رواية رحلة الآثام الفصل العاشر 10 بقلم منال سالم
الفصل العاشر
(زواج أَمْ... ؟)
كان وجهه واجمًا، متكدرًا، ويظهر عليه الضيق الشديد، لم يستوعب كيف لشابة معدومة الخبرة مثلها أن تنجح في التحايل عليه ومراوغته لمجرد التسلية الفارغة، وهو سيد من يقوم بهذه الأمور اللئيمة ببراعة، وفي النهاية تترك كل شيء وراء ظهرها، وتتزوج بآخر دون أن ينال مبتغاه منها. خرج من المدخل مستاءً للغاية، تنطلق من عينيه نظرات الحنق، وزاد من إحساسه بهذا الشعور الناقم وجود "ممدوح" بالسيارة، حتمًا لن يمرره دون سخرية أو استهزاء، وهذا ما لا يحبذه مُطلقًا، فأحب ما لديه أن يتغذى بداخله شعوري الغرور والسيطرة، لا الانتقاص منهما. ما إن رآه الأخير ظاهرًا في مرمى بصره، حتى فتح الباب وترجل من السيارة ليهتف متسائلًا دون استهلالٍ:
-قابلتها؟
رفض "مهاب" الحديث بشيء، واتجه إلى موضعه خلف عجلة القيادة، فتبعه رفيقه بنظراته الفضولية وهو يعلق باستخفافٍ:
-شكلها ادتك الوش الخشب!
ثم أطلق ضحكة ساخرة منه ليستفزه أكثر قبل أن يتابع بنفس الوتيرة وهو يستقر مجاورًا له:
-وإنت الصراحة مش متعود غير على الحاجات الناعمة والطرية.
لم يطق تحمل سخافاته، فاستطرد بصوتٍ ثقيل وهو يدير المفتاح ليشعل المحرك:
-"تهاني" اتجوزت!
حملق فيه مندهشًا، ليعلق بعدها بنبرته الذاهلة:
-نعم، إنت بتهزر صح؟
رد في وجومٍ وهو يخفض الزجاج الملاصق لجانبه:
-لأ، زميلتها قالتلي كده.
مط "ممدوح" فمه متمتمًا:
-غريبة!
لم يضف "مهاب" أي شيءٍ، وانطلق بالسيارة بعيدًا عن المكان؛ لكن "ممدوح" واصل التعقيب الهازئ من الأمر برمته، فأردف ضاحكًا باستمتاعٍ مغيظ:
-كده احنا الاتنين طلعنا برا اللعبة .. وهي اللي كسبت يا باشا.
نفخ رفيقه بصوتٍ مسموعٍ، وحذره في غير صبرٍ:
-مش عاوز كلام زيادة.
مد "ممدوح" ذراعه، ولكزه في جانب كتفه بخفةٍ، كأنما يمزح معه، واستمر في تعليقه المستفز:
-حقك تزعل، أول مرة تخسر، وقصاد مين، واحدة مالهاش وزن ولا قيمة عند "مهاب الجندي"!
فقد آخر ذرات هدوئه، فالتفت برأسه تجاهه، وزجره في عصبيةٍ:
-كفاية يا "ممدوح"، أنا مش ناقصك.
تراجع الأخير عن مواصلة إغاظته، وقال ملطفًا بابتسامة سخيفة:
-ماشي، تعالى نشوف حتة نغير فيها جو.
دون أن ينظر ناحيته أخبره في لهجةٍ حاسمة:
-أنا هوصلك بيتك وبس.
لم يجادله كثيرًا، فأوجز في الرد وهو يسترخي في المقعد، كما لو كان الأمر يروقه بشدة:
-براحتك.
اختطف بين الحين والآخر نظرة عابرة نحوه غير مبالٍ إن كان يراه رائق المزاج أم لا، فهذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها بنشوة الانتصار عليه في شيء، وإن كان من وجهة نظره المتعجرفة حقيرًا.
..........................................
لعب الشيطان برأسها فوسوس لها بفكرة جنونية، وهي التفتيش في أغراض هذه الوافدة المستجدة، إذ ربما تتمكن من معرفة أي شيء عنها، خاصة مع تحفظها الغريب والذي يثير في نفسها الاسترابة والشك. استغلت "نزيهة" فرصة وجود "تهاني" في الحمام لتستحم، فتسللت إلى غرفتها بعدما تأكدت من عدم متابعة أحدٍ لها، وأخذت تمعن النظر في متعلقاتها الشخصية بوقاحةٍ فجة، وهذه الابتسامة المستهزئة تعلو زاوية شفتيها. لم تقم بإعادة ما أمسكته إلى مكانه، تركته بإهمالٍ وهي تقول:
-بس فالحة تعمل نفسها بنت ذوات، ومافيش منها اتنين، وهي عدمانة!
لفت نظرها الحذاء القيم المتروك أسفل تسريحة المرآة، سارت تجاهه، وانحنت لتلتقطه، رفعته إلى عينيها وتأملته بإعجابٍ وهي تُحادث نفسها:
-دي الحاجة العدلة اللي عندك، تستاهل إن الواحد يشوفها عليه.
جلست على طرف الفراش، وبدأت في تجربة قياسه على قدمها؛ لكنها لم تستطع إدخاله بسبب كبر حجم قدمها. ألقته في عصبيةٍ أرضًا نحو التسريحة وهي تغمغم بتأففٍ:
-إياكش يتقطع!
وجودها لم يعد ضروريًا، لهذا كما دخلت خلسة خرجت دون أن يمسك بها أحد، لتنضم إلى زميلاتها الجالسات في الصالة، وكأنها لم تفعل شيئًا.
في تلك الأثناء، كانت "تهاني" قد انتهت لتوها من الاستحمام وتجفيف شعرها، ورغم أنه ما زال رطبًا إلا أنها فضلت جمعه برابطة رأس حتى لا يصير مهوشًا. تسمرت عند عتبة غرفتها ناظرة بحدقتين متسعتين في ذهول مستهجن عندما رأت الفوضى الموجودة بها، تخطى الأمر حدود المقبول، فاندفعت خارجة من غرفتها بكل عنفوانها نحو الصالة، حيث تجتمع الشابات معًا في جلسة تسامرٍ ودية، جالت بعينين متقدتين عليهن جميعًا، وهي تتساءل في نبرة موحية بالاتهام:
-مين دخل أوضتي؟
اندهشن في حيرةٍ من العصبية الزائدة التي جاءت بها عليهن، وتولت إحداهن مهمة الرد نافية ما قالته في صوتٍ هادئ:
-محدش.
احتدت نبرتها وصرخت فيهن باهتياجٍ:
-لأ، في حد كان جوا الأوضة، وفتش في حاجاتي!
نفت أخرى قيامها بذلك الأمر رافعة يديها في الهواء:
-أنا لسه جاية من برا.
انتفضت "نزيهة" قائمة من مكانها، ولوحت لها بذراعها وهي تهدر باشمئزازٍ:
-أوضة إيه دي يا أم أوضة؟!!!
حولت "تهاني" نظراتها المحتقنة تجاهها، وردت في تعصبٍ مهين:
-المفروض إننا في مكان محترم، مش أعدة في الشارع عشان كل من هب ودب يمد إيده على حاجتي.
انفلتت شهقة مستنكرة من "نزيهة"، وصاحت في تحفزٍ، وهي تتقدم تجاهها، كأنما تريد الهجوم عليها للفتك بها:
-قصدك إن احنا حرامية هنا؟
تدخلت في التو واحدة منهن لتحول بينهما بجسدها وهي تقول بتعقلٍ محاولة لملمة الأمور قبل تفاقمها:
-استني شوية، ماينفعش كده!
قامت أخرى بشد "نزيهة" للخلف لإبعادها عن محيطها، بينما واصلت الأولى كلامها:
بصي يا "تهاني" كلنا هنا زي بعض، مافيش واحدة أحسن من التانية!
لم تعبأ بما أخبرتها به، وهتفت مشيرة بسبابتها في وجه الجميع:
-أنا قولت اللي عندي، ولو اتكررت تاني مش هسكت.
