رواية تشابك ارواح كامله وحصريه بقلم أمينة محمد الالفي
الفصل الأول من -تشابك أرواح-
«كوابيس»
سمعت أحدهم يقول بأن الحياة تمر بسندٍ يطمئن قلبك، ويكون لروحك المسكن، فإن غادرك ذلك السند .. غادرتك الحياة.
_"اسمعني بس المرة دي، والله انا عارفة بعمل إيه، هروحله وهتكلم معاه بهدوء، سمعني يبقى فل اوي، مسمعنيش هجيب بعضي واجي"
حاولت أن تلتقط كلماته بصعوبة بسبب وقوفها بمكانٍ لا يوجد به تغطية جيدة حتى باتت تسمع صوته ابدًا وظلت تردد:
"الو.. الو .. أنت سامعني!"
زفرت بضيقٍ ورفعت بصرها تنظر لذاك القصر الذي خلفها، كبيرًا وجميلًا، يبدو كأنه ليس من عالمنا، وكيف سيكون وهو ملكٌ لأكبر رجل أعمال في مصر بأكملها، رجل ظالم بأعمال فاسدة.
__
سيارة سريعة وصلت للحارة ونتج عن سرعتها صوتًا عاليًا جعل الجميع يقف ناظرًا لها، فُتح الباب الخلفي وتدلدلت منه يد فتاة ثُم هوى جسدها على الأرضية بقوة وغادرت السيارة بسرعة البرق من أمام أنظار الجميع، بينما المسكينة -التي لم يظهر لها ملامح بعد- مازالت ارضًا، والدماء تنزف منها ليتلوث جسدها بالتراب المخلوط بدمائها، اقترب شابًا سريعًا وبعدها دوى بصراخٍ عالٍ:
"دي الست عهد، الست عهد مدبوحة"
________
_الآن_
الكوابيس لا تغادر عقل البشر، لا ترحم صاحبها، ولا تكف عن جعله يتوجع يوميًا في نومه، هي كالنار على جلد الإنسان، كالأسهم السامة في القلب، هي النهاية، الهاوية التي لا عودة بعدها.
كان جسده يتصبب عرقًا وعينيه مغمضة بقوة شديدة اثناء نومه المُشتت، يتسطح في فراشه بجسده المتناسق مع طوله، ثم بدأ يهمس بتراهات بسبب ما يزوره في حلمه دومًا:
"ماما.. بابا، ماما"
اعتدل في نومته سريعًا ليصبح جالسًا مكانه، وفُتحت عينيه على وسعهما ذُعرًا، مسح كفه بوجهه صاحب اللون القمحي والعينين البنتين كالبندق، كانتا حادتان في رسمتهما، همس بتنهيدة عميقة:
"اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لا حول ولا قوة إلا بالله"
ظل يردد الأذكار حتى يُهدأ من روعه، ومد يده يُمسك هاتفه ليرى كم الساعة فوجدها الثامنة صباحًا، ما الذي أيقظه باكرًا هكذا وهو بالأساس نام مُتأخرًا.
ترك هاتفه وتوجه ناحية المرحاض يتوضأ، ثم خطى نحو الرُكن الخاص بالصلاة ببيته، خصصه بطريقة جميلة كما نظم بقية منزله؛ كان يحتوي على سجادة صلاة وطاولة صغيرة عليها المصحف الشريف، وكتب دينية وبعض الكتب الصغيرة الخاصة بالاذكار، ومسبحة باللون الأسود القاتم، كان المكان مرتبًا ترتيبًا جميلًا يخطف الأبصار، يجعلك تجلس به بلا ملل أو كلل طيلة اليوم.
أنهى صلاته وتوجه نحو شرفة المنزل، فتحها وهو يوجه بصره نحو الزرع الذي يملأها، كان يفرش ارضيتها بالعُشب الصناعي ويضع عليه بعض الوسادات بألوان مختلفة متناسقة، مليئة بالزرع الذي يحاوط سور الشرفة بلونه الأخضر والورود الناضجة بألوانها الحمراء، والبنفسج، والزهرية، يُغلقها متى يشاء بالستائر التي تتدلى من الأعلى وتُربط ببعضها؛ حتى لا ينكشف على الشُرفات المجاورة.
أمسك الدلو الخاص بالماء وبدأ يسقي الزرع في استمتاع شديد وهو يتذكر ذلك الحلم الذي لا ينساه، يؤرق نومه كل يوم؛ ذلك اليوم الذي خسر فيه أعز مايملك، والده ووالدته اللذان ماتا في نفس الوقت بوباء «الكورونا»، وكأنهما كانا يعلمان بأنهما لن يستطيعا العيش دون الآخر، فماتت والدته ولحقها والده بعدها بيومان، وكانت الصدمة فوق ذلك المسكين الذي تلقى الفاجعة تلو الأخرى على قلبه.
