رواية تشابك ارواح الفصل الثاني 2 بقلم أمينة محمد الالفي
الفصل الثاني من -تشابك أرواح-
«خطف!»
هناك أشخاص، يعيشون فقط الأحلام دون تحقيقها؛ فالمستحيل أقرب لهم من تحقيقها..
كشخصٍ أحب ولم ينل من يحب،
وكعاشقٍ .. كان ولهان وأصبح مكسورًا، مُتألمًا،
شخصٌ عاش على الأحلام، الذكريات، وكل شعور كان ولم يتم، ماضيًا ولم يبلغ الحاضر ولا المستقبل.
غادرت شقتها بالطابق الثالث نحو شقة خالتها بالطابق الأول كعادتها يوميًا، منذ وفاة أهلها وهي تعيش معهم هُنا بشقة كانت لوالدتها الحبيبة، وتأقلمت على خالتها وابنها الذي لم يمر يومًا إلا وأحبته أكثر خفية بينها وبين نفسها.
_"آسر لسه مجاش ولا إيه ياخالتو؟"
سألت بفضولٍ واقتربت نحوها تجلس جوارها، فابتسمت لها الأخرى واجابتها:
"زمانه جاي يابنتي"
وبالفعل أنهت جملتها ودلف بهيبته وخلفه فتاة، نظرت له ثُم وجهت بصرها لها بهدوء جبار احتل ملامحها، هنا الحقيقة التي لم تنسها يومًا، والتي عبّر هو عنها بكلماته:
"السلام عليكم، وأخيرًا الست رنا رجعت لبيتها ومطرحها"
ابتسمت والدته بدفئ وقد ارتسمت على ملامحها ابتسامة خافتة تخبره بعتابٍ:
"حمدلله عالسلامة يابنتي، متزعلش مراتك منك تاني يا آسر، أنا وقتها اللي هزعل منك!"
لف يده حول كتف زوجته الحبيبة تحت نظرات الأخرى التي تبدلت لهدوءٍ بسبب ماشعرت به من وغز بقلبها، لطالما أحببته ولكن أحب ثانية، مثلث حب بينهم غير مكتمل ولن يكتمل، منذ الصغر وهي واقعة بحبه وتمنت ودعت أن يصبح لها في يومٍ من الأيام، ولكن الله أراد له نصيبًا بأخرى لم يعرفها يومًا ولم تعرفه، غريبة عنهم ولكنها أصبحت منهم.
تحدث بضحكة خفيفة موجهًا حديثه لزوجته راميًا عليها نظرته المُحببة:
"مش هتتكرر تاني والله، مش هزعلها وكل حاجة هتبقى كويسة، هو أنا يعني عندي كام رنا؟!"
ابتسمت بحب وداخلها ألف تنهيدة تخرجها على حالهم الذي يتبدل بين حينٍ وآخر بسبب خلافات قد تكون بسيطة ألا إنها كبيرة، طالعته بنظراتٍ فرحة:
"ربنا يهدي سرنا ياحبيبي يارب"
وأخيرًا نطقت الأخرى بعدما بلعت كل صدمتها في جوفها:
"حمدلله عالسلامة يارنا، نورتي بيتك"
قامت من مكانها وهي تخبرهم بهدوء حاولت جمعه داخلها لتظهر به أمامهم حتى لا يُكشف توترها وحاولت أن تُواري روحها الهائجة بإنكسارٍ سببه حبًا لم يكن يومًا لها:
"أنا هحط الأكل يلا غسلوا عشان نقعد ناكل كلنا سوا"
توجهت ناحية المطبخ بعدما أنهت حديثها، لم تتدخل يومًا بينه هو وزوجته ولم تكن تلك التي تخرب البيوت، بل كان حبها له داخلها فقط تحتفظ به وتُغلق عليه، تُعامله كأخٍ لها لا غير، فلم يشك بها أحدًا للآن، والدته وحدها التي استنبطت من نظراتها في بعض الأحيان له، فعلمت أنها لم تكن إلا نظرات حب واهنة، وأخبرتها «مرام» وقتها بأنها في مرحلة نسيانه وستعطي فرصة أخرى لشخصٍ قد يكون من نصيبها عما قريب ليُصبح زوجها.