غادرت بعدئذ عائدة إلى غرفتها، لتهدر من ورائها "نزيهة" في حنقٍ مستشيط:
-مفكرة نفسها مين دي؟
حاولت إحدى المتواجدات تهدئتها، فقالت:
-حصل خير يا جماعة، مافيش داعي نكبر الموضوع.
ظلت "نزيهة" على حالتها الحاقدة وهي ترد بتحيزٍ مهين:
-دي عاوزة تعمل لنفسها قيمة، وهي ماتسواش.
سرعان ما حامت الشكوك حولها لكونها الوحيدة الثائرة بلا مبررٍ، فتساءلت واحدة منهن بشكلٍ مباشر وهي تحدجها بهذه النظرة القوية:
-"نزيهة"، إنتي دخلتي أوضتها؟
خبت حمئتها إلى حدٍ كبير، وقالت رغم ذلك بلهجةٍ متحفزة:
-الباب كان مفتوح، ف بصيت من برا بس.
-يعني دخلتي؟
-أنا حبيت أعرف الست الدكتورة اللي شايفة نفسها علينا مخبية إيه من ورانا!
-وده يصح؟ إنتي ترضي حد يعمل معاكي كده، وبدون علمك؟!!
-أنا مخدتش منها حاجة، دي كُحيتي على الآخر، أفقر مننا.
-يا ريت مايحصلش ده تاني، مش ناقصين مشاكل لا معاها ولا مع غيرها.
على مضضٍ شديد ردت وهي تزفر الهواء من بين شفتيها:
-طيب.
........................................
كل ما راود ذهنها أنها مؤامرة حقيرة دُبرت في الخفاء لعرقلة الزواج وتأجيله دون أن يتم مراعاة هذه المسكينة المنتظرة بتلهفٍ إتمامه. على وجه السرعة جاءت "أفكار" لزيارة شقيقتها فور أن علمت بالأخبار الصادمة. استقرت على الأريكة بعد استقبالٍ روتيني من "عقيلة"، وزعت نظراتها الغامضة بين الاثنتين حينما جلستا معها، ثم بصوتها اللاهث، وتعبيراتها الممتعضة أخبرتهما بما جعل القلوب تنبض رهبةً:
-خليكوا كده نايمين على ودانكم ومعندكوش خبر باللي بيحصل!!
تساءلت "عقيلة" في ملامح مستغربة:
-في إيه ياختي؟
نظرت لها بأسفٍ قبل أن تخبرها في تبرمٍ:
-الولية حماة بنتك سافرت العراق، والمحروسة لسه أعدة هنا.
حينئذ لطمت على صدرها في صدمة، ولسانها يردد بتحسرٍ:
-يا نصيبتي!!!
ثم سألتها بقلبٍ ملتاع قد راح يدق في تخوفٍ:
-امتى ده حصل؟!
أجابتها "أفكار" وهي تهز رأسها:
-من كام يوم، ولسه دريانة بده.
لم تبدُ "فردوس" متفاجئة كالبقية بهذا الخبر الصادم، مما استرعى الانتباه، فأدارت والدتها وجهها تجاهها، وسألتها في جزعٍ:
-إنتي كنتي تعرفي يا "فردوس"؟ قالتلك إنها مسافرة؟
ترددت للحظاتٍ، ولم تعرف بماذا تخبرها؛ لكن لا مفر من الحقيقة. تلبكت أكثر، وخاطبتها بصوتٍ شبه مهتز:
-هي بنفسها مقالتليش حاجة يامه، بس ابنها الكبير قال إن سي "بدري" هيبعت ياخدها، وبعد كده أنا.
ضربت خالتها على فخذيها بكفيها، وراحت تولول في حسرةٍ:
-شوفتي خيبة بنتك؟ عارفة وساكتة!!
مجددًا وجهت "عقيلة" سؤالها لابنتها في انفعالٍ طفيف:
-وماجبتيش سيرة ليه؟
انتفضت على صوتها العالي، وردت بنبرة أقرب للبكاء:
-افتكرته كلام وبس.
هنا صاحت خالتها تلومها في ضيقٍ شديد:
-وأهوو حصل!
وضعت "عقيلة" يديها أعلى رأسها، وأخذت تهزها يمينًا ويسارًا وهي تتساءل:
-هنعمل إيه دلوقتي؟
كورت "أفكار" قبضة يدها، وكزت على أسنانها لهنيهة قبل أن تتكلم عاليًا في تحفزٍ:
-لازمًا نكلم أخوه يوصله، ويبعت ياخدك، هو مش حاجزك هنا وراكنك على الرف لحد ما يهفه الشوق ياخدك.
وقتئذ التفتت "عقيلة" ناظرة مرة ثانية لابنتها بنظرة مؤنبة للغالية، ثم عادت لتكلم شقيقتها:
-شيعي لحد يجيب أخوه هنا.
قالت دون تفكيرٍ:
-هيحصل ياختي.
ظلت "فردوس" متجمدة في مكانها كالصنم، تنظر إلى كلتيهما بعجزٍ مشوبٍ بالندم، فلو تحدثت في وقت باكر عما علمته، لربما اختلف الوضع تمامًا.
...........................................
بعد توبيخ لاذع، وإنذارات شديدة اللهجة في منزل عائلة زوجة شقيقه، كان عليه التصرف في الحال، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، خاصة أن موقف شقيقه كان مخزيًا ومحرجًا ولا مبرر منطقي له. انتظر "عوض" على المقعد البلاستيكي المتأرجح بسبب انفلات مساميره، ودار بنظراتٍ شاردة على الوجوه البائسة المحيطة به، ورغم إحساسه بالاختناق والحر، إلا أنه لم يتذمر كالبقية أو يثرثر مع أحدهم ليقضي على بطء مرور الوقت، انتظر دوره بصبرٍ طويل، حتى ناداه عامل السنترال ليذهب إلى واحدٍ من الأكشاك الصغيرة ليتحدث لشقيقه عبر الهاتف في مكالمة دولية مدفوعة الثمن مسبقًا، حاول غلق الباب؛ لكنه كان عالقًا، لذا صاح عاليًا وهو يجاهد لاستراق السمع لصوته وسط الجلبة الصاخبة المنتشرة من حوله:
-أيوه يا "بدري"، عامل إيه ياخويا؟
أتت نبرته مبتهجة للغاية:
-في نعمة والحمدلله.
رد عليه وهو يسد بيده أذنه الأخرى ليتمكن من سماعه:
-يستاهل الحمد، وإزي أمي؟ كويسة؟
أجابه بنبرة مسرورة:
-أيوه، في أحسن حال، وربنا دي صحتها ردت لما جت عندي.
قال "عوض"، كأنما يُعلمه بالحقيقة الواقعة، بنفس الصوت العالي:
-هي طول عمرها متعلقة بيك يا "بدري".
أثر ألا يضيع الوقت هباءً، وسأله في التو باهتمامٍ واضح:
-المهم، إنت ناوي على إيه مع مراتك؟
أحس بتبدل نبرته وهو يجيبه:
-بصراحة كده، أنا مش ناوي أكمل.
صدمه ما أخبره به، فردد مستنكرًا في غير رضا:
-بتقول إيه؟
بدا "بدري" هادئًا للغاية وهو يشرح له مبرراته:
-اسمعني بس، هي مش من تُوبي، ولا نافعة معايا.
لم يقتنع بحججه الواهية، وهاجمه في صوتٍ منفعل:
-هي جزمة بتشوف مقاسها ينفع ولا لأ؟ دي بني آدمة.
كاد أن ينطق بشيء؛ لكن "عوض" واصل مقاطعته:
-وبعدين الناس تقول علينا إيه؟ دي تبقى قلة أصل مننا!!
مرة أخرى صُدم برده غير المراعي أبدًا:
-ولا فارق معايا حد، أنا مصلحتي اللي تهمني وبس.
عنفه شقيقه الأكبر بضيقٍ متزايد:
-اتقي الله يا "بدري"!
تهرب منه بوضوحٍ:
-خلينا نتكلم في ده بعدين، أنا ورايا شغل.
رد عليه بما يشبه التحذير وهو يكظم غضبه:
-ماشي، بس راعي ربنا عشان يكرمك.