يومٌ يدفن أمه ويومًا آخر والده، ثم بقى وحيدًا يتيمًا في تلك الحياة بقلبٍ مازال مُعلقًا بالمقابر لا يستطيع التخطي قدمًا نحو حياة بها ألوانًا، انتشر الأسود في حياته فقط، فقد الحنان والسند سويًا وفقدهما كشعورٍ من قلبه.
"ربنا يرحمكم يارب واشوفكم فالجنة"
همس بينه وبين نفسه بذلك بإبتسامة خافتة تحمل داخلها الوجع الذي لن تشفيه الأيام بتاتًا.
انتهى من روتينه اليومي، وارتدى ملابسه ليذهب لعمله، خرج من منزله وأغلق باب شقته خلفه، مُلتفتًا إلى مصدر صوت باب الشقة التي أمام شقته وهي تُفتح أيضًا، وخرج شاب أقصر منه بعض الشيء، بجسد رياضي وبعضلات بسيطة بارزة من ذراعيه
نظر الواقف أمامه نحوه بإمتعاض مزيف وهو يقول:
"يادي القرف عالصبح، بنصبح بوش مـروان"
قوس الآخر حاجبيه واقترب ناحيته وهو يجذبه من ياقة ملابسه قائلًا بتهديدٍ:
"اظبط ياض، أحسن العب في وشك الحلو ده البخت"
نفض يديه عن ملابسه وهو يهمس له بخفة ونظرات ذات مغزى:
"بشرط يا مروان باشا! تعزمني على فطار وقهوة، عشان الحاجة أمي مش راضية تعملي حاجة"
نظر له «مروان» من أعلاه لأسفله كأنه يعاينه بهمهه ثم ابتسم بخفة وأجابه:
"هفكر، انزل يلا شوف رزقك"
وتحدث سريعًا مرة أخرى بجدية ونبرة خافتة وهو يمد يده يمسك به قبل أن يغادر:
"أبعد عن تسنيم ياعبدالله، ابوها اشتكى للحج وانا قاعد معاه إمبارح، وأبوك زعلان ومعرفش يرد عليه، ربنا يرزقك بحد غيرها أحسن الف مرة"
زفر «عبدالله» بعبوس بتلك الملامح الشرقية، بعينين عسليتين وحاجبين كثيفين:
"على جثتي يامروان، انا مش هسيبها تتجوز حد غيري، أبوها ده يحمد ربنا إني لسه مخطفتهاش واتجوزتها، تسنيم بتاعتي يا مروان ومش هسيبها لحد غيري"
تنهد الآخر بعمق وهو ينصحه بحنو، فهو يعلم كم يحبها وكيف يعاني ليحصل عليها، ولكن والدها يرفضه باستمرارٍ:
" ياعبدالله أبوها رافضك، أنا خايف على مشاعرك وقلبك ياصاحبي"
ربت «عبدالله» على كتفه وهو يقول بنبرة واهنة فالعذاب بدأ يتآكله وينهش بقلبه:
"خاف عليهم بجد لو متجوزتش تسنيم"
حرك «مروان» رأسه بقلة حيلة وهو يتحرك نحو الدرج وتبعه «عبدالله» أيضًا وعقله شارد الذهن، يخبرونه أن يترك حبيبة الأمس واليوم والغد، حبيبة القلب والروح، تلك التي كَبُر على حبها وعلى وجودها!
