رواية تشابك ارواح الفصل السابع 7 بقلم أمينة محمد الالفي
الفصل السابع من -تشابك أرواح-
«شر لابُد منه»
كان «وليد» ينقر بالقلم على سطح المكتب وهو يطالع «نادر» بعبوسٍ واضح ووجوم أدى لاحمرار وجهه:
"إبراهيم وعياله خطفوا سيلين بنتي مقابل إني أرجع قطعة الأرض بتاعتهم!"
تقوس حاجبي «نادر» وتجهمت أسارير وجهه معتدلًا في جلسته التي بدى عليها القلق ناحية هذا الخبر وهو يسأل بتشوش:
"خطفوها إزاي؟"
طالعه «وليد» وهو يتحدث بإقتضاب، يرى التعابير البادية على وجه «نادر» والذي أعتقد أنه قلق:
"خطفوها من تلت أيام وهي معاهم في الحارة بس مش ده اللي شاغلني"
استكانت ملامح «نادر» ورفع حاجبًا واحدًا باستغراب واضح، وسأله بفضولٍ:
"معلش مش فاهم، إيه اللي شاغل سيادتك؟"
ضحكات عالية من «وليد» صدحت بالمكان، كانت ساخرة وغريبة بعض الشيء، تحرك من كرسيه وتوجه ناحية الكرسي الذي يجلس أمامه «نادر» الذي يطالعه بملامح متوجسة يحاول استنباط ما يتفوه به هذا الرجل:
"أنا اللي شاغلني يا نادر قطعة الأرض والمصنع، أنا لازم أدخل العمال دول يبدأوا يشتغلوا، أنت لما جبتلي قطعة الأرض دي دخلت دماغي ودلوقتي بالعِند في إبراهيم فهي دخلت دماغي أكتر"
_"وبنتك؟"
سؤال بسيط ولكنه من المفترض أن يكون صعبًا بالنسبة «لوليد» الأب، ولكنه لم يبدو كذلك، فهو لم يعرف يومًا معنى الأبوة، ولم يكن يومًا سوى رجلًا قاسيًا عليها لا يعرف قلبه الرحمة تجاهها، تاركها في الحياة تقلبها ذات اليمين وذات اليسار، حتى أصبحت هي الأخرى بلا هدف .. بلا حدود، حتى أن حدودها تجاه دينها لم تعرفها يومًا.
أجابه بكل بساطة وكأنه يتحدث عن شيء ما لا يعنيه:
"عادي هيحصلها إيه، لا بص ركز معايا كدا يانادر، إبراهيم وعياله والشلة إياها اللي معاه ميقدروش يلمسوا طرف من سيلين ،يعني متقلقش أنا ممكن أخلص كل حاجة وهي لسه معاهم أصلًا، هيفضلوا مفكرين إنهم ضاغطين عليا بيها بس Guess what? ولا فارقلي"
أنهى حديثه بضحكات بها بحة خبيثة، يتذكر يوم أتته فتاتهم وأمر رجلًا من رجاله بدبحها وإعادتها لأبيها ميتة!
طالعه «نادر» لبضع ثوانٍ يحاول استنباط كم القذارة التي بالشخصية القابعة أمامه، هو لا يعنيه كل تلك الأمور ولكنه لم يتوقع ذلك من «وليد» واعتقد أنه يحب ابنته، ولكن طالما لا يحبها فهو الآن في إستعداد تام لإقتراح فكرة ما شيطانية لمعت بعقله:
"حلو الكلام، وانا اللي كنت جاي وعامل استعدادات وبقول هجهز لفرق الباحثين فوق الأرض وتحتها عشان نطلع بنتك السنيورة، كدا وفرت عليا كتير أوي أفكار وعندي دلوقتي فكرة واحدة هتخليك تقدر تبني المصنع!"
_"إيه هي؟"
سأله وهو يعتدل بجلسته لينتبه لحديثه، فأجابه «نادر» بنظرة شيطانية مضيقًا عينيه قليلًا وبفحيح أردف:
"نقتلها!"
_____________
غادر رفقة «فاطمة» وهو يتذكر كل كلمة دارت بينهما في تلك الشرفة ولمعة عينيها بالحزن أمامه والتي تلتها دموعها المنهمرة على خديها.
