اخر الروايات

رواية لعنة الخطيئة الفصل الثالث عشر 13 بقلم فاطمة احمد

رواية لعنة الخطيئة الفصل الثالث عشر 13 بقلم فاطمة احمد 

الفصل الثالث عشر : نوبة.
__________________
توقفت السيارة أمام باب منزلها فرفعت رأسها من على زجاج النافذة ونظرت له بشرود ممتزج بالحسرة ثم تنهدت وترجلت منها، نظرت للسائق الذي لم يتزحزح من مكانه بتعجب فشرح لها بنبرة جادة :
- البيه طلب مني استناكي هنا ومتحركش من مكاني لحد ما تخلصي.
تأففت نيجار بضيق وغادرت أما هو فاِتصل بشقيقه فاروق وأخبره بأنه فعل المطلوب فقال له الآخر :
- ماشي يا محمد وزي ما نبهتك لو صفوان جه اتصل بيا فورا.
- تمام مع ان المفروض انا مسؤول ع الهانم الصغيرة بس وبجيبها وبوديها ايه اللي يخليني سواق لمرات آدم بيه.
برطم محمد وهو يزفر شاكيا ليردعه فاروق :
- ديه أوامر آدم بيه مينفعش تعترض وبعدين هو احتاجك في الموضوع ده لمرة واحدة بس ومش هتتكرر ... يلا سلام دلوقتي.
*** بمجرد فتحها الباب ودخولها للبهو الواسع رفعت رأسها ممررة عينيها على كل ركن في السرايا لتنتبه لها سلمى التي كانت على الدرج فشهقت بذهول وهرعت راكضة إليها بينما تنادي ببهجة :
- ماما تعالي شوفي نيجار جت لعندنا.
عانقتها بقوة مرددة كلمات الشوق وبادلتها نيجار بهدوء ثم أزاحتها عنها مبتسمة فأمسكت سلمى يديها بعدم تصديق مرددة :
- انا مش مصدقة انك جيتي وأخيرا احنا حاولنا كتير نتواصل معاكي بس مقدرناش ... قوليلي انتي عامله ايه ازاي سمحلك آدم تجيلنا احنا كنا خايفين عليكي اوي.
جاءت جميلة وابتسمت ببهجة محتضنة إياها :
- حبيبتي وحشتيني ووحشتينا كلنا الحمد لله انك بخير قلقتينا عليكي اوي يابنتي.
ابتعدت عنها متفحصة إياها وتحولت ملامحها للتوجس عند رؤية لاصق طبي صغير على جبينها فشهقت بريبة :
- ايه اللي حصلك مين عمل فيكي كده ... اوعى يكونو ضاربينك !
طالعتها هذه الأخيرة هاتفة ببرود أذهلها :
- وحضرتك كنتي متخيلة انهم هيرمو عليا الورد مثلا ؟
تدخلت سلمى مشيرة لهما بالجلوس والحديث فتنهدت نيجار وتحركت معهما حتى جلست على إحدى المقاعد وقابلتها زوجة عمها باِستفهام :
- احكيلي عامله ايه وعايشة معاهم ازاي بيعملو فيكي ايه احنا كنا خايفين عليكي واتصلنا بيكي اكتر من مرة ولما مقدرناش نوصلك فهمنا انهم خدو تلفونك منك.
- لا مخدوهش آدم اللي كسره بس انتو اول ما معرفتوش تتواصلو معةيا استسلمتو ومرجعتوش سألتو عني صح ؟
ألقت عليها سؤالها بجمود لتجيب عليها جميلة بغرابة :
- طبعا سألنا عليكي وسلمى حبت تجيلك بس حكمت منعت حد مننا يدخل لبيتها ولما صفوان كلم آدم عشانك قاله انك بقيتي مراته والأفضل ننساكي.
همهمت بعدم اكتراث وصمتت لتنظر لموضع جرحها قليلا ثم همست متوجسة :
- جوزك اللي ضربك كده صح ؟
تحسسته نيجار متذكرة مافعلته معها السيدة حكمت البارحة وردت بتجاهل :
- لأ مش هو ... انا طالعة لأوضتي شويا.
تركتهما جالستان بحيرة منها حتى تمتمت سلمى بإحباط :
- باين انها لسه شايلة مننا عشان جوزتوها لـ آدم ديه مرضتش تبصلي في وشي حتى شوفي حالتها عامله ازاي ياريت لو معملناش كده.