وضعت الطعام وجلسوا جميعًا حوله وبدأوا بأكله بينما هي بدأت بالتحدث مع «رنا» كما تعودت وكما إتخذتها أختًا لها ليس إلا، فهي لم تتمنى لهما يومًا سوى الخير بحقٍ.
________________
وصلت لحارتها بعد يومٍ شاق في جامعتها، ها هي تُعيد ذكريات دخولها لتلك الجامعة بعد إصرار والدها عليها وإجبارها بأن مكانها بكلية الصيدلة، كانت قبلها لا تعلم إن كانت بالأساس ستلحقها أم لا، بينما هو ظل يؤنبها بأنها لم تدرس بجد، ولم تصل للطب إذًا فهي فاشلة!
وعندما ظهر التنسيق وعلمت أنها لحقت الصيدلة أخبرها أن تختارها عوضًا عن الطب، فهي ليست أقل من أخيها المهندس بشيء!
يتردد بمسامعها شيئًا واحدًا فقط عندما تقف أمام تلك الجامعة «يمكن ده مش مكاني ولا الزمن ده زماني»، لطالما أحبت الفن وودت أن تلتحق بكلية الفنون الجميلة، زفرت بحنقٍ على كل تلك الذكريات التي حاوطتها من كل مكان لتجد نفسها تقف أمام بناية عائلة عبدالمجيد، رفعت رأسها لشُرفة السيدة «فاطمة» والدة "عبدالله" وصديقها المرحومة "عهد"، لطالما كانت تلك السيدة حنونة كوالدتها المرحومة تمامًا؛ هي كانت أعز اصدقاء والدتها، عزمت أن تصعد لها وتلقي عليها التحية، وبالفعل فعلت ذلك وقامت بالضغط على جرس المنزل مُنتظرة إجابة، وقد كان ولكـن كان «عبدالله».
ابتلعت غصتها تنظر له ثُم استجمعت شجاعتها تسأله:
"فين خالتي؟ جاية أشوفها"
نظر لها كمن وجد الراحة، سحب نفسًا عميقًا ورسم بسمة صغيرة على فمه:
"جوا .. اتفضلي"
بالفعل دلفت بينما هو نادى على والدته بصوتٍ مرتفع قليلًا ولكن عينيه ظلت مستقرة عليها، لينعم ببعض الراحة، تعذب كثيرًا من اشتياقه بكل لحظة لها، كاد أن يتحدث:
" تســنيم أنا .."
لم تنظر له فهي تحاول أن تبتعد عنه قدر الإمكان حتى ينتهي هذا الوجع الذي بينهم بسبب ورمت كلماتها عليه قائلة:
" لو سمحت ياعبدالله مافيش بينا كلام، لو سمحت أمنع الكلام بينا زي ماطلبت منك قبل كدا، أنا مش هقدر أكسر كلمة أبويا، سَهل علينا الإختيار ده عشان ننسى!"
خُذل، كُسر، وتمت إهانة قلبه بنجاح، وكل ما نبس به بهمسٍ كاد أن يكون مسموعًا:
" بس أنا مخترتش البُعد، أنا بتعذب ببُعدك ده"
ألقت عليه نظرة خاطفة وأبعدتها سريعًا، كانت تحمل بين طياتها الكثير من الحزن، القهر، فكل ما يمران به بسبب والدها، مال نحو المنضدة التي تتوسط الصالة وأخذ مفاتيحه قائلًا:
"عامةً أنا مش هسيبك لغيري، أنتِ ليا يا تسنيم من أول ما اتخلقنا، ولو كان أبوكِ رافضني عشان أنا ميكانيكي وربنا مأردليش بكلية عالية؛ فيقتلني عشان أنا مش هسيبك لغيري، واللي خلقني أنا وأنتِ ورحمــة عهــد ما هسيبك لغيري ياتسنيـم"
كانت والدته تقف في بداية الصالة تستمع لكلماته، بينما هو ألقى نظرة سريعة نحوها وغادر الشقة بأكملها، التفتت بجسدها نحو «فاطمة» واقتربت بخطواتٍ سريعة لها تبكي بقهر واحتضنتها، وتتحدث بصوتٍ مرتجف:
"أنا تعبت أوي، تعبت يا خالتو من كل حاجة بتحصل والله، أنا بحبه زي مابيحبني ويمكن أكتر، بس أنا مجبورة ياخالتو، والله أنا مجبورة"
ربتت على ظهرها بحنان وهي تتنهد بحزن كبير على حالها وحال ابنها الحبيب، الحياة لا تُعطي كل شخصٍ ما يريد، ولم تعطهما الحب الذي وُلد بينهما منذ يوم ولادتهما.
