منك!
كزت على أسنانها مدمدمة بلا صوتٍ:
-حقير.
داعب بإبهامه وجنتها متكلمًا:
-وعشان تعرفي إني مديكي قيمتك، هرجعك تاني معايا المستشفى.
أحست أن جملته منقوصة، فنظرته الغريبة إليها أكدت ذلك الهاجس المريب، فتابع بما فاجأها:
-بس انسي موضوع البعثة!
استطال وجهها في صدمة جلية، وهتفت محتجة على الأخير، وكأنه سلب الشيء الوحيد الخاص بها:
-أنساه إزاي؟ ده مستقبلي!
مجددًا اشتدت قبضته على فكها فتألمت من قساوته، قرب وجهها منه، ونظر إليه بنظرة متملكة نفذت إليها مرددًا بتسلطٍ:
-ما يلزمنيش طالما إنتي معايا.
رغم الألم الذي ينتشر في فكها، خاطبته بخوفٍ:
-إنت كده بتخسرني أهم حاجة اتغربت بسببها.
لم يكن مكترثًا بذلك، وعلق باسمًا:
-قصادي مافيش حاجة تسوى.
حدجته بنظرة نارية مشتعلة على الأخير، ارتخت أصابعه قليلًا عن فكها وهو يستأنف كلامه:
-شرف ليكي إنك تبقي مراتي.
ما لبث أن غلف صوته التهديد وهو يخبرها في أذنها:
-وأحسنلك ما تزعلنيش، بدل ما أخسرك كل حاجة!
طبع قبلة على وجنتها قبل أن يبعد شفتيها ليودعها متبسمًا بابتسامة مغيظة:
-سلام يا .. دكتورة.
كلمته الأخيرة كانت أقرب إلى إهانة عنها إلى تقدير، بصقت خلفه بعدما انصرف، وهسهست بكره آخذٍ في الازدياد:
-ربنا يريحني منك.
الخوف من خسارة ما كابدت لتحقيقه مرة واحدة جعلها تبدو أكثر اضطرابًا وتخبطًا، فكل شيء بات على وشك الضياع ما لم تحسب حسبتها جيدًا.
............................................
لم يعتد طوال حياته على مخالفة مبادئه، ولا حتى على إسكات صوت ضميره اليقظ، مهما اشتدت الصعاب وتعقدت، لأجل إرضاء أهواء الآخرين، دومًا كان يفعل ما يؤمن به، وما في الخير لغيره، لهذا رغم تهديد والدته الصريح رفض الانصياع لرغبتها، وأكمل في الطريق الذي اختاره لنفسه. التزم بالحضور في الموعد المتفق عليه في بيت عائلة "فردوس"، التقى بأمها وخالتها في الصالة، فسألته الأخيرة بتحفزٍ بائن في نبرتها قبل نظرتها إليه:
-نويت على إيه يا "عوض"؟
أجابها بصوتٍ ثابت بعد لحظاتٍ من السكوت:
-كتب الكتاب والدخلة هيكونوا سوا، وهنعمل حاجة على الضيق، وبعدها نطلع على البيت عندي.
تهللت أسارير "أفكار"، وتبادلت مع شقيقتها نظرة سعيدة للغاية، ثم صاحت في حماسٍ، وكأن روحها عادت إلى جسدها:
-على خيرة الله، أهي دي البشاير ولا بلاش.
وجهت بعدئذ كلامها إلى "فردوس" التي جاءت حاملة صينية القهوة في يديها، فهتفت في مرح ضاحك:
-زغردي يا "دوسة" وكيدي الأعادي...
ارتفع صوت ضحكتها على النقيض مع عبوس ابنة شقيقتها، استأنفت بعدئذ جملتها المبتهجة، فاستطرد وهي تشير بيدها:
-ولا أقولك شيلي القهوة دي وبلي الشربات يا حبيبتي.
لم تستجب لها، وأسندت الصينية أمام الضيف، لترد بسحنة مقلوبة:
-مش عاوزة.
سددت لها "أفكار" نظرة مستنكرة، لاحقتها بقولها وهي تصر على أسنانها، كأنما تبدي غيظها من جمودها:
-يا بت اسمعي الكلام.
تدخل "عوض" قائلًا بتهذيبٍ، وهو شبه خافض لنظراته:
-سبيها على راحتها يا حاجة.
أثرت "فردوس" الذهاب؛ لكن منعتها "عقيلة" مضيفة بتعبيرٍ صارم، وهي ترمقها بنظرة آمرة:
-سيبك من اللي في إيدك، واقعدي معانا يا "فردوس".
على مضض استجابت لأمرها، واستقرت على الأريكة المجاورة لأمها، وبعيدًا عن مرمى بصر "عوض"، كأنما بهذا تبدي اعتراضها الضمني على الزواج به. ساد الصمت بين أربعتهم، وكأن مخزونهم من الحديث قد نضب، مما استدعى "أفكار" للتصرف بشيءٍ من المكر، أشارت بنظرة مفهومة لشقيقتها طالبة منها النهوض وهي تستطرد:
-أما نقوم نجهز السفرة...