_"عارفة الست اللي أنتِ بتستنجدي بيها، والحاج اللي بيعاملك معاملة كويسة دول؛ أبوكِ دابحلهم بنتهم ... عهد بنتهم أبوكِ قتلها!"
طالعته بملامح مذعورة لذلك الحديث الذي تفوه به الآن، عينين كاد البؤبؤ يخرج منهما من الصدمة، وبصوت مرتجف سألته:
"أنت بتتكلم بجد؟ No no you're lying!"
أخرج تنهيدة عميقة وهو يسترجع ذلك اليوم الذي لم ولن ينساه بتاتًا، يوم أتت وهي غارقة بدمائها ورقبتها مشقوقة، كانت بوجه شاحب وشفتان زرقاوتان، بجسدٍ بارد وعينان مفتوحتان على وسعهما، همس بنبرة خافتة مليئة بالحسرة:
"بتكلم بجد، وليد قتلها لما راحتله تطالب بحق الأرض بتاعتنا، إحنا بقالنا تلت سنين ونص بنجري وراها، وهي ماتت من تلت سنين فاليوم اللي راحت عندكوا البيت لوحدها واتدبحت ورجعتلنا بتترمي في الحارة من عربية سابتها وطارت، ذنبها إيه وذنب الست فاطمة والحاج إبراهيم إيه يشوفوا بنتهم بالمنظر ده؟"
وضعت كفها على فمها بصدمة كبيرة احتلت ثناياها، وارتجفت أوصالها فقط من مجرد تخيل الفكرة، ما يقوله كبير جدًا بالنسبة لها الآن، لمعت عينيها أثر الخوف وهبطت دموعها وهي تقول بخوفٍ:
"والله العظيم أنا معرفش حاجة عن الموضوع ده، Believe me، أنا كنت كل اللي فكراه إن بابي واحد جامد شوية في شغله بس معرفش أنه سارق وقاتل كمان، please متعملوش ليا أي حاجة أنا مليش ذنب!"
_"وذنب عهد كان إيه؟"
سألها وهو يطالع ارتجافها ذلك الذي حرك داخله بعض الشفقة عليها، يعلم أن لا ذنب لها ولكن إن أظهر ذلك فلن ينجح في اكتساب أي معلومة منها.
أصبحت ساقيها غير قادرة على حملها فأمسكت بالسور الحديدي، هربت الدماء من وجهها لسؤالٍ لم يكن إلا بسيط ولكنه سبب الرعب لها وهمست بتلعثم:
"ملهاش ذنـب، بس بس أنا مافيش في أيدي حاجة أعملها دلوقتي عشانكم"
سحب نفسًا عميقًا يُصبر به ذاته وهو يقول بكل بساطة:
"لا فيه، تقوليلي كل حاجة تعرفيها أو سمعتيها من أبوكي عن الأرض دي، هو حتى الورق اللي اتزور مين زوره!"
تعلم أنه لن يصدقها ولكنها أصرت على قرارها وصدقها في ذلك:
"معرفش والله، أنا معرفش أي حاجة عن شغل بابي، ولا هو بيرضى يدخلني فأي حاجة تخص شغله لأني مبفهمش في الحاجات دي!"
ابتسم بسخرية وهو يحرك رأسه ناحية الشمال واليمين بيأس، وأضاف بنزقٍ:
"واللهِ؟ ياشيخة ده أنتِ وأبوكي متعرفوش ربنا عشان تحلفي بيه، عمومًا أنا حاولت معاكِ كان يمكن كل ده يغفرلك عندنا، بس تمام الموضوع أنتهى"
رمى كلماته بشكلٍ لاذعٍ وتحرك من مكانه ناحية الداخل وأستأذن من الجميع وغادر برفقة «فاطمة» تاركًا تلك المصدومة واقفة مكانها تطالع مغادرته بجسد مرتجفٍ، عندما علمت أن الحكاية ليست فقط أخذ حقهم بالأرض بل أيضًا الثأر لأجل ابنة الحارة المقتولة رُعبت أكثر وأكثر، لن يرحموها وبالكاد والدها يحاول مساعدتها إن لم يكن ينوي مساعدتها.
كيف تغيرت حياتها بلمحة بصر من سهرات وسفر وأصدقاء ... أصدقاء؟
أين الأصدقاء من كل ماهي به، لماذا لم يتحركوا ويخبروا والدها بأنها متغيبة عنهم وهي بالأساس كل يومٍ معهم لذلك سيلاحظوا غيابها!