هتف بتعجلٍ منهيًا معه مخابرته:
-طيب .. طيب .. سلام ياخويا.
وضع السماعة في موضعها، ودفع الباب المحشور ليخرج من الكشك الضيق ضاربًا كفه بالآخر، يمرق بين المتجمهرين وهو غير مستوعب لما قرره شقيقه دون أدنى مسئولية لعواقب ذلك؛ وكأن حياة الأبرياء لا تعنيه، ظل يردد مع نفسه وبلا وعيٍ:
-ذنبها إيه المخلوقة دي تظلمها معاك؟ ذنبها إيه؟!!
بدا وكأنه أُودع في هم لا ناقة له فيه ولا جمل؛ لكنه عقد العزم على إقناع شقيقه بعدم تطليقها مهما تكلف الأمر.
.......................................................
كعهده حينما يتم دعوته لحضور واحدٍ من المؤتمرات الطبية، يمضي وقت فراغه في أشهر النوادي الليلية، للظفر بمتعة جسدية جامحة، فيشبع بها هذا الشعور النهم بالسيطرة والإخضــاع، ورغم شبقه العطش دومًا لكل ما هو مغري إلا أن هذه المرة كانت مختلفة، فبدا غير مكترثٍ بالتودد إلى إحداهن، أو حتى مواعدة واحدة من النساء العابثات، المتمرسات في فنون العشق ومطارحة الغرام. استغرب "ممدوح" من عزوف رفيقه عن أحب الأشياء إلى قلبه، وتحير في شأنه، ، يبدو أن تأثير صدمة زواج "تهاني" كان عميقًا للدرجة التي جعلته عاجزًا عن تقبل أنه رُفض منها، ونالها غيره، لم يترك لخواطره إرهاق عقله بالتفكير، وانضم إليه في طاولته المنعزلة لينظر إليه بتدقيق وهو يتجرع ما في كأسه دفعة واحدة. خاطبه مستفهمًا ليتأكد من ظنونه وهو يفرغ في كأسه القليل من الخمر:
-شايفك لسه ما رجعتش لمودك الرايق من تاني.
من طرف عينه تطلع "مهاب" إليه، وتساءل في جمود:
-عاوزني أعمل إيه؟
أخبره بتريثٍ، وهو يتلقف بفمه بضعة حبات من المكسرات:
-ما أنا بصراحة مابقتش فاهمك، ليه مكبر الموضوع للدرجادي؟!!
منحه "مهاب" نظرة طويلة من عينيه الحمراوين، وكأن هناك أتون مشتعل فيهما، ضغط عليه رفيقه بسؤاله المتعمد ليعزز من شعوره بالألم:
-إيه؟ الخسارة صعبة عليك؟
ثم ضحك ساخرًا منه ليضيف بعدها باستخفافٍ مغيظ:
-بكرة تتعود.
لم يكن بمقدوره تحمل تلميحاته أو حتى التغاضي عن سخافة عباراته، فهدر به في تشنجٍ:
-قفل على السيرة دي!!
هز "ممدوح" كتفيه غير مبالٍ بالغليل المتأجج بداخله، وراح يغوص في المقعد باسترخاءٍ واضح، ثم رفع ذراعه للأعلى ليفرقع بإصبعيه لإحدى النادلات شبه المتعريات لتأتي إليه وتقوم بخدمته بطريقتها الاحترافية. رفض "مهاب" المكوث معه، انتفض الأول ناهضًا ليقول بوجومٍ حانق:
-أنا قايم.
أظهر رفيقه عدم اهتمامه بمغادرته، ولوح له بيده هاتفًا بصوتٍ شبه مرتفع:
-ماتنساش تكريم بكرة.
لم يرد عليه وانصرف بغضبه الذي يلهب صدره، ليردد "ممدوح" من ورائه في همهمة خافتة، وبشماتةٍ بائنة للغاية:
-ياخي جرب كده مرة تكون مضايق وما تخدش اللي نفسك فيه!
..............................................
جلست القرفصاء أمام طَسْت الغسيل النحاسي تدعك بيديها بياضات الأرائك لتتأكد من تنظيفها جيدًا، قبل أن تلقي بها في الغلاية المجاورة لها، لتضمن الحصول على نَصَاعة أكثر للون الأبيض. أوشكت "فردوس" على الانتهاء من هذه المهمة الشاقة حينما سمعت صوت أمها يناديها من الخارج عاليًا:
-شوفي مين على الباب!
-حاضر يامه.
هتفت بهذه الجملة وقد توقفت عما تفعل، لتنهض من جلستها غير المريحة، تأوهت في صوت خفيض، واستقامت واقفة، ثم جففت كفيها المبتلين بالماء والصابون في جانبي ثوبها المنزلي، قبل أن تشد طرفه المثني للأسفل لتغطي ساقيها المكشوفتين. سارت بتعجلٍ تجاه باب البيت، فتحته، وخرجت منها شهقة متوترة عندما أبصرت رجلًا واقفًا قبالته بزي الشرطة الرسمي. في حركة لا إرادية منها، لطمت على صدرها هاتفة:
-يا ساتر يا رب! خير يا شاويش؟
شملها فرد الشرطة بنظرته الفاحصة موجهًا سؤالًا رسميًا لها:
-ده بيت "فردوس شحاته"؟
دق قلبها بقوة، وراح الخوف يختلج أوصالها كغزو يجتاح ما يعترض طريقه بغتة، بلعت ريقها وردت بوجهٍ راحت الدماء تفر منه في الحال:
-أيوه، دي أنا.
فتح الدفتر الذي أتى به، ودون بقلمه الحبر شيئًا في أحد أوراقه، ثم أمرها بلهجة جافة، ولا تزال رسمية:
-اتفضلي استلمي الإعلان ده، ووقعي هنا.
نظرت إلى الورقة التي يبرزها أمام عينيها متسائلة بتحيرٍ قلق، ودبيب قلبها آخذ في التصاعد:
-إعلان إيه؟
بنظرة سريعة لفحوى مضمون الورقة أجابها، ودون أدنى تعاطف معها:
-طلاق غيابي.
تلقت كلماته الموجزة كالصاعقة على رأسها، فاتسعت عيناها في محجريهما، واستطال وجهها في صدمة متضاعفة، لتلطم بعدئذ على خديها بقسوةٍ وهي تصرخ في قهرٍ عظيم:
-يا نصيبتي!!!!
...............................................
محاولة التغلب على ما يؤرق مضطجعك ليس بالأمر الهين على الإطلاق، فقد يجعل الحصول على قسطٍ وافرٍ من النوم أمرًا مستبعدًا، ناهيك عن إرهاق العقل بالكثير والمزيد من الأفكار التحليلية المهلكة للأعصاب. شعر "مهاب" بالصداع يفتك برأسه منذ لحظة استيقاظه، قاومه قدر المستطاع؛ لكنه تمكن منه، فبحث عن دواء مسكن ليتمكن من التماسك طوال الساعة المتبقية من أول أيام ذلك المؤتمر الكئيب؛ لكنه لم يجد. لم ينكر أن سيلًا من الذكريات المزعجة هاجمه وهو يستحضر كيف أمضى شبيه ذلك بصحبة "تهاني"، متوقعًا أنه يجرها إلى شباكه المحكمة، لتعطيه نفحة من نعيمها الأنثوي، واليوم تعمق بداخله ذاك الشعور المرفوض قطعيًا بالهزيمة، كاد يجن، ويخرج عن طور الرزانة المعروف به في محفل الأطباء. تماسك حتى الرمق الأخير، وتلقى الجائزة التقديرية بملامحٍ جليدية يخفي خلفها البركان الثائر في دواخله. امتدت يده لمصافحة أحد كبار الأطباء، والمسئول عن إقامة هذا المحفل، ليخاطبه في امتنانٍ:
-أشكرك للغاية على هذا التكريم.
بادله الطبيب المصافحة وقال في إعجابٍ:
-أنت مثال رائع للطبيب المثابر.
ضحك بتصنعٍ، وعلق وهو يربت بيده الأخرى على جانب ذراعه:
-أنت تبالغ عزيزي.