كانت "فردوس" على وشك الوقوف؛ لكنها أشارت لها لتجلس مخاطبة إياها:
-خليكي إنتي مع عريسك.
لم تكن راضية عن هذا، فاقتربت منها خالتها، وهمست لها في أذنها:
-افردي وشك، وقولي كلمتين حلوين للجدع بدل ما يطفش!
احتدت نظرتها إليها، واكتسى وجهها بأمارات الضيق، ومع ذلك لم تستطع منع نفسها من التعبير عن مكنونات صدرها، انتظرت ابتعاد والدتها مع خالتها، وراحت تكلم "عوض" بنزقٍ:
-إنت واخدني شفقة أنا عارفة.
تفاجأ بما قالته، فنظر ناحيتها، وحاجباه معقودان، أنكر اتهامها في التو:
-لا يا بنت الناس، ده مش طبعي.
سألته مستفهمة بغير تصديقٍ:
-أومال طلبت تتجوزني بعد ما أخوك رماني ليه؟
أتى رده بسيطًا للغاية، ونابعًا من داخله:
-عشان شايف فيكي ست البيت الأصيلة!
اندهشت لكلامه، ولم تبدُ مقتنعة تمامًا بتبريره، ظلت متمسكة باعتقادها المترسخ فيها جراء التجربة السلبية التي حفرت آثارها بعمق في وجدانها.
......................................
على الجانب الآخر، أرهفت "أفكار" السمع محاولة التنصت على "فردوس"، والتقاط ما تخاطب به عريسها من موضع وقوفها في الزاوية، توجس قلبها خيفة من احتمالية إفساد هذه الحمقاء المتهورة للأمر، فهي لم تقبل به في البداية لترتضي به في النهاية. سرعان ما أفصحت عن مخاوفها لشقيقتها، فخاطبتها في نبرة قلقة:
-بقولك إيه، ما تنادي على البت تساعدنا هنا بدل ما تعك الدنيا مع الراجل برا.
نظرت لها بتشككٍ، فأكدت لها حينما أخبرتها:
-بصي عليهم كده وإنتي تعرفي أنا خايفة ليه.
تحركت من مكانها لتنظر إليهما بحذرٍ، رأت كيف تبدو ابنتها متحفزة بشدة، كأنما تتصيد الأخطاء له، شاركتها في توترها، وهتفت توافقها:
-دي بوزها شبرين، ومش طايقة حد!
دون إضاعة الوقت، اتجهت "عقيلة" للخارج واضعة على محياها ابتسامة زائفة، ثم طلبت منها في وداعة غريبة:
-تعالي يا ضنايا رصي الأطباق معايا.
استغربت "فردوس" من عودة والدتها إليها، ومع ذلك قالت في طاعة، كما لو كانت قد وجدت المهرب لها من جلستها غير المستحبة إليها:
-طيب.
...........................................
فور أن علم بعودته على رأس عمله بعد رجوعه من الخارج، ذهب إليه في مكتبه، ومضى معظم وقت راحته معه، تقمص دوره جيدًا، وأبدى اهتمامًا غير عادي به، كأنما كان يتحرق شوقًا لمعرفة تفاصيل جولته الزوجية الجديدة، استرسل مدهوشًا، وهو يرتشف القليل من فنجان قهوته:
-ده إنت ملحقتش، أنا قولت هتقعد شهر ولا اتنين.
قال بغموضٍ محير، وهو يزين وجهه ببسمة ظافرة:
-كفاية كده.
غمز له "ممدوح" بطرف عينه معلقًا في خبثٍ عابث:
-شكل البطة البلدي كانت تستاهل.
ضحك مستمتعًا ليؤكد له ما ظنه مرددًا:
-من الناحية دي، أيوه!
صفق له كنوعٍ من الإثناء على مهاراته في الإيقاع بها، وتابع
-عقبال كل آ.. بطة.
ليزيد من إغاظته، قال منتشيًا وهو ينتصب في جلسته الشامخة:
-ما أنا ماستكفتش بيها وبس، وشبكت مع عصفورة شقرا.
كان "ممدوح" بارعًا للغاية في التغطية على ما يشعر به بقناع الهدوء وعدم المبالاة، رغم يقينه بأنه يتعمد قول ما يستفزه، وما يشعره دائمًا بأنه صاحب الأفضلية والأسبقية في كل شيء، لذا جاراه في استعراضه المتفاخر، ومط فمه في إعجابٍ معقبًا عليه:
-مابتضيعش وقت، أستـــاذ!
..............................................
أدرك بصفاء كامل أن ما تمنى حدوثه على وشك الوقوع الآن، عليه فقط أن يكون مرتب الأفكار، وأكثر إقناعًا وهو يبوح لوالده بما أجرم به شقيقه، ليقصيه من منزلته المفضلة لديه في قلبه، ويعتليها هو بلا أدنى عناء. بمكر الثعالب ودهائهم شرع "سامي" في تنفيذ خطته مسترسلًا في وصف ما نما إليه من معلومات صادمة وضعت العائلة في موقف مشين، وشبه مخزٍ، حقق ما كان يصبو إليه حينما انفجر السيد "فؤاد" هادرًا في تعصبٍ غاضب:
-تبعت تقوله يجي فورًا هنا، يسيب أي حاجة عنده ويرجع.