_______
وصل «مروان» لمكان عمله الذي يحمل اسم "أختر ملابسك، وأسفل الاسم مدون اسمه واسم عائلته لمروان عبد المجيد"، فتح المحل وهو يردد بينه وبين نفسه الأذكار التي لا تفارق لسانه، بدأ يرتب كل شيء مكانه ويكشف الستائر عن الملابس لتنكشف أمام المارة، خليطٌ بين ملابس الرجال والأطفال، المحل الذي استثمر به بقدر المستطاع ليبدأ به مشروعه، وها هو الآن أصبح من أصحاب المحلات الكبيرة الخاصة بالملابس التي يرتاد عليه الناس من حارته والحارات المجاورة له لذوقه الرفيع وحُسن تعاونه هو و«حاتم» الذي يعمل معه، وعند ذكر اسمه دلف «حاتم» البشوش صاحب الابتسامة الواسعة وهو يلقي السلام عليه:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا مروان باشا"
يجعل «حاتم» من أمامه يبتسم تلقائيًا حتى وإن كان بمزاجٍ سئ بسبب ضحكته، وذلك ماحدث مع «مروان» الذي ابتسم تلقائيًا:
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"
أسرع «حاتم» نحوه يساعده في نقل الملابس لمكانها وهو يسأله:
"فطرت ولا لسه؟ أنا واقع من الجوع وعاوز أفطر"
أجابه «مروان» وهو يخرج هاتفه من جيبه ويعبث به باحثًا عن رقمٍ وينقل بصره بينه وبين «حاتم»:
" وأنا كمان مفطرتش، هكلم «عبدالله» يعدي يجيب ساندوتشات فول وطعمية من المحل ويجي نفطر سوا"
اوما «حاتم» بابتسامة عريضة ازدادت مع سماعه لاقتراب الأكل قائلًا:
"كدا تحلو أوي"
ثم تحرك يُكمل ترتيب الملابس في مكانها أمام المارة، بينما «مروان» ضحك بخفة واتصل بصديقه «عبدالله» وهو يُمليه بما يجلبه معه ليفطروا سويًا.
حياة بسيطة يعيش بها رجال ونساء وأطفال، غير عابئين بشيء فالحياة، ينامون في أمان ويستيقظون باحثون عن مصدر رزقهم ليعيشوا حياتهم، شاكرين الله وحامدين إياه دومًا.
_____
صوت الدندنة مع صوتها يعلو غرفتها الواسعة التي تملؤها الملابس المبعثرة في كل مكان من الخزانة الكبيرة
"I love it when you call me señorita
I wish I could pretend I didn't need ya
But every touch is ooh, la-la-la
It's true, la-la-la
Ooh, I should be running
Ooh, you keep me coming for ya"
زفرت بضيقٍ وهي تُعيد خُصلاتها -السمراء وبها بعض الخصلات الحمراء- للخلف وصرخت بصوتها العالي تُنادي خادمة المنزل:
"يــا ناديــة"
أتت الفتاة - التي يبدو عليها أنها بالعشرينات - مُهرولة وهي تُجيبها:
"نعم يا ست هانم؟"
أشارت للملابس حولها وهي تسألها بسخط واضعة يدها في خصرها تتمايل بوقفتها قليلًا ذات اليمين والشمال والحنق مسيطرًا عليها:
"فين فستاني الـpink اللي لسه شرياه من فترة، قلبت عليه الدنيا ومش لقياه"
توترت الأخرى وهي تنظر للغرفة المُنقلبة رأسًا على عقب واقتربت نحو الملابس تمسكها تحاول البحث عن المفقود من بينهم:
" طب دقيقة هدورلك انا عليه، أصله هيروح فين!"
عادت تزفر بحنقٍ وهي تتحرك من أمامها مشيرة لها بيدها بأمرٍ:
"Please بسرعة،
انا عندي party النهاردة ولازم اروح بيه"
جلست على الأريكة وأمسكت هاتفها بينما الأخرى بدأت في رحلة البحث عن الفستان وتمتم داخلها بآلاف الشتائم تجاه تلك المدللة «سيلين الأنصاري»، كانت تُلملم ثيابها التي بكل زاوية بالغرفة حتى وقعت يدها على الفستان الذي تبحث عنه منذ ساعات وتصرخ بلا سبب، رفعته لأعلى وهي تسألها:
" هو ده ياسيلين هانم؟"
رفعت الأخرى انظارها وتلألأت عيناها بسعادة:
"Yes yes, thank you"
وتحركت من مكانها نحو «نادية» وأخذت منها الفستان وضمته لها وهي وتبتسم بمرح، فهي لو لم تكن وجدته لتغير مزاجها وتبدلت حالتها للأسوء في دلالٍ وفقدت كل الحماس الذي يحتلها لأجل تلك الحفلة المُنتظرة:
"واخيرًا بجد"
تحركت نحو المرحاض لتنعم بحمامٍ دافئ قبل خروجها، بينما اكملت «نادية» ترتيب الغرفة وعادت للمطبخ مع بقية الخدم الموجودين بمنزلهم.
دعوني أرحب بكم هنا بمنزل «وليد الأنصاري» أو لنقل قصره الفخم الذي يعيش به هو وابنته فقط، إنه هو رجل الأعمال الذي لا يفكر سوى بكيفية كسب النقود وربح الصفقات، وهذه ابنته التي لا تفكر سوى بالحفلات والسهرات والسفر وكيف تجد المتعة في أي مكانٍ وأي وقت.
