اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل الحادي عشر 11 بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل الحادي عشر 11 بقلم منال سالم


الفصل الحادي عشر
(ورقة رسمية)
عقصت حول رأسها رباطة قماشية من اللون الأسود، تماشت مع ما تلفَّحت به من عباءة منزلية مماثلة، وكأنها لبست الحِداد على رحيل أحدهم، ظلت منزوية في غرفتها، تبكي ليل نهار، حتى جفت دموعها، ولم يبقَ لها إلا تجرع الألم. نظرت لها "عقيلة" بإشفاقٍ وهي تقف عند عتبة الباب، ومع ذلك لم تقوَ على مؤازرتها بالطيب من الكلام، فقد كانت مثلها متحسرة على مصابها، والأسوأ من ذلك شعورها بالخزي والعار، لكون ابنتها لن تسلم من الألسن الشامتة أو الشائعات الحاقدة، وإن كانت غير مذنبة على الإطلاق، فما أسهل إلقاء التهم الباطلة على الغير دون تحري صدقها!
اتجهت إلى باب البيت عندما سمعت الدقات عليه، زفرت الهواء الثقيل من رئتيها وهي تفتحه لتنظر إلى شقيقتها التي جاءت لزيارتها. سألتها الأخيرة دون استهلالٍ:
-"دوسة" عاملة إيه؟
أغلقت الباب بعدما ولجت للداخل، وأجابتها بنبرة مهمومة للغاية:
-زي ما هي.
استقرت "أفكار" على الأريكة، وراحت تهز جسدها يمينًا ويسارًا وهي شبه تنوح:
-كبدي عليها، لا لحقت تفرح ولا تتهنى!
شاركتها "عقيلة" نفس الندب مرددة وهي تضرب على فخذيها:
-يا ريتنا ما كنا استعجلنا ولا كتبنا الكتاب!!
ثم ركزت عينيها المنتفختين من كثرة البكاء على شقيقتها الكبرى وتابعت في صوتٍ متألم:
-نابها إيه من الجوازة دي غير إنها بقت متطلقة؟!!!
لم تنبس "أفكار" بكلمة، في حين واصلت الشقيقة الصغرى كلامها، والذي اتخذ طابعًا مهددًا:
-أنا مش هسكت، حق بنتي مش هسيبه!
دون تفكيرٍ وافقتها الرأي، وصاحت تؤيدها بشدة:
-وأنا معاكي.
عاد التحير ليسيطر على قسمات وجه "عقيلة"، وأفصحت عن ذلك بسؤالها:
-بس هنعمل إيه؟
بعد لحظاتٍ من الاستغراق في التفكير أجابتها بتصميمٍ معاند:
-احنا نطب على أخوه، هو لازمًا يتصرف، مش هنسيبه غير لما تاخد كل حقوقها، هي مش سايبة!!
.............................................
ظل شاردًا، صامتًا، غير مكترث بالمشاركة في أي شيء يخص المؤتمر الذي من المفترض أن يكون أحد محاضريه الرئيسيين، انعزل بنفسه عن نفسه وكأنه قد انفصل ذهنيًا عن العالم المحيط به، حتى أنه اختار المكوث بعيدًا عن الصفوف الأمامية ليحظى بنوعٍ من الخصوصية، لعل وعسى يتمكن من فك الأحجية التي حيرته كثيرًا، وجعلته شبه فاقد للتركيز فيما يفعل. كذلك ليلة الأمس الجامحة لم تمنحه ما طمح في الشعور به من الاكتفاء والرضا، بل جعلته يزداد رغبة وتلهفًا في الحصول على هذه الطريدة الهاربة بالتحديد، والإيقاع بها مهما تكلف الأمر، فأنى له أن يقبل بالخسارة هكذا ببساطة؟!
