رواية تشابك ارواح الفصل الثامن 8 بقلم أمينة محمد الالفي
الفصل الثامن من -تشابك أرواح-
«حق مسلوب»
الحياة تعطيك مرة وتسلب منك مرات، تجعلك تعتقد أنها تسندك ولكن الحقيقة أنها تجهز لك ما قد لذ وطاب من العذاب، أنت هنا مُرحب بكَ دائمًا عند نقطة الصفر فقط!
كانا يجلسان سويًا بنظرات شاردة في مركز الشرطة ينتظران الضابط الذي سيأتي ويبدأ التحقيق معهما، كل منهما في عالم مختلف عن الثاني يفكر في أي مصيبة هما الآن، رأتهما الحارة بأكملها والشرطة تأخذهما دون أن تخرج منهما كلمة واحدة، ولكن تزايدت الكلمات من أهالي الحارة بالأسف على هذين الشابين اللذين من الممكن أن تضيع حياتهما في غمضة عين.
كان «مروان» يستند للخلف مغمضًا عينيه عله يرتاح قليلًا من تعب اليوم وضغط اللحظات هذه، ولكن عقله يدور في ألف شيء ضاغطًا على شفتيه بقوة في غضبٍ مخفي، يدعو الله أن يمرر تلك المصيبة على خير.
بينما الثاني ينظر أمامه نحو اللاشيء، يفكر في تلك المشاجرة التي دارت بينه وبين ابن عمه، بل أخيه الذي لم تنجبه أمه، فهما تربيان سويًا وكانا ملتصقين ببعضهما، يفكر في السجن... الذي قد يكون من نصيبهما بالفعل بدلًا من الإتيان بحق الحارة!
دلف الضابط وجلس أمامهما على كرسيه وهو ينظر لهما بهدوء:
"إيه بقى الحكاية يابهوات، اتفضلوا احكوا!"
نظرا لبعضهما ثم له وقرر «مروان» التحدث هو بحكمة غير الآخر الذي سيندفع في غضب يبرر، تباينت عينيه برسمتهما الحادتين تحديدًا بهذا الموقف في جدية وهو يحكي بهدوء:
"فيه مشاكل بينا وبين وليد الأنصاري بسبب أنه واخد قطعة أرض من أصل الحارة وهدّ بيوت الناس على أساس أنها جاية بقرار إزالة من النيابة، بس القرار ده مزيف والمحامي بدأ يرفع محاضر بالحوار ده عشان الأرض ترجع لصحابها مع تعويض بفلوس مكان الأرض اللي اتاخدت قهر، ده غير إنه أصلًا ناوي يبني مصنع أدوية هيطلع منها مخلفات تأذي حارتنا وتبهدلها، يعني مصانع الأدوية مبتتبنيش هنا ياباشا، فعشان كدا بلغ إننا خطفنا بنته!"
همهم الضابط بتفهم وهو يفكر ثم تحدث وهو ينقل بصره بينهما:
"بس اللي عرفته إن فعلًا البنت متغيبة بقالها أربع أيام، ليه متكونوش أنتو اللي خاطفينها عشان تهددوه!"
هذه المرة اقترب «عبدالله» بجسده ناحية المكتب جالسًا بشكل مستقيم وهو يجيبه:
"وأحنا ليه ندخل نفسنا في حوارات خطف أصلًا يابيه، هي بنته ملهاش ذنب وأحنا ممشين كله بالمحاكم زي ما مروان قالك، طب ماكنا خطفناها وهددناه ومرفعناش أي محاضر وحليناها بالشكل ده!"
كان الضابط ينقر بقلمه على المكتب في استماع لهما بتركيز وقال بهدوء:
"قطعة الأرض دي فـ أنهي جزء من الحارة؟"
أجابه «عبدالله» بإقتضاب وهو يسحب نفسه بعمقٍ:
"في اليمة التانية من الحارة، ناحية الترعة الموجودة هناك كان فيه بيوت لأهالي هناك مبنية من الطوب لسه وكانوا ناس غلابة ملهمش في المشاكل"
أومئ له الضابط وهو ينظر لهما ثم أشار بالقلم عليهما في تتابع بتهديد:
"مافيش إثبات إني أقبض عليكم دلوقتي، بس وحياة ربنا لو شميت خبر إن البت بنته عندكوا فالحارة مش هتعدي على خير، بالذات إننا هنعين مراقبة تامة للحارة!"