تحدثت «فاطمة» بنبرة حنونة بها نبرة طمأنينة:
"أهدي يابنتي، استعيذي بالله من الشيطان اللي داخل بينكم ده، أهدي وأدعي كتير ياتسنيم وربنا يكرمك أنتِ وعبدالله ابني، ربنا يكرمكم ويهدي أبوكِ يابنتي"
ظلت تحاول تهدئتها وهي تمسد على ظهرها بحنان بينما الأخرى لم تنطق بكلمة ثانية بل ظلت تبكي فقط.
_______
_"يعني أنتِ دلوقتي هربانة من جوزك ورجالته وجاية تستخبي عندي أنا هنا في شقتي وحارتي!"
سأل بسخرية موجهًا لها الحديث بينما هي جالسة جوار والدته التي تربت على ظهرها بشفقة واضحة.
أومأت «رزان» برأسها بإيجاب لسؤاله رغم معرفتها تمام المعرفة بأنه ساخرًا، ثُم همست بصوتٍ مُتعب:
"بالظبط، لحد ما أقدر أوصل لأهلي برا البلد، أرجوكم تساعدوني ياجماعة، والله ما ليا حد في البلد دي، سبحان اللي جابك قدامي يا أستاذ حمزة عشان أهرب معاك"
مسح وجهها بغضبٍ واضح، يجلس على الأريكة وجسده يميل للامام قليلًا، مشبكًا يديه ببعضهما وشارد الذهن يُفكر، تذكر تلك الجثة الهامدة التي كانت معها بالسيارة فسألها ببساطة:
"مين اللي كان معاكِ في العربية؟!"
ضمت شفتيها بقلق وهمست بصوت غير مسموع هذه المرة، فرفع صوته يسأل:
"مــين؟"
_"أخته"
ذلك ما قالته بصوت مسموع هذه المرة، فتوسعت حدقتيه هو ووالدته التي شهقت:
"يانهار أسود!"
تحدث سريعًا يُصمت والدته وهو يحاول أن يفهم بأي مصائب وقع برفقة تلك الفتاة الغريبة عليه، وعلى عالمه، حتى على بيته وحارته:
"استني ياماما، يعني دلوقتي معانا جريمة قتل وحالة هروب زوجة من زوجها، ياحلاوة ياحمزة، أنتِ بجد مينفعش تفضلي هنا، ده الشرطة هتجيبنا من قفانا!"
وقف مكانه فوقفت سريعًا هي الأخرى وتحركت لتستقر أمامه بعيون باكية وصوت مرتجف:
"أنا بترجاك، أرجوك يا أستاذ حمزة .."
_"أنتِ خليتِ فيها أستاذ!"
قالها بسخرية لتهز هي رأسها بإيجاب مكملة ببكاء وتوسل ليساعدها فيما تورطت:
"أرجوك أنت مش متخيل كان بيعمل فيا إيه، وأنا والله هوصل لأهلي بسرعة وهمشي من هنا وهما هيتصرفوا في كل حاجــة، أرجوك يا أستاذ حمزة تكسب فيا ثواب وتسيبني هنا، وأنا والله هخلي بابا يعوضك"
التفتت نحو والدته وجلست أمامها أرضًا تتوسلها:
"بالله عليكِ ياطنط، بالله عليكِ تخليني أفضل معاكم هنا، ده كان إنسان متوحش وأنا مش هقدر أكمل معاه حياتي، كان .. كان مانعني كمان عن أهلي، بقالي سنتين مبكلمش حد فيهم، وكل مرة بهرب فيها بيجبوني تاني"
انهمرت في البكاء بصوت عالٍ هذه المرة، بقهرٍ شديد، وعذاب واضح عليها، تناقلت نظراته منها لأمه وهو يتنهد بصوت مسموع، بينما والدته غير قادرة على فعل شيء سوى التربيت على ظهرها وتخبرها بأن تهدئ.
