رواية جوازة ابريل الجزء الثاني الفصل الحادي عشر 11 بقلم نورهان محسن
لفصل الحادي عشر (قراري الأخير)
التقينا في لحظة حاسمة كانت كالسيف القاتل على عناقنا ، كلانا هارب من كارثة تكاد تمزق قلوبنا حد الموت ، ولم تمر سوى دقائق قليلة منذ لقائنا ، ووجدتكِ تسردى كذبة حمقاء عبر شفتيك ، أخضعتني لقربك قسراً أيتها المتمردة ، لا أعلم حقاً من منا حينها أصبح أسير للآخر ، لكنكِ صرتِ رغمًا عنكِ عروسي العنيدة أمام كل الحاضرين ، حينذاك أدركت أن مثوى السيف السري هو فيروزيتكِ الثائرة ، وقبل أن أشهر سلاحى ، اخترقتِ بإندفاعكِ الجريء قلبي الذي صرخ غاضباً ، فى الغرام سأكون سفاحًا ، وألف لعنة لكم أيها الخصوم ، فإن شئتى أم أبيتى سوف تكونِ لي ، وبكامل قواى الجنونية أقول لكِ هذا قراري الأخير.
❈-❈-❈
أمام عربية ياسر
تابعت هالة بصراخ أجفله : رد عليا!!
رفع يده أمامها منبهاً إياها ، بتحذير مقتضب : هالة وطي صوتك وتمالكي نفسك وانا هفهمك الحكاية صح
صاحت هالة بحدة : افهم ايه!! وانا كل اللي لاقيته منك عدم احترام لكرامتي ومشاعري وبس
فرك ياسر جبهته بتوتر ، وهو يهتف بنفاذ صبر : استغفر الله العظيم .. دا مش اسلوب لائق خالص للمناقشة .. احنا اعقل من كدا يا هالة .. انا حتي مش فاهم شغل قلب التربيزة دا هتستفيدي منه ايه؟! ماكنتش كلمة وطلعت مني عشان تتفتحي فيا الفتحة دي .. راعي شوية اننا واقفين وسط ناس بيتفرجو علينا
نظرت هالة إليه بعينين ضيقتين مليئتين بالعبرات ، ردت مؤكدة صحة حدسها ، بنبرة هازئة يتخللها الأسف على حالها : مش بقولك فارقلك شكلك دايما .. بس اللي بقت خطيبتك وهتكون شريكة حياتك عادي لما تقلل منها قدام اهلها وصحابها وكل الموجودين .. وطول الوقت كنت مهتم بواحدة تانية .. وبالمناسبة كل اللي حضر الحفلة وشاف المهزلة دي ماستناش للصبح .. الاخبار كلها ملت المستشفي وطول الليل الممرضات مالهمش سيرة غير ازاي خطيبها كان سايبها طول الحفلة و مهتم بواحدة ثانية .. هي لدرجة دي مش مالية عينه .. وهي ازاي قبلت علي نفسها .. ايه معندهاش كرامة!؟
تعبيراتها المليئة بالحزن لم تسعفه فى تبرير موقفه ، لكن لم يكن أمامه إلا أن يكابر ، ويدعى عكس الحقيقة : سبق وفهمتك طبيعة علاقتي بيارا عاملة ازاي .. هي اخت..
قاطعته هالة بإشارة للتوقف عن الكلام : من فضلك انا جبت اخري وخلاص اكتفيت من كتر الكدب اللي بتعيد وتردده دا
لم تعجبه نبرة الاتهام في صوتها الهاديء ، فعدل وقفته أمامها بكل وقار ، ليخرج رده بوضوح وثقة : هالة .. انا لما جيت وتقدمتلك كنت مقتنع باللي بعمله .. واذا في مشاعر من ناحيتي ليارا او لغيرها كنت قولتلك .. انا مش هخاف منك ولا مضطر اكدب عليكي .. وعشان انا مقدر ان اعصابك مشدودة هعمل نفسي ماسمعتش الكلام الفارغ اللي انتي قولتيه
صاحت هالة بإصرار قوى : لا انا كلامي مش فارغ ولا من فراغ وعارفة كويس بقول ايه .. طريقتكم مع بعض دي فوق الطبيعي .. اهتمامك الاوفر بيها دا مش طبيعي ..
❈-❈-❈
فى ذات الوقت
داخل المستشفى تحديدا بغرفة ابريل
دخلت الممرضة الغرفة ، تقترب منها بخطوات هادئة ، لتقول بابتسامة : اتفضلي دي عشانك
عقدت ابريل بين حاجبيها الجميلين ، وهي تأخذ منها علبة حلويات فاخرة مزينة بشكل أنيق ، ثم سألت بنبرة حيرة : مين جابها دي؟!
نظرت ابريل إلى الصندوق بعينين تشعان بالفرح ، لا شعورياً ، إذ ذهب عقلها إلى أخيها الذي يعلم حبها الشديد للشوكولاتة ، لابد أنه يسعى إلى استرضائها ، بهذه الطريقة مختبئاً خلف قناع الحذر منها خوفاً من رفضها ، حتى جاءها الجواب من الممرضة محطماً كل آمالها : خطيبك اللي لسه خارج من عندك من شوية
هزت ابريل رأسها بهدوء في خيبة أمل ، لكن كيف يمكنها أن تظلل الوميض الصغير المنبعث من روحها التي كانت تتمنى دائما أن تحظى بحنان واهتمام من عائلتها؟
أحست بصوتها يحاول الوصول إلى حنجرتها بصعوبة ، فخرجت الكلمات خافتة بما كان يطوف بداخل قلبها : اهلي حد منهم موجود برا
ردت الممرضة بتفكير : اظن لا مفيش حد برا
عقدت ابريل ذراعيها على بطنها ، وأطلقت تنهيدة عميقة تعبر عن مدى إحباطها ، هى تشعر بالاستياء منهم جميعًا ، لكن هذه المشاعر الإنسانية مهما حاولت كبح جماحها أمامهم ، وتصرفت بقسوة ، تظل في أعماقها متعطشة لاهتمامهم الذي ترفض أن تشحذه منهم بالتوسلات ، سرعان ما سخرت من أفكارها الداخلية سراً قبل أن تسألها برقة. : طيب ممكن تجيبلي الهدوم اللي جيت بيها هنا؟
ردت الممرضة بإبتسامة لطيفة : كل حاجاتك موجودين في الدولاب دا .. بس ماينفعش تخرجي قبل الدكتور ما يكتبلك علي خروج
زاغت عينيها بتوتر ، ودفعت شعرها خلف أذنها بفكرة شيطانية سطعت فى عقلعا ، قبل أن تقول بابتسامة وديعة : تمام .. انا جعانة ممكن تجيبلي فطار؟
نطقت أبريل بعبارتها بمنتهى البراءة ، تتوارى خلفها نواياها الماكرة ببراعة شديدة ، جعلت الممرضة تصدقها بكل سهولة ، لتتحدث على الفور : اكيد ممكن الفطار هجيبو حالا مع الدوا وراجعة علي طول
سرعان ما اعتلت إبتسامة ساحرة على ثغرها ، ونبست بإمتنان : ميرسي اوي علي تعبك
الممرضة بسماحة : شغلي يا فندم ربنا يشفيكي
بمجرد أن أغلقت الممرضة الباب خلفها ، زفرت أبريل بقوة وغضب ، وزمجرت بكراهية وامتعاض شديدين : قال خطيبي قال .. هنجلط يارب ماشوفتش حد بارد كدا في حياتي زي البني ادم دا .. معندوش نقطتين دم ولا كرامة .. واحد غيرو وسمع الكلمتين اللي قولتهملو كان زمانه راح دفن نفسه مش يجيبلي شوكولاته .. بس شكل جهاز الاحساس عنده متبدل بديب فريزر
حدقت أبريل في علبة الشوكولاتة بسخرية ، وهمست لنفسها بوعيد : عاملي فيها البيه رومانسي يا استاذ ساخر .. طيب صبرك عليا اما طفحتهالك..!