زجرتها جميلة بضيق :
- اومال كنتي عايزانا نعمل ايه نبعتك انتي لبيت الصاوي وياخدو تارهم مننا بيكي ! سيبك من الكلام ده واتصلي بأخوكي يجي علشان يشوفها.
دلفت نيجار لغرفتها السابقة واتجهت مباشرة للخزانة وأخرجت حزمة من القماش ملفوفة بشريط أحمر ثم جلست على السرير وفتحتها بشوق فظهرت قطع بينها منديل زهري دفنت أنفها به لتشم رائحته بعمق متأوهة :
- ريحتك لسه موجودة عليه يا ماما أنا كنت خايفة تروح ومرجعش اشمها ...
طبعت قبلتها عليه بشفتين مرتعشتين ثم انتقلت لمجموعة الصور المرصوصة فوق بعضها بعناية بعضها كانت تجمعها مع والديها في طفولتها وبعضها في مراهقتها مع أمها فقط بعد وفاة أبيها، كانت السعادة تشع من وجوههم وضحكاتهم وملامحها هي لطيفة ومبتهجة... وبريئة.
فكرت نيجار بهذا الشيء لوهلة ثم مررت اصبعها على وجه والديها متمتمة بشجن وحنين :
- وحشتوني اوي كل لحظة معاكو وحشتني أنا لأول مرة بحس بفراغ ووحدة رهيبة للدرجة ديه كنت فاكرة اني ممكن اقدر اعوض فراغ غيابكو بوجود مرات عمي واخواتي بالرضاعة لدرجة اني صدقت الفكرة ديه بس اكتشفت اني ولا حاجة.
نزلت دمعتها فسارعت لمسحها مستطردة :
- أنا مش زعلانة من صفوان ووالدته هما مهما حبوني مش هيكون نفس حبهم لبنتهم الحقيقية طبيعي يفضلوها عليا ... لكن فكرة ان مفيش حد متمسك بيا وبدافع عني وجعاني جدا لو انتو لسه عايشين مكنتوش سمحتو اروح كبش فدا ... لو عايشين انا مكنتش هدخل في اللعبة ديه اصلا.
قابلها الصمت الطبيعي فتنهدت بحرقة وبقيت تتأمل في صورهم حتى طُرق الباب ودخل صفوان بلهفة مناديا إياها :
- نيجار !
هرع إليها وجذبها نحوه ليعانقها قائلا :
- انتي كويسة عامله ايه ازاي الندل إياه سمحلك تزورينا.
ردت عليه بإقتضاب ريثما تخفي بقايا دموعها :
- طلبت منه يسمحلي اجي وهو وافق بس لازم امشي دلوقتي لأنه منبه عليا عشان متأخرش.
لملمت محتويات الحزمة وأغلقت عليها فأوقفها صفوان مستفسرا بتعجب :
- طب استني شويا انا جاي ع ملى وشي عشان أشوفك معقول تسيبينا بسرعة وتمشي ... اقعدي جمبي كده.
أخذت نيجار مكانا بجواره على مضض وصمتت طالعها صفوان وضغط على كف يدها متمتما :
- على فكرة احنا مكناش ناسيينك زي انتي ما فاكرة على العكس سألنا عنك وقلقنا عليكي بس واضح ان ابن سلطان كان بيكيد فيا علشان كده منعك تكلمينا ومنعنا احنا نتواصل معاكي ... أنا فكرت اكتر من مرة اتهجم عليه واداهم بيته او اكلم العمدة بس ساعتها هيقولولي انك بقيتي مراته ومليش حق احشر نفسي مع اتنين متجوزين.
لم تُبدِ أية رد فعل وبقيت متجهمة وعابسة فتنهد وأدار وجهها إليه متابعا :
- أنا مستحيل اتخلى عنك صحيح جوزناكي ليه بس انتي عارفة اننا اضطرينا نعمل كده ... ردي عليا انتي عامله ايه معاه متقوليش انه بيضربك او...
قاطعته نيجار بنزق :
- وهتعمل ايه لو قولتلك ضربني وأهانني هتسحبني من إيدي وتقولي مفيش رجعة لبيته انا هطلقك منه !