لم تجد «رزان» رد منهما فإستندت بجسد مرتجف كادت أن تقع وهي تحاول الوقوف، تنظر نحوهما بقهر شديد، ولكن إن أتينا للحق؛ من بهذا الزمن سيورط نفسه بمصيبة مع شخصٍ لا يعرفه!
ثم توجهت نحو الباب وفتحته ولكنها وجدت يد تعترض وتُغلقه مجددًا، رفعت بصرها سريعًا نحوه فبادلها النظرات تحديدًا صوب عينيها الخضراء الباهتة التي تحمل الكثير، والتي كانت سببًا لإنقاذه لها في المرة الأولى، وها هي الثانية يتورط لأجل العينين!
تحدث بهدوء به الطمأنينة:
"متمشيش، خليكِ يا رزان، وحقك عليا أنا بجد زيي زي أي شخص خايف على نفسه وعيلته، إحنا ناس غلابة يا رزان فأكيد مش هقدر على ناس زي جوزك وسلطته دي، بس مش هسيبك غير وأنا مسلمك لأهلك"
ارتسمت بسمة على ثغرها برغم التعب الواضح وهي تشكره:
"أنا بجد بشكرك جدًا، مش عارفة أقولك إيه تاني، بس أوعدك هخلي بابا يعوضك والله!"
زفر بسخطٍ لتكرار جملة تعويض والدها له، تحرك مبتعدًا قائلًا من أمامها نحو الأريكة:
"أنتِ عمالة تقوليلي بابا يعوضك بابا يعوضك هو مين أبوكِ ده ياختي؟"
تنحنحت وهي تُخبره عن والدها المعروف بتلبك فهي تعلم أن ردة فعله لن تكون بسيطة:
"رجل الأعمــال ... شوكت ماهر الرفاعي!"
وقبل أن يجلس توقف مكانه ورفع بصره ينظر لها بصدمة مكررًا الاسم والتعريف:
"شوكت ماهر الرفاعي! تقصدي الراجل صاحب شركات ومصانع رزان للعطور اللي هنا فمصر وبرا مصر!!"
شبكت يديها ببعضهما وأماءت برأسها فقط، بينما هو وبخ نفسه بسخطٍ:
"آه صح ده اسمه رزان للعطور، اللي هي أنتِ صح!"
شرد بعيدًا لثانية ثُم سألها مجددًا باستغراب لتلك النقطة الضائعة:
"وهو فين أبوكِ من كل ده، ده رجل أعمال كبير في البلد!"
أخفضت رأسها بخزي غير قادرة على الإجابة فعلم أن خلف ذلك سرًا كبيرًا أيضًا!
___________
الحياة تعطيك خيوطًا لتحيك طريقًا تمشي عليه، وها هي الحياة تعطيه تلك الفرصة وبعض الخيوط ليبدأ مسيرته نحو هدفه.
سطعت شمس يومٍ جديد مُعلنة عن بداية حرب أخرى، ومُغلقة لكل الصفح القديمة التي تُدعى بالأمس
كان يسير واضعًا بفمه عود ثقاب، فتلك عادة اكتسبها منذ أن كان مراهقًا لأنها تعجبه وتروق له، يحاول أن يخرج بها ضغطًا يتعرض له في الفترة الحالية، تفحص الطريق يمينًا ويسارًا قبل أن يعبره، وما أن هَمَّ بعبوره ودون سابق إنذار توقفت سيارة سريعًا قبل أن تصطدمه، كان صاحبها يقود بسرعة فلم يلحظها وهو يمر ولم تكن رد فعله سوى توقفه فجأة مغمضًا العينين!