أطفأ "مهاب" عُقب سيجارته في المنفضة قبل أن تنتهي، واستل أخرى من علبته الفضية ليشعلها، سحب دخانها ببطءٍ، ولفظه على مهلٍ، وعيناه توحيان بتفكيره العميق والمستمر. حين انضم إليه "ممدوح"، تجاهله تمامًا، واقتضب في الحديث معه، كأنه غير موجودٍ المرة، إلى أن أنار عقله فجأة بفكرة عجيبة، كان قد غفل عنها، آنئذ تحفز في جلسته بشكلٍ يدعو للحيرة، وراح يجمع متعلقاته الشخصية في تعجلٍ وهو يردد لنفسه مندهشًا:
-إزاي كانت تايهة عني؟!
تطلع إليه "ممدوح" باستغرابٍ، فقبل لحظاتٍ كان يتصرف كالأصنام، لا صوت له ولا حركة، والآن النشاط ينضح من كل طرف فيه، سلط بصره عليه، وخاطبه في جديةٍ طفيفة، محاولًا فهم ما يدور في رأسه:
-حصل إيه؟ إنت مش معايا من بدري، ودلوقتي إيه اللي اتغير؟!!
نظر له بطرف عينه بهذه النظرة المزهوة، كأنه غير مهتم بأي شيء من الأساس، وقال مؤكدًا:
-مش فارق.
تعجب أكثر من طريقته الغامضة، وتضاعف لديه شعوره بالغرابة وهو يراه ينهض من موضع جلوسه استعدادًا لذهابه، لم يتركه لشأنه وسأله مستفهمًا بفضولٍ:
-رايح فين؟
لوح له بذراعه يودعه:
-هكلمك بعدين، سلام.
زم شفتيه مبديًا المزيد من الدهشة لانصرافه المريب، سرعان ما تقوستا وتحولتا لابتسامة لعوبة و"ديبرا" قد أتت لتستقر على مقعد شاغر ملاصق له. سألته وهي تنفض شعرها المسترسل خلف ظهرها:
-إلى أين هو ذاهب؟
مال عليها ليضمها بذراعه إليه في ترفقٍ قائلًا في صوتٍ خفيض؛ لكنه عابث وشقي:
-لا تهتمي به، أنا موجودٌ لأجلك عزيزتي.
تأوهت بألمٍ وهي تخبره بنظرة ماكرة:
-أوه، ما زال جسدي يؤلمني.
خفض يده، واحتضن كفها بين أصابعه، ثم رفعه إلى فمه ليقبله، وهمس لها باشتهاءٍ مثير:
-سأطيب جراحك، أنا خبير بذلك!
-حسنًا.
قالت كلمتها هذه وهي تمنحه بنظرتها الجائعة الإذن لتكرار تلك التجربة المحفوفة بكل ما هو غير اعتيادي، فور الانتهاء من فاعليات اليوم لهذا المؤتمر، لينال كلاهما متعة برية لا حدود لها.
...........................................
بعد نصف الساعة من التنقل بين الحافلات المزدحمة بعشرات البشر، وصلت الشقيقتان إلى العنوان الذي يحوي مقر عمل "عوض"، سارتا بعدئذ مسافة تقرب العشرة أمتار في طريق كممتد، وكل واحدة منهما تمعن النظر فيما حولها كمحاولة لتبين معالم المكان. ابتلعت "عقيلة" ريقها الجاف، وجففت بكم عباءتها العرق المتصبب على جبينها، ثم وجهت سؤالها لشقيقتها في صوتٍ شبه منهك:
-متأكدة إنه شغال هنا؟
أجابتها "أفكار" وهي تومئ برأسها:
-أيوه، ولاد الحلال دلوني على الحتة دي.
هزت شقيقتها رأسها في تفهم، فأضافت الأخيرة مجددًا بجديةٍ تامة، وإصبعها موجه نحو أحد الأبنية:
-هو شغال هناك!
في التو اتجهتا إليه، وولجتا إلى الداخل لتسألا عنه؛ لكنه لم يكن موجودًا، لذا انتظرت الاثنتان لما يقرب من الربع ساعة دون أن يصل بعد. تحدثت "عقيلة" في ضجرٍ وهي تشير بإصبعها نحو بقعة شاغرة:
-خلينا أعدين بقى على الرصيف لحد ما نشوفه.
ردت "أفكار" وهي تطرد الهواء من رئتيها:
-ماشي.