كانت الأخرى قد انتهت من حمامها وارتدت فستانها والابتسامة الواسعة تشق فمها، جلست أمام المرآة وهي تضع بعض مساحيق التجميل وترتب من وضعية شعرها المنسدل على ظهرها العاري، وبعض الخصلات الغجرية المنسدلة على كتفيها المُزين بحمالات فستانها فقط.
انتبهت لصوت هاتفها فتناولته بين يديها وأجابت فاتحةً مكبر الصوت ووضعته أمامها وجلست تكمل وضع مساحيق التجميل بتركيزٍ شديد، فهي لا تقبل أن تظهر بشكلٍ أقل من الأميرات، صدر صوت رجولي:
"خلصتِ ولا لسه ياسيلين، علطول علطول متأخرة، it's over really"
ذمت شفتيها بتذمر وبيدها -الماسكرا- تضعها على رموشها وهي تُجيبه:
"شهاب الساعة لسه اتنين يابني، اتأخرت إيه! عمومًا أنا خلاص أصلًا بخلص وهقابلكم بالعربية عند الـ restaurant نتغدى وبعدين نروح الـ club"
أتاها صوته وهو يحثها على الاستعجال:
"Ok, just hurry up" ... "أوك، ارجوكِ بسرعة"
_"تمام"
ثُم أغلقت الإتصال واكملت من تزيين نفسها وخرجت بعدها على عجلة من أمرها كمن لديه آلاف الأعمال وليس سهرة برفقة شُبان وفتيات ضائعين في الحياة لا عمل لهم ولا مصير محدد، فقط لهو ولعب.
__________
_"صباح الخير يا خالتو"
دلفت بإبتسامتها الواسعة اللاحقة لصوتها الناعم الخافت، واقتربت نحو السيدة التي يبدو أنها في الخمسينات من عمرها:
"صباح النور يا حبيبة خالتو"
اقتربت منها الثانية بخفتها كفراشةٍ طائرة لا يمل شخص من التأمل بملامحها، بل عن الرقة التي تنبع من شخصيتها، جلست جوار خالتها وهي تسألها السؤال الروتيني اليومي:
"نفطر إيه النهاردة؟ أعمل فطار خفيف ولا أنزل اجيب طعمية وفول من سيد!"
هزت الثانية رأسها بنفي وهي تضحك بمزاحٍ:
"لا لا يا «مرام»، طعمية إيه هتتعبني مع الدوا اللي باخده، قومي اعملي فطار خفيف كدا"
ابتسمت «مرام» بضحكة مشاكسة واقتربت تداعبها بيدها:
"عضمتك كبرت ياخالتو، الله يرحم أيام ماكُنتِ بتقعدي أنتِ وماما الله يرحمها تفطروا فول وطعمية وبتنجان وبصل وتدوها"
ابتسمت السيدة «ابتسام» بتنهيدة عميقة على ذكر سيرة أختها؛ فهي غادرت الحياة هي وزوجها منذ تسع سنوات تاركين لها قطعة من الجنة -مرام- لتُكمل هي مسيرة الحياة معها لتُعلمها وتربيها، ظلت غارقة في أفكارها بينما الأخرى توجهت للمطبخ لتُعد وجبة إفطار خفيفة، وشردت أيضًا بعقلها في عالم آخر ليس به سواها ... وسواه!
كان في ذلك الوقت عمرها فقط اربعة عشر عامًا، صغيرة لا تستطيع إدارة حياتها بنفسها، كانت رقيقة القلب ومازالت حتى اليوم، يُتمت في عمرٍ صغيرٍ بحادث سير أنهى حياة والديها وهما متجهان للمطار وتحديدًا نحو مكة المكرمة لأداء العمرة.
قطع شرودها صرختها التي خرجت رغمًا عنها من فزعتها، التفتت سريعًا على ضحكات الآخر المتتالية وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه من ضحكته القوية، حاول أن يُخرج تلك الكلمات من فمه:
" كل مرة .. تاكلي المقلب المحترم ده وتتخضي، مبتتعلميش يابت!"
نظرت له بعبوسٍ واضعة يدها في خصرها تتابع ضحكاته واستمعا لصوت خالتها العالي نسبيًا:
" أنت مبتبطلش ياواد يا «آسر» الحركات دي! سيبها فـ حالها بقى"
غمز لها بطرف عينه من بين ضحكاته وهو يجيب والدته:
"معلش يا أمي بس مقدرش اعديها، لازم اتلذذ بشكلها وهي مخضوضة كل يوم عشان ابدأ شغلي"
_"والله؟ والله يا آسر!!!"