أم أنهم ذهبوا ولم تعرف فهاتفها ليس معها، لا تعلم ولكنها تشعر الآن بأنها أصبحت وحيدة لا حياة أمامها، فقط اللاشيء.
دلفت لها «مديحة» التي لمحت دموعها تنهمر على خديها وسألتها ضاربة يديها ببعضهما بدهشة:
"يالهوي أنتِ بتعيطي ليه يابرنسيسة؟"
نظرت لها «سيلين» وزاد نحيبها بقهر، وهمست من بين جهشها بالبكاء:
"أنا تعبت أوي من كل اللي بيحصل، بابا سايبني ولا كأني بنته ولا حتى بيحاول يعملي حاجة، أنا عمري ما أتبهدلت البهدلة دي ولا حصلي أي حاجة من الحاجات دي، دي مش عيشتي ولا دي حياتي ولا ده ذنبي والله، وبابا مبيحاولش يرجعني البيت ويساعدني"
مصمصت «مديحة» شفتيها بتشدقٍ وهي تقول:
"يا أختي وأنتِ مسمية اللي أنتِ فيه ده خطف، مبتشوفيش الخطف بجد فالمسلسلات والأفلام ولا إيه، ما أنتِ عايشة اهو عيشة فل، اعتبري نفسك في رحلة مدرسية كدا يا أختي وفرفشي، الهم يطلع تجاعيد بدري بدري!"
وضعت «سيلين» يديها سريعًا على وجهها وقالت بدهشة:
"تجاعيد؟ لا مش عايزة يطلعلي أنا لسه صغيرة!"
ضحكت «مديحة» وضربتها على ذراعها بخفة مازحة:
"أيوه كدا فرفشي، يلا تعالي خلينا نعمل الغدا سوا"
جذبتها معها ناحية المطبخ بينما «سيلين» عقلها يدور في ألف شيء، لا تستطيع إخراج أي من تلك الأمور من رأسها فهي تذيقها وجعًا أضعافًا مضعفة داخل قلبها.
_________
وصل بخطواتٍ ثابتة ناحية المجلس ودلف ليجد المحامي يجلس مع «الحاج إبراهيم»، رمى السلام وجلس جوارهما:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
ردوا عليه السلام وهو يطالعهما ليتحدث المحامي بتنهيدة:
"كويس إنك جيت يامروان، أنا لسه كنت بقول للحاج إن قصة خطف بنت وليد مش نافعة، الموضوع ده هيجبلكم أنتو مشاكل أكبر بكتير من اللي كنا بنرتبلها، دلوقتي هما لو رفعوا محضر بأنكم خاطفينها المحضر هيتم وهتتجروا في الرجلين للسجن!"
ألقى «مروان» نظرة على «الحاج إبراهيم» ثُم للمحامي «ثابت» وهو يقول بحماقة:
"طب ما يرفعوا ياباشا يا أهلًا وسهلًا، ولو قدروا يثبتوا إنها معانا يثبتوا!"
اعتدل «الحاج إبراهيم» بجلسته وهو يومئ مؤكدًا على حديث «مروان»:
"هو لو فكر يرفع قضية كان رفعها من أول يوم ياثابت، بس هو عارف إن المحضر هيفتح عليه فتحة سودا ملهاش آخر بالذات أننا هنفتح قدامه المحاضر اللي الحكومة قفلتها دي!"