افترشت كلتاهما الأرضية بعد وضع قطعة من الكرتون، وقامتا بمراقبة المارة بنظراتٍ متربصة إلى أن لمحته "أفكار" قادمًا من على بعد، صاحت مهللة وهي تستند على ذراع شقيقتها لتنهض:
-أهوو، جاي بعجلته من هناك.
عاونتها على القيام، لتتبعها في النهوض وهي ترد في تلهفٍ قلق:
-الحقيه أوام.
صرخت "أفكار" عاليًا لتلفت انتباهه:
-يا "عوض"!
الصوت المنادي باسمه جعله يدير رأسه للجانب ليجد حماة شقيقه وشقيقتها تقفان بمحاذاة الرصيف، أدار الدراجة في اتجاههما، وتساءل بابتسامةٍ مهذبة:
-إزيك يا خالة؟ عاملين آ...
قاطعته "عقيلة" قبل أن يتم جملته معنفة إياه بهجومٍ صريح:
-هي دي الأصول اللي اتربيتوا عليها يا "عوض"؟ طب حتى راعوا حق الجيرة!!
حملق فيه متعجبًا، وتساءل في توجسٍ متزايد:
-حصل إيه؟
أضافت "أفكار" هي الأخرى بنفس النبرة المتحاملة:
-أيوه .. أيوه، اعمل نفسك مش عارف.
أسند دراجته على عمود الإنارة، ووقف منتصبًا وهو يستطرد مخاطبًا الاثنتين في قلقٍ عظيم:
-اهدوا بس عليا، وخلوني أفهم في إيه!
رفعت "عقيلة" إصبعها للسماء وصاحت في حرقةٍ:
-حسبي الله ونعم الوكيل في الظالم!
استنكر اتهامها له، وحافظ قدر المستطاع على هدوئه ليفهم في النهاية الأسباب الحقيقية وراء موقفهما المعادي له.
...........................................
بواسطة بعض التوسلات، والرجاوات الشديدة، استطاع اللحاق بدورٍ متقدم في إجراء مكالمة دولية عاجلة بالسنترال. في التو تطرق "عوض" للموضوع مباشرة، وراح يسرد على شقيقه عواقب ما اعتبرها فعلته الخسيسة في حق هذه الشابة المسكينة المغلوبة على أمرها، أخذت الكلمات تخرج من فمه مندفعة، وبقدرٍ من الهجوم لتعنفه بغلظةٍ:
-هو ده اللي اتفقنا عليه؟
أتى رده باردًا، وغير مراعٍ:
-النصيب بقى ياخويا.
استمر في عتابه الشديد له بقوله الحانق والمنفعل:
-حرام عليك يا "بدري"، الناس مابترحمش، وهي ولية لواحدها!
علق عليه بنبرة ساخرة:
-لو عجباك اتجوزها إنت!
زجره في حمئة، وقد تلون وجهه بحمرة الغضب:
-عيب كده مايصحش.
لئلا يطل في التأنيب أخبره شقيقه الأصغر بوضوحٍ:
-من الآخر كده يا "عوض"، "فردوس" دي مكانتش من تنفعني من الأول، وحكايتها خلصت معايا، ولما يبقى في حاجة مهمة كلمني، مع السلامة!
لم ينتظر منه الرد وأنهى المكالمة، ليظل "عوض" مرابطًا في مكانه مستنكرًا جفائه وقسوته، أعاد وضع السماعة في مكانها وهو يهمهم بصدمةٍ وتحسر:
-لا حول ولا قوة إلا بالله! طب أقول للجماعة إيه؟!
.........................................
بطبيعة الحال استغل معارفه، وصلاته القوية بذوي السلطة هنا في الوصول إلى كافة المعلومات التي تخصها دون بذل أي عناءٍ في التحري والبحث عنها، وكانت المفاجأة المدوية، حينما علم أنها لم تتزوج مُطلقًا مثلما أشاعت رفيقتها في السكن، وما قد قيل من قبل هي مجرد أكاذيب واهية لإزاحته عن الطريق لسببٍ غير مفهوم بالنسبة له. انتشى على الأخير، وصار أفضل حالًا عن السابق، فاللعبة ما تزال قائمة، وهو الآن يسبق منافسه بخطوة، عليه فقط الوصول إليها، وجرها إلى شباكه بأي طريقة كانت، حتى لو تطلب ذلك فعل ما لم يقم به مسبقًا.