أماء له «مروان» بتفهم وابتسم بشكرٍ:
"شغلك يابيه وحقك، تسلم"
ثم نظر «لعبدالله» وأشار له بأن يتحرك وبالفعل مضيا على المحضر الذي لم يغلق بعد حتى يتم العثور عليها وخرجا سويًا من قسم الشرطة ليجدا بأنتظارهما «آسر» و«حمزة» في قلقٍ:
"إيه اللي حصل، أنتو كويسين؟"
نظر لهما "عبدالله" واكتفى بالايماء برأسه وعلامات الأسى تحتل ملامحه بأكملها وهو ينظر بعينه ناحية «مروان» الذي لم يلقي عليه نظرة حتى الآن، انتبه لذلك «حمزة» و«آسر» وتدخل «آسر» بسؤاله باستغراب:
"مالك يامروان، وشك أحمر كدا ليه ومضايق أوي؟"
نظر له «مروان» وتنهد بعمقٍ وأجابه بضيقٍ حاملًا بداخله تأنيب الضمير:
"مضايق عشان كذبت، أنتو عارفين إني مبحبش الكذب ولا بحب أكذب، أنا اتكلمت في كل حاجة بصراحة قدام الظابط عن الأرض وعن كله بس قولتله أننا مخطفنهاش"
ربت «حمزة» على كتفه بمواساة وتنهد الآخر في حزنٍ:
"حصل خير يامروان كان لازم تقول كدا، وبعدين إحنا يعتبر بندافع عن حق من حقوقنا ولو قولنا حاجة زي دي نبقى مكذبناش!"
رفع يده يخلل أصابعه بشعره بإنزعاجٍ واضح وهو يشير لهم بالمغادرة:
"طب يلا نمشي عشان أنا هلكان وعايز أروح أنام"
تحركوا هم الأربعة ناحية السيارة والتي احتلها الصمت مع نظرات «حمزة» و«آسر» لبعضهما يتسائلان عن ما قد حدث بينهما ليكونا هذين الاثنين في هذا الصمت الغريب، وأخيرًا قرر «حمزة» مضايقة «عبدالله» لمحاولة فهم الأمور:
"ايه ياسطا دماغك مشغولة في إيه، ولا عربية كبدة الكلاب شغلاها؟"
كان «عبدالله» هو من يتولى القيادة وجواره «مروان» يراقب الطريق من النافذة بشرودٍ، أجاب «عبدالله» بفتورٍ واقتضاب:
"مافيش يا حمزة"
_"لا بقى ده الموضوع فيه حاجة، هو أنتو متخانقين؟"
قالها «آسر» بصوتٍ مرتفع قليلًا ولم يجبه أحد منهما، فتأكدا الآن أن بينهم شيء لذلك عاود «آسر» سؤالهما بدهشة:
"دا أنتو متخانقين فعلًا، في إيه ياعبدالله أنت ومروان، أنتو عمركوا ماكنتوا كدا؟"
لا إجابة مجددًا فكلاهما يكابران بشكلٍ غير طبيعي، لا يريدان النظر لبعضهما ولا حتى التحدث، صاح بهما «حمزة» بقلة صبر:
"جو الأكشن ده مش معانا، انجزوا مين مزعل مين، أنت ياعبدالله اللي مزعل مروان؟"
هذه المرة تناطقت شفتي «عبدالله» في سخرية:
"اشمعنى أنا هو مروان ملاك مبيغلطش؟"
تعجب الاثنين بينما ابتسم «مروان» هو الآخر بسخرية واغمض عينيه الاثنين مستندًا برأسه ينعم ببعض الراحة حتى يصلا فهو بالفعل متعب بسبب شدة الحر التي أصابته اليوم في سفره والمجهود الذي فعله طوال اليوم وحتى الآن في مركز الشرطة والساعة قاربت على الرابعة فجرًا.