رمت كلماتها وامسكت شوكة من خلفها ووجهتها له قائلة:
"يابني هخلص عليك في مرة واخد فيك إعدام، احترم نفسك معايا!"
أمسك منها الشوكة في حركة سريعة ووجهها ناحيتها وهو يقلد نبرة صوتها:
"يابنتي متتحدنيش"
ثُم تحدث بنبرته العادية:
"مش لايق عليكِ والله يابنت خالتي، إنتِ أرق من كدا"
كستها الحمرة خجلًا من حديثه، ودق قلبها بعنفٍ لتلك المغازلة الصريحة، لن تكذب فهي تنتظر كل يوم ليشاكسها كما اعتادوا، لا يكون يومها سعيدًا إلا مشاكسته لها، وما خُفي خلف قلبها كان أعظم من مجرد مغازلة فقط!
أفاقت من شرودها على صوته:
"يلا انا ماشي عالشغل، لو احتجتي حاجة ابعتيلي واتساب اجبهالك معايا"
وضع بفمه آخر لقمة وخرج تاركًا إياها تنظر لفراغه بعدما قالت كلمة واحدة بهمسٍ:
"حاضر"
وأخيرًا بعد عدة ثوان خرجت من شرودها وأكملت إعداد الطعام وخرجت لتفطر مع خالتها الحبيبة!
__________________
استيقظت من نومها على صوت المنبه المزعج وهي تتثائب بتعبٍ، لماذا يأتي الصباح؟
ذلك السؤال الذي يراودها دومًا في كل صباحٍ يأتي بعد يوم شاقٍ بالنسبة لها!
تحركت من فراشها ويتردد على اذنيها صوت والدها واختها واخيها بالخارج يتحدثون، لِمَ هم مستيقظون باكرًا هكذا!
لو كانت مكانهم لظلت نائمة حتى المغرب، زفرت بضيقٍ وخرجت تلقي عليهم كلماتها الهادئة:
"صباح الخير ياجماعة"
ولم تنتظر رد أحد منهم بل توجهت نحو المرحاض تغسل وجهها وتتوضئ وعادت لغرفتها ترتدي ملابسها وخرجت من الغرفة مجددًا ولكن يد والدها كانت الأسرع في جذبها للداخل وهو يتحدث بنبرة تهديد:
" ملكيش دعوة بعبدالله ولا تحتكي بيه، فاهمة؟"
نظرت لملامح والدها وهزت رأسها بإيجاب فزفر هو بحنقٍ:
" مش عارف ناقص إيه أكتر من إنك ترفضيه مرتين وأنا اشتكيه لابوه، مبيتكسفش على دمه"
همست بهدوءٍ وهي تجمع أغراضها في حقيبتها ثم رفعتها على كتفها:
"عن أذنك عندي جامعة"
وغادرت سريعًا من أمامه تهرب من أي فَرض يُفرض عليها من أبيها الذي يمنعها عن حب حياتها
-أمام ورشة «سيارتك عندنا» للأُسطى عبدالله عبدالمجيد-
كان يقف أمام الورشة يحتسي قدحًا من الشاي بالنعناع يتلذذ بطعمه الجميل صباحًا، يعلم أنها ستمر الآن من هُنا لذلك خرج ليراها، وأخيرًا بدأت تظهر أمام ناظريه يُتابع تحركاتها الهادئة بثيابها المحتشمة، ابتسم بينه وبين نفسه هامسًا:
" ربنا يجعلك من نصيبي يا «تسنيم» قبل ما أقضي على ابوكي الكلب"
لمح العبوس باديًا على وجهها كمن قُتل له قتيلٌ ما فزفر قائلًا:
" كالعادة العفاريت بتتنطط فـ وشها ومحدش هيعرف يكلمها"
حاول تجميع شتات نفسه عندما اقتربت نحو مكانه وتحدث:
"أوصلك؟؟"
رفعت بصرها تنظر له وقوست حاجبها الأيمن قائلة:
"ليه؟"
حاول إيجاد إجابة غير أنه يود أن يكون معها؛ فوجدها حامدًا الله قائلًا:
"عشان متتمرمطيش فالمواصلات"
لم تجبه بل غادرت بينما هو لملم كرامته المتبقية وزفر بحنقٍ مقلدًا نفسه:
"اوصلك!! إيه القرف اللي قولته ده"
التفت ودلف للورشة يكمل عمله وهو يلعن كل الموانع التي لا تجعلها زوجته من الآن!
بينما هي غادرت وعلى محياها علامات الحزن التي تشكلّت فور مغادرتها من أمامه، فهي ايضًا تحبه!