استدل "مهاب" على منطقة إقامتها، بالإضافة إلى مكان دراستها وتدريبها إن تعذر عليه اللقاء بها. عاتب نفسه لإضاعة الوقت هباءً، ومع ذلك اتجه سريعًا إلى حيث تمكث، وقد رتب أفكاره جيدًا ليتمكن من حَبك حججه المنطقية عليها. دق الباب، وانتظر بتحمسٍ، فاستقبلته "نزيهة" بوجه جامد، ونظرات فضولية قبل تطرح عليها السؤال المعروف مسبقًا:
-إنت مين؟
بدا هادئًا للغاية، رغم الثورة المنتفضة بداخله، وهو يسألها:
-دكتورة "تهاني" موجودة؟!
الإتيان على ذكر هذه السخيفة جعل مزاجها الرائق يتكدر، فكتفت ساعديها أمام صدرها، وردت باقتضابٍ، وقد تحولت غالبية تقاسيم وجهها للعبوس الغريب:
-لأ.
سألها في شيءٍ من الاستفهام:
-قدامها كتير عشان ترجع؟
ردت بوقاحةٍ عجيبة، ونبرتها قد ارتفعت تقريبًا:
-أنا مش السكرتيرة بتاعتها عشان يبقى معايا خط سيرها.
حدجها بنظرة متعالية، شملتها من رأسها لأخمص قدميها، فاغتاظت من تحقيره لها دون أن ينبس بكلمة، ليردد بعدها في ثقةٍ واضحة:
-مش محتاج أعرف منك حاجة، أنا هوصلها.
لم ينتظر كعادته أي شيء لتضيفه، انصرف مبتعدًا عنها، فاغتاظت من فظاظته، وصفقت الباب في عنفٍ خفيف، وهي تغمغم بوجه مقلوب التعابير:
-ده مين ده كمان اللي شايف نفسه علينا!!
..................................................
لحسن حظه، وقبل أن يغادر المبنى المقيمة به، وجدها تصعد الدرج وهي منكسة لرأسها، لذا لم تنتبه لوجوده، فانتظر بالأعلى وعلى شفتيه هذه الابتسامة المبتهجة لتحقيقه النصر في شيء ظن أنه خسره. ما إن رفعت "تهاني" عينيها إليه، حتى تخشبت في مكانها مصدومة بشكلٍ كامل، رأته قبالتها يُطالعها بهذه النظرة الدافئة المتلهفة، تلك التي حلمت بها في ليلها الكئيب، وتمنتها في نهارها المرهق. تلقائيًا أحست بارتفاع وجيب قلبها، بتدفق الدماء المعبأة بالشوق كدفقات متواترة في كل شرايينها، لتغزو كيانها، وتعكس تأثيره عليها، اضطربت أنفاسها، ورفرفت بأهدابها غير مصدقة أنه واقف بالفعل قبالتها. حاولت تجاوزه لتمر؛ لكنه اعترض طريقها بجسده ليستوقفها، امتدت يده لتلامس ذراعها، فانكمشت على نفسها بتوترٍ، لم يتراجع، واقترب منها بوجهه هامسًا لها بصوته العذب الساحر:
-ينفع كده تدوخيني وراكي؟
اقشعر بدنها من طريقته الآسرة في التأثير عليها بقوةٍ، فتابع على نفس الوتيرة:
-هونت عليكي تبعدي عني؟
كانت له قدرة مميزة على توليد المشاعر المرهفة، تلك التي لا تخطر على البال، فيتمكن من خداع ضحيته دون أن يثير في نفسها الشكوك. توسلته بنبرتها، وصوتها بالكاد يسمع:
-دكتور "مهاب"!