دافع «حمزة» بحدة عنه وهدر:
"مالك ياعبدالله إيه ملاك دي، هو في إيه يا جدعان أنتو هتنقطونا"
أجابه «عبدالله» بضيقٍ وملامحه انكمشت بعبوسٍ وهو يزيد من سرعته:
"حمزة بقولك إيه، أنزل من على دماغي مروان ماهو قاعد اهو متاكلش منه حتة يعني ولا أنا عضيته، أنا مش طايق نفسي!"
هز «آسر» رأسه بدهشة وقلة حيلة وهو ينظر صوب «مروان» ويسأله بنبرة هادئة:
"حصل إيه يامروان، عبدالله شكله بيخرف دلوقتي ومش عارف يقول إيه، أحكي إحنا بنسألكوا من زمان ومحدش معبرنا"
فتح عينيه وتحدث بصوته المرهق يقص عليهم الحكاية باختصار شديد:
"مافيش ياشباب، عبدالله اتقدم امبارح لتسنيم وأبوها كلم الحاج النهاردة والحاج كان متضايق وباين شدّ هو وعبدالله، فعبدالله جاي بيلموني وبيتهمني إني أنا اللي قولتله لأني بقعد معاه كتير"
تحدث «حمزة» باستغراب ساخر موجهًا حديثه «لعبدالله» يلومه في ذلك وداخله يحمل الضيق لأنه يعرف كم يحبان هذان بعضهما:
"إيه العبط ده ياعبدالله، أنت عارف إن مروان ميرضاش يعمل كدا"
لم يجبه فتحدث «مروان» بسخرية وهو يلقي نظرة عليه:
"فكك ياحمزة، اصل عبدالله رفع أيده عليا أصلًا ودماغه بقت متشتتة خالص، لما ربنا يهديه .. ولا بلاش لأحسن هو بيزعل من الكلمة دي، لما يرجع لعقله نبقى نتكلم "
نظرا الاثنين بالخلف «لعبدالله» الذي مثّل انشغاله بالقيادة وعلامات العبوس تحتل وجهه في حنقٍ وضيقٍ، وعاتبه «آسر» بنبرة حادة:
"ليه كدا ياعبدالله، إحنا كلنا عارفين إن مروان ميعملش كدا، أنت كنت بتظن فالكل إلا هو ياجدع فيك إيه!"
كان يحمل بينه وبين نفسه التأنيب والحزن لأنه كان السبب بحزن أخيه الآن والذي كان يخاف عليه من الهواء المار فكيف هو يكون السبب بذلك؟
أوقف السيارة أمام المنزل ورمى عليهم «مروان» السلام بهدوءٍ قبل أن يغادر السيارة:
"تصبحوا على خير، السلام عليكم"
وصعد ناحية شقته بينما ظل الثلاثة مع بعضهم واستدار لهما «عبدالله» في جلسته وهما ينظران له بتأنيب وبوجومٍ فتنهد هو قائلًا:
"بصراحة أنا فعلًا عكيت معاه في الكلام أوي وهو كان جاي من السفر تعبان أصلًا، معرفش عقلي ترجم إزاي أنه هو اللي قال لأبويا بس هي جت كدا وجه ضيقي فيه، مش عارف أعمل إيه أنا متضايق عشان هو متضايق كدا"
عاتبه «آسر» بملامح غاضبة:
"ما أنت لازم تبقى متضايق، إحنا كلنا عارفين كويس إن مروان ملوش غيرك أكتر مننا حتى، لأنكوا ولاد عم وأخوات تقوم تطلع منك أنت وتزعله، متسيبهوش ينام زعلان أنت عارف مروان أصلًا مبينامش الليل بسبب الكوابيس اللي بتجيله علطول، متبقاش أنت وكوابيسه، أطلع صالحه وهو أكيد مش هينام قبل ما يصلي الفجر لأنه خلاص هيأذن، صالحه وهاته وأنزل نروح نصلي إحنا الأربعة وكل واحد يروح بيته يلا"
انضم رأي «حمزة» «لآسر» وتحدث وهو يربت على كتف «عبدالله» بملامح استكانت قليلًا:
"آسر معاه حق، يلا روح هاته وتعالى يا عبدالله، بس صالحه بينك وبينه زي ما زعلته بينك وبينه"
طالعهما «عبدالله» بإقتناع وهو يسحب نفسًا عميقًا يؤكد على كلامهم الذي يحملان به كل الحق، فهو ليس له غيره ولن يكن، وسيكون سبب في زيادة حزنه وهمه أضعافًا، همس بتنهيدة قوية:
"هعمل كدا، خليكوا هنا هطلع اجيبه واجي ونروح نصلي"
تحرك من السيارة وصعد ليردف «حمزة» بتنهيدة:
"دماغه مسوحاه بس هو عبيط".