استعاد الطبيب يده، وأبدى تفاخره به مرددًا:
-تستحق دومًا الأفضل.
أنهى معه الحوار بلباقةٍ، وانتقل للحديث مع آخر لعدة دقائق. كان "مهاب" على وشك المغادرة تمامًا لولا أن استوقفه هذا الصوت الناعم الذي يعرفه جيدًا، فاتجه دون إعادة تفكير إلى صاحبته ليحييها بوديةٍ غريبة:
-الجميلة "ديبرا"!
التفتت إليه الأخيرة لتنظر إليه بجبين مقطب، ونظرات متشككة. وضعت بشفتيها ابتسامة متكلفة قبل أن تقول برسمية تامة:
-أهلًا بك دكتور "مهاب".
لم تمد يدها لمصافحته، ولم تحاول حتى تقبيله بحرارة في وجنته، كانت متباعدة كليًا عنه، فاستنكر جفائها، وعاتبها بنظرة لعوب:
-لما كل ذلك التحفظ معي؟!
أولته ظهرها فرأى كيف تمتد الفتحة الخلفية لثوبها النبيذي حتى انتفاخ ردفيها، اشتهى تذوق ما وراء ساتر القماش، وأبقى عينيه الجائعتين على منحنيات جسدها المغرية. تأهبت حواسه عندما أجابته بنبرة جافة يشوبها القليل من الاتهام:
-لئلا أزعجك صديقتك، ألم تقل لي ذلك؟ أم أنك تريد إغضابها؟
ثم استدارت مرة واحدة تجاهه لتجد عينيه معلقتين بها، فابتسمت في تشفٍ، وسألته في خبثٍ وقح، كأنما تتعمد إحراجه بشكلٍ يلمح بالإهانة:
-بالمناسبة، أين هي؟ أم أنك أثبت عدم جدارتك معها؟
غلت الدماء في عروقه حنقًا منها، ورغم هذا حافظ على ابتسامته المنمقة وهو يجيبها بهدوءٍ مريب:
-لقد انفصلت عنها!
رفعت حاجبها للأعلى، وهتفت في ذهولٍ:
-لا أصدق! كيف حدث ذلك؟
اشتدت تعابير وجهه، وأخبرها وهو يحاول جاهدًا نفض كل ما يخص "تهاني" من ذكريات:
-لا يهم، كفانا حديثًا عنها، وهيا بنا، لنا لقاء مميز.
اختتم جملته ويده قد وجدت طريقها إلى ظهرها فلامست جلدها الناعم، اقشعر بدنها، وراحت الوخزات المحفزة تضرب كل ذرة في جسدها، شعرت بذراعه تطوق بعدئذ خصرها في قوةٍ محسوسة، كأنما يفرض سطوته عليها بالتدريج. لم تقاومه، وأبدت استعدادها للمرح الجامح معه، تبسمت وسألته بعبثية ظاهرة في نظرتها إليه:
-إلى أين؟
مال على أذنها ليهمس لها بشيءٍ من المكر:
-سأعوضك عن تلك الليلة الكئيبة.
قوست فمها قائلة في تشوقٍ:
-أوه، عزيزي، أنا آ...
قاطعها بإصرارٍ وهو يداعب جانبها بأصابع يده:
-لن أقبل بالرفض!
وضعت يدها على كفه تتحسسه، وقالت في ميوعة صاغرة، كأنما لبت نداء الإغراء الذي أطلقه لها:
-حسنًا، أنا طوعك سيدي.
..................................................
تناوب عليها خليط مكثف من مشاعر الألم والمتعة والرضا والانتشاء في آن واحد وهي ترتشف معه من كأس الحب الآثم، إلى أن جاء دوره لنيل غايته التي يكبحها بصعوبةٍ، بالطبع كانت مستسلمة طواعية له، فلم تحتج إلى أي محايلة منه أو حتى مقاومة لتنفذ أوامره، كانت ملك يديه، يعيث فيها كيفما يشاء، كما أن تأثير المشروبات الكحولية خلال لحظاتهما الخاصة أذهب برجاحة عقلها، فأصبحت خاضعة تمامًا لما يمليه عليها. شعرت "ديبرا" بقبضتي "مهاب" تمسكان بها من معصميها، بعدما استلقت بلا ساترٍ وتمددت على بطنها الصغير، رفعهما للأعلى قليلًا، وقيدهما بخشونةٍ في حامل الفراش، فسألته بنبرة ثقيلة:
-عزيزي، ماذا تفعل؟
أجابها بغموضٍ مخيف:
-سنمرح قليلًا .. كما تعرفين.
وجدت يده تمسك بقدميها، حاولت رفع رأسها، والنظر إليه؛ لكنها لم تتمكن، فإذ به يقيد كل واحدة بحافة الفراش، فأصبحت مكبلة بالكامل، راحت تتلوى كالأفعى في مكانها، جاعلة كل بروز في جسدها يتماوج كأمواج البحر حين يشق القارب طريقه فيه. تكلمت وهي تضحك في ميوعةٍ:
-أنت تبدو بربريًا اليوم.
خاطبها بلهجته العربية ووجهه يكاد يفح نارًا:
-مش أنا اللي واحدة تتريق عليا.
تعذر عليها استيعاب مقصده بهذه اللغة، فرددت في تحيرٍ:
-لا أفهم ما تقول.
كادت تفوه بشيء آخر لكن صوتها تحول لأنين مع هذه الصفعة القوية التي تلقتها بغتة على ردفيها بشيءٍ بدا وكأنه جلد قاسي الملمس، حاولت النظر إليه لترى ما في يده، فوجدته قد استل حزامه ليؤنبها به. تقوست بظهرها، وتساءلت في لهاثٍ مازح:
-أستقوم بتأديب تلميذتك؟
أعطاها أخرى أشد قوة على فخذيها فصرخت من الألم الحقيقي، ليخبرها بعدها بنبرة أقرب للفحيح، وهذه الابتسامة المتلونة تبرز في وجهه:
-بالطبع، سألقنك درسًا لن تنسيه!
لم يترك "مهاب" جزءًا في جسدها -صعودًا وهبوطًا- إلا ووسمه بلسعة كالسوط من حزامه، انتقامًا من سخريتها السابقة، توقف عندما التهب جلدها، وأصبح مكدومًا ببقع لن تختفي آثارها إلا بمرور عدة أيامٍ وباستخدام الملطفات الدوائية. جلس مجاورًا لها على الفراش دون أن يحل قيدها، فرفع وجهها إليه من طرف ذقنها، تأمل اشتعال بشرة وجهها جراء كم الدماء الساخنة المتدفقة التي اجتمعت فيها. توسلته لتركها وفك قيدها، فما كان منه إلا أن مال عليها ليخبرها بهمسٍ:
-لم ننتهِ بعد!
كمم فمها، ليزيد من إذلالها وإهانتها بما ظن أنها الطريقة المناسبة للتعامل مع واحدة مثلها، نالت في البداية متعتها الخاصة، وحاز في النهاية على شعوره بالسيطرة المزعومة بطريقته الملتوية. نهض من الفراش متجهًا لخارج غرفة النوم الملحقة بجناحه الفندقي، سار إلى حيث ينتظره "ممدوح" بالردهة، طالعه بهذه النظرة المتعالية وهو يضع يديه في جيبي بنطاله ليخبره بعجرفةٍ، وكأنه يمنَّ عليه بفضلة خيره:
-مابقتش تلزمني .. خدها.
فجاجة كلماته، ونظراته المهينة لم تمنعه من إظهار هذه البسمة المتسعة على محياه، كاتمًا في صدره إحساسه بالغل الحاقد تجاهه، ببرودٍ محكم قام واقفًا، وشمر عن كميه قائلًا بترحيبٍ شديد:
-أنا جاهز ليها ....
لم يتم جملته عن عمدٍ إلى أن وقف في مواجهته، فتابع عن نبرة موحية وهو يركز عليه بنظرة قوية نافذة:
-أو لغيرها حتى لو طارت من القفص!
تركه "ممدوح" واقفًا في مكانه، واتجه إلى الغرفة، ليهتف "مهاب" من بين شفتيه بصوتٍ خفيض، وأقرب للوعيد:
-اللعبة لسه مخلصتش ........