حاصرها بلهيب أنفاسه المشتاقة وهو يخبرها باعترافٍ كان متأكدًا من تأثيره الخطير عليها:
-وحشتيني.
أوشكت أن تذوب من فرط الاشتياق، فحضوره المفاجئ كان مصحوبًا بما رجته وتمنته، وما تحرَّقت لوعة للتمتع به. قاومت بصعوبة تلهفها عليه، وسألته في لهجة رسمية أرادت التستر خلفها:
-حضرتك عرفت مكاني إزاي؟
ابتسم وهو يخبرها بغرورٍ يليق به:
-مافيش حاجة صعبة على "مهاب الجندي"!
هذه النبرة الواثقة المليئة بكل ما يوحي بسلطته وقوته جعلتها متأرجحة بين الثبات والانهيار. أحرز "مهاب" تقدمًا معها وهو يزيد من استخدام مرادفاته المميزة:
-أنا مش عارف أعيش من غيرك.
لزمت الصمت؛ لكنه لم ينفع أيضًا وهو يواصل الضغط عليها بكلماته المنتقاة بعناية:
-مش متخيل حياتي بدونك.
للحظةٍ راودتها الخيالات والأحلام الوردية بمستقبلٍ عظيم معه؛ لكن ما لبث أن أفاقت من شرودها اللحظي على حقيقة واقعها المرير المغلف بالمتناقضات، فإن تجاوز عن وضعها المادي، كيف له أن يقبل ببساطةٍ وضعها الاجتماعي إن عرف من أين جاءت، ومن هي عائلتها المتواضعة؟ رنت في أذنيها عبارات "ممدوح" المحذرة بأنها وسيلة للهو والتسلية! فعادت لجمودها، وردت بألمٍ وتحفز وهي تدفعه من صدره لتتخطاه:
-دكتور "مهاب"، أنا ظروفي غيرك خالص، أنا واحدة عادية جدًا، وأقل من العادي، عيلتي بسيطة وآ...
بترت كلامها قبل أن تستكمله عندما امتدت يده لتمسك بها من كفها، شدها إليه، وسألها دون تمهيدٍ، وبجدية تامة:
-تتجوزيني؟!!
هبطت الكلمة على رأسها كالمطرقة، فحدقت فيه بنظرات مذهولة متسعة، قبل أن تردد بلا وعيٍ:
-إيه؟
كرر عليها ما قاله بابتسامة ناعمة، وبلا أدنى شك فيما اعتبرته نواياه الصادقة تجاهها:
-زي ما سمعتي، تتجوزيني؟
ألجمت المفاجأة الصادمة على كافة الأصعدة لسانها، واعترضت في ترددٍ محسوس:
-بس آ...
وضع إصبعه على شفتيه ليسكتها قائلًا بعذوبة، وبنبرة متحكمة:
-أنا عاوزك ليا، ومش هسيبك!
ظلت تتطلع إليه بجسدٍ شبه مرتعش، وشفتان ترتجفان، هي لا تصدق حقًا ما يحدث، إصراره على الزواج بها كان واقعًا، لا حلمًا عابرًا، بدت وكأن حياتها البائسة على وشك التغيير الجذري، فقط إن أبدت موافقتها!
.........................................
صوت قلبها غطى على صوت العقل وحَجَبَ المنطق، فانساقت بلا هوادة وراء مشاعرها الملتاعة، وقبلت بعرضه غير المقيد بشروطٍ بالزواج منه، وكيف لها ألا توافق وقد قدم لها نعيم الدنيا وثرائها على طبقٍ من ذهب؟ اتفق الاثنان على إتمام مراسم زواجهما بالسفارة، لتتمكن من الحصول على ورقة رسمية تضمن لها كافة حقوقها كزوجة لأحد أهم الرجال بالمجتمع. كلَّفت "تهاني" الطبيب المسئول عنها بالبعثة ليكون وكيلها هنا، وجلست في استحياءٍ على الأريكة الجلدية المتسعة في الحجرة الخاصة بمدير مكتب السفير المصري. بدت في زيها الكريمي وشعرها المصفوف بعناية كشخصيةٍ راقية، تنتمي للطبقة المخملية منذ نعومة أظفرها، ولما لا وقد حرص "مهاب" على شراء الأفخم من الثياب لها لتكون لائقة بها؟!