أراح «آسر» ظهره بتنهيدة يغلق جفنيه على عينيه الخضراء في تعبٍ ملحوظ، فهو أصبح مؤخرًا متذبذب في قرارته يشعر دومًا بالانتهاك في خصوصياته ومُتعَب، فُرِض عليه واقع لا يعلم كيف ومتى أتى.
لاحظ «حمزة» التعب البادي على وجهه وتقوس حاجبه باستغراب يسأله في هدوء:
"مالك أنت كمان؟"
_"مش عارف حسيت بتعب فجأة وحاسس إني قلبي مقبوض، عايز أطلع أنام!"
قالها وهو يرفع يده يمسد جبهته بقوة ويعيد خصلاته المموجة للخلف فأومئ له «حمزة» بتفهم وهو يربت على فخذه:
"إحنا تعبنا النهاردة وكان فيه ضغط، بس هنصلي ونطلع كل واحد فينا ينام، الحمدلله إن بكرا الجمعة كلنا إجازة نبقى ننزل كدا نتجمع نقعد سوا شوية نخفف على بعض"
فتح «آسر» عينيه ونظر ناحيته وهو يبتسم ابتسامة خفيفة كادت أن تظهر واكتفى بالصمت!
________
وما الصديق سوى أخ لم تنجبه أمك انجبته لك الحياة ووضعه الله في طريقك ليواسيك ويمسك بيدك نحو التقدم، خليلًا يُذهب البأس والبؤس، رفيقًا يرافقك في خطواتك السليمة ويبعدك عن المتعرجة، فأختر صديقك بحكمة؛ فأنه ساحبك معه إما نحو النعيم أو الهلاك!
طرق الباب طرقات خفيفة بقلبٍ هلع وروح هائجة، يؤلمه قلبه لإحزان صديقه وأخيه بتلك الطريقة، إنه الصاحب المواسي له دومًا، انتظر حتى فتح له «مروان» وبدى على ملامحه الاستغراب دون أن يتحدث، بينما الآخر يقف أمامه لا ينطق بكلمة متوترًا فقط، ظل يحاول التحدث في تلعثم ولكن لسانه معقود عن الكلام، وجد «مشمشة» تقترب من الباب تلتصق بقدم «مروان» فتفوه بسذاجة:
"ماشاء الله مشمشة بقت بيضة!"
قوس «مروان» حاجبه بتشدقٍ وهو يسأله في سخرية:
"لا والله، وهو حد قالك إن مشمشة حمرا؟"
رفع «عبدالله» يده يمررها على شعره بتوترٍ واضح ثم أبعد «مروان» عن الباب ودلف في اقتحام للمنزل وهو يقول بضجرٍ:
"يخرييت التوتر، ماتوعى ياعم دخلني وادخل اتوضى عشان ننزل نصلي الفجر كلنا"
أغلق «مروان» الباب ومال يحمل «مشمشة» على يده وهو يربت عليها متحدثًا لها بابتسامة تهكمية:
"ده عمو عبدالله يامشمشة ياحبيبتي، أهله ناس محترمين وهو مش محترم"
ابتسم الثاني له بنفس الابتسامة المصطنعة تلك ووجه حديثه «لمشمشة» هو الآخر قائلًا:
"أيوه فعلًا، بس ده تطور ذاتي مني لنفسي"
أنزل «مشمشة» من على يده وهو يهز رأسه بقلة حيلة وتحرك ناحية المرحاض وتفوه قبلها:
"مش هتتغير، ربنا يهديك!"