(زواج أَمْ... ؟)
كان وجهه واجمًا، متكدرًا، ويظهر عليه الضيق الشديد، لم يستوعب كيف لشابة معدومة الخبرة مثلها أن تنجح في التحايل عليه ومراوغته لمجرد التسلية الفارغة، وهو سيد من يقوم بهذه الأمور اللئيمة ببراعة، وفي النهاية تترك كل شيء وراء ظهرها، وتتزوج بآخر دون أن ينال مبتغاه منها. خرج من المدخل مستاءً للغاية، تنطلق من عينيه نظرات الحنق، وزاد من إحساسه بهذا الشعور الناقم وجود "ممدوح" بالسيارة، حتمًا لن يمرره دون سخرية أو استهزاء، وهذا ما لا يحبذه مُطلقًا، فأحب ما لديه أن يتغذى بداخله شعوري الغرور والسيطرة، لا الانتقاص منهما. ما إن رآه الأخير ظاهرًا في مرمى بصره، حتى فتح الباب وترجل من السيارة ليهتف متسائلًا دون استهلالٍ:
-قابلتها؟
رفض "مهاب" الحديث بشيء، واتجه إلى موضعه خلف عجلة القيادة، فتبعه رفيقه بنظراته الفضولية وهو يعلق باستخفافٍ:
-شكلها ادتك الوش الخشب!
ثم أطلق ضحكة ساخرة منه ليستفزه أكثر قبل أن يتابع بنفس الوتيرة وهو يستقر مجاورًا له:
-وإنت الصراحة مش متعود غير على الحاجات الناعمة والطرية.
لم يطق تحمل سخافاته، فاستطرد بصوتٍ ثقيل وهو يدير المفتاح ليشعل المحرك:
-"تهاني" اتجوزت!
حملق فيه مندهشًا، ليعلق بعدها بنبرته الذاهلة:
-نعم، إنت بتهزر صح؟
رد في وجومٍ وهو يخفض الزجاج الملاصق لجانبه:
-لأ، زميلتها قالتلي كده.
مط "ممدوح" فمه متمتمًا:
-غريبة!
لم يضف "مهاب" أي شيءٍ، وانطلق بالسيارة بعيدًا عن المكان؛ لكن "ممدوح" واصل التعقيب الهازئ من الأمر برمته، فأردف ضاحكًا باستمتاعٍ مغيظ:
-كده احنا الاتنين طلعنا برا اللعبة .. وهي اللي كسبت يا باشا.
نفخ رفيقه بصوتٍ مسموعٍ، وحذره في غير صبرٍ:
-مش عاوز كلام زيادة.
مد "ممدوح" ذراعه، ولكزه في جانب كتفه بخفةٍ، كأنما يمزح معه، واستمر في تعليقه المستفز:
-حقك تزعل، أول مرة تخسر، وقصاد مين، واحدة مالهاش وزن ولا قيمة عند "مهاب الجندي"!
فقد آخر ذرات هدوئه، فالتفت برأسه تجاهه، وزجره في عصبيةٍ:
-كفاية يا "ممدوح"، أنا مش ناقصك.
تراجع الأخير عن مواصلة إغاظته، وقال ملطفًا بابتسامة سخيفة:
-ماشي، تعالى نشوف حتة نغير فيها جو.
دون أن ينظر ناحيته أخبره في لهجةٍ حاسمة:
-أنا هوصلك بيتك وبس.
لم يجادله كثيرًا، فأوجز في الرد وهو يسترخي في المقعد، كما لو كان الأمر يروقه بشدة:
-براحتك.
اختطف بين الحين والآخر نظرة عابرة نحوه غير مبالٍ إن كان يراه رائق المزاج أم لا، فهذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها بنشوة الانتصار عليه في شيء، وإن كان من وجهة نظره المتعجرفة حقيرًا.
..........................................
لعب الشيطان برأسها فوسوس لها بفكرة جنونية، وهي التفتيش في أغراض هذه الوافدة المستجدة، إذ ربما تتمكن من معرفة أي شيء عنها، خاصة مع تحفظها الغريب والذي يثير في نفسها الاسترابة والشك. استغلت "نزيهة" فرصة وجود "تهاني" في الحمام لتستحم، فتسللت إلى غرفتها بعدما تأكدت من عدم متابعة أحدٍ لها، وأخذت تمعن النظر في متعلقاتها الشخصية بوقاحةٍ فجة، وهذه الابتسامة المستهزئة تعلو زاوية شفتيها. لم تقم بإعادة ما أمسكته إلى مكانه، تركته بإهمالٍ وهي تقول:
-بس فالحة تعمل نفسها بنت ذوات، ومافيش منها اتنين، وهي عدمانة!
لفت نظرها الحذاء القيم المتروك أسفل تسريحة المرآة، سارت تجاهه، وانحنت لتلتقطه، رفعته إلى عينيها وتأملته بإعجابٍ وهي تُحادث نفسها:
-دي الحاجة العدلة اللي عندك، تستاهل إن الواحد يشوفها عليه.
جلست على طرف الفراش، وبدأت في تجربة قياسه على قدمها؛ لكنها لم تستطع إدخاله بسبب كبر حجم قدمها. ألقته في عصبيةٍ أرضًا نحو التسريحة وهي تغمغم بتأففٍ:
-إياكش يتقطع!
وجودها لم يعد ضروريًا، لهذا كما دخلت خلسة خرجت دون أن يمسك بها أحد، لتنضم إلى زميلاتها الجالسات في الصالة، وكأنها لم تفعل شيئًا.
في تلك الأثناء، كانت "تهاني" قد انتهت لتوها من الاستحمام وتجفيف شعرها، ورغم أنه ما زال رطبًا إلا أنها فضلت جمعه برابطة رأس حتى لا يصير مهوشًا. تسمرت عند عتبة غرفتها ناظرة بحدقتين متسعتين في ذهول مستهجن عندما رأت الفوضى الموجودة بها، تخطى الأمر حدود المقبول، فاندفعت خارجة من غرفتها بكل عنفوانها نحو الصالة، حيث تجتمع الشابات معًا في جلسة تسامرٍ ودية، جالت بعينين متقدتين عليهن جميعًا، وهي تتساءل في نبرة موحية بالاتهام:
-مين دخل أوضتي؟
اندهشن في حيرةٍ من العصبية الزائدة التي جاءت بها عليهن، وتولت إحداهن مهمة الرد نافية ما قالته في صوتٍ هادئ:
-محدش.
احتدت نبرتها وصرخت فيهن باهتياجٍ:
-لأ، في حد كان جوا الأوضة، وفتش في حاجاتي!
نفت أخرى قيامها بذلك الأمر رافعة يديها في الهواء:
-أنا لسه جاية من برا.
انتفضت "نزيهة" قائمة من مكانها، ولوحت لها بذراعها وهي تهدر باشمئزازٍ:
-أوضة إيه دي يا أم أوضة؟!!!
حولت "تهاني" نظراتها المحتقنة تجاهها، وردت في تعصبٍ مهين:
-المفروض إننا في مكان محترم، مش أعدة في الشارع عشان كل من هب ودب يمد إيده على حاجتي.
انفلتت شهقة مستنكرة من "نزيهة"، وصاحت في تحفزٍ، وهي تتقدم تجاهها، كأنما تريد الهجوم عليها للفتك بها:
-قصدك إن احنا حرامية هنا؟
تدخلت في التو واحدة منهن لتحول بينهما بجسدها وهي تقول بتعقلٍ محاولة لملمة الأمور قبل تفاقمها:
-استني شوية، ماينفعش كده!
قامت أخرى بشد "نزيهة" للخلف لإبعادها عن محيطها، بينما واصلت الأولى كلامها:
بصي يا "تهاني" كلنا هنا زي بعض، مافيش واحدة أحسن من التانية!
لم تعبأ بما أخبرتها به، وهتفت مشيرة بسبابتها في وجه الجميع:
-أنا قولت اللي عندي، ولو اتكررت تاني مش هسكت.