زفرت الهواء بقوة كبيرة ، وكأنها تزيل ثقلاً كبيراً عن صدرها ، فرفعت فيروزيتها ببريق غامض إلى الخزانة التي أشارت إليها الممرضة ، ثم وضعت الصندوق جانباً بإهمال ، ونهضت من السرير بعزم.
خطت عدة خطوات من الخزانة ، ثم أدارت رقبتها ، محدقة في الباب المغلق بتعبير حزين ، لتركهم لها وحيدة دائماً ، ثم أخذت تربت على قلبها برفق شديد ، والدموع تتلألأ في مقلتيها ، وهي تهمس لذاتها بقوة : لن أبدأ في الانهيار كلما خذلونى ، ولن أنتظر هذا الزائر الحنون الذي سيطرق هذا الباب ، وإن تمزقت أوتار قلبي شوقا لقدومه ، تقديري لذاتي له أهمية قصوى بالنسبة لي ، فأنا أقسمت أمام الله أننى لن أجعل قلبى قابل للكسر مهما حدث.
❈-❈-❈
فى ممر المستشفي
عند باسم
صاح صلاح بصوت أجش حانق جعل المارة يلتفتون نحوهم في دهشة : يا برودك هو انت مش مقدر حجم الكارثة اللي وقعنا فيها بسببك وشغلنا اللي خرب من تحت عمايلك وطيشك ..
تابع بسخط عارم ملوحاً بكلتا يديه فى الهواء : ضاقت بيك الكرة الارضية بحالها رايح تخطب واحدة خطيبة واحد تاني!!! ايه الستات اللي بتعرفهم مسحولك مخك .. عجبك دلوقتي الفضيحة الجديدة المنشورة عنك في كل حتة دي .. اتفضل تعال معايا
أمسك صلاح بمرفقه ، يسحبه خلفه ، ليمشي باسم معه في طاعة تامة حتى وقف معه أمام إحدى النوافذ الكبيرة المطلة علي باحة المستشفى ، قال صلاح بصوت حانق : شوف بعينك يا بيه .. الصحافيين واقفلنا ازاي علي باب المستشفي .. مستنيين بس يلمحو طيفنا عشان ينزلو فينا تصوير واسئلة دا غير التليفونات اللي مابتسكتش من الصبح
هز باسم كتفيه غير مبالٍ بالأمر ، واضعًا يديه في جيوب بنطاله ، ليخاطبه بنبرة ثقيلة : ما انا عارف كل دا .. ما انا اللي كلمتهم وجبتهم لحد هنا اصلا
استشاطت ملامحه غضباً ، فصاح مستنكراً بصوته الأجش : نعم يا روح امك .. انت شكلك اتجننت علي الاخر
أوضح باسم له بعبوس جذاب : ولا اتجننت ولا حاجة .. ابريل مش مخطوبة .. والكلام المكتوب عننا دا كله كدب ومتفبرك
سأل صلاح ساخراً : واحنا هنمسك كل نفر ونشرحله ان دا كله كدب ازاي يا بيه؟!
رفع باسم حاجبه واحد ، مرددا بإنزعاج نافذ الصبر : اومال انا جايب دول لحد هنا عشان ايه!! اللي احنا عايزين نوصله للكل هيكون من خلالهم
تشنجت ملامحه من الصدمة ، وسيطر عليه الجنون ، مزمجراً بسخط شديد ، حيث يكاد أن يسقط أرضاً نتيجة إصابته بجلطة دماغية بسبب برودة ابنه : يعني كمان انت اللي مديهم الاذن بالوقفة دي ؟؟ ومصطفي ايه ناسيه؟! دا من اكبر المستثمرين اللي داخلين في المشروع الجديد واللي بتعمله دا هيخلينا نخسره!!