_"حقك عليا، أنا آسف والله العظيم يامروان مكنش قصدي، كانت لحظة غضب وشيطان وطلعت فيك، بس أنت أخويا اللي مقدرش أكمل من غيره وأنت اللي كنت جنبي في كل لحظة في حياتي، إحنا زي التوأم مع بعض في كل خطوة وكل حزن وكل فرح، والله أنت اللي مهما لفيت مش هلاقي زيك عمري، دايمًا ساحبني وراك ناحية الطريق الصح، أنت النجاة ليا يا مروان"
قالها بنبرة سريعة بينما الآخر ظهره له وتوقف مكانه لم يتحرك يستمع لكل كلمة قالها في تنهيدة عميقة، التفت ناحيته مجددًا وهو يطالع ملامح الضعف على وجهه، الندم البادي عليه يأكله، اقترب منه «مروان» وجلس جواره وهو يربت على يده بحنية بالغة اكتسبها من أمه:
"أنا مزعلتش منك ومقدرش أزعل منك يا عبدالله عشان أنت أخويا، أنا زعلت إنك ظنيت فيا ظن سوء بس وعايزك لما يحصل حاجة تفكر ألف مرة قبلها وقبل ماتاخد قرارك عشان متندمش!"
أخفض «عبدالله» رأسه بندم وهو يتفوه يتذكر ما الذي قاله «لمحسن» عن «تسنيم» وأنها أصبحت محرمة عليه في لحظة غضب أيضًا ولكنه أخذ عهدًا على نفسه وعلى أبيه بأنه لن يحاول التقرب منها مجددًا:
"عندك حق، بس أنت عارفني عصبي ومبعرفش اتحكم في عصبيتي خالص، بس أوعدك والله هحاول أحسن ده! حقك عليا يامروان"
توسعت ابتسامة «مروان» بوجهه وهو يومئ له بخفة معبرًا عن رضاه وأنه لم يعد حزينًا منه:
"خلاص ياعم، متقلقش أنا مبقتش زعلان، وبعدين هو حد يزعل من أخوه؟"
ابتسم الواقف أمامه بسماجة يُضيع هيبة الموقف والكلام الجديّ الذي قيل بينهما قبل قليل:
"قول لنفسك يا أخويا، أنت اتقمصت!"
سحب «مروان» نفسًا عميقًا وهز رأسه بلا حيلة من الواقف أمامه فهو لن يتغير:
"معاك حق، أنا برضو قموص، معلش يابني هنعمل إيه فيا بقا، أنا داخل اتوضى عشان منضيعش الفرض واخلص عليك الليلة!"
أشار له «عبدالله» بيده بلا اهتمام ليغادر، ومال يحمل «مشمشة» يلاعبها حتى ينتهي «مروان»، وأثناء وقفته لمح صورة موضوعة في الخفاء عند سجادة الصلاة ولكنه لمح بها أخته التي لا تغادر مخيلته، وجوارها يقف «مروان» في حفلة خطبتهما، ظل يطالع الصورة من بعيد وهو يعلم أن «مروان» لم ينسها ولن يفعل، فهو أحبها منذ الصغر وحتى خطبها وكانا على وشك الزواج قبل موتها بشهرين، أغمض عينيه يتذكر لحظة وصولها الحارة مقتولة، وعندما وضعها في القبر بيده بعدما كان يحملها بين يديه وهي صغيرة وحتى وهي كبيرة ويشاكسها، أغمض عينيه بألم لتلك الذكرى المريرة التي لا تغادره، ولكنها الآن تجددت بشكلٍ أقوى بداخل عقله.
أستيقظ من شروده على صوت «مروان» الذي تحدث وهو يهندم ملابسه:
"أنا خلصت، ادخل اتوضى يلا ياعبدالله عشان ننزل"
نظر له "عبدالله" بابتسامة بسيطة كادت أن تظهر وغادر نحو المرحاض يتوضئ ثم غادرا سويًا نحو المسجد هم الأربعة!