إرتبك صفوان لهنيهة وأخفض رأسه ثم عاد وحدق بها مجيبا :
- انا مبقدرش اعمل ده دلوقتي الظروف مبتسمحليش الصلح مرهون بالجوازة ديه لو طلقك هيرجع يهاجمنا بطريقة مباشرة واحنا لسه مش مستعدين بس أوعدك اول ما اقف على رجليا هبعده عنك استحملي كام شهر بس.
إبتسمت وطالعته مستنكرة :
- كام شهر ؟ انا فاكرة انك قولتلي استنى اصبر كام يوم وارجعك ودلوقتي بتقولي استحمل كام شهر ياترى المرة الجاية هتقولي استني عليا كام سنة ولا تقولي ده بقى نصيبك خلاص ولازم ترضي فيه.
- لا انتي مش هتكملي معاه بصي انا خدت قرض من واحد معرفة وبدأت في صفقة كبيرة لو نجحت فيها التجار هيتكاترو عليا وينسو آدم فهو هيضعف وتقل مكانته وساعتها انا هكون الطرف الأقوى واقدر اطلقك منه.
والكلام ده محدش بيعرفه غيري أنا وناس في الشغل قريبة مني ومحدش هيسمع بيه لأن لو الخبر وصل لإبن سلطان وعرف انا متعاون مع مين هنقع فمشكلة لانه اكيد مش عايزني ارجع منافس ليه.
هتف صفوان مدافعا عن نفسه ومطمئنا إياها بما يتأمل حدوثه لتضعف عزيمة نيجار ويقل غضبها منه بعدما أدركت بأنه إن لم يستطع إعادتها لحياتها القديمة فعلى الأقل هو يفكر بها ... بقيت متجمدة مكانها ليبتسم الآخر ويحضنها مرددا عليها وعوده حتى انتهت زيارتها وعادت إلى سرايا الصاوي.
صعدت للطابق العلوي وتوجهت إلى غرفتها تحت أنظار حكمت التي أوقفتها ملقية كلماتها عليها :
- رجعتي من بيت الشياطين ياترى اتفقتو ع ايه المرة ديه وابن عمك وصاكي تعملي ايه تقولي آدم بالسم ولا الخنق ولا ... تضربيه بسكينة.
لم تجب عليها وكادت تكمل طريقها فأوقفتها مجددا :
- متغتريش بنفسك أوي كده ومتفتكريش ان حسابك هيكون مجرد تنظيف للبيت أنا لو عليا اطلع بروحك بس لازم أصبر عشان مضيعش اللي تعبت عليه سنين.
رشقتها حكمت بكره نضح من عينيها بوضوح وجزت على أسنانها هاسّة بحقد :
- اول ماعرفت ايه اللي عملتيه مع آدم كان نفسي احرقك انتي وعيلتك في نار واحدة وحفيدي كان هيعمل كده فعلا لولا الظروف مسمحتلناش وقتها..
بس بوعدك يابنت الشرقاوي اني اضيق الحياة عليكي واخليكي تتمني الموت ولا تطوليه عشان تعرفي انك لعبتي مع ابن سلطان اللي كانت تتهزله رجالة بشنبات وريس عيلة الصاوي.
أنهت تهديدها وتوقعت أن تصمت ولا تجادلها كعادتها لكن نيجار خالفت ظنونها واِبتسمت متمتمة :
- حقك تنتقمي مني مش هقول ليه بس في الأول انتي حددي مين اللي هتنتقميله حفيدك آدم ولا آدم الصاوي.
قطبت حكمت حاجباها مقتضبة فتابعت هذه الأخيرة برفعة حاجب متلاعبة :
- يعني انتي كل مرة بتفضلي تقولي ابن سلطان ابن اكبر تاجر والحفيد الوحيد لعيلة الصاوي ف انا مبقتش متأكدة لو زعلك كان عليه هو نفسه لأنه كان هيموت ولا على سمعة العيلة اللي هتتشوه لو حد عرف ان في واحدة غدرت بيه وطعنته.