لحظة وهبطت فتاة بفستانها الأحمر يصل لبعد ركبتها بقليلٍ وشعر منسدل على ظهرها فلم تكن سواها «سيلين»، اقتربت نحوه وهي تسأله بتوتر:
"أنت كويس؟ حصلك حاجة؟"
نظر لها «مروان» ورفع يده يزيل عود الثقاب بقوة من فمه قائلًا بصوت مرتفع بعصبية:
" كنت من دقيقة هكون ميت يا آنسة، لما أنتو مبتعرفوش تسوقوا بتركبوا عربيات ليه؟"
عبست بوجهه وهي تُدافع عن نفسها أمامه قائلة بحنقٍ:
"لا على فكرة أنا بعرف أسوق كويس، حضرتك اللي ظهرت قدامي فجأة بدون أي سابق إنذار، it's not my problem"
ملامح القرف احتلت وجهه وهو يطالعها، وعاد يتحدث رافعًا إصبعه السبابة بوجهها دون أن يلقي نظرة واحدة على جسدها العاري أمامه:
" لولا إنك بنت كان زماني اتصرفت معاكِ تصرف تاني، بس ملحوقة ربك بيكرم يا آنسة"
تحرك وهو يحادث نفسه بضيقٍ:
"يخربيت القرف، مليتوا البلد"
توسعت حدقتيها وهي تتابعه وهو يسير أمامها، وزفرت متحدثة مع نفسها:
"he's such an idiot ugh"
وتحركت سريعًا لسيارتها وغادرت المكان، بينما هو ألتفت ينظر للسيارة وهي تغادر وابتسم بسخرية، أكمل طريقه وهو يُخرج هاتفه ليدون رسالة ما وأرسلها ووضع هاتفه داخل جيبه مجددًا، رفع عود الثقاب لفمه ثانيةً وأكمل سيره.
_________
عاد حيث موطنه وبيته، حيث المكان الذي ينتمي له والذي يحتويه في هذا العالم.
فتح باب الشقة ودلف وهو يرفع بصره نحو مكانه المخصص -المُفضل- بالنسبة له في شقته، المكان الذي خصصه للصلاة وقراءة القرآن والأذكار، خصصه كما يرغب وكما يتمنى ليجلس به بكل راحة تاركًا خلفه كل مصاعب الحياة ليشكُ لله همه وتعبه من الحياة.
وجد شيئًا ناعمًا دافئًا يلعب عند قدميه فابتسم وهو يهبط نحوها قائلًا بدفئ:
"مشمشة القمر، صباح الخير يا قلبي"
تحركت لتجلس على قدميه وهي تدفن نفسها بأحضانه وتموء بصوتٍ خافت وابتسامته مازالت على محياه:
"الولا مشمش فين؟ أكيد نايم صح"
حملها بين أحضانه:
"تعالي نشوفه عشان احطلكم تاكلوا"
تحرك بها نحو غرفته ليجد «مشمش» نائمًا على فراشه براحة تامة والأمان يحاوطه من كل مكان.
قفزت «مشمشة» من على يده نحو «مشمش» وهي تعاركه ليستيقظ كأنهما بشران يحاولان مجاراة بعضهما البعض، قهقه «مروان» بخفة عليهما وهو يسحبها تجاهه بعيدًا عن «مشمش» ضاحكًا:
"بس يابت بس، بتضايقيه ليه وهو يضربك وترجعوا تجروا حوالين بعض، قوم ياعم مشمش عشان تاكل أنت كمان"
حركه ليتحرك الثاني من مكانه وهو يتمطع ثم استلقى مجددًا غير قادر على فتح عينيه بالأساس فضحك «مروان» عاليًا بضحكات رجولية بها بحة قائلًا:
"كسول أوي يخربيتك، تعالي أنتِ يامشموشة هحطلك أكل"
تحرك نحو المطبخ وأخرج لهما الطعام الذي يعده بعيدًا عن كل أنواع الأطعمة التي تُتعب القطط على المدى البعيد، فهو يخاف عليهما أكثر من روحه ويهتم بهما بشدة، كان يشتري لهم الأسماك صغيرة الحجم التي لا يشتريها أي شخص ويدفع بهما مبلغ بسيط، أو أجنحة وأرجل الدجاج ويسلقهم لهما دون إضافة أي بهارات لأنها تُتعِب القطط، أخرج لها الطعام وقام بتسخينه وتركه ليصبح دافئًا ثُم وضع منه لها ووضع «لمشمش» الذي اتى راكضًا عندما شمَّ رائحة الطعام في المنزل.