سألهما «ثابت» وهو يجول ببصره بينهما:
"طب وأنتو ناويين على إيه يعني؟ أروح بكرا افتح القضايا دي تاني وتمشي في المحكمة صح؟"
رد عليه «مروان» بابتسامة بريئة:
"بالظبط يا باشا، هو ده اللي عايزينه يحصل، ووليد مش هيقدر يروح ناحية الحكومة الفترة دي عشان عرف إننا عرفنا إن الورق اللي معاه مزور، وأنت هترفع قضية بأن الورق ده مزور ولازم يتعرض عليهم ويشوفوه"
استقام «ثابت» واقفًا متنهدًا للقادم:
"خلاص ماشي، على خير بقى وهقولكم كل حاجة أول بأول، عن اذنكم"
ابتسم له «مروان» ووقف معه يصافحه:
"أذنك معاك، شوف الفلوس اللي محتاجها وبلغني هحولهالك علطول"
اتفق مع «ثابت» وغادر بينما جلس «مروان» مرة أخرى وهو يخرج تنهيدة عميقة من داخله وصوب بصره ناحية «الحاج إبراهيم» وهو يُملي عليه ما قد صار بينه وبين «سيلين»:
"البت بتقول إنها متعرفش أي حاجة عن شغل أبوها، ولا كانت تعرف حاجة عن عهد أصلًا"
ينظر له «الحاج إبراهيم» بشرودٍ يبدو وكأنه بعالمٍ آخر، تقوس حاجبي «مروان» باستغراب لأنه لم يجبه للآن فتسائل بتعجب:
"يا حاج أنت سامعني؟ فيك حاجة؟"
_"ياحاج... عمي أنت كويس؟"
رددها مجددًا فأنتبه له وأخيرًا وهو ينظر نحوه وكأنه استفاق الآن، بح صوته بتنهيدة وهو يهز رأسه بقلة حيلة:
"محسن مكلمني كلام كله إهانة عشان عبدالله، أتكلم معاه تاني امبارح في حكاية البت تسنيم، أنا مش عارف تسنيم دي عاملة لمخ عبدالله ابني إيه!"
طالعه «مروان» بطرف عينه فهو كان يعلم أن «عبدالله» سيخطو تلك الخطوة فهو أخبره، ولكن لم يكن يعلم بأن الأمر سيزداد هكذا، نبس مواسيًا بنبرة هادئة:
"طب أهدى ياحاج متزعلش نفسك، أنا هشوف إيه اللي دار بينه وبين عبدالله وإن شاء الله كله خير وربنا يجعلهـ.."
لم يكمل حديثه بسبب مقاطعة «إبراهيم» له بحدة وهدر بغضبٍ، فهو طفح كيله ولم يعد يهتم إن كان سيتزوجها ابنه أو لا:
"يجعل إيه يا مروان، يجعل إيه عبدالله نسي نفسه خلاص من حبه لتسنيم، هو فين عبدالله أصلًا من اللي إحنا بنعمله ده، فين عبدالله من حق أخته المهدور، أنا ليا كلام تاني معاه"
تحرك «مروان» من مكانه وجلس جوار عمه وهو يربت على كفه بحنية وتحدث:
"خلاص أهدى حقك عليا، عبدالله الورشة واخدة وقته بالذات إنه مبيعرفش يسيب أي حاجة فيها عشان محدش بيظبط الشغل زيه، وهو بيعرف مني كل حاجة بتحصل أول بأول في حوار عهد الله يرحمها، محسن الله يسهله دماغه مقفولة خالص وكلنا عارفين إن الاتنين بيحبوا بعض ياعمي، الحب ده مش بأيدنا وعبدالله بيحب تسنيم من زمان أوي وعايزها في الحلال وتبقى مراته وبيحاول عشانها وعشان ميجيش بعدين يقول محاولتش ومعملتش ويندم، عشان خاطري متعصبش نفسك عشان صحتك ولو عايزني أكلمه هكلمه"
تنهد «إبراهيم» بحرارة ولكن التجهم مازال على وجهه وهو يجيبه:
"لا يابني متكلموش، أنا اللي هكلمه وهشوف نهاية للموضوع ده، قوم شوف مصالحك يلا!"
نهض «مروان» من مجلسه وهو يردف داعيًا:
"ربنا يصلح الحال يارب، أنا فعلًا همشي عشان حاتم لسه مديني رنة عشان مسافرين رايحين نجيب بضاعة للمحل"
ألقى عليه السلام وغادر بينما جلس «الحاج إبراهيم» يفكر في ألف شيء الآن أولهم حق ابنته وثانيهما ابنه العاشق الذي لا يفكر في شيء أبدًا.
رفع هاتفه يتصل به وأخبره بحدة أن يأتي له بالمجلس الآن تاركًا كل شيء بيده وبالفعل دقائق وكان عبدالله بملابس ورشته المتسخة بالزيوت واقفًا أمام والده بسؤالٍ متلهف:
"في إيه يابابا أنت كويس؟"
أشار له والده بأن يجلس ففعل ذلك ومازال نظراته مصوبة عليه متعجبًا للأمر الذي جعله يأتي بتلك السرعة، تناطقت شفتاه باستغراب:
"في إيه يا بابا قلقتني؟"
رمقه «إبراهيم» بإنفعال وهدر بغلظة ودون أي محاولات في المناقشة بينه وبين ابنه:
"إحنا قولنا إيه في حوار تسنيم ده ياعبدالله، أنت إيه وداك امبارح تتكلم معاه تاني هو أنت لسه مستني إيه أكتر من كدا، كرامتك كلها اتداست تحت الرجلين بسببها وبسبب عمايل أبوها اللي مش عايزك، هو الجواز غصب ولا إيه!"