ولكن المانع والدها، ولا تستطيع أن تعارضه أبدًا، مايقوله سيُنفذ، سواءً كان يمينًا أو يسارًا ... أو حتى إلى الجحيم.
وبعد مُعاناة مع المواصلات الغبية التي تكرهها وصلت أمام جامعتها -كلية الصيدلة- لتبدأ يومًا لا تحبه ولكن مضطرة لتكمله.
____________
وصلت للمطعم بمظهرها المُلفت الجذاب، فُستانها الزهري الذي يتناسق مع جسدها الممشوق، وبشرتها البيضاء الظاهرة من فستانها العاري، شعرها المنسدل على طول ظهرها، بدأت تتحرك من جوار سيارتها بعدما تأكدت من إغلاقها، دلفت للمطعم باحثة بعينيها المستديرة بلونها الازرق الفيروزي ينبع منها الهدوء، والسلام، والأهم من كل ذلك اللامبالاة من كل شيء في الحياة، فلِمَ لا وكل شيء تريده يأتي لها في غمضة عين؟
وأخيرًا وجدتهم يشيرون لها بإيديهم؛ فذهبت سريعًا ناحيتهم قائلة بابتسامة واسعة:
" هلو، عاملين إيه؟"
ابتسم واحدًا منهم وهو يطالعها من أعلاها لأغمص قدماها:
"بصراحة إحنا كويسين، المُزة عاملة إيه؟"
ضحكوا جميعًا بأصوات صاخبة تملئ أرجاء المطعم، وجلست في مكانه وهي تجيبه بضحكاتها العالية:
"I'm fine كمان يا عماد
ها نويتوا هنعمل إيه النهاردة؟"
تحدث نفس الشاب مجددًا:
"هناكل ونطلع علطول على الـ Night club، مها بتقول هيبقى بدري بس إحنا أصلًا لحد ما نخلص فيها وقت شوية ونجمع نفسنا"
تحدثت المدعوة «مها» صاحبة الملامح الجميلة، كانت بعينين واسعتين لونهما أخضر وبشرة بيضاء بشعر أسود فحمي:
"إحنا آه باردين جدًا، بس الساعة Now أربعة، يعني هنخلص ستة برضو بدري!!"
أمسكت «سيلين» قائمة الطعام وهي تقول بلا مبالاة:
"عادي أما نوصل يوم في حياتنا بدري مع إني اراهن على ده، بس It's ok، خلونا نشوف هناكل إيه, because i'm so hungry"
-لأنني جائعة جدًا-
وبعد تقريبًا ما يتجاوز النصف ساعة اختاروا أخيرًا ما سيأكلون، تحت مزاحهم المستمر وترددهم في كل شيء يريدونه، وبين تلك الأجواء توجد أعين متربصة على جسدها، على كل إنش منها كانت توجد نظرة شهوانية، بينما هي لم تكن بتلك السهولة التي تظهر عليها، بل كانت تعلم تمام العلم بنظراته، بل مستمتعة بها كمَن يتلذذ بشيء شهي.
أتى الطعام وبدأوا جميعهم بتناوله دون أن يلاحظوا الوقت الذي يمر عليهم بالأساس، كالمغيب تمامًا لا علم له بما حوله.
تحركت هي ناحية المرحاض لتعدل من هيئة نفسها غافلة عن الذي لحقها وامسك يدها وجذبها للجوار مبتسمًا بنهمٍ ومُطالعًا جسدها بعينيه، بينما هي أصدرت شهقة صغيرة من تفاجئها منه:
"في إيه.. خضتني!"
ابتسم ونظر لعينيها يغازلها بعينين زائغتين كمن عثر على حلوى له وحده ليفترسها، غمز لها بطرف عينيه قائلًا
"إيه الجمال ده بجد!"
ابتسمت بتلاعب وهي تمد يدها لقميصه ممسكة بياقته قائلة بدلعٍ:
"بجد؟ thank you يا عمار، شيفاك منزلتش نظرك عني يعني!"
اقترب بجسده ناحيتها فتراجعت خطوة مستيقظة من غفلتها لقربه الشديد وهو يقول بطريقته التي تؤثر على عقلها وعقل أي فتاة يتلاعب بها:
"بصراحة حاولت ... حاولت كتير انزل نظري بس مقدرتش خالص"
حاولت الابتعاد فهو اقترب بشكلٍ مفزع منها، فمهما كان الكلام المعسول الذي تستمع له هي لا تحب التقرب زيادة عن اللزوم، قالت بتهرب:
"لازم ادخل الحمام اغسل واظبط الميكاب بتاعي، ابعد بقى!"