حين اختلست النظر إليه، وجدته يفوقها في تأنقه، فقد ارتدى بدلة رمادية لامعة، ومن أسفلها قميصه الأبيض الأنيق، أما شعره فكان مرتبًا، قصيرًا، وذقنه حليقة، يفوح العطر الأخاذ من جلده، أما في معصمه فقد وضع ساعة يد تنتمي لماركة شهيرة، بإيجازٍ شديد كان وسيمًا للغاية!
بدأت الإجراءات بشكلٍ هادئ، وفي حضور محدود العدد، تضمن المقربين فقط، من بينهم بالطبع كان "ممدوح" الصامت الواجم، فما يراه الآن فاق حد الخيال أو التصور، لقد بلغت المنافسة أشدها ليفعل رفيقه ما استبعد حدوثه من قاموسه غير الأخلاقي؛ لكنه كان متأكدًا في أعماقه أن ذلك الوضع لن يدوم كثيرًا، فالطبع يغلب التطبع، و"مهاب" يميل للاستحواذ والتملك لما يعجز عن بلوغه، فما إن صار في يده، حتى تركه بعد أن يقضي حاجته منه، لذا أقنع نفسه بتعقلٍ أن المواجهة لم تحسم بعد كما يظن، بل إنها بدأت لتوها.
لهنيهة شردت "تهاني" في عائلتها، أحست بشيءٍ يحز في قلبها وهي تجلس هكذا وحيدة، بلا سندٍ أو دعم، ألم يكن يحق لهم معرفة ذلك الخبر السار ومباركة زواجها؟ أليست والدتها تنتظر بفارغ الصبر لحظة كتلك لتفتخر بها؟ ولكن كيف لها أن تنسى الحرب النفسية التي شنتها عليها لإحباطها، وتدمير أحلامها؟ سرعان ما أسكتت صوت ضميرها المؤنب لها بترديدها غير المسموع:
-دي حياتي أنا مش هما.
استحضرت في ذهنها لمحات خاطفة عن مضمون المكالمات الموجزة مع أمها وشقيقتها، كلتاهما كانتا تقرران المصائر دون انتظار حتى إطلاعها، أو حتى الأخذ في الاعتبار برأيها السديد، ظلت تحادث نفسها بلا صوتٍ:
- ما هما بيعملوا كل حاجة من غير ما يقولولي، وأنا دايمًا آخر من يعلم، اشمعنى أنا؟!! طردت هذه الخواطر المؤرقة لها، لتركز بقدرٍ من الأنانية على ما هي مقدمة عليه، مستقبلها هي فقط، ولا أحد غيرها. أحضرها من تأملها الشارد الصوت الرسمي المخاطب لها:
-وقعي هنا يا دكتورة.
للحظةٍ واحدة فقط ترددت؛ لكنها غالبت ما اعتراها بقوةٍ، ومدت يدها لتمسك بالقلم الحبري، نظرت تجاه "مهاب" المتأمل لها بنظرة طامعة في الظفر بكل ما تمنته طوال حياتها، وها قد أوشكت على نيله. ارتخت تعبيراتها المشدودة، وقالت بابتسامة رقيقة مملوءة بالشغف:
-حاضر.
استطرد المأذون متحدثًا من جديد فور أن انتهت من التوقيع:
-الشهود من فضلكم.
من فوره تحرك "ممدوح" للأمام، وقال باسمًا، وبنبرة موحية، وعيناه تتحولان نحو رفيقه ليرمقه بهذه النظرة الغريبة:
-مش محتاج تقول، أنا جاهز.
التقط "مهاب" نظرته ذات المغزى، فبادله بأخرى ظافرة مغترة، قبل أن يشير له ليتابع سيره، ويقوم بالتوقيع على وثيقة الزواج كاظمًا في نفسه الحنق المستعر بداخله. مرة ثانية تحدث المأذون في جدية وهو ينظر للعروسين:
-ألف مبروك، وبالرفاء والبنين.