كلمات حادة ولجت لقلب الثاني فكسرته، حاوطت روحه فأثقلتها، وكأن الحديث كان على قياسه فجرحه.
يعلم بأنه معه كل الحق ولكن من الذي أخبره بهذا؟
حاول تبرير موقفه بكلماتٍ متلعثمة أمام هيبة أباه:
"حقك عليا، أنا خلاص قفلت موضوع تسنيم ده بضبة ومفتاح، معدش فيه أي حاجة تاني هتحصل"
صاح به والده مجددًا وهو يرفع أصبعه بوجه «عبدالله» بوجومٍ:
"ماهو فعلًا خلاص اتقفل ومش هيتفتح تاني ولو هي آخر واحدة في الدنيا دي مش هتتجوزها ياعبدالله، فوق بقى لنفسك وفوق للدنيا حواليك"
اماء له برأسه بطاعة وهو يتنهد معتذرًا:
" حاضر والله، بس أنت مين قالك؟"
يفكر للآن فيمن أخبر والده بكل شيء ولكنه لم يجبه بل زاد الأمر سوءً بسؤاله ذلك:
"هو أنت ده اللي فارق معاك؟ اللي فارق معاك مين قالي ومش فارق معاك الكلام اللي عمال أقوله"
رفع يده يمسك خصلاته من الخلف بضيقٍ لذلك الوضع الذي وُضع به والألم الذي يجتاحه الآن، الغضب يتطاير من عينه ولم يظن سوى بشخصٍ واحد قد يخبر والده، حاول تصليح الأمر بينما عينيه تشع الشرار ويضغط على أسنانه بقوة:
"لا مش فارق معايا، كلامك أوامر ياحاج وفوق راسي، حقك عليا"
ثم هب واقفًا لوالده واقترب يقبل على رأسه كإعتذارٍ بسيط بما يسببه لوالده من إحراج وغضب:
"أنا ماشي عشان سايب الورشة"
وأولاه ظهره وغادر والحزن مصبوبًا فوق رأسه صبًا، مكسور كطائر قوي تحول لضعيفٍ، الأشواك تملئ قلبه الذي لا ينسى حبيبًا لطالما أحبه.
__________
عاد للبيت ولم تعد له روحه وأمانه، عاد والشتات يكبله من كل النواحي.
صعد متوجهًا ناحية شقة أمه أولًا لينعم ببعض الراحة، دلف بخطى بطيئة فوجدها تجلس مع أمه تبكي بقهرٍ بينما هي تواسيها بحنانٍ بالغ، ابتلع غصة مؤلمة وهو يراها بذلك الشكل، ما بالها؟
أخرج صوتًا من حنجرته يعلن عن تواجده بالمكان فرفعت بصرها سريعًا نحوه ومسحت دموعها بكفها هامسة بصوت متحشرج:
"آسر، .. اتفضل"
تقدم منها عندما وجدها تحركت من مكانها متوجهة ناحية غرفة أمه ووقف أمامها مقاطعًا طريقها وهو ينظر صوت عينيها وسألها مستنكرًا:
"مالك يامرام بتعيطي ليه كدا؟ فيه حد مزعلك؟"
هزت رأسها بنفي وهي تنظف حنجرتها محاولة فك لسانها الذي وكأنه شُل من البكاء المفرط:
"لا أبدًا متقلقش مافيش حاجة، أنا كويسة!"
طالعها بإنكار ثم وجه بصره ناحية أمه محركًا كتفيه بتساؤل لِمَ يدور:
"في إيه يا ماما مرام مالها، كويسة إيه وهي مقطعة نفسها من العياط؟ فيه حد زعلها!"
أشارت له والدته بأن يأتي جوارها وهي تتنهد بحزنٍ دفين:
"تعالى يا آسر مافيش حاجة، هي بس أمها وأبوها وحشوها وأحنا بنتكلم عنهم فعيطت يابني"
جال ببصره مجددًا بينهما وبنظراته شك منهما، توقف ببصره على «مرام» المسكينة التي خسرت أهلها في حادث سير أثناء ذهابهما لأداء مناسك الحج والعمرة، وخسرتهما في غمضة عين ليصبح بيتها الجديد بيت خالتها.