ظل يطالعهما بحنانٍ وهو مبتسم بما فعله لأجلهما، يهتم بهما فتهدأ روحه، ويطعمهما فيستكين فؤاده.
__________
وصلت بسيارتها أمام البيت وهبطت منها واغلقت الباب بقوة، كان بيدها الهاتف يصدر صوت الجرس منتظرة إجابة، ولكن لا إجابة، عاودت الإتصال مجددًا وهي بطريقها نحو غرفتها، وأخيرًا أتاها صوتًا حادًا:
" في إيه يا سيلين؟ مبردش يعني أنا مشغول!"
أجابته بهدوء عكس العاصفة التي داخلها:
"يا بابـي ما أنا كان لازم أتصل بحضرتك أعرفك إني عايزة أسافر إيطاليا!"
_"ماتحجزي وتسافري، وأبقي سيبيلي مسج يعني عــادي، هي شَغلة وخلاص يعني! يلا يلا سلام!"
قال كلماته بينما هي أسرعت تقول:
"بس حضرتك لازم تعرف الاو.."
لم تكمل كلامها بسبب استماعها لصوت صفير إنهاء المكالمة من جهته، نظرت للهاتف وأكملت نحو غرفتها وجلست على سريرها تذرف الدموع ببكاء مرير!
كانت دومًا تُحسد كونها ابنة رجل الاعمال الشهير «وليد الأنصاري»، يحسدون الظاهر وتاركون الباطن، تاركون ما تعاني به من وحدة بالداخل، لديها أصدقاء كثيرون ولكنها تعرف تمام المعرفة أنهم أصدقاؤها لأجل النقود، وإلا لن يتصلوا بها أبدًا، تُحسد كونها لديها النقود الكثيرة تصرف ماتشاء وقتما تشاء، ولكن لا حنان، لا عطف، حب، إهتمام بها، لا شيء.
مسحت دموعها بقوة تحاول التهرب من كل شيء يؤلمها بهذه الحياة بالسفر والذهاب للملهى والحفلات ليلًا مع رفاقها، تحركت نحو خزانتها وأخرجت فستانًا باللون الأحمر كلون الذي ترتديه ولكنه بتصميم مختلف، دلفت للمرحاض تنعم بحمامًا دافئًا، تُظهر للجميع دلالها ولكن هي لا تُحظي بأي دلال بالأساس!
ارتدت فستانها وأخذت مفاتيح سيارتها وغادرت مجددًا بعقلٍ شارد نحو الملهى، نحو مصير مجهول لهذه الفتاة لا تعلم نهايته من بدايته، تسير بالحياة دون تخطيط، دون وعي.
لم يُعلّمها شخصًا أي شيء؛ فهي فقدت والدتها بسنٍ صغير، كانت بالخامسة من عمرها فقط!
ومن وقتها وهي ضائعة بحياة صعبة، تغلب الضعيف وتأكله، ووالدها وقته كله بعمله.
توقفت بسيارتها أمام منزل صديقتها تنتظرها ليغادرا سويًا نحو عالم يجمعهما مع بقية الأصدقاء، شاردة تنظر أمامها بعينين دامعتين راغبة في إنهاء حياتها الآن بسبب كل الأحداث الجارية بحياتها.
اقتربت صديقتها من السيارة وتحركت بها «سيلين»:
"بابا وافق على السفر، اعملي حسابك بقى ان شاء الله وهنشوف النهاردة مين هيسافر معانا"
توسعت ابتسامة الثانية جوارها:
"بجد، Great، بس فلوس السفرية دي من ناحيتي عليكِ ها؟"
نظرت لها «سيلين» ثم أعادت بصرها نحو الطريق وهي تبتسم قائلة:
"Of course، كدا كدا أنتِ معايا يابنتي"
ابتسمت الثانية بمكرٍ واضح على ملامحها غفلت عنه التي جوارها، فما كانت لها سوى استغلال لنقودها الكثيرة، تأخذ منها متى تشاء كأن لها الحق بها وأعتقدت «سيلين» بأن ذلك ماهو إلا حب في مساعدة صديقتها التي لا تملك الكثير من النقود مثلها.