في بيت بسيط جوار المسجد كانت تقف في الشرفة لا يجد النوم مكانًا له عندها، أصبحت أكثر هدوءًا منذ أن أتت لتلك الحارة، أصبحت أكثر همًا وقلقًا من القادم، فهي لم ترى للآن خوف والدها عليها ولم تفعل يومًا بالأساس، ولكنها كان تُصبر نفسها بكونه مشغولًا بعمله، وهي مشغولة مع أصدقائها في السهرات اليومية
كانت وستظل المدللة التي لم تعرف يومًا طعم المرار في الحياة من المرح واللهو، ولكنها دومًا حملت داخلها الفقد لشعور الأمومة الذي لم تجربه أبدًا بل كانت تراه على مرمى عينيها من أمهات صديقاتها.
أغمضت عينيها الزرقاء التي ترغرغت بالدموع لتلك الأفكار السوداوية التي تحاوطها الآن، الحياة هنا صعبة وليس كما اعتادت، جسدها يحتاج العناية كما تعودت، وشعرها الطويل أصبحت رائحته غريبة وشكله أغرب.
استيقظت من شرودها على صوت الأذان الذي صدح في أرجاء الحارة بتأني وبصوتٍ عذب، ذلك الصوت هي تعرفه جيدًا، صوتًا سمعته قبلًا يتحدث معها وسمعته يؤذن وها هي المرة الثانية، أغمضت عينيها تستشعر كل كلمة في الأذان ينطق بها «مروان» حتى انتهى مع دموعها التي انهمرت على خدها ثم صوت شهقاتها العالية التي أفزعت «مديحة» النائمة على الفراش في نهاية الغرفة:
"بسم الله الرحمن الرحيم، مالك ياختي؟"
نظرت لها «سيلين» التي جلست أرضًا تستند بظهرها على باب الشرفة وتضم قدميها نحوها وتفوهت بصوت متحشرج من بين بكائها:
"حاسة إن قلبي واجعني أوي"
تحركت «مديحة» بقلة حيلة واقتربت جوارها وهي تربت على كتفها بحنانٍ اكتسبته من أهلها وحارتها:
"معلش ياختي معلش، أهدي كدا وصلي عالنبي ده حتى أذان الفجر بيأذن، ادعيلك دعوتين كدا في سرك وربنا يهديلك حالك"
استندت «سيلين» الباكية قهرًا برأسها على كتف المواسية لها وهي تسمع صوته مجددًا يقيم الصلاة وأغمضت عينيها تحاول أن تدعي لنفسها بشيء ما لا تعلمه، ولكنها همست بينها وبين نفسها بصوت متعب:
"يارب، يارب أنا تعبت يارب"
ربتت «مديحة» عليها ومسدت على شعرها ضاممة إياها نحوها، كان جسدها ضئيل بالنسبة لجسد «مديحة» الممتلئ، فكانت كالصغيرة بين أحضانها تفتقد الحنان، تنهدت «مديحة» وهي تخبرها بحنان:
"قومي اتوضي وصلي الفجر يلا، يمكن تهدي أكتر"
رفعت لها «سيلين» بصرها تنظر لها بتيه وفقدت النطق لثوانٍ وهي لا تقوى على اخبارها بأنها لا تعرف كيف تُصلي، بل لا تعرف كيف تتوضأ بالأساس فلم يعلمها أحدًا يومًا ولم تحاول التعلم، أضاعت حياتها هباءًا منثورا، نظرت للخارج وللسماء تحديدًا وكأنها تحاول العثور على النجاة، زاد ذلك شك «مديحة» بصمتها هذا وسألتها باستغراب:
"مالك، هو أنتِ مبتصليش ولا إيه؟"
أعادت «سيلين» بصرها نحو «مديحة» بحرجٍ لأول مرة تشعر به أمام شخص من ذلك السؤال واكتفت بهز رأسها بالنفي وبعينين متعبتين غائرتين، ضربت الأخرى كفًا