وجدت أن تلك أنسب طريقة للاقتراب تحت تأثرها به وتحدث وهو يغمز بطرف عينه:
"ابعد ليه بس، ما إحنا حلوين اوي!"
رفع يده الأخرى يحاول أن يضعها على خصرها ولكنها تحركت سريعًا وهي تزفر:
"روح ياعمار للباقين، هخلص واجي"
وتوجهت بخطواتٍ سريعة للمرحاض تحت نظراته العابسة بحنقٍ، لم يصل لِمَ يريد حتى الآن، ولا يعلم متى ولكن يبدو أن الأمر يقترب، فهي لم تكن تسمح له بالتحدث معها مطلقًا سابقًا، والآن أصبح هناك مجال للحديث وللتقرب أيضًا.
غادروا بعدما انتهت وعادت لهم رفقة بقية الفتيات وتوجهوا جميعًا للحفلة التي بدأت اجواءها الصاخبة تملئ الإرجاء، هناك من يحتسي مشاريب، وهناك من يرقص مع صديقته، والعديد من الناس وكل شخصٍ يقوم بما تأمر به نفسه والهوى
_________
كان يجلس أمام السيارة التي حوّلها لمقهى متنقل على الطريق السريع في - القاهرة -، بها كل ما يشتيه أي شخص قد يمر عليه، كان مشروعًا بسيطًا فكر به حتى يحظي بشيء أكبر، وياليت الحياة تُعطي كل من نال ماينال.
وقفت أمامه سيارة بها رجلًا وزوجته وطفلتهما بالخلف، طلب منه الرجل كوبين من القهوة، فتحرك سريعًا يعدهما وهو ينظر للطفلة يمازحها بينما هي تقهقه بسعادة معه، اقترب بالقهوة بعدما انهاها للرجل واعطاه قائلًا بابتسامة:
"ألف هنا ياباشا"
امسك منه الرجل الكوبين وسأله بودٍ:
"الحساب كام لو سمحت؟"
_"كدا ٣٠ جنية يا باشا"
ثم أكمل حديثه وهو يطالع ابنة الرجل الصغيرة التي بالكاد تبلغ من عمرها ثلاث سنوات، فمنذ وقوفهم هنا وهي تلاعبه أثناء تجهيزه للمشاريب، كان يبتسم بخفة ومرح:
" وعشان خاطر الكتكوتة الصغننة يبقى ٢٥"
ضحك الرجل بخفة وهو يخرج النقود وسأله:
"اسمك إيه؟"
مد يده يتناول النقود، وهو يقبلها ووضعها على جبهته بشكرٍ:
"حمزة، محسوبك حمزة!"
تمنى له الرجل الخير، وتحرك بينما الآخر عاد نحو سيارته، ووقف جوارها يتنهد بعمقٍ، هكذا يسير عمله يوميًا، مرات بشكل جيد ومرات بشكل معقد، فليس كل من يمر عليه واحدٍ، ولا بأطباعٍ واحدة!
جذب انتباهه صوت سيارة تسير بسرعة عالية وتصدر صوت احتكاك عاليًا، وقد كان ماتوقع؛ انقلبت السيارة على الطريق السريع ليقف كله في ازدحام كبير، توجه نحوها كبقية المُتفرجين ليجد الدماء تسيل منها، ويد فتاة تخرج من النافذة عليها الدماء، اعتقد الجميع أن من بداخلها مات ولكن وجدوا يد أخرى تتحرك تحاول الخروج.
_"العربية فيها حد عايش"
اقترب هو وشخص اخر يحاولان فتح الباب وإخراجها، وبعد محاولات عدة، وصوت الإسعاف الذي اقترب من المكان، اخرجوها والدماء تغطيها ورأسها مجروح من الاصطدام، كانت بشعرٍ اسود اللون قصير ومبعثر أثر الحركة، تطلعت حولها دون وعي؛ كأنها غير موجودة بالعالم الآن، الصدمة كانت كبيرة عليها، حتى استقرت عيناها عليه لقربه منها؛ فهمست بضعفٍ:
"ساعدني.. أرجوك"
ساندها نحو سيارة الاسعاف وهو يخبرها أنها بخير لتطمئن قليلًا، وأخرجوا الجثة الثانية التي معها تحت نظراتها:
"أهدي انتِ كويسة، هتروحي دلوقتي المستشفى واتصلي بأهلك .. أهدي"
تمسكت به كغريق للتو وجد نجاته وهزت رأسها بنفي وهي تردد بصوتٍ خافض:
"مستشفى لا، أرجوك هربني!"