وصلت نحو الملهى ودلفت تُخرج كل مابداخلها بالرقص و.. احتساء الكحوليات!
_______________
عاد من المكان الذي يُخرج به كل الكبت الذي داخله، من المكان الذي يمارس به الرياضة التي لطالما كان مهووسًا بها، حتى أصبح يوميًا يذهب بعد عمله «للچيم» ينعزل بعيدًا عن الجميع لساعتين ثُم يعود للحياة مجددًا.
_"يـــوه بقا، تاني يارنا تاني!"
قالها «آسر» بحنقٍ واضح واقفًا أمامها لتقل له بتأكيد ممسكة يده بين يديها:
"وتالت كمان يا آسر، أنت عاوز إيه أكتر من إني أنا اللي بقولك أتجوز عليا، أتجوز يا آسر عشان خاطـري، انا مينفعش أمنعك من إنك تشوف عيل ليك بسبب مرضي وبسبب إني مينفعش أحمل!"
نفض يديها عنه ودار بجسده ليصبح ظهره لها:
"وأنا مش عاوز ياستي، مش عاوز عيال، أنا الحياة معاكِ راضي بيها ومش عاوز أتجوز تاني، وسبيني بقى عشان أنا لسه راجع من الچيم عايز أخد دش والبس واروح شغلي!"
تحركت من مكانها نحوه وامسكت يده مجددًا:
"لا عاوز يا آسر، أنا أكتر واحدة عارفة إنك عاوز، حبك للأطفال كبير أوي، وأنا عارفة ده كويس ومقدرش أحرمك من الشعور ده"
رفعت يديها تُحيط وجهه، تخللها بذقنه لتجعله ينظر لها وتحديدًا لعينيها البُنية التي بها لمعة حزن:
"أنت هتفضل حبيبي وأنا حبيبتك، هنفضل جنب بعض، أنت هتتجوز عشان تخلف ويفضل الولد مالي عليا أنا وأنت حياتنا، أرجوك متحرمناش من الشعور ده، مش زعلانة ولو زعلت هيبقى شوية صغيرين وهبقى زي الفُل وكلنا هنتعود"
تنهد وضمها نحوه قائلًا بتنهيدة قوية:
"بس أنا مش عاوز غيرك في حياتي، مش عاوز اتجوز غيرك، ولا أبقى مع غيرك، وبعديــن عايزة تقنعيني إننا ممكن نلاقي بنت حلال تعمل اللي أنتِ عيزاه ده يارنا، كل ست دلوقتي بتلف إزاي تاخد جوزها ليها لوحدها!"
ازدردت لُعابها وصمتت لثوانٍ وابتعدت عن حضنه ناظرا لعينه بتوتر قائلة:
"لا فيــه، مرام بنت خالتك!"
توسعت حدقتيه بصدمة وصاح:
"إيــــه!!!!!"
____________
في الحي الذي يلمئوه البيوت القديمة البسيطة والتي يبدو عليها مرور الزمن، في حيّ يعيشون على نهج اجدادهم وعلى تقاليدهم وعاداتهم، يحبون بعضهم ويقفون جوار بعضهم
في المسجد الذي يتوسط الحي وقبل صلاة العشاء تحديدًا، كان يجلس وأمامه مجموعة من الأطفال البريئة
حرك شفتاه الغليظة مُتحدثًا بابتسامة جانبية:
"ابدأ يا محمود"
ابتسم «محمود» سريعًا واخذ نفسًا عميقًا وتنحنح بقوة لينظف حنجرته وبدأ يُؤذن:
" الله أكبر الله أكبر
الله أكبر الله أكبر
أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله
أشهد أن محمد رسول الله، أشهد أن محمد رسول الله
حي على الصلاة، حي على الصلاة
حي على الفلاح، حي على الفلاح
الله أكبر الله أكبر
لا إله إلا الله"
انتهى -الطفل محمود ذو التسعة أعوام- من الآذان بصوتٍ مميز جميل، وبابتسامة واسعة وهو يتساءل:
"صوتي كدا كويس ياشيخ مروان؟"
ابتسم مروان وهو يربت على شعره بحنان قائلًا :
" تبارك الله يا محمود، يبقى على بركة الله "
توسعت ابتسامة الصغير في فرحٍ والصغار جواره يباركون له ويخبرونه بأن صوته مميز اليوم وسيفرح به اهل الحي جميعًا
وبالفعل أتى موعد صلاة العشاء وبدأ الصغير يؤذن وأتى الناس على صوته، وهم يتحدثون عن «مروان عبد المجيد»، الشاب الذي يسكُن قلوب أهل الحي جميعًا، يتحدثون عن إنجازاته البالغة، أولهم تحفيظ الصغار القرآن الكريم، ومساعدتهم على حفظ الآذان، وجعلهم أيضًا يوميًا كل واحدٍ منهم يؤذن معه بعد تدريبه جيدًا؛ حتى يحبون الصلاة ويصلون كل فرضٍ بالمسجد.