ضاقت عيناه الرماديتان في تعبير يدل على تقييم ما قاله والده ، قبل أن يهز رأسه بالنفي ، قائلاً بصوت جدي ممزوج باللامبالاة : زي ما في مصطفي في مستثمرين كتير غيره .. اذا هو عايز ينسحب بالسلامة غيره يتمني يكون مكانه .. وانت سيد العارفين يعني مش هتقف عليه .. وهيبقي هو الخسران الشرط الجزائي
تنهد صلاح بقوة قاطباً حاجبيه بحنق : افهم يا بني .. مواضيع الستات لما بتدخل في الشغل بتخربوه واللي اتكتب دا هيأثر علينا كلنا من نواحي كتير وسبق ونبهتك عايز تخطب بنات الناس كتير مش لازم البت دي
عقب باسم على كلام والده بثقة بالغة ، رغم أنه هو نفسه لا يعرف من أين جاء بها وسط الظروف المحيطة به : اذا علي كلام الجرايد .. انا عارف كويس ازاي هنخرس لسان الكل .. وكمان هينزل بكرا بالكتير اعتذار عن اي كلام اتكتب عننا .. والكل واولهم مصطفي هيعرفوا ان ابريل خلاص بقت تخصني
زجره صلاح بغضب سعير ، وهو يكز على أسنانه بقوة حتى لا يلفت النظر إليهم : ماتجننيش ببرودك انا علي اخري .. هو مش هيسكت مافكرتش في اللي ممكن يعمله
تشكلت ملامحه بتعبير صارم تجلى بوضوح في لهجته القوية مثل سيف حاد وهو يذبح ببرود وحسم : مابفكرش فيه ولا يهمني انا مش شايفو غريم ليا حتي .. عشان حكايته معاها خلصت يوم ما هي فسخت الخطوبة اللي محدش كان عارف بيها دا كان مخبيها كأنه عامل عملة .. وخليه يعمل اللي هو عاوزو .. وانا هعرف ازاي اتعامل معاه واي حاجة هيعملها هتتردلو اضعاف
❈-❈-❈
خلال تلك الأثناء
فى غرفة منى
_مني يا حبيبتي الف حمدلله علي سلامتك
هتفت سوسن بلهفة ، وهي تتجه نحو منى التي كانت تجلس فوق السرير بوجه جامد ، وعندما سمعت صوت أمها رفعت عينيها إليها فسقطت من مقلتيها دموع حارقة ، وانفجرت في البكاء المرير بمجرد أن احتضنتها والدتها ، وقالت بحزن شديد ، وهى تربت علي ظهرها بتعاطف تفهم ما تمر به ابنتها : قدر الله ما شاء فعل يا قلب امك بكرا هتعوضيه وربنا هيفرحك صدقي امك ماتزعليش نفسك
أجهشت منى تبكي بصوت عالٍ ، منهارةً من الألم الذى يدمر قلبها بلا رحمة ، بينما الأم تمسد على شعرها بحنان فطري وتعزيها بكل ما لديها من كلام ، لكن مهما قالت فإن جراح ابنتها النازفة حد الموت لن تشفى بأبجدية اللغة العربية أجمع ، فقالت في حيرة : عملتي في نفسك كدا ليه يا مني؟! ايه اللي جرا يا حبيبتي بينك انتي وعز ايه وصل الحال بينكم للطلاق؟!
خرجت منى من حضن أمها ، وهي تنظر إليها بعينين منتفختين وحمراء من شدة البكاء الذي لم تستطع السيطرة عليه ، وصاحت بعنف منهار : هو السبب في اللي انا فيه .. بسببه خسرت ابني .. البني ادم دا خلاص انتهي من حياتي يا ماما .. انا كرهته قد ما حبيته .. دا اكتر واحد اناني ووحش في الدنيا يا ماما .. ماتجبيش سيرته ليا تاني مش عايزة اشوفه تاني .. ماتوجعتش في الدنيا من حد قد ما انا اتدمرت واتوجعت علي يده هو
ألقت بنفسها على صدر أمها ، وواصلت النحيب بصوت يمزق قلب سوسن من الألم ، فهمست لها بنبرة هادئة نوعا ما وهى تعانقها بشدة، وتبكي معها ، فمن الواضح على عز وكلام منى الآن وحالتها المزرية، تؤكد أنه ارتكب بحقها فعلًا لا يغتفر : حاضر خلاص اهدي يا قلب امك واللي انتي عايزاه هنعمله واخوكي زمانه علي وصول كمان هيقعد معاه ويشوف عملك ايه ويجيبلك حقك منه
ابتلعت منى الغصة التي تشكلت في حلقها بألم ، ثم دمدمت بصوت باك، وسيطرت عليها نوبة من الهستيريا. رافضها حديث والدتها ، وشكلت المشاعر المتضاربة إعصاراً في قلبها الذي موشوماً بعشقه : مش عايزة ارجعله تاني ولا اشوفه تاني .. انا بحبه اوي يا ماما .. بحبه بس .. بس علي قد ما حبيته كرهته حاسة قلبي بيتحرق كل ما اتخيل ان خلاص مش هشوفه واكون في حضنه تان وعشان هيوحشني اوي .. بحبه اوي وهو مايستاهلش ذرة من اللي في قلبي ليه .. انا بكرهه يا ماما بكرهه .. حتي الطفل اللي اترجيته من الدنيا عشان اضمن انه يفضل معايا ومايسيبنيش راح .. وهو قبلها طلقني واتخلي عني يا ماما .. بس خلاص خلي دعاء هانم تفرح خليها تروح تجوزه .. خليها هي تكسب انا خلاص خسرت كل حاجة علي ايده ومابقتش عايزاه مش عايزاه
ربتت سوسن على رأسها بحنان قبل أن تستفهم بتعجب : بس يا حبيبتي اهدي اهدي .. قوليلي بس دعاء مالها ومال اللي بينك انتي وجوزك يا مني .. ماتظلميهاش يا بنتي الست دخلت عليها من شوية لاقيتها قاعدة جنبك ومفلوقة من العياط عليكي
أجابت منى عليها من بين شهقاتها : بتعيط من فرحتها عشان وصلت للي هي عايزاه يا ماما
رفعت سوسن يديها ، وأخرجتها من داخل أحضانها ، وأردفت بصوت حنون : طيب طيب بطلي عياط .. امسكي نفسك واحكيلي في ايه دعاء عملتلك ايه؟
أغمضت منى عينيها بأنفاس متلاحقة ، وهي تحاول تمالك أعصابها ، ثم مسحت دموعها بظهر يديها ونظرت إلى سوسن التي ابتسمت مطمئنة وحثتها على إخبارها بالأمر.
استنشقت منى كمية كبيرة من الهواء ، وزفرتها على المهل ، ثم بدأت تروي لها كل الأحداث التي أخفتها عنها خلال الأيام القليلة الماضية.
إختتمت حديثها ، قائلة من بين شهقاتها الممزقة : انا بموت يا ماما الوجع اللي في قلبي هيموتني مش قادرة استحمله
_انا اللي هموت من غيرك يا مني ومش هقدر استحمل اعيش في الدنيا دي من غيرك
جمدت معالمها فور أن جاءها صوته العميق الهامس ، لتسمع قلبها الخائن ينبض بقوة مثل المطارق بين ضلوعها تأثرًا به ، وهذا ما كانت تخشى حدوثه ، فإنها تكذب على نفسها ، فقط تشعر أنه أصبح شخصاً غريباً عنها ، يتدفق كالسم في عروقها ، يستهدف هذا الشريانرالمسمى بالوتين الذي يسكنه هذا العز ، بينما العقل يعزز من وفرة هذا السم ، لأنه يريد التخلص من هذا العز ، ولكن بمجرد حدوث هذا الشيء اللعين ، سيصبح قلبها مجرد نبضات عديمة الفائدة ولا قيمة لها.