شهقت من وقاحتها ورفعت يدها كي تقبض على تلابيب فستانها فأمسكتها نيجار باصقة كلماتها بتهكم حاد :
- انا لو مكانك عمري ماكنت هلاعب حد عزيز عليا واجبره يعمل حاجات غصب عنه عشان منصب طمعانة فيه مش انتي أقنعتي آدم يتجوزني عشان ميخسرش مكانته عند العمدة ومضطرة تستحملي وجودي عشان مصالحك اه اقصد عشان مصلحة حفيدك فبصراحة مبقتش عارفة مين اللي بيستغله فعلا أنا ولا حضرتك.
ثم غادرت تنهب الأرض نهبا تاركة وجهاً اِمتقع بغل من تلك الوقحة سليطة اللسان ...
___________________
في مكان آخر.
بينما كان يُشرف على أمور المزرعة ويساعد عُماله في تنظيف الإسطبل جاء إليه فاروق وبرفقته شخص ما فبادره بالإستفسار :
- عملت اللي قولتلك عليه ؟
هز رأسه بإيجاب :
- أيوة يا آدم بيه انا روحت لأرض صفوان بيه واستغليت غيابه وشوفت الحال عامل ازاي.
- ولقيت ايه.
- كانو بيشتغلو ع الجزء المحروق من البساتين وطلعو كلام بأن شغله هيرجع زي الأول وكمان أنا قدرت اسحب الكلام من واحد بعرفه وقالي سمع ان صفوان بيه خد قرض كبير وهيساعد نفسه بيه.
- هو خد قرض من البنك يعني ؟
- لا يا بيه قال انه استلفه من واحد صاحبه حب يساعده.
استمع آدم لكلماته بتركيز مفكرا في هوية هذا الشخص الذي أعطى له قرضا يكفي لإصلاح الأرض وبدء العمل عليها من جديد وهل هذا السبب الذي جعله يمتلك الشجاعة حتى يعقد صفقات مع تجار كبار، حسنا ربما هو يبالغ في تقدير الأمور ربما تلقى مساعدة من صديق بشكل إعتيادي لكن هل هذا يفسر إنسحاب التاجر عيسى من شراكته مع آدم الصاوي ويذهب لعقدها مع صفوان ؟
دلك آدم صدغيه لثوان وأشار للرجل بالمغادرة ثم قال لفاروق :
- عايزك تسأل ع الشخص اللي ساعد ابن عيلة الشرقاوي وتشوفلي هو مين لأني مش مستريح للموضوع ده.
أومأ مطيعا أوامره :
- ماشي يا آدم هعمل اللي بقدر عليه ... صحيح مراتك احم اقصد نيجار هانم رجعت للبيت من شويا محمد وداها وجابها زي ما أمرت.
حدق فيه بإمتعاظ من إلقائه لقب الزوجة على تلك المرأة ورغم ذلك لم يتكلم فهي زوجته فعلا شاء أم أبى والله وحده يعلم عمَّ تكلما هي وإبن عمها الوغد وأي خطة شيطانية تعاونا عليها ...
___________________
فتحت باب الشرفة لتراقب مشهد الغروب ورغم برودة الجو الإعتيادية بما أن موسم الشتاء على الأبواب إلا أن سماء هذا اليوم كانت صافية إلا من بعض كُتل الغيوم الصغيرة وهذا ماجعلها تعجب خاصة أن مزاجها اليوم يعتبر جيدا بسبب إسترجاعها للحزمة التي تحمل ذكرياتها مع والديها ...
وقفت نيجار على أعتاب الشرفة تتأمل المنظر أمامها كان الأشجار التي تمتد على طول الطريق تتكللها ثمار التفاح الامعة، وأغصان الأشجار الأخرى التي كادت تفقد جميع أوراقها تتشابك منحنية ومتراصة مثل القبة...
بينما شعت السماء عند نهاية الطريق موشاة بألوان الغروب وكأنها نافذة مستديرة مخرّمة تقع عند آخر الممر وكان هذا المنظر كفيلا بجعلها تمدح شيئا واحدا في هذا المبنى وهو أنها موجودة في غرفة ذات إطلالة هائلة تشتت أفكارها السوداوية ولو قليلا.
ضربتها نسمة باردة على حين غرة فرفعت نيجار وجهها مستقبلة إياها ببسمة حتى سمعت مناداة أم محمود لها فمطت شفتها ببلادة وخرجت إليها لتقول الأخرى :
- لمؤاخذة معلش تجي تساعديني تحت انا مش ملحقة ع الطبيخ وهما طالبين شاي دلوقتي.