إنتهى الجميع من اداء فرض الله، وبدأ بعض الأهالي يشكرون «مروان» على تعليمه لأطفالهم ويدعون له بالثبات، وهو يجيبهم بكل ودٍ.
غادر لمنزله بعدها وارتدى زيًا كاملًا باللون الأسود وأمسك عود الثقاب وضعه بفمه وهو يتابع الهاتف منتظًرا أجابة حتى أتته فتحدث بهدوء شديدٍ:
"مسا يا عبدالله، عامل إيه؟"
استمع للطرف الآخر وتحدث بعدها
"أنا بخير الحمدلله، أنا دلوقتي في طريقي عشان أنفذ المهمة، هستناك في المكان اللي هبعتلك عنوانه في رسالة، البت هتكون هناك مع صحابها، ولما نتقابل قولي خطتك"
وانتهى النقاش بينهما وغادر «مروان» للمكان وانتظر «عبدالله» صديقه حتى أتى مبتسمًا له:
"عامل إيه يا شيخ مروان؟"
اجابه الآخر بسخطٍ:
"بخير يا أخ عبدالله، احنا رايحين لقضية خطف وأنت بتقولي ياشيخ "
قهقه عبدالله بخفة وهو يتساءل عن الخطة:
"إيه الخطة؟ "
قاد «مروان» سيارته وهو يسرد عليه:
"هنبعتلها جوا المخروبة اللي هي فيها؛ إن فيه حد عايزها برا ضروري، ولما تطلع نخدرها ونطير"
قوص «عبدالله» حاجبيه:
"وكاميرات المراقبة؟ "
أجابه بإختصار
"هنقف بعيد"
تذكر حينما رأها صباحًا والتي لم تكن تلك محض صدفة أبدًا، بل كانت خطة منه أن يقف أمام سيارتها ليجعلها تعرفه، حتى يستطيع استكشاف أي شيء عنها هي وطباعها ليدرُس جيدًا كيف سيخطفها!
وبالفعل وقف في مكانٍ فارغ، بعده ببضع أمتار يوجد ملهى ليلي "ديسكو"، أرسل لها شابًا وخرجت معه، وكان «مروان» و«عبدالله» يتابعنها من اسفلها لاعلاها، بفستانها الضيق القصير الأحمر.
ابتسم «مروان» بمكر وأمسك بيده منديلًا به مادة مُخدرة وقال بفحيح:
"بدأت اللعبة يا بنت الأنصاري"
ترجل من سيارته هو و«عبدالله» وتوجهها ناحيتها بينما هي تتابعهما بتوجس وكادت أن تُبدي ردة فعل لكن يده كانت الأسرع ووضع على فمها المنديل وهو يهمس جوار اذنها بفحيحٍ
"أبوكِ الحاج وليد الأنصاري معلمكيش الأدب والقيم، نعلمهالك إحنا يابنت الحــرامي"
ذهبت في سبات سريعًا ولم تتعبه كثيرًا في تخديرها بسبب تناولها لبعض الكحوليات بالداخل التي جعلت من أمرها سهلًا!
_________________