غادرت بعدئذ عائدة إلى غرفتها، لتهدر من ورائها "نزيهة" في حنقٍ مستشيط:
-مفكرة نفسها مين دي؟
حاولت إحدى المتواجدات تهدئتها، فقالت:
-حصل خير يا جماعة، مافيش داعي نكبر الموضوع.
ظلت "نزيهة" على حالتها الحاقدة وهي ترد بتحيزٍ مهين:
-دي عاوزة تعمل لنفسها قيمة، وهي ماتسواش.
سرعان ما حامت الشكوك حولها لكونها الوحيدة الثائرة بلا مبررٍ، فتساءلت واحدة منهن بشكلٍ مباشر وهي تحدجها بهذه النظرة القوية:
-"نزيهة"، إنتي دخلتي أوضتها؟
خبت حمئتها إلى حدٍ كبير، وقالت رغم ذلك بلهجةٍ متحفزة:
-الباب كان مفتوح، ف بصيت من برا بس.
-يعني دخلتي؟
-أنا حبيت أعرف الست الدكتورة اللي شايفة نفسها علينا مخبية إيه من ورانا!
-وده يصح؟ إنتي ترضي حد يعمل معاكي كده، وبدون علمك؟!!
-أنا مخدتش منها حاجة، دي كُحيتي على الآخر، أفقر مننا.
-يا ريت مايحصلش ده تاني، مش ناقصين مشاكل لا معاها ولا مع غيرها.
على مضضٍ شديد ردت وهي تزفر الهواء من بين شفتيها:
-طيب.
........................................
كل ما راود ذهنها أنها مؤامرة حقيرة دُبرت في الخفاء لعرقلة الزواج وتأجيله دون أن يتم مراعاة هذه المسكينة المنتظرة بتلهفٍ إتمامه. على وجه السرعة جاءت "أفكار" لزيارة شقيقتها فور أن علمت بالأخبار الصادمة. استقرت على الأريكة بعد استقبالٍ روتيني من "عقيلة"، وزعت نظراتها الغامضة بين الاثنتين حينما جلستا معها، ثم بصوتها اللاهث، وتعبيراتها الممتعضة أخبرتهما بما جعل القلوب تنبض رهبةً:
-خليكوا كده نايمين على ودانكم ومعندكوش خبر باللي بيحصل!!
تساءلت "عقيلة" في ملامح مستغربة:
-في إيه ياختي؟
نظرت لها بأسفٍ قبل أن تخبرها في تبرمٍ:
-الولية حماة بنتك سافرت العراق، والمحروسة لسه أعدة هنا.
حينئذ لطمت على صدرها في صدمة، ولسانها يردد بتحسرٍ:
-يا نصيبتي!!!
ثم سألتها بقلبٍ ملتاع قد راح يدق في تخوفٍ:
-امتى ده حصل؟!
أجابتها "أفكار" وهي تهز رأسها:
-من كام يوم، ولسه دريانة بده.
لم تبدُ "فردوس" متفاجئة كالبقية بهذا الخبر الصادم، مما استرعى الانتباه، فأدارت والدتها وجهها تجاهها، وسألتها في جزعٍ:
-إنتي كنتي تعرفي يا "فردوس"؟ قالتلك إنها مسافرة؟
ترددت للحظاتٍ، ولم تعرف بماذا تخبرها؛ لكن لا مفر من الحقيقة. تلبكت أكثر، وخاطبتها بصوتٍ شبه مهتز:
-هي بنفسها مقالتليش حاجة يامه، بس ابنها الكبير قال إن سي "بدري" هيبعت ياخدها، وبعد كده أنا.
ضربت خالتها على فخذيها بكفيها، وراحت تولول في حسرةٍ:
-شوفتي خيبة بنتك؟ عارفة وساكتة!!
مجددًا وجهت "عقيلة" سؤالها لابنتها في انفعالٍ طفيف:
-وماجبتيش سيرة ليه؟
انتفضت على صوتها العالي، وردت بنبرة أقرب للبكاء:
-افتكرته كلام وبس.
هنا صاحت خالتها تلومها في ضيقٍ شديد:
-وأهوو حصل!
وضعت "عقيلة" يديها أعلى رأسها، وأخذت تهزها يمينًا ويسارًا وهي تتساءل:
-هنعمل إيه دلوقتي؟
كورت "أفكار" قبضة يدها، وكزت على أسنانها لهنيهة قبل أن تتكلم عاليًا في تحفزٍ:
-لازمًا نكلم أخوه يوصله، ويبعت ياخدك، هو مش حاجزك هنا وراكنك على الرف لحد ما يهفه الشوق ياخدك.
وقتئذ التفتت "عقيلة" ناظرة مرة ثانية لابنتها بنظرة مؤنبة للغالية، ثم عادت لتكلم شقيقتها:
-شيعي لحد يجيب أخوه هنا.
قالت دون تفكيرٍ:
-هيحصل ياختي.
ظلت "فردوس" متجمدة في مكانها كالصنم، تنظر إلى كلتيهما بعجزٍ مشوبٍ بالندم، فلو تحدثت في وقت باكر عما علمته، لربما اختلف الوضع تمامًا.
...........................................
بعد توبيخ لاذع، وإنذارات شديدة اللهجة في منزل عائلة زوجة شقيقه، كان عليه التصرف في الحال، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، خاصة أن موقف شقيقه كان مخزيًا ومحرجًا ولا مبرر منطقي له. انتظر "عوض" على المقعد البلاستيكي المتأرجح بسبب انفلات مساميره، ودار بنظراتٍ شاردة على الوجوه البائسة المحيطة به، ورغم إحساسه بالاختناق والحر، إلا أنه لم يتذمر كالبقية أو يثرثر مع أحدهم ليقضي على بطء مرور الوقت، انتظر دوره بصبرٍ طويل، حتى ناداه عامل السنترال ليذهب إلى واحدٍ من الأكشاك الصغيرة ليتحدث لشقيقه عبر الهاتف في مكالمة دولية مدفوعة الثمن مسبقًا، حاول غلق الباب؛ لكنه كان عالقًا، لذا صاح عاليًا وهو يجاهد لاستراق السمع لصوته وسط الجلبة الصاخبة المنتشرة من حوله:
-أيوه يا "بدري"، عامل إيه ياخويا؟
أتت نبرته مبتهجة للغاية:
-في نعمة والحمدلله.
رد عليه وهو يسد بيده أذنه الأخرى ليتمكن من سماعه:
-يستاهل الحمد، وإزي أمي؟ كويسة؟
أجابه بنبرة مسرورة:
-أيوه، في أحسن حال، وربنا دي صحتها ردت لما جت عندي.
قال "عوض"، كأنما يُعلمه بالحقيقة الواقعة، بنفس الصوت العالي:
-هي طول عمرها متعلقة بيك يا "بدري".
أثر ألا يضيع الوقت هباءً، وسأله في التو باهتمامٍ واضح:
-المهم، إنت ناوي على إيه مع مراتك؟
أحس بتبدل نبرته وهو يجيبه:
-بصراحة كده، أنا مش ناوي أكمل.
صدمه ما أخبره به، فردد مستنكرًا في غير رضا:
-بتقول إيه؟
بدا "بدري" هادئًا للغاية وهو يشرح له مبرراته:
-اسمعني بس، هي مش من تُوبي، ولا نافعة معايا.
لم يقتنع بحججه الواهية، وهاجمه في صوتٍ منفعل:
-هي جزمة بتشوف مقاسها ينفع ولا لأ؟ دي بني آدمة.
كاد أن ينطق بشيء؛ لكن "عوض" واصل مقاطعته:
-وبعدين الناس تقول علينا إيه؟ دي تبقى قلة أصل مننا!!
مرة أخرى صُدم برده غير المراعي أبدًا:
-ولا فارق معايا حد، أنا مصلحتي اللي تهمني وبس.
عنفه شقيقه الأكبر بضيقٍ متزايد:
-اتقي الله يا "بدري"!
تهرب منه بوضوحٍ:
-خلينا نتكلم في ده بعدين، أنا ورايا شغل.
رد عليه بما يشبه التحذير وهو يكظم غضبه:
-ماشي، بس راعي ربنا عشان يكرمك.