- ماشي.
نزلت نيجار للمطبخ ووضعت أكواب الشاي على الصينية وتوجهت للصالة حيث تجلس حكمت مع حفيديها وعندما رآها آدم تجهم بشكل واضح وأشاح وجهه لكنها تجاهلت تصرفه وانحنت حتى تقدم له الكوب غير أن الجدة صاحت عليها بنقمة :
- انتي مين طلب منك تعمليه وتجيبيه لهنا ! يا ام محمود انتي فين تعالي.
سمعتها الخادمة وركضت لها فورا لتوبخها حكمت :
- انا كام مرة قولتلك البت ديه متقربش ناحية الطبيخ ولا ناحية اللي بنشربه ايه مبتفهميش.
شحب وجهها بخوف وأجابتها :
- لـ لا أنا ... أنا مكنتش ملحقة و...
قاطعتها بصوت أعلى وأشد قسوة :
- مش عايزة اسمع تبريراتك ديه آخر مرة تخليها تلمس حاجة بناكلها او نشربها ب ايديها القذرة ديه.
تفاجأت ليلى من هجومها غير المبرر من وجهة نظرها وهمست :
- الموضوع مش مستاهل الانفعال ده يا تيتا مينفعش كده.
رشقتها بنظرة محذرة ورفعت يدها تمنعها من المواصلة :
- متدخليش في اللي ملكيش فيه انتي مش عارفة حاجة ديه راحت النهارده لبيت أهلها والله اعلم اتفقت معاهم وحطتلنا ايه في الشاي عشان تخلص علينا مش بعيد عنها هي وعيلتها لأنهم متعودين ع الغدر.
إنقلب وجه آدم ونهض كي يجري مكالمة عمل بعيدا عنهن أما نيجار التي كانت تقف كالجماد غير مكترثة بإتهاماتها أخذت رشفة من الكوب قائلة بجمود :
- شربت اهو ومحصليش حاجة متخفيش انا لو حبيت اقتلك مش هخليكي تشكي فيا أصلا.
حملت الصينية من جديد وأخذتها إلى المطبخ لتغسل الأواني أما حكمت التي بدأت الشياطين تحوم حولها بسبب عديمة الأصل تلك توجهت بأنظارها نحو الخادمة مغمغمة :
- انا مش واثقة فيها خالص النهارده رجعت وهي جايبة معاها حزمة قماش من بيت الشرقاوي والله أعلم جواها ايه احنا لازم نتخلص منه يلا اطلعي للأوضة فوق ودوري عليها وجيبيهالي فورا.
- انا سألت عنها وقالتلي ان جواها حاجات ذكرى من أبوها وأمها.
- انتي مسمعتيش انا قلت ايه ؟
حدثت فيها ليلى مستنكرة أما أم محمود التي كانت تعلم شكل الحزمة جيدا لأنها رأت نيجار ظهر اليوم وهي تحملها ركضت تنفذ أوامر سيدتها رغم عدم إرتياحها لما ستفعله دلفت وفتحت الخزانة ووجدتها في المقدمة فحملتها وأخذتها لحكمت هاتفة :
- هي ديه يا ست هانم.
انكمشت أصابعها عليها بقرف ووقفت مفكرة في كيفية التخلص منها حتى وقع بصرها على صندوق الوقود فتوجهت ناحيته ورمت الحزمة على الأرض ثم دلقت عليها كمية معتبرة منه ومدّت يدها لعلبة الكبريت التي كانت بحوزة أم محمود، أعطتها هذه الأخيرة إياها لتصيح ليلى معترضة :
- مش للدرجة ديه يا تيتا حرام والله انتي بتعملي ايه.
سمعتها نيجار فخرجت من المطبخ لترى مايحدث وكذلك آدم الذي أنهى مكالمته للتو ورأى جدته تكب الوقود على شيء من الواضح أنه يخص -زوجته- لكنه لم يهتم وكاد يصعد للغرفة لولا شهقة نيجار التي وقع نظرها على الشريط الأحمر الملقي في الأرض وعرفت ماهيته فورا فصرخت بهسيترية وركضت إلى كومة النار التي بدأت في الإنتشار وأدخلت يداها بها !
إنتفض آدم بصدمة ووجد نفسه يركض ناحيتها وينتشلها صارخا :
- انتي بتعملي ايه يامجنونة.