مد يده يمسك يدها وجذبها معه لتجلس على الكرسي المجاور له وهو يتنهد بخفة يحاول إقناع نفسه بأن ذلك فعلًا هو السبب الذي جعلها تبكي:
"ربنا يرحمهم يامرام، ادعيلهم كتير وطلعيلهم صدقة، هما عند اللي خلقهم واللي أحن من أي حد على عباده، متزعليش نفسك!"
اكتفت بالايماء ليفاجئها بحديثه الذي رماه في وسطٍ مشوش مليء بالحزن:
"قرري عايزة نكتب الكتاب أمتى عشان أكلم المأذون، وشوفي عايزة تعزمي مين عليه وانزلي اشتري فستان عشان كتب الكتاب، فكري وردي عليا أنا مش هتتم حاجة إلا بردك"
توسعت حدقتيها وطالعت «إبتسام» التي صُدمت هي الأخرى من كلامه، فما دار بينهما منذ قليل كان عن الحديث الذي قالته «رنا» «لمرام» البارحة وبكت لأن لا حظ لها بالدنيا، ولكن نالت حبها في هيئة زواج تم الإتفاق عليه منها هي وهو، فكيف لها أن تحزن وهي ترى نفسها إختيار ثاني للجميع كما كانت دومًا، حتى له.
هذه المرة تناطقت شفتيّ «إبتسام»:
"وماله يابني، تخلص اللي عايزة تعمله وبعدين نتفق كلنا سوا ويتم كتب الكتاب، مُبارك مقدمًا ياولادي يارب"
_"يارب يا أمي يارب، يلا أنا طالع أخد دش وارتاح شوية!"
كان يتحدث وهو ينظر «لمرام» يرى ردة فعلها على حديثه، وقام من مكانه ناحية شقته دون أن يتكلم مع «رنا» بأي شيء، فقط رمى عليها السلام وتوجه بملابسه للمرحاض.
_____________
الفقد عذاب، وما أقسى من فقد الأم، إن تذوقه المرء لن يتذوق مرارًا من بعده، ولن يكسره شيئًا ثانيةً.
كانت تجلس على الأريكة بعدما بدلت ملابسها بتلك الملابس التي أتى بها «مروان» لها، تتذكره منذ أول مرة رأته بها عندما كادت أن تصطدمه بالسيارة وهو أمامها يضع بفمه عود الثقاب الذي تعود على وضعه يضغط عليه بأسنانه بخفة، ثم هنا بالحارة وهي ترى بعينيه كل معاني الكره والبغض تجاهها.
تتذكر ذلك اليوم الذي ذهبت فيه للمدرسة وعادت منه باكية بسبب احتفال يوم الأم الذي أقامته المدرسة ولم يكن معها شخصًا، ركضت ناحية أباها تشتكيه وتبكي له فقابلها بغضبٍ وقتها وتركها مكسورة، مما سبب لها البلادة فيما بعد وعدم الإهتمام لتلك الأمور، ولكنها ستظل فتاة، تحتاج المواساة والتربيت على قلبها المكسور!
_"بابي بابي، النهاردة كان Mother's day في المدرسة، وأنا كنت زعلانة أوي إن مامي مش معايا!"
بكت بحرقة تلك الصغيرة لوالدها الذي كان يجلس على مكتبه وبيده السجائر صاببًا كل تركيزه على الملفات التي أمامه:
"معلش روحي غيري هدومك"
اقتربت منه وهي مازالت تبكي:
"هو أنت مجتش ليه يابابي ليا، كنت مستنياك!"
زفر بحنقٍ بوجهها وهدر بغلظة:
"بقولك إيه ياسيلين، أنا مش فاضي لشغل العيال ده، غوري لأوضتك يلا"
ركضت الصغيرة بذعرٍ من أمامه نحو غرفتها تدفن نفسها في فراشها وتبكي.