عاد "ممدوح" إلى رفيقه، احتضنه بتفاخرٍ كأنما يهنئه؛ لكنه همس له في أذنه:
-عرفت تلعبها صح.
ظن أنه يجامل مهاراته الفذة في اصطياد الفرائس السذج، بل ويبدي اعتذارًا ضمنيًا لاستهانته بقدراته الذكية في حياكة الحيل والألاعيب لنيل مبتغاه في النهاية. تراجع عنه "مهاب" قليلًا، وأخبره بنفس الصوت الخفيض مؤكدًا له بعنجهية مفرطة:
-أنا مش أي حد، أنا "مهاب الجندي"، واللي بحطه في دماغي بعمله، وإنت أكتر حد عارف ده كويس.
نظر "ممدوح" من فوق كتفه إلى الضحية الجديدة المتوارية في مظهر العروس الغاشمة، وقال بعدما عاود التحديق إليه:
-في دي معاك حق.
ربت "مهاب" على كتفه لعدة مراتٍ ثم تركه بعدئذ ليتحرك تجاه عروسه التي تنتظره وهو في أوج شعوره بالانتصار، ليسلط "ممدوح" نظراته الحانقة عليهما، كز على أسنانه وهسهس مع نفسه بلا صوتٍ، وبوعيدٍ مغتاظ:
-لسه الحكاية مخلصتش!
..........................................
في نفس ذات السيارة التي استقلتها معه كرفيقة عابرة في رحلة قصيرة للمشاركة في أحد المؤتمرات، كانت اليوم تجلس لصيقة به، تريح رأسها على كتفه، وذراعه تطوقها بقوةٍ، كأنه يأبى تركها، كم أحبت روح التملك هذه فيه، خاصة حينما تكون مخصصة لها وحدها! من موضعها رفعت رأسها قليلًا، وأسبلت عينيها تجاهه مسترسلة في التعبير عما يجيش في صدرها:
-أنا حاسة إني بحلم، وخايفة أفوق من الحلم ده على آ...
بيده الأخرى الطليقة، تلمس طرف ذقنها، ثم وضع إصبعه على شفتيه ليسكتها بلطافةٍ وهو يحدثها:
-ششش، ده دوري دلوقت يا حبيبتي إني أخليكي تشوفي السعادة اللي بجد.
رددت بشكلٍ عفوي، بهمس حار، ودبيب قلبها آخذ في الارتفاع
-دكتور "مهاب"!
عاتبها في رقةٍ:
-احنا بقينا متجوزين، مافيش بينا ألقاب.
اعتدلت في جلستها دون أن تتحرر من ذراعه، وقالت في شيءٍ من الخجل المعتذر:
-معاك حق، أنا لسه مش متعودة.
تباطأت سرعة السيارة بالتدريج إيذانًا بوصولهما إلى وجهتهما المنشودة، فترجل السائق من السيارة ليفتح الباب لـ "مهاب"، بينما أسرع عامل استقبال الفندق الشهير تجاه الباب المواجهة له ليفتحه للسيدة الجالسة بالخلف كنوعٍ من إظهار الاحترام لها. انتظرت "تهاني" زوجها في مكانها دون أن تتعجل بالحركة، وذلك لعدم معرفتها بخططه المستقبلية. مد يده تجاهها، وخلل أصابعه في كفها، لتسعد للغاية بهذا التشابك الحميمي بينهما، سحبها معه للداخل وهو يكلمها مبتسمًا:
-تعالي يا حبيبتي.
لمعت عيناها بوهج الحب، وسألته وهذه الحمرة النضرة تتسرب إلى بشرة وجهها:
-إنت واخدني على فين؟
أجابها وهو يسير معها في البهو الفسيح والأنيق:
-هنقعد هنا يومين في الفندق عقبال ما الورق يجهز عشان نسافر أوروبا نقضي شهر العسل.
تحمست كثيرًا للترف الذي يغدق عليها به منذ اللحظة الأولى، واستشعر "مهاب" تأثير ذلك عليها بقوة، ابتسم في انتشاءٍ، وتابع وهو يميل ناحيتها ليهمس في أذنها بما حفز الحواس وأوقظها:
-أنا هعيشك في الجنة معايا.