لا تعلم كيف نطقت بتلك الكلمات، بصوتٍ مرتجف وعينين خائفتين تائهتين، بجسد هزيل به لكمات، ووجهٍ ضعيف به أثر كدمات
قطب حاجبه باستغراب بماذا تتفوه به تلك المرأة التي أخرجها من السيارة المنقلبة بمساعدة الناس، ولكنها لم تتمسك سوى به، لا يعلم إن كان خيرًا أم شرًا، ولكن ما يعلمه إنه مؤمن بكل الصدف التي يضعها أمامه القدر.
راقب الجميع الذين كانوا حالة من التيه، وأصواتهم تردد الحوقلة في كل مكان من بين حزين، ومصدوم ... غاضب؛ لفتاة متهورة كانت تقود بسرعة جنونية.
كاد أن يتركها عندما وصلت الإسعاف ولكنها تشبثت به بقوة ناظرة لعينيه بتوسلٍ واضح:
" أنا بترجاك تهربني، أنا.. أنا هتقتل في المستشفى"
ابتلع غصته يتابعها وقرر أخيرًا المجازفة، لعل بعدها نجاة لها .. وله!
سحب شهيقًا وأخرج زفيرًا معلنًا حرب لم تبدأ بَعد، حرب بدأت به ينقذها من شيءٍ مجهول، وقد كان لها طلبها من "حمزة" المُغفل.
كان يراقبها بين حينٍ وآخر وهو يقود سيارته بعدما لملم أغراضه في طرفة عين وتسللت هي لسيارته وركبتها منتظرة إياه ليغادر بها.
كانت تستند برأسها شاردة الذهن بالطريق، فاللاشيء وبلا وعي، مازالت تحت تأثير الصدمة حتى الآن؛ فهي كادت أن تخسر حياتها للتو بسبب خوفها المفرط مِمَن يلحقها.
سؤالٌ خرج من فمه، كان محتواه "ماقصتك ومن أنتِ؟" جعلها تبدأ في وصلة بكاء لا نهاية لها، بكاء بنشيج، وبين شهقاتها يخرج أنينها المكتوم.
سرعان ما أوقف السيارة على جانب الطريق، والتفت نحوها بقلقٍ كبير:
"مالك يا بنت الحلال؟ أنتِ هربانة من مين، ولا قصتك إيه؟"
لا أجابة، فقط نُواح مستمر، زفر بقلة حيلة وهو يطالعها بتعجب لأمرها، وأيضًا قلقًا على حالتها المُزرية تلك!
يبدو أنه سيندم الآن أشد ندمًا على اصطحابه لها، وقد كان ذلك ما أخبرها به وهو يضيق عينيه البنتين بسخطٍ:
"أنا شكلي هندم إني ساعدتك وهرجعك من مكان ماجبتك!"
فُزعت؛ كَمن وقعت صخرة كبيرة عليه جعلته غير قادر على الحراك، وخرج همسها من بين شفتيها المرتجفة:
"ساعدني أرجوك، وهحكيــلك كل حاجـة، بس متسبنيش في المكان اللي كنت فيه"
طالعها يحاول جس نبضها ليعلم إن كانت تقول الحقيقة أم لا، وكطبيعة حاله وطيبة قلبه قرر أن يُكمل ما بدأه ومساعدتها، عاد للقيادة وهو يسند ذراعه على النافذة جوارها، وكفه بين ذقنه السوداء يحكها بتفكير مُفرط!
وصل بها للحارة وصعدا لشقته وهو ينظر لها يُطمئنها برنينه للجرس:
" أمي جوا، متقلقيش"
وبالفعل فتحت له والدته ناظرة له باستغراب:
"جاي بدر..."
لم تكمل حديثها بعدما لقطت عينيها وجود الباكية جواره، والتي كان وجهها مليء بالكدمات؛ وجهها شاحب كالأموات وعينيها حمراوتان؛ فشهقت بفزع:
"مين دي ياض ياحمزة؟"
أخرج من فمه تنهيدة قوية، وأبعد والدته ودلف للشقة بالأخرى التي لم ترفع عيناها من على الأرض خجلًا من الحال الذي هي به، كررت والدته السؤال بنبرة قلقة يشوبها التوجس:
"ما تنطق يا حمزة .. مين اللي أنت جايبها دي؟"
همست الأخرى بضعفٍ وهي تنظر لأمه مُعرفة بنفسها:
"أنا رزان يا طنط، أنا طالبة مساعدته، أرجوكم ساعدوني "
مرر نظراته على والدته التي بادلته إياها ثم نحو «رزان»، التي لم يجدوا لها تفسير حتى الآن.
________