تذكرت ذلك اليوم بالجامعة عندما أقاموا إحتفالًا بمناسبة ذكرى يوم الأم أيضًا ولم يعرها أي أحد من أصدقائها اهتمامًا، بل حدثتها صديقتها بتفاهة:
"يابنتي كبري دماغك، احتفلي وخلاص هو لازم تكون مامتك موجودة، إحنا هنتبسط ونحتفل بس"
يومها أغلقت هاتفها وحبست نفسها بغرفتها تبكي بقهرٍ لذلك الواقع المؤلم الذي هي به، عقلها الآن يدور في ردود الأفعال من الجميع، لم تحظي يومًا بحنانٍ ولا عناق دافئ.
استفاقت من شرودها على صوت صراخ بين «مديحة» و«حكمت» وهي تطالعهما في ألم دفينٍ وكأنها ترى فيهما هي وأمها وكيف ستكون تلك العلاقة بينهما إن كانت هي موجودة.
أتت «مديحة» وجلست جوارها وهي تتأفف بحنقٍ:
"ياساتر على دي أمهات، يالهوي مبيريحوش نفسهم خالص!"
كانت تنظر لها وأبعدت خصلاتها عن عينيها وهي تتحدث بنبرة هادئة:
"ليه كدا، ده يا بختك عندك مامي"
طرفت بعينيها نحو «سيلين» تستنبط إحساسها الآن والذي علمت منه أنها بلا أم:
"هي أمك ميتة من أمتى؟"
صمتت لثوانٍ بعينين غائرتين بهما قهر، تجمع كل أنواع الحزن على ملامحها التي كانت دومًا تعرف الضحك والمرح:
"من زمان أوي، كنت أنا لسه عندي سنتين، حتى أنا مش فاكرة ملامحها على الحقيقة ومش فاكرة منها أي حاجة"
_"كانت تعبانة ولا ماتت إزاي؟"
هزت «سيلين» كتفيها بلا علم وهي تجيبها:
"بابا قالي كانت تعبانة أيوه، كان نفسي تكون موجودة معايا اوي، كانت هتكون حياتي مختلفة أوي وكنت وقت ما هتعب هلاقي حد جنبي يساندني عالأقل!"
ربتت «مديحة» على كتفها بمواساة وهي تردف بتنهيدة:
"معلش ياختي الله يعوضك"
ابتسمت لها «سيلين» بشكرٍ وهي تومئ لها برأسها فقط دون أن تتحدث، لم يفهمها شخصًا يومًا وسيظلون يقللون من حزنها كما أعتادت من أصدقائها، أو لن يُفهم شعورها أبدًا!
__________
في المساء احتل الظلام الأجواء وأصبحت الاضاءات الصناعية هي المنيرة للشوارع ولحياة الجميع هُنا، وصل لمنزله حاملًا همًا فوق همه لقلة رزقه اليوم.
أنفق عمره في شيء يحاول الوصول له يومًا ولم يصل، ويدرك بأن الحياة ليست الوصول لما يتمنى، فليس كل مايتمنى المرء يدركه.
دلف للمنزل بإنزعاجٍ باديًا على وجهه ووجدها تجلس جوار أمه، فسحب نفسًا عميقًا يُصبر به نفسه وألقى عليهم التحية وجلس:
"مساء الخير، إيه الأخبار؟"
_"بخير يابني أنت أخبارك إيه؟"
ردت عليه أمه بنبرة حنونة فأومئ لها متصنعًا ابتسامة بسيطة على ثغره وصوب بصره ناحية «رزان» متفوهًا بهدوء:
"أختك ردت عليا!"
توسعت حدقتيها بفرحة وخرجت الضحكات من فمها لذلك الشعور بالانتصار الذي اقترب منها وهي تسأله:
"بجد؟ قالتلك إيه وقولتلها إيه!"
راقب ملامح الفرحة والسرور الذي احتلها الآن لمجرد فقط أنها عرفت أن أختها راسلته:
"سألتني على مكانك، بس أنا قولتلها على مكان بعيد شوية عن الحارة عشان مش حابب المواضيع دي تدخل الحارة عشان المشاكل أنتِ فاهمة، وقالتلي إنها قالت لأبوكِ!"
بوجهٍ مشرق وعينين لامعتين من السعادة أردفت:
"طب الحمدلله، مافيش مشكلة خالص المهم أبقى معاهم وخلاص، تسلم بجد ياحمزة، مش قادرة اوصفلك فرحانة قد إيه"
وبنفس النبرة الفرحة الحامدة لله تحدثت أمه أيضًا:
"ربنا يردك لأهلك يابنتي مع إني اتعودت عليكِ!"