ابتسمت في حبورٍ مسرور لما فاه به، سرعان ما تحول للخجل الحرج وهو يخبرها بهذه العبثية المبطنة بكل ما هو شقي ولعوب:
-بس تسمحيلي الأول أدخل جنتك.
.................................................
استأذن بالقدوم للبيت من أجل توضيح الأمور بعد التطورات الأخيرة التي علم بشأنها، اضطر لما يقرب من ثلاثة أسابيع أن يؤجل هذا الأمر؛ لكن لا مفر! كان في موقفٍ لا يُحسد عليه، لا يمتلك من المبررات أو الحجج المقبولة ما يدعم به تصرف شقيقه المشين، الذي ظهر في عينه قبل البقية كشخصٍ حقير، وغير أهلٍ لتحمل المسئولية، على العكس كان مُلامًا لأقصى درجة ويستحق كل الهجوم والازدراء. أطرق "عوض" رأسه، وتقبل الأسلوب الحاد من "عقيلة" وشقيقتها بلا وجه اعتراض. مرة أخرى تحاملت عليه "أفكار"، واحتدته عليه هاتفة بتعصبٍ:
-طب والمفروض نعمل إيه بعد كده؟
لم يجرؤ على النظر ناحيتها، فأكملت بنفس الصوت المنفعل وهي تلوح بيدها في الهواء:
-نسيب الناس تنهش في عرضنا عشان أخوك مطلعش راجل؟!!
حمحم مرددًا بوجه يشوبه الخزي:
-والله ما عارف أقول إيه، "بدري" الغلط راكبه من ساسه لراسه، ومهما قولت مش هقدر أعوضكم عن اللي حصل.
أطلقت فيه "عقيلة" صيحة غضبها فهاجت به:
-ياخويا طالما مش أد الجواز بيربط معاه بنات الناس ليه؟!
ظل صوتها على حدته وهي تتابع بقهر العاجز:
-لأ وفي الآخر يرميها رمية الكلاب! أل هي كانت ناقصة!!
ردت عليها "أفكار" كنوعٍ من المواساة:
-قولي الحمدلله إنه مدخلش عليها، كان زمان المصيبة اتنين.
ما زالت على فجيعتها وهي تخاطبها بحرقةٍ:
-وهي الناس هتسيبنا في حالنا؟ ده ياما هيتقال، وحليني عقبال ما الناس تنسى حكايتها!
حينئذ تحولت أنظار "أفكار" نحو "عوض" قاصدة الكلام وهي ترفع سبابتيها في الهواء:
-منه لله، ربنا يخلص منه، أشوف فيك يوم يا "بدري" يا ابن حواء وآدم!
الشقاق الذي أحدثه شقيقه بتصرفه الأرعن جعله يتخذ قرارًا لم يكن ليظن أنه سيفعله في يومٍ ما، نطق فجأة بنزقٍ، ودون أن يضع في الحسبان تبعات اختياره:
-خلاص يا ست "عقيلة"، الحل عندي!
نظرت إليه بعينين لائمتين، وهتفت وهي تلطم على صدرها:
-ما خلاص اتفضحنا واللي كان كان!
أكد عليهما بغموضٍ مُربك:
-أنا مرضاش بالفضيحة لا ليها ولا ليكم.
سألته "أفكار" بنبرة هازئة، وهذه النظرة الاحتقارية تطل من حدقتيها:
-هتعمل إيه يا "عوض"؟ هتمسك طبلة وطار وتلف على بيت بيت تقولهم أخويا غلطان؟!!
هز رأسه قائلًا باقتضابٍ لا يزال مغلفًا بالغموض:
-لأ...
سكت للحظةٍ بحث خلالها عن الجملة المناسبة التي يفصح بها عن نيته الصادقة، فلم يجد سوى قوله المباشر والصريح، وكامل نظراته مصوبة تجاه "عقيلة":
-أنا هتجوز الست "فردوس" على سنة الله ورسوله .......................... !!



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close