❈-❈-❈
عند هالة
عبس وجه ياسر بغضب ، وهو يطلق زفرة قوية من ضغطها المستمر على أعصابه المضطربة حرفياً ، خاصة أن عقله أيضا لا يرحمه ، مجسدا صورة يارا أمامه ، وهي تقبله الليلة الماضية ، لكنه قمع شعوره بالخيانة بكل ما أوتي من قوة ، فهو لم يخطيء بتاتاً : يوووه .. انا زهقت انتي ليه مش عايزة تفهمي .. المفروض يبقي عندك ثقة فيا وفي نفسك اكتر من كدا
واجهته هالة بصدق ، وهى تحدق في عينيه مباشرة : الثقة بتتبني بالوقت والمواقف مابتتخلقش في يوم وليلة و اللي شفته منك يخليني ازاي اثق فيك .. خلاص اخري جبته مش هقدر اتحمل فكرة انها في حياتك دي يا ياسر عشان دا بيجرحني فاهم يعني ايه
زم ياسر شفتيه قبل أن يضغط على فكه بقوة ، وهو يتحاشى النظر إلى عينيها الزرقاوين المتألمتين ، ثم هتف بنفاد صبر : يعني عايزة ايه من الاخر يا هالة
_عايزة اكون الوحيدة في حياتك وجوا قلبك .. عايزة تتنافس مع العشاق وانت بتعبرلي عن حبك ليا .. عايزة ابقي انا وبس تكون ليها كامل الحقوق فيك .. عايزة كل وقتك كل اهتمامك عايزة ابقي كل حاجة في حياتك
دار هذا الحديث الداخلي في ذهنها ، عيناها فقط هي التي عبرت عما تريده وتتمناه بشدة.
مرت عليهما لحظات صمت ثقيلة قبل أن تتحدث بهدوء ، ليشعر بانقباض في قلبه بمجرد سماع كلامها : اذا طلبت منك تقطع علاقتك بيها هتوافق يا ياسر؟!
صدمها رد فعله عندما صاح بالرفض القاطع : لا يا هالة .. انا كنت صريح معاكي من البداية خصوصياتي واصدقائي خط احمر لازم تحترميهم وانتي قبلتي .. يارا انا مش هقطع علاقتي بيها عشان شوية اوهام مالهاش اساس الا جوا دماغك وانتي اللي ليكي عندي اني احترمك ومقصرش معاكي وبحبك
أنهى ياسر كلامه بثقة لم يشعر بها ، إذ أخذ كف يدها الناعمة بين كفيه بحنان ، لقد كان يكذب وكان يعلم ذلك ، لكنه لم يرد أن يخسر أيًا منهما ، فوجدت هالة نفسها تنظر إليه باستغراب في البداية ، قبل أن تنجلى طبقة بلورية من الحزن على عينيها الزرقاوين ، وطغى على قلبها ألم لا يحتمل نتيجة نزيف جرح الغائز فى كبريائها كامرأة ، هو ألم يخص شخصها ولا علاقة له به.
حملقت هالة في يدها المتشابكة مع يده ، لعدة ثواني قبل أن تسحبها بهدوء يخالف حقيقة مشاعرها في تلك اللحظة ، بجهد شاق بذلته للحفاظ على ثباتها الإنفعالي ، حتى لا تنفجر بالبكاء في وضح النهار أمام العيون الفضولية المحيطة بهم ، سألته بنبرة مقتضبة : مقصرتش خالص فعلا .. تقدر تقولي موقف واحد حقيقي اتحطيت انا فيه وانت كنت جنبي فيه؟! مفيش صح .. بس تروح عادي توصلها هي لبيتها وتسيبني انا في مشكلة مش كدا .. صاحب البالين كداب يا دكتور
أخفض ياسر بصره بإرتباك من عودة اتهاماتها تتقاذف عليه ، لتجرده أمام ذاته بحقيقة إهماله الغامر تجاهها ، لينظر إليها بسرعة مرة أخرى ، مستشعرًا بخطر يقترب ، وهى تستكمل بسخرية مريرة : وبعد دا كله تاعب نفسك وجاي لحد هنا عشان تعاتبني علي حاجة ماليش ذنب فيها .. بدل ما تدعمني بكلمة طيبة تخفف عني التوتر اللي كنت فيه .. لا كنت بتلومني علي مساعدتي لانسانة كانت بتموت قدامنا يا دكتور و بتنتقد تصرفات اخويا .. قد كدا انت زعلان علي نفسك..!!!
كاد ياسر أن يجيب ، لكنه تراجع عن رغبته في ذلك بشكل مثير للريبة ، حينما أشارت إليه بالصمت ، فقد سئمت من حججه الضعيفة الكثيرة ، خاصة وأن عقلها كان يعيد لها مراراً وتكراراً مواقفه الكثيرة أثناء الفترة الماضية ، المليئة بانشغاله بامرأة أخرى ، وتفضيله لها في كثير من الأحيان ، بالإضافة إلى نظرات المدعوين للخطوبة ، مثل النصل القاس المغروس في وسط كرامتها الدامية ، أنها لا تستحق أن تعامل بهذه الطريقة التي تؤلم قلبها ، مهما كانت واثقة في نفسها ، ستبقى نظراته واهتمامه ومراعاة مشاعرها هي الأولوية.
مررت هالة نظراتها مغمورة بالدموع على ملامحه ذات الحاجبين المقعدين ، وكم كانت ترغب في البقاء معه ، لكن عليها أن تضع حداً نهائياً لهذا الألم العميق الذي يسكن أعماقها ، حتى تتحرر أنفاسها محبوسة في رئتيها.
_خلاص انا لاقيت الحل اللي هيريح جميع الاطراف
توترت ملامحه وسألها بقلق حائر وهو يرى أصابع يدها اليسرى تنزع الخاتم من بنصر يدها اليمنى : انتي بتعملي ايه؟!
أمسكت هالة كف يده الباردة بأطراف أصابعها المرتجفة وبسطتها ، لتضع خاتم الخطوبة الذي لم تلبسه إلا ساعات قليلة ، قالت بابتسامة باهتة : اتفضل .. دي مش بتاعتي وماكنش المفروض البسها وهي من حق واحدة تانية
التقينا في لحظة حاسمة كانت كالسيف القاتل على عناقنا ، كلانا هارب من كارثة تكاد تمزق قلوبنا حد الموت ، ولم تمر سوى دقائق قليلة منذ لقائنا ، ووجدتكِ تسردى كذبة حمقاء عبر شفتيك ، أخضعتني لقربك قسراً أيتها المتمردة ، لا أعلم حقاً من منا حينها أصبح أسير للآخر ، لكنكِ صرتِ رغمًا عنكِ عروسي العنيدة أمام كل الحاضرين ، حينذاك أدركت أن مثوى السيف السري هو فيروزيتكِ الثائرة ، وقبل أن أشهر سلاحى ، اخترقتِ بإندفاعكِ الجريء قلبي الذي صرخ غاضباً ، فى الغرام سأكون سفاحًا ، وألف لعنة لكم أيها الخصوم ، فإن شئتى أم أبيتى سوف تكونِ لي ، وبكامل قواى الجنونية أقول لكِ هذا قراري الأخير.
❈-❈-❈
أمام عربية ياسر
تابعت هالة بصراخ أجفله : رد عليا!!
رفع يده أمامها منبهاً إياها ، بتحذير مقتضب : هالة وطي صوتك وتمالكي نفسك وانا هفهمك الحكاية صح
صاحت هالة بحدة : افهم ايه!! وانا كل اللي لاقيته منك عدم احترام لكرامتي ومشاعري وبس
فرك ياسر جبهته بتوتر ، وهو يهتف بنفاذ صبر : استغفر الله العظيم .. دا مش اسلوب لائق خالص للمناقشة .. احنا اعقل من كدا يا هالة .. انا حتي مش فاهم شغل قلب التربيزة دا هتستفيدي منه ايه؟! ماكنتش كلمة وطلعت مني عشان تتفتحي فيا الفتحة دي .. راعي شوية اننا واقفين وسط ناس بيتفرجو علينا
نظرت هالة إليه بعينين ضيقتين مليئتين بالعبرات ، ردت مؤكدة صحة حدسها ، بنبرة هازئة يتخللها الأسف على حالها : مش بقولك فارقلك شكلك دايما .. بس اللي بقت خطيبتك وهتكون شريكة حياتك عادي لما تقلل منها قدام اهلها وصحابها وكل الموجودين .. وطول الوقت كنت مهتم بواحدة تانية .. وبالمناسبة كل اللي حضر الحفلة وشاف المهزلة دي ماستناش للصبح .. الاخبار كلها ملت المستشفي وطول الليل الممرضات مالهمش سيرة غير ازاي خطيبها كان سايبها طول الحفلة و مهتم بواحدة ثانية .. هي لدرجة دي مش مالية عينه .. وهي ازاي قبلت علي نفسها .. ايه معندهاش كرامة!؟
تعبيراتها المليئة بالحزن لم تسعفه فى تبرير موقفه ، لكن لم يكن أمامه إلا أن يكابر ، ويدعى عكس الحقيقة : سبق وفهمتك طبيعة علاقتي بيارا عاملة ازاي .. هي اخت..
قاطعته هالة بإشارة للتوقف عن الكلام : من فضلك انا جبت اخري وخلاص اكتفيت من كتر الكدب اللي بتعيد وتردده دا
لم تعجبه نبرة الاتهام في صوتها الهاديء ، فعدل وقفته أمامها بكل وقار ، ليخرج رده بوضوح وثقة : هالة .. انا لما جيت وتقدمتلك كنت مقتنع باللي بعمله .. واذا في مشاعر من ناحيتي ليارا او لغيرها كنت قولتلك .. انا مش هخاف منك ولا مضطر اكدب عليكي .. وعشان انا مقدر ان اعصابك مشدودة هعمل نفسي ماسمعتش الكلام الفارغ اللي انتي قولتيه
صاحت هالة بإصرار قوى : لا انا كلامي مش فارغ ولا من فراغ وعارفة كويس بقول ايه .. طريقتكم مع بعض دي فوق الطبيعي .. اهتمامك الاوفر بيها دا مش طبيعي ..
❈-❈-❈
فى ذات الوقت
داخل المستشفى تحديدا بغرفة ابريل
دخلت الممرضة الغرفة ، تقترب منها بخطوات هادئة ، لتقول بابتسامة : اتفضلي دي عشانك
عقدت ابريل بين حاجبيها الجميلين ، وهي تأخذ منها علبة حلويات فاخرة مزينة بشكل أنيق ، ثم سألت بنبرة حيرة : مين جابها دي؟!
نظرت ابريل إلى الصندوق بعينين تشعان بالفرح ، لا شعورياً ، إذ ذهب عقلها إلى أخيها الذي يعلم حبها الشديد للشوكولاتة ، لابد أنه يسعى إلى استرضائها ، بهذه الطريقة مختبئاً خلف قناع الحذر منها خوفاً من رفضها ، حتى جاءها الجواب من الممرضة محطماً كل آمالها : خطيبك اللي لسه خارج من عندك من شوية
هزت ابريل رأسها بهدوء في خيبة أمل ، لكن كيف يمكنها أن تظلل الوميض الصغير المنبعث من روحها التي كانت تتمنى دائما أن تحظى بحنان واهتمام من عائلتها؟
أحست بصوتها يحاول الوصول إلى حنجرتها بصعوبة ، فخرجت الكلمات خافتة بما كان يطوف بداخل قلبها : اهلي حد منهم موجود برا
ردت الممرضة بتفكير : اظن لا مفيش حد برا
عقدت ابريل ذراعيها على بطنها ، وأطلقت تنهيدة عميقة تعبر عن مدى إحباطها ، هى تشعر بالاستياء منهم جميعًا ، لكن هذه المشاعر الإنسانية مهما حاولت كبح جماحها أمامهم ، وتصرفت بقسوة ، تظل في أعماقها متعطشة لاهتمامهم الذي ترفض أن تشحذه منهم بالتوسلات ، سرعان ما سخرت من أفكارها الداخلية سراً قبل أن تسألها برقة. : طيب ممكن تجيبلي الهدوم اللي جيت بيها هنا؟
ردت الممرضة بإبتسامة لطيفة : كل حاجاتك موجودين في الدولاب دا .. بس ماينفعش تخرجي قبل الدكتور ما يكتبلك علي خروج
زاغت عينيها بتوتر ، ودفعت شعرها خلف أذنها بفكرة شيطانية سطعت فى عقلعا ، قبل أن تقول بابتسامة وديعة : تمام .. انا جعانة ممكن تجيبلي فطار؟
نطقت أبريل بعبارتها بمنتهى البراءة ، تتوارى خلفها نواياها الماكرة ببراعة شديدة ، جعلت الممرضة تصدقها بكل سهولة ، لتتحدث على الفور : اكيد ممكن الفطار هجيبو حالا مع الدوا وراجعة علي طول
سرعان ما اعتلت إبتسامة ساحرة على ثغرها ، ونبست بإمتنان : ميرسي اوي علي تعبك
الممرضة بسماحة : شغلي يا فندم ربنا يشفيكي
بمجرد أن أغلقت الممرضة الباب خلفها ، زفرت أبريل بقوة وغضب ، وزمجرت بكراهية وامتعاض شديدين : قال خطيبي قال .. هنجلط يارب ماشوفتش حد بارد كدا في حياتي زي البني ادم دا .. معندوش نقطتين دم ولا كرامة .. واحد غيرو وسمع الكلمتين اللي قولتهملو كان زمانه راح دفن نفسه مش يجيبلي شوكولاته .. بس شكل جهاز الاحساس عنده متبدل بديب فريزر
حدقت أبريل في علبة الشوكولاتة بسخرية ، وهمست لنفسها بوعيد : عاملي فيها البيه رومانسي يا استاذ ساخر .. طيب صبرك عليا اما طفحتهالك..!
زفرت الهواء بقوة كبيرة ، وكأنها تزيل ثقلاً كبيراً عن صدرها ، فرفعت فيروزيتها ببريق غامض إلى الخزانة التي أشارت إليها الممرضة ، ثم وضعت الصندوق جانباً بإهمال ، ونهضت من السرير بعزم.
خطت عدة خطوات من الخزانة ، ثم أدارت رقبتها ، محدقة في الباب المغلق بتعبير حزين ، لتركهم لها وحيدة دائماً ، ثم أخذت تربت على قلبها برفق شديد ، والدموع تتلألأ في مقلتيها ، وهي تهمس لذاتها بقوة : لن أبدأ في الانهيار كلما خذلونى ، ولن أنتظر هذا الزائر الحنون الذي سيطرق هذا الباب ، وإن تمزقت أوتار قلبي شوقا لقدومه ، تقديري لذاتي له أهمية قصوى بالنسبة لي ، فأنا أقسمت أمام الله أننى لن أجعل قلبى قابل للكسر مهما حدث.
❈-❈-❈
فى ممر المستشفي
عند باسم
صاح صلاح بصوت أجش حانق جعل المارة يلتفتون نحوهم في دهشة : يا برودك هو انت مش مقدر حجم الكارثة اللي وقعنا فيها بسببك وشغلنا اللي خرب من تحت عمايلك وطيشك ..
تابع بسخط عارم ملوحاً بكلتا يديه فى الهواء : ضاقت بيك الكرة الارضية بحالها رايح تخطب واحدة خطيبة واحد تاني!!! ايه الستات اللي بتعرفهم مسحولك مخك .. عجبك دلوقتي الفضيحة الجديدة المنشورة عنك في كل حتة دي .. اتفضل تعال معايا
أمسك صلاح بمرفقه ، يسحبه خلفه ، ليمشي باسم معه في طاعة تامة حتى وقف معه أمام إحدى النوافذ الكبيرة المطلة علي باحة المستشفى ، قال صلاح بصوت حانق : شوف بعينك يا بيه .. الصحافيين واقفلنا ازاي علي باب المستشفي .. مستنيين بس يلمحو طيفنا عشان ينزلو فينا تصوير واسئلة دا غير التليفونات اللي مابتسكتش من الصبح
هز باسم كتفيه غير مبالٍ بالأمر ، واضعًا يديه في جيوب بنطاله ، ليخاطبه بنبرة ثقيلة : ما انا عارف كل دا .. ما انا اللي كلمتهم وجبتهم لحد هنا اصلا
استشاطت ملامحه غضباً ، فصاح مستنكراً بصوته الأجش : نعم يا روح امك .. انت شكلك اتجننت علي الاخر
أوضح باسم له بعبوس جذاب : ولا اتجننت ولا حاجة .. ابريل مش مخطوبة .. والكلام المكتوب عننا دا كله كدب ومتفبرك
سأل صلاح ساخراً : واحنا هنمسك كل نفر ونشرحله ان دا كله كدب ازاي يا بيه؟!
رفع باسم حاجبه واحد ، مرددا بإنزعاج نافذ الصبر : اومال انا جايب دول لحد هنا عشان ايه!! اللي احنا عايزين نوصله للكل هيكون من خلالهم
تشنجت ملامحه من الصدمة ، وسيطر عليه الجنون ، مزمجراً بسخط شديد ، حيث يكاد أن يسقط أرضاً نتيجة إصابته بجلطة دماغية بسبب برودة ابنه : يعني كمان انت اللي مديهم الاذن بالوقفة دي ؟؟ ومصطفي ايه ناسيه؟! دا من اكبر المستثمرين اللي داخلين في المشروع الجديد واللي بتعمله دا هيخلينا نخسره!!
ضاقت عيناه الرماديتان في تعبير يدل على تقييم ما قاله والده ، قبل أن يهز رأسه بالنفي ، قائلاً بصوت جدي ممزوج باللامبالاة : زي ما في مصطفي في مستثمرين كتير غيره .. اذا هو عايز ينسحب بالسلامة غيره يتمني يكون مكانه .. وانت سيد العارفين يعني مش هتقف عليه .. وهيبقي هو الخسران الشرط الجزائي
تنهد صلاح بقوة قاطباً حاجبيه بحنق : افهم يا بني .. مواضيع الستات لما بتدخل في الشغل بتخربوه واللي اتكتب دا هيأثر علينا كلنا من نواحي كتير وسبق ونبهتك عايز تخطب بنات الناس كتير مش لازم البت دي
عقب باسم على كلام والده بثقة بالغة ، رغم أنه هو نفسه لا يعرف من أين جاء بها وسط الظروف المحيطة به : اذا علي كلام الجرايد .. انا عارف كويس ازاي هنخرس لسان الكل .. وكمان هينزل بكرا بالكتير اعتذار عن اي كلام اتكتب عننا .. والكل واولهم مصطفي هيعرفوا ان ابريل خلاص بقت تخصني
زجره صلاح بغضب سعير ، وهو يكز على أسنانه بقوة حتى لا يلفت النظر إليهم : ماتجننيش ببرودك انا علي اخري .. هو مش هيسكت مافكرتش في اللي ممكن يعمله
تشكلت ملامحه بتعبير صارم تجلى بوضوح في لهجته القوية مثل سيف حاد وهو يذبح ببرود وحسم : مابفكرش فيه ولا يهمني انا مش شايفو غريم ليا حتي .. عشان حكايته معاها خلصت يوم ما هي فسخت الخطوبة اللي محدش كان عارف بيها دا كان مخبيها كأنه عامل عملة .. وخليه يعمل اللي هو عاوزو .. وانا هعرف ازاي اتعامل معاه واي حاجة هيعملها هتتردلو اضعاف
❈-❈-❈
خلال تلك الأثناء
فى غرفة منى
_مني يا حبيبتي الف حمدلله علي سلامتك
هتفت سوسن بلهفة ، وهي تتجه نحو منى التي كانت تجلس فوق السرير بوجه جامد ، وعندما سمعت صوت أمها رفعت عينيها إليها فسقطت من مقلتيها دموع حارقة ، وانفجرت في البكاء المرير بمجرد أن احتضنتها والدتها ، وقالت بحزن شديد ، وهى تربت علي ظهرها بتعاطف تفهم ما تمر به ابنتها : قدر الله ما شاء فعل يا قلب امك بكرا هتعوضيه وربنا هيفرحك صدقي امك ماتزعليش نفسك
أجهشت منى تبكي بصوت عالٍ ، منهارةً من الألم الذى يدمر قلبها بلا رحمة ، بينما الأم تمسد على شعرها بحنان فطري وتعزيها بكل ما لديها من كلام ، لكن مهما قالت فإن جراح ابنتها النازفة حد الموت لن تشفى بأبجدية اللغة العربية أجمع ، فقالت في حيرة : عملتي في نفسك كدا ليه يا مني؟! ايه اللي جرا يا حبيبتي بينك انتي وعز ايه وصل الحال بينكم للطلاق؟!
خرجت منى من حضن أمها ، وهي تنظر إليها بعينين منتفختين وحمراء من شدة البكاء الذي لم تستطع السيطرة عليه ، وصاحت بعنف منهار : هو السبب في اللي انا فيه .. بسببه خسرت ابني .. البني ادم دا خلاص انتهي من حياتي يا ماما .. انا كرهته قد ما حبيته .. دا اكتر واحد اناني ووحش في الدنيا يا ماما .. ماتجبيش سيرته ليا تاني مش عايزة اشوفه تاني .. ماتوجعتش في الدنيا من حد قد ما انا اتدمرت واتوجعت علي يده هو
ألقت بنفسها على صدر أمها ، وواصلت النحيب بصوت يمزق قلب سوسن من الألم ، فهمست لها بنبرة هادئة نوعا ما وهى تعانقها بشدة، وتبكي معها ، فمن الواضح على عز وكلام منى الآن وحالتها المزرية، تؤكد أنه ارتكب بحقها فعلًا لا يغتفر : حاضر خلاص اهدي يا قلب امك واللي انتي عايزاه هنعمله واخوكي زمانه علي وصول كمان هيقعد معاه ويشوف عملك ايه ويجيبلك حقك منه
ابتلعت منى الغصة التي تشكلت في حلقها بألم ، ثم دمدمت بصوت باك، وسيطرت عليها نوبة من الهستيريا. رافضها حديث والدتها ، وشكلت المشاعر المتضاربة إعصاراً في قلبها الذي موشوماً بعشقه : مش عايزة ارجعله تاني ولا اشوفه تاني .. انا بحبه اوي يا ماما .. بحبه بس .. بس علي قد ما حبيته كرهته حاسة قلبي بيتحرق كل ما اتخيل ان خلاص مش هشوفه واكون في حضنه تان وعشان هيوحشني اوي .. بحبه اوي وهو مايستاهلش ذرة من اللي في قلبي ليه .. انا بكرهه يا ماما بكرهه .. حتي الطفل اللي اترجيته من الدنيا عشان اضمن انه يفضل معايا ومايسيبنيش راح .. وهو قبلها طلقني واتخلي عني يا ماما .. بس خلاص خلي دعاء هانم تفرح خليها تروح تجوزه .. خليها هي تكسب انا خلاص خسرت كل حاجة علي ايده ومابقتش عايزاه مش عايزاه
ربتت سوسن على رأسها بحنان قبل أن تستفهم بتعجب : بس يا حبيبتي اهدي اهدي .. قوليلي بس دعاء مالها ومال اللي بينك انتي وجوزك يا مني .. ماتظلميهاش يا بنتي الست دخلت عليها من شوية لاقيتها قاعدة جنبك ومفلوقة من العياط عليكي
أجابت منى عليها من بين شهقاتها : بتعيط من فرحتها عشان وصلت للي هي عايزاه يا ماما
رفعت سوسن يديها ، وأخرجتها من داخل أحضانها ، وأردفت بصوت حنون : طيب طيب بطلي عياط .. امسكي نفسك واحكيلي في ايه دعاء عملتلك ايه؟
أغمضت منى عينيها بأنفاس متلاحقة ، وهي تحاول تمالك أعصابها ، ثم مسحت دموعها بظهر يديها ونظرت إلى سوسن التي ابتسمت مطمئنة وحثتها على إخبارها بالأمر.
استنشقت منى كمية كبيرة من الهواء ، وزفرتها على المهل ، ثم بدأت تروي لها كل الأحداث التي أخفتها عنها خلال الأيام القليلة الماضية.
إختتمت حديثها ، قائلة من بين شهقاتها الممزقة : انا بموت يا ماما الوجع اللي في قلبي هيموتني مش قادرة استحمله
_انا اللي هموت من غيرك يا مني ومش هقدر استحمل اعيش في الدنيا دي من غيرك
جمدت معالمها فور أن جاءها صوته العميق الهامس ، لتسمع قلبها الخائن ينبض بقوة مثل المطارق بين ضلوعها تأثرًا به ، وهذا ما كانت تخشى حدوثه ، فإنها تكذب على نفسها ، فقط تشعر أنه أصبح شخصاً غريباً عنها ، يتدفق كالسم في عروقها ، يستهدف هذا الشريانرالمسمى بالوتين الذي يسكنه هذا العز ، بينما العقل يعزز من وفرة هذا السم ، لأنه يريد التخلص من هذا العز ، ولكن بمجرد حدوث هذا الشيء اللعين ، سيصبح قلبها مجرد نبضات عديمة الفائدة ولا قيمة لها.
❈-❈-❈
عند هالة
عبس وجه ياسر بغضب ، وهو يطلق زفرة قوية من ضغطها المستمر على أعصابه المضطربة حرفياً ، خاصة أن عقله أيضا لا يرحمه ، مجسدا صورة يارا أمامه ، وهي تقبله الليلة الماضية ، لكنه قمع شعوره بالخيانة بكل ما أوتي من قوة ، فهو لم يخطيء بتاتاً : يوووه .. انا زهقت انتي ليه مش عايزة تفهمي .. المفروض يبقي عندك ثقة فيا وفي نفسك اكتر من كدا
واجهته هالة بصدق ، وهى تحدق في عينيه مباشرة : الثقة بتتبني بالوقت والمواقف مابتتخلقش في يوم وليلة و اللي شفته منك يخليني ازاي اثق فيك .. خلاص اخري جبته مش هقدر اتحمل فكرة انها في حياتك دي يا ياسر عشان دا بيجرحني فاهم يعني ايه
زم ياسر شفتيه قبل أن يضغط على فكه بقوة ، وهو يتحاشى النظر إلى عينيها الزرقاوين المتألمتين ، ثم هتف بنفاد صبر : يعني عايزة ايه من الاخر يا هالة
_عايزة اكون الوحيدة في حياتك وجوا قلبك .. عايزة تتنافس مع العشاق وانت بتعبرلي عن حبك ليا .. عايزة ابقي انا وبس تكون ليها كامل الحقوق فيك .. عايزة كل وقتك كل اهتمامك عايزة ابقي كل حاجة في حياتك
دار هذا الحديث الداخلي في ذهنها ، عيناها فقط هي التي عبرت عما تريده وتتمناه بشدة.
مرت عليهما لحظات صمت ثقيلة قبل أن تتحدث بهدوء ، ليشعر بانقباض في قلبه بمجرد سماع كلامها : اذا طلبت منك تقطع علاقتك بيها هتوافق يا ياسر؟!
صدمها رد فعله عندما صاح بالرفض القاطع : لا يا هالة .. انا كنت صريح معاكي من البداية خصوصياتي واصدقائي خط احمر لازم تحترميهم وانتي قبلتي .. يارا انا مش هقطع علاقتي بيها عشان شوية اوهام مالهاش اساس الا جوا دماغك وانتي اللي ليكي عندي اني احترمك ومقصرش معاكي وبحبك
أنهى ياسر كلامه بثقة لم يشعر بها ، إذ أخذ كف يدها الناعمة بين كفيه بحنان ، لقد كان يكذب وكان يعلم ذلك ، لكنه لم يرد أن يخسر أيًا منهما ، فوجدت هالة نفسها تنظر إليه باستغراب في البداية ، قبل أن تنجلى طبقة بلورية من الحزن على عينيها الزرقاوين ، وطغى على قلبها ألم لا يحتمل نتيجة نزيف جرح الغائز فى كبريائها كامرأة ، هو ألم يخص شخصها ولا علاقة له به.
حملقت هالة في يدها المتشابكة مع يده ، لعدة ثواني قبل أن تسحبها بهدوء يخالف حقيقة مشاعرها في تلك اللحظة ، بجهد شاق بذلته للحفاظ على ثباتها الإنفعالي ، حتى لا تنفجر بالبكاء في وضح النهار أمام العيون الفضولية المحيطة بهم ، سألته بنبرة مقتضبة : مقصرتش خالص فعلا .. تقدر تقولي موقف واحد حقيقي اتحطيت انا فيه وانت كنت جنبي فيه؟! مفيش صح .. بس تروح عادي توصلها هي لبيتها وتسيبني انا في مشكلة مش كدا .. صاحب البالين كداب يا دكتور
أخفض ياسر بصره بإرتباك من عودة اتهاماتها تتقاذف عليه ، لتجرده أمام ذاته بحقيقة إهماله الغامر تجاهها ، لينظر إليها بسرعة مرة أخرى ، مستشعرًا بخطر يقترب ، وهى تستكمل بسخرية مريرة : وبعد دا كله تاعب نفسك وجاي لحد هنا عشان تعاتبني علي حاجة ماليش ذنب فيها .. بدل ما تدعمني بكلمة طيبة تخفف عني التوتر اللي كنت فيه .. لا كنت بتلومني علي مساعدتي لانسانة كانت بتموت قدامنا يا دكتور و بتنتقد تصرفات اخويا .. قد كدا انت زعلان علي نفسك..!!!
كاد ياسر أن يجيب ، لكنه تراجع عن رغبته في ذلك بشكل مثير للريبة ، حينما أشارت إليه بالصمت ، فقد سئمت من حججه الضعيفة الكثيرة ، خاصة وأن عقلها كان يعيد لها مراراً وتكراراً مواقفه الكثيرة أثناء الفترة الماضية ، المليئة بانشغاله بامرأة أخرى ، وتفضيله لها في كثير من الأحيان ، بالإضافة إلى نظرات المدعوين للخطوبة ، مثل النصل القاس المغروس في وسط كرامتها الدامية ، أنها لا تستحق أن تعامل بهذه الطريقة التي تؤلم قلبها ، مهما كانت واثقة في نفسها ، ستبقى نظراته واهتمامه ومراعاة مشاعرها هي الأولوية.
مررت هالة نظراتها مغمورة بالدموع على ملامحه ذات الحاجبين المقعدين ، وكم كانت ترغب في البقاء معه ، لكن عليها أن تضع حداً نهائياً لهذا الألم العميق الذي يسكن أعماقها ، حتى تتحرر أنفاسها محبوسة في رئتيها.
_خلاص انا لاقيت الحل اللي هيريح جميع الاطراف
توترت ملامحه وسألها بقلق حائر وهو يرى أصابع يدها اليسرى تنزع الخاتم من بنصر يدها اليمنى : انتي بتعملي ايه؟!
أمسكت هالة كف يده الباردة بأطراف أصابعها المرتجفة وبسطتها ، لتضع خاتم الخطوبة الذي لم تلبسه إلا ساعات قليلة ، قالت بابتسامة باهتة : اتفضل .. دي مش بتاعتي وماكنش المفروض البسها وهي من حق واحدة تانية