ضحكت بسرورٍ وهي تمسك يد أمه بين يديها في سعادة تربت عليها:
"متقلقيش هجيلك كتير والله، أنا كمان اتعودت عليكِ ياطنط"
رفع يده التي كان يشبّكها بيده الثانية نحو خصلاته يعيدها للخلف وهو يفكر في كيف ستذهب من بيتهم بتلك السهولة:
"بس فيه حاجة، نادر مش ساكت .. امم النهاردة كان فيه رجالة كتير في المكان اللي تم فيه الحادثة بيسألوا الناس حد شافك ولا لا، يعني هو مش ناوي على خير خالص"
تغيرت ملامحها سريعًا واحتل مكانها الخوف من ذكر اسمه فقط، يتبدل حالها بين لحظاتٍ من اسمه، بينما والدته ربتت على يدها بتخفيفٍ عنها:
"متقلقيش يابنتي، طالما أنتِ هنا هو ميعرفش مكانك، وأول ما تروحي لأبوكِ أكيد مش هيلاقيكِ!"
كانت تسرق منه النظرات بتهرب من ذلك السؤال التي تعرف أنه سيتفوه به ولكنه لم يفعل بل تحرك من مكانه ناحيةً الغرفة، كان يود أن يلقي عليها ذلك السؤال بالفعل التي استنبطته من نظراته ولكنه قرر تأجيله الآن.
_______________
وصل ناحية البناية بعد يوم عمل شاق، فهو سافر رفقة «حاتم» صديقه ومساعده في محل الملابس خاصته ليشتروا البضاعة الجديدة ليعرضوها بالمحل، كان التعب باديًا على وجهه وجسده.
وقف أمام باب منزله يفتحه ولكن قطعه خروج الهائج من شقته المقابلة له بصراخٍ حاد:
"هو أنت اللي قولت لأبويا يا مروان إني هتقدم تاني لتسنيم؟"
التفت له على صراخه بتعجبٍ وهو يرفع يده بتساؤل:
"مالك يا عبدالله، أنت بتزعق كدا ليه؟"
وقف «عبدالله» قبالته والشرار يتطاير من عينه وهو يتحدث بحدة:
"هو إيه اللي بزعق كدا ليه، أنت اللي قولت لأبويا ولا لا يامروان، أنت عامل فيها اللي عمال تنصح وتعمل بقى وبتتكلم معاه!"
كانت تلك طباعه التي يعرفها «مروان»، لا يعرف ماذا يقول حينما يكون غاضبًا وفي أعلى المراحل، أجابه بنفس الهدوء الذي حاول أن يكن به:
"لا مش أنا، مُحسن اللي كلمه وقاله، وأنا آه بنصح وبعمل زي ما أنت بتقول فإبقى خلي عندك حُسن ظن شوية ومتجيش تزعق فـ وشي وتقولي كلمتين ملهمش لازمة زي دول، ربنا يهديك ياعبدالله!"
وكأن الظلام احتله وعماه فأمسك «مروان» من تلابيبه قبل أن يستدير وهو يصرخ به بحدة:
"إيه ربنا يهديك دي هو أنت شايفني بشد في شعري ولا ماشي مش مظبوط ولا إيه يامروان؟"
وضع «مروان» يده فوق يد صديقه الذي تمكّن منه الشيطان وأعماه بالغضب وهو يحاول إبعاده قائلًا بأنفاسٍ متسارعة في محاولة السيطرة على نفسه:
"أوعى ياعبدالله عشان أنا كنت مسافر وراجع تعبان وعايز أدخل أنام، ولما ترجع لعقلك أبقى تعالى كلمني يا ابن عمي!"
تركه «عبدالله» بدفعة صغيرة أدت لارتداد الثاني في مكانه للخلف قليلًا وهو يحدق به بتنهيدة وقبل أن يتحرك أتاهم صوت على السلم:
"فين عيلة عبدالمجيد؟"
أجابا بنفس الكلمة في وقتٍ واحد:
"أيوه ياباشا أنا!"
نظرا لبعضهما ثم للواقف أمامهما الذي تفوه بكلماتٍ صارمة:
"معايا إذن من النيابة بالاستدعاء ليكم بتهمة الخطف، خطف سيلين وليد الأنصاري!"
نظرا لبعضهما مجددًا في صدمة احتلتهما، متسمران غير قادران على الحركة