هتف بتعجلٍ منهيًا معه مخابرته:
-طيب .. طيب .. سلام ياخويا.
وضع السماعة في موضعها، ودفع الباب المحشور ليخرج من الكشك الضيق ضاربًا كفه بالآخر، يمرق بين المتجمهرين وهو غير مستوعب لما قرره شقيقه دون أدنى مسئولية لعواقب ذلك؛ وكأن حياة الأبرياء لا تعنيه، ظل يردد مع نفسه وبلا وعيٍ:
-ذنبها إيه المخلوقة دي تظلمها معاك؟ ذنبها إيه؟!!
بدا وكأنه أُودع في هم لا ناقة له فيه ولا جمل؛ لكنه عقد العزم على إقناع شقيقه بعدم تطليقها مهما تكلف الأمر.
.......................................................
كعهده حينما يتم دعوته لحضور واحدٍ من المؤتمرات الطبية، يمضي وقت فراغه في أشهر النوادي الليلية، للظفر بمتعة جسدية جامحة، فيشبع بها هذا الشعور النهم بالسيطرة والإخضــاع، ورغم شبقه العطش دومًا لكل ما هو مغري إلا أن هذه المرة كانت مختلفة، فبدا غير مكترثٍ بالتودد إلى إحداهن، أو حتى مواعدة واحدة من النساء العابثات، المتمرسات في فنون العشق ومطارحة الغرام. استغرب "ممدوح" من عزوف رفيقه عن أحب الأشياء إلى قلبه، وتحير في شأنه، ، يبدو أن تأثير صدمة زواج "تهاني" كان عميقًا للدرجة التي جعلته عاجزًا عن تقبل أنه رُفض منها، ونالها غيره، لم يترك لخواطره إرهاق عقله بالتفكير، وانضم إليه في طاولته المنعزلة لينظر إليه بتدقيق وهو يتجرع ما في كأسه دفعة واحدة. خاطبه مستفهمًا ليتأكد من ظنونه وهو يفرغ في كأسه القليل من الخمر:
-شايفك لسه ما رجعتش لمودك الرايق من تاني.
من طرف عينه تطلع "مهاب" إليه، وتساءل في جمود:
-عاوزني أعمل إيه؟
أخبره بتريثٍ، وهو يتلقف بفمه بضعة حبات من المكسرات:
-ما أنا بصراحة مابقتش فاهمك، ليه مكبر الموضوع للدرجادي؟!!
منحه "مهاب" نظرة طويلة من عينيه الحمراوين، وكأن هناك أتون مشتعل فيهما، ضغط عليه رفيقه بسؤاله المتعمد ليعزز من شعوره بالألم:
-إيه؟ الخسارة صعبة عليك؟
ثم ضحك ساخرًا منه ليضيف بعدها باستخفافٍ مغيظ:
-بكرة تتعود.
لم يكن بمقدوره تحمل تلميحاته أو حتى التغاضي عن سخافة عباراته، فهدر به في تشنجٍ:
-قفل على السيرة دي!!
هز "ممدوح" كتفيه غير مبالٍ بالغليل المتأجج بداخله، وراح يغوص في المقعد باسترخاءٍ واضح، ثم رفع ذراعه للأعلى ليفرقع بإصبعيه لإحدى النادلات شبه المتعريات لتأتي إليه وتقوم بخدمته بطريقتها الاحترافية. رفض "مهاب" المكوث معه، انتفض الأول ناهضًا ليقول بوجومٍ حانق:
-أنا قايم.
أظهر رفيقه عدم اهتمامه بمغادرته، ولوح له بيده هاتفًا بصوتٍ شبه مرتفع:
-ماتنساش تكريم بكرة.
لم يرد عليه وانصرف بغضبه الذي يلهب صدره، ليردد "ممدوح" من ورائه في همهمة خافتة، وبشماتةٍ بائنة للغاية:
-ياخي جرب كده مرة تكون مضايق وما تخدش اللي نفسك فيه!
..............................................
جلست القرفصاء أمام طَسْت الغسيل النحاسي تدعك بيديها بياضات الأرائك لتتأكد من تنظيفها جيدًا، قبل أن تلقي بها في الغلاية المجاورة لها، لتضمن الحصول على نَصَاعة أكثر للون الأبيض. أوشكت "فردوس" على الانتهاء من هذه المهمة الشاقة حينما سمعت صوت أمها يناديها من الخارج عاليًا:
-شوفي مين على الباب!
-حاضر يامه.
هتفت بهذه الجملة وقد توقفت عما تفعل، لتنهض من جلستها غير المريحة، تأوهت في صوت خفيض، واستقامت واقفة، ثم جففت كفيها المبتلين بالماء والصابون في جانبي ثوبها المنزلي، قبل أن تشد طرفه المثني للأسفل لتغطي ساقيها المكشوفتين. سارت بتعجلٍ تجاه باب البيت، فتحته، وخرجت منها شهقة متوترة عندما أبصرت رجلًا واقفًا قبالته بزي الشرطة الرسمي. في حركة لا إرادية منها، لطمت على صدرها هاتفة:
-يا ساتر يا رب! خير يا شاويش؟
شملها فرد الشرطة بنظرته الفاحصة موجهًا سؤالًا رسميًا لها:
-ده بيت "فردوس شحاته"؟
دق قلبها بقوة، وراح الخوف يختلج أوصالها كغزو يجتاح ما يعترض طريقه بغتة، بلعت ريقها وردت بوجهٍ راحت الدماء تفر منه في الحال:
-أيوه، دي أنا.
فتح الدفتر الذي أتى به، ودون بقلمه الحبر شيئًا في أحد أوراقه، ثم أمرها بلهجة جافة، ولا تزال رسمية:
-اتفضلي استلمي الإعلان ده، ووقعي هنا.
نظرت إلى الورقة التي يبرزها أمام عينيها متسائلة بتحيرٍ قلق، ودبيب قلبها آخذ في التصاعد:
-إعلان إيه؟
بنظرة سريعة لفحوى مضمون الورقة أجابها، ودون أدنى تعاطف معها:
-طلاق غيابي.
تلقت كلماته الموجزة كالصاعقة على رأسها، فاتسعت عيناها في محجريهما، واستطال وجهها في صدمة متضاعفة، لتلطم بعدئذ على خديها بقسوةٍ وهي تصرخ في قهرٍ عظيم:
-يا نصيبتي!!!!
...............................................
محاولة التغلب على ما يؤرق مضطجعك ليس بالأمر الهين على الإطلاق، فقد يجعل الحصول على قسطٍ وافرٍ من النوم أمرًا مستبعدًا، ناهيك عن إرهاق العقل بالكثير والمزيد من الأفكار التحليلية المهلكة للأعصاب. شعر "مهاب" بالصداع يفتك برأسه منذ لحظة استيقاظه، قاومه قدر المستطاع؛ لكنه تمكن منه، فبحث عن دواء مسكن ليتمكن من التماسك طوال الساعة المتبقية من أول أيام ذلك المؤتمر الكئيب؛ لكنه لم يجد. لم ينكر أن سيلًا من الذكريات المزعجة هاجمه وهو يستحضر كيف أمضى شبيه ذلك بصحبة "تهاني"، متوقعًا أنه يجرها إلى شباكه المحكمة، لتعطيه نفحة من نعيمها الأنثوي، واليوم تعمق بداخله ذاك الشعور المرفوض قطعيًا بالهزيمة، كاد يجن، ويخرج عن طور الرزانة المعروف به في محفل الأطباء. تماسك حتى الرمق الأخير، وتلقى الجائزة التقديرية بملامحٍ جليدية يخفي خلفها البركان الثائر في دواخله. امتدت يده لمصافحة أحد كبار الأطباء، والمسئول عن إقامة هذا المحفل، ليخاطبه في امتنانٍ:
-أشكرك للغاية على هذا التكريم.
بادله الطبيب المصافحة وقال في إعجابٍ:
-أنت مثال رائع للطبيب المثابر.
ضحك بتصنعٍ، وعلق وهو يربت بيده الأخرى على جانب ذراعه:
-أنت تبالغ عزيزي.
استعاد الطبيب يده، وأبدى تفاخره به مرددًا:
-تستحق دومًا الأفضل.