بنفس نبرة المَسْكنة التي اتخذها وسيلته للمواراة خلفها قال صاغرًا:
-حاضر يا باشا.
تأمل الانفعال الذي أصبح عليه، فأطرق رأسه، وتابع في خبثٍ ليزيد من شحنه ضده:
-أنا مكونتش عاوز أعرفك يا بابا، بس حاجة زي دي مابتستخباش!
استثاره بأقواله اللئيمة، فهدر في تعصبٍ أكبر:
-اتهبل في مخه عشان يجيب حثالة من الشارع يعملها مراته؟!
رد عليه مستنكرًا، وليضمن ملء صدره بالأحقاد ضده:
-وكان عامل نفسه بينصحني وهو قاصد يرمي نفسه في الوحل.
استشاط غضبًا على غضب، وهدر يأمره بغير تهاونٍ:
-مش عاوز أسمع كلمة زيادة، تعمل اللي أمرتك بيه وخلاص.
هز رأيه معقبًا في صوت مطيع، وشيطانه يرقص طربًا بداخله:
-تمام يا "فؤاد" باشا.
.................................................
حسبما تراءى لها بعد استغراق عميق في التفكير، وهي تجلس في منزله أنها لم تتخذ أي احتياطات منذ اللحظة الأولى لتجنب الحمل منه، ومن المفترض أنها تعد العُدة الآن للتخلص منه، انقبض قلبها، وأخذت تلوم نفسها بتعنيفٍ غليظ وهي تضرب مقدمة جبينها:
-أنا إزاي مفكرتش في ده، لازمًا أعمل حسابي.
ارتعشت "تهاني"، ورأت كيف ترتجف أطرافها في خوف غريزي، دارت حول نفسها مرددة في تصميم مشوب بالقلق الشديد:
-بس محتاجة أتأكد الأول.
وضعت يديها المضمومتين إلى صدرها، شعرت بتسارع نبضات قلبها، حاولت السيطرة على مشاعرها المتذبذبة وهي تستمر في مخاطبة نفسها:
-ربنا يستر وما يحصلش اللي في بالي!
........................................
لتقطع الشك باليقين، كان أول ما قامت به فور عودتها لاستئناف العمل بنفس المشفى مع من تبغض، هو إجرائها لاختبار الحمل في سريةٍ تامة، لم تنكر أنها حاولت على مدار الأيام السابقة حينما كان يشرع في ممارسة طقوس الحب الحميمية معها تجنب الاتصال المباشر، لعلها بذلك تحد من شكوكها المرعبة، ومع ذلك بقيت هواجسها قائمة. استغلت وقت انشغاله في غرفة العمليات، بالذهاب إلى المعمل، وتولت بنفسها الأمر، ثم انتظرت بترقبٍ شديد النتائج.
للغرابة ظلت "تهاني" تتلقى التهنئات والمباركات ممن تعرفه وممن لا تعرفه في مكتبها، حتى أصبح ممتلئًا عن آخره بعشرات من باقات الورد، وهذا ما لم تتوقعه، خاصة مع اكتشافها لحقيقته المؤسفة، ظنت أنها ستكون نكرة بالنسبة له، لن يجعل أحدهم يعلم بمسألة ارتباطهما الرسمية، بدا من الصعب عليها فهم ما يخططه في رأسه، بقيت معظم الوقت شاردة، واجمة، في حالة من الخوف. لم تنصرف في وقت باكر، فقد أبلغها زوجها بمغادرته للقاء واحد من الوفود الطبية الأجنبية بأحد الفنادق، مما استحثها على البقاء، واكتشاف النتائج ليلًا.
أسرعت بالذهاب إلى المعمل حتى تتمكن من الإطلاع عليها، اتسعت عيناها في صدمة عظيمة وقد قرأت فحواها، دق قلبها بقوةٍ، وهتفت تكلم نفسها في ارتياعٍ:
-أكيد ده وهم، استحالة ...
تقطعت أنفاسها، وتلعثمت وهي تنهي عبارتها المنقوصة:
-أنا .. حامل!
انفلتت منها شهقة أقرب إلى الصراخ عندما التفَّ بغتة حول خصرها ذراعًا قوية، أحاطتها بتملك، وألصقتها في التو بصدر أحدهم، استدارت كالملسوعة للجانب بوجهها لتنظر إلى من ضمها هكذا، فوجدته "مهاب" بوجهه المبتسم في شرٍ صريح، اجتاحتها موجات من الخوف، والهلع، أحست بقدميها تتحولان لهلامٍ، وكأنها على وشك فقدان وعيها، برزت عيناها أكثر في محجريهما، وداهمها الفزع حينما أراح رأسه على كتفها ليخاطبها في صوتٍ شديد الهدوء لكنه باعث على الشعور بالهلاك الحتمي
-طب مش كنتي تقوليلي يا دكتورة عشان أبقى معاكي في اللحظة دي ....................


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close