تململت بين يديه بهستيرية هادرة بأعلى صوت لديها :
- لاااا ابـعـد عـنـي اوعى سيبني.
دفعته بقوة لم يستطع مجابهتها بسبب صدمته مما يحدث وحاولت إطفاء النار بيديها كي تنقذ ما يمكن إنقاذه وبالكاد استطاعت سحب منديل أمها ليعود آدم ويمسكها آمرا بجلب الماء فهرعت ليلى والخادمة تمسك كلتا منهما دلوا ممتلئا وأخمدتا الحريق ولم يبقَ من أثره سوى كومة رماد تشهد على آخر ذكرى لنيجار من طفولتها مع والديها ...
ساد الصمت فجأة بعد العاصفة التي هبّت في السرايا وأصبح كل واحد منهم على حال...
ليلى التي بقيت منصدمة مما رأت للتو وحكمت التي وقفت بشموخ وإحساس كبير بالرضا بعدما استطاعت تحطيم نيجار وآدم الذي كان مذهولا وغير مستوعب لسبب حالتها المجنونة.
أما هي، فكانت تجثو على ركبتيها بملامح ميتة تشخص بصرها في حزمتها المحترقة بعيون حمراء جافة و يدين محترقتين تمسكان بالمنديل المهترئ قليلا رفعته لأنفها ببطء كي تشم رائحة أمها لكنها لم تجدها ! لم تشم سوى رائحة الإحتراق وقد كادت تخنقها ...
كتمت أنفاسها ورفعت رأسها للشيطانة التي كانت تبتسم بظفر وسرعان ما ضحلت ابتسامتها عندما نهضت نيجار وانقضت عليها تقبض على عنقها بعنف صارخة بجنون :
- أنا هــقـتلـك هخلص عليكي !!
جحظت عينا حكمت بصدمة وانتفض آدم يحاول إبعادها لكنها كانت كالممسوسة لا تسمع ولا ترى ولا تفكر في شيء سوى قتلها ولعلّ حكمت محظوظة لكون نيجار لا تحمل سكينا الآن وإلا لم تكن ستفكر مرتين قبل أن تشق عنقها !
عمت الفوضى واسترعت إنتباه الحراس في الخارج وفاروق الذي وصلته صرخات أهل المنزل فهرع إلى الداخل ليرى الكارثة التي تحصل..
تشابكت الأيادي محاولين تخليص السيدة الكبيرة من قبضة نيجار المصممة على إزهاق روحها بيديها المحترقتين ولكنها لم تكن تشعر بالألم بسبب إنفعالها بَيد أنها وجدت نفسها فجأة تُقتلع بقوة ثم ألقاها بعنف على الأرض وهدر بعصبية :
- كفاية بقى !
وقعت حكمت وهي تسعل بتحشرج ممسكة برقبتها فاِنحنى الجميع عليها مهدئين إياها أما آدم فعاد وغرز أصابعه في ذراعها كي تقف وسحبها خلفه وسط استسلام غريب منها حتى دخل للغرفة ورماها بنفس العنف على السرير هادرا بوحشية :
- أقسم بربي لو مكنتيش واحدة ست كنت كسرتلك عظمك ف إيدي بس سبحان اللي مصبرني عليكي لغاية دلوقتي لكن هتتحاسبي أنا هندمك ع اللي عملتيه ده.
اتكأت نيجار على كوعها الذي أُصيب عند دفع الآخر لها ونهضت فتوضح جرح جبينها الذي عاد ونزف من جديد إثر نفس الدفعة وتلك الندب الحمراء على يديها إضافة لشعرها المشعث ووجهها المكدوم وفستانها الذي استحال لونه إلى الأسود.
حالتها المزرية جعلت آدم يتشوش للحظات قصيرة قطعتها هي بهمستها الميتة :
- انتو مبسوطين دلوقتي حالتي عجبتكم خلت قلبكو يبرد شويا.
لم يجبها فتلألأت عيناها بالدموع وتابعت بصوت مهتز :
- لو حرقتوني انا وخلاص ليه قربتو من حاجتي لييييه !
صرخت بآخر كلمة وهي تدفعه فجز على أسنانه غاضبا ووجد نفسه يرفع يده كي يصفعها لكنه توقف بأعجوبة قبل أن تصل لوجهها وهسَّ :
- قولتلك كفاية اخرسي.
نظرت لكفه وتدحرجت دموعها صائحة بحرقة :
- وقفت ليه عايز تضربني ؟ يلا اضربني ع وشي واشفي غليلك اساسا انت عملت فيا اسوء من كده !
انكمشت أصابعه على هيأة قبضة واحمرت عيناه بشدة متذكرا مافعلته بجدته فزفر هامسا :
- انتي جنس ملتك ايه بالضبط ها انتي ... بتطلعي أسوء ما فِيا.
- كفاية كفاية انا تعبت انت عايز مني ايه بالضبط عايزين مني ايه سبق وقولتلك لو عايز تنتقم مني اقتلني وريحني بس ليه تخليها تحرق روحي ليه خلصتني من الذكرى الوحيدة الفاضلة من أهلي ليه حرام عليك.
- انتي بتقولي ايه انا مش فاهمك.
سألها بذهول عما تتكلم عنه لكنها انشغلت بضم المنديل وشمته مجددا لتدخل في نوبة بكاء فظيعة مرددة :
- مفيش ريحة ... انا مش قادرة اشم ريحة ماما ابدا ولا هرجع اشوف وشها هي وبابا ياريتني مجبتهاش من بيتنا انتو ليه عملتو فيا كده ليييه.
استمع إليها وتوهج عقله بالإدراك وهو يربط الأحداث ببعض حتى توضح له الأمر، هل كانت تلك الحزمة تحوي على آخر ذكرياتها مع والديها وقامت جدته بإحراقها إذا هذا سبب فرحتها بذهابها لمنزلها لقد كانت تريد جلب حزمتها كي تبقى معها ولم تدري أنها ستفقدها فور وصولها !
راقب نيجار التي وقعت على الأرض مطلقة صيحات وشهقات ألم رافقتها دموعها الغزيرة كان إنهيارا لم يشهده من قبل عليها حتى عندما تركها للموت مع صفوان في بيت الهضبة هاهي نيجار تحترق بلوعة الفقدان ويكاد قلبها يتفتت من الألم ..
هذا ما أراده آدم دوما لكنه لسبب ما وعند خروجه والإغلاق عليها لم يستطع سوى إسدال رأسه على صفحة الباب والإستماع لصوت نشيجها وقهرها بوجه جامد ومشاعر تتَّسم ببعض الـ ... الحزن !
*****
مرت ساعات ومازالت على وضعها جالسة على الأرض وتسند رأسها على السرير مشخصة عينيها في الفراغ ودموعها تنزل بسكون بعدما هدأت من وصلة جنونها ...
صدع صوت طرقات الباب يليها دخول ليلى وهي تقدم خطواتها ببعض من الحرج لأنها تتعامل معها للمرة الأولى منذ مجيئها لمنزلهم.
رفعت نيجار بصرها نحوها فتنحنحت متمتمة وهي تشير إلى علبة الإسعافات التي بيدها :
- جيت عشان اساعدك لأن باين عليكي تعبانة أوي أنا هعقملك جروحك واحطلك مرهم على إيديكي.
زفرت وهمست باِنطفاء :
- مش عايزة حاجة اطلعي برا.
أجفلت ليلى من فظاظتها وساورها شعور بالضيق منها فكادت تغادر لكنها عادت وجلست جوارها مرددة :
- عارفة انك زعلانة من اللي حصل رغم ان اللي عملتيه في تيتا كبير اوي ونفسي تتحاسبي عليه بس مع ذلك في جزء مني متفهمك صعب الواحد يفقد حاجات تخص أهله المتوفيين.
شرعت في تعقيم جراحها بينما تتابع مستطردة :
- انا لحد دلوقتي مش فاهمة ايه دخلك لحياتنا فجأة وخلى ابيه آدم يتجوزك ومتنرفزة لأني حاسة في حاجة اكبر من عقد صلح بين العيلتين وانا مبعرفهاش.
- وايه اللي مخليكي متأكدة كده ؟
أجابت ليلى ببساطة :
- لأن كره تيتا ليكي غريب حتى اخويا هو راجل وعمره ما دخل الستات في عداوته يعني لو مكنش بيعرفك من قبل ولو هو متجوزك جواز تقليدي عشان الصلح كان ع الأقل هيعاملك بما يرضي الله بس اللي شايفاه عكس كده تماما ... هو مبيطيقش يسمع سيرتك حتى.
نظرت لها نيجار بجمود وكتمت تأوهها عندما بدأت الأخرى تضع المرهم على يديها ولحسن الحظ أن الحروق من الدرجة الأولى لذا لن تأخذ وقتا طويلا حتى تتحسن، أنهت تضميدها وخرجت متوجهة نحو ذلك الذي كان يقف عند الشرفة المطلة على الطابق الأول وقالت :
- عملت زي حضرتك ما قولتلي يا ابيه.
التفَّ إليها مومئا بإيجاب فتنهدت واقتربت منه متشدقة :
- انا مبقتش فاهمة ايه اللي بيحصل ده بظن ان مفيش أغرب من اللي عشناه النهارده.
تنهد آدم موافقا إياها :
- اه فعلا كلامك صحيح.
- طب انت شوفت تيتا واطمنت عليها ؟
- ايوة هي بقت كويسة دلوقتي.
- انت عارف ان حكمت هانم مش هتسكت لمراتك مش كده ويا عالم هتعمل فيها ايه ديه اتهجمت عليها قدامنا كلنا وكانت هتقتلها لو ملحقتهاش.
صمت متذكرا الحوار الذي دار بينه وبين جدته بعد الذي حدث فتنحنح متمتما :
- الوقت اتأخر وانتي عندك كلية بكره الصبح يلا روحي نامي.
همهمت ليلى بملل واحتضنته مبرطمة باِمتعاض :
- ماشي تصبح على خير.
قبل آدم جبينها مبتسما وعند مغادرتها زالت إبتسامته معيدا أحداث اليوم بذاكرته ظل جالسا بضع ساعات حتى تجاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل وهنا نزل إلى الأسفل ووقف عند الركام المحترق يتذكر نوبة نيجار العصبية ودخولها في وصلة بكاء هستيري جعلت صوتها يُبح...
فرغم أنه مرت أسابيع عديدة على زواجهما إلا أنه لم يرَها هكذا من قبل لقد كانت تستقبل إهانات جدته ببرود وتقوم بسائر أشغال هذا المبنى الكبير دون إعتراض حتى يوم حبسها في القبو لم يلمح دمعة واحدة على وجهها فهل يعقل أن تكون متعلقة بذكرى والديها لدرجة إدخال يديها في النار بلا تردد !
زفر آدم مهمهما بينه وبين نفسه :
- كويس انها مكنتش شايلة سكينة ف إيديها وإلا مش عارف ايه كان ممكن يحصل.
وأثناء شروده أبصر شيئا موجودا بين الرماد حمل بين يديه وكاد يتخلص منه لكنه توقف مطرقا لثوانٍ قبل أن يحسم أمره ويصعد لها...
كانت نيجار مستلقية على الأرضية مغمضة عينيها ودموعها الجافة تظهر بوضوح على بشرتها انحنى آدم مطالعا إياها ولاحظ يدها المضمدة تمسك المنديل المشهور فتنهد ووضع ماوجده بجوار رأسها ثم خرج أما هي ففتحت عيناها كي ترى ماوضعه وهنا اعتلت الصدمة ملامحها حين وجدت صورتها مع والديها !
قبضت عليها فورا ممررة عينيها عليها بلهفة كانت الصورة التي تجمعها معهما مهترئة قليلا ومحروقة من الطرف لكن وجه أمها وأبيها لم يصب بضرر يبدو أنها الشيء الوحيد الذي نجى من الإحتراق بعدما إعتقدت بأنها فقدت الألبوم بأكمله.
التمعت عيناها بالدموع وهي تقبلها ثم ضمتها لصدرها هامسة :
- الحمد لله ... الحمد لله.
إشرأب عنقها ناحية الباب محدقة به وهي لا تصدق أن آدم فعل لها هذا الإحسان بعد كل ما ارتكبته من سوء في حقه رغم كرهه لها إلا أنه تفهم حزنها وقهرها وجاء بنفسه ليضع الصورة بجوارها ...
ارتجفت شفتي نيجار وابتسمت باِمتنان لأول مرة متمتمة :
- متشكرة ... متشكرة اوي يا آدم.
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close