أنهى معه الحوار بلباقةٍ، وانتقل للحديث مع آخر لعدة دقائق. كان "مهاب" على وشك المغادرة تمامًا لولا أن استوقفه هذا الصوت الناعم الذي يعرفه جيدًا، فاتجه دون إعادة تفكير إلى صاحبته ليحييها بوديةٍ غريبة:
-الجميلة "ديبرا"!
التفتت إليه الأخيرة لتنظر إليه بجبين مقطب، ونظرات متشككة. وضعت بشفتيها ابتسامة متكلفة قبل أن تقول برسمية تامة:
-أهلًا بك دكتور "مهاب".
لم تمد يدها لمصافحته، ولم تحاول حتى تقبيله بحرارة في وجنته، كانت متباعدة كليًا عنه، فاستنكر جفائها، وعاتبها بنظرة لعوب:
-لما كل ذلك التحفظ معي؟!
أولته ظهرها فرأى كيف تمتد الفتحة الخلفية لثوبها النبيذي حتى انتفاخ ردفيها، اشتهى تذوق ما وراء ساتر القماش، وأبقى عينيه الجائعتين على منحنيات جسدها المغرية. تأهبت حواسه عندما أجابته بنبرة جافة يشوبها القليل من الاتهام:
-لئلا أزعجك صديقتك، ألم تقل لي ذلك؟ أم أنك تريد إغضابها؟
ثم استدارت مرة واحدة تجاهه لتجد عينيه معلقتين بها، فابتسمت في تشفٍ، وسألته في خبثٍ وقح، كأنما تتعمد إحراجه بشكلٍ يلمح بالإهانة:
-بالمناسبة، أين هي؟ أم أنك أثبت عدم جدارتك معها؟
غلت الدماء في عروقه حنقًا منها، ورغم هذا حافظ على ابتسامته المنمقة وهو يجيبها بهدوءٍ مريب:
-لقد انفصلت عنها!
رفعت حاجبها للأعلى، وهتفت في ذهولٍ:
-لا أصدق! كيف حدث ذلك؟
اشتدت تعابير وجهه، وأخبرها وهو يحاول جاهدًا نفض كل ما يخص "تهاني" من ذكريات:
-لا يهم، كفانا حديثًا عنها، وهيا بنا، لنا لقاء مميز.
اختتم جملته ويده قد وجدت طريقها إلى ظهرها فلامست جلدها الناعم، اقشعر بدنها، وراحت الوخزات المحفزة تضرب كل ذرة في جسدها، شعرت بذراعه تطوق بعدئذ خصرها في قوةٍ محسوسة، كأنما يفرض سطوته عليها بالتدريج. لم تقاومه، وأبدت استعدادها للمرح الجامح معه، تبسمت وسألته بعبثية ظاهرة في نظرتها إليه:
-إلى أين؟
مال على أذنها ليهمس لها بشيءٍ من المكر:
-سأعوضك عن تلك الليلة الكئيبة.
قوست فمها قائلة في تشوقٍ:
-أوه، عزيزي، أنا آ...
قاطعها بإصرارٍ وهو يداعب جانبها بأصابع يده:
-لن أقبل بالرفض!
وضعت يدها على كفه تتحسسه، وقالت في ميوعة صاغرة، كأنما لبت نداء الإغراء الذي أطلقه لها:
-حسنًا، أنا طوعك سيدي.
..................................................
تناوب عليها خليط مكثف من مشاعر الألم والمتعة والرضا والانتشاء في آن واحد وهي ترتشف معه من كأس الحب الآثم، إلى أن جاء دوره لنيل غايته التي يكبحها بصعوبةٍ، بالطبع كانت مستسلمة طواعية له، فلم تحتج إلى أي محايلة منه أو حتى مقاومة لتنفذ أوامره، كانت ملك يديه، يعيث فيها كيفما يشاء، كما أن تأثير المشروبات الكحولية خلال لحظاتهما الخاصة أذهب برجاحة عقلها، فأصبحت خاضعة تمامًا لما يمليه عليها. شعرت "ديبرا" بقبضتي "مهاب" تمسكان بها من معصميها، بعدما استلقت بلا ساترٍ وتمددت على بطنها الصغير، رفعهما للأعلى قليلًا، وقيدهما بخشونةٍ في حامل الفراش، فسألته بنبرة ثقيلة:
-عزيزي، ماذا تفعل؟
أجابها بغموضٍ مخيف:
-سنمرح قليلًا .. كما تعرفين.
وجدت يده تمسك بقدميها، حاولت رفع رأسها، والنظر إليه؛ لكنها لم تتمكن، فإذ به يقيد كل واحدة بحافة الفراش، فأصبحت مكبلة بالكامل، راحت تتلوى كالأفعى في مكانها، جاعلة كل بروز في جسدها يتماوج كأمواج البحر حين يشق القارب طريقه فيه. تكلمت وهي تضحك في ميوعةٍ:
-أنت تبدو بربريًا اليوم.
خاطبها بلهجته العربية ووجهه يكاد يفح نارًا:
-مش أنا اللي واحدة تتريق عليا.
تعذر عليها استيعاب مقصده بهذه اللغة، فرددت في تحيرٍ:
-لا أفهم ما تقول.
كادت تفوه بشيء آخر لكن صوتها تحول لأنين مع هذه الصفعة القوية التي تلقتها بغتة على ردفيها بشيءٍ بدا وكأنه جلد قاسي الملمس، حاولت النظر إليه لترى ما في يده، فوجدته قد استل حزامه ليؤنبها به. تقوست بظهرها، وتساءلت في لهاثٍ مازح:
-أستقوم بتأديب تلميذتك؟
أعطاها أخرى أشد قوة على فخذيها فصرخت من الألم الحقيقي، ليخبرها بعدها بنبرة أقرب للفحيح، وهذه الابتسامة المتلونة تبرز في وجهه:
-بالطبع، سألقنك درسًا لن تنسيه!
لم يترك "مهاب" جزءًا في جسدها -صعودًا وهبوطًا- إلا ووسمه بلسعة كالسوط من حزامه، انتقامًا من سخريتها السابقة، توقف عندما التهب جلدها، وأصبح مكدومًا ببقع لن تختفي آثارها إلا بمرور عدة أيامٍ وباستخدام الملطفات الدوائية. جلس مجاورًا لها على الفراش دون أن يحل قيدها، فرفع وجهها إليه من طرف ذقنها، تأمل اشتعال بشرة وجهها جراء كم الدماء الساخنة المتدفقة التي اجتمعت فيها. توسلته لتركها وفك قيدها، فما كان منه إلا أن مال عليها ليخبرها بهمسٍ:
-لم ننتهِ بعد!
كمم فمها، ليزيد من إذلالها وإهانتها بما ظن أنها الطريقة المناسبة للتعامل مع واحدة مثلها، نالت في البداية متعتها الخاصة، وحاز في النهاية على شعوره بالسيطرة المزعومة بطريقته الملتوية. نهض من الفراش متجهًا لخارج غرفة النوم الملحقة بجناحه الفندقي، سار إلى حيث ينتظره "ممدوح" بالردهة، طالعه بهذه النظرة المتعالية وهو يضع يديه في جيبي بنطاله ليخبره بعجرفةٍ، وكأنه يمنَّ عليه بفضلة خيره:
-مابقتش تلزمني .. خدها.
فجاجة كلماته، ونظراته المهينة لم تمنعه من إظهار هذه البسمة المتسعة على محياه، كاتمًا في صدره إحساسه بالغل الحاقد تجاهه، ببرودٍ محكم قام واقفًا، وشمر عن كميه قائلًا بترحيبٍ شديد:
-أنا جاهز ليها ....
لم يتم جملته عن عمدٍ إلى أن وقف في مواجهته، فتابع عن نبرة موحية وهو يركز عليه بنظرة قوية نافذة:
-أو لغيرها حتى لو طارت من القفص!
تركه "ممدوح" واقفًا في مكانه، واتجه إلى الغرفة، ليهتف "مهاب" من بين شفتيه بصوتٍ خفيض، وأقرب للوعيد:
-اللعبة لسه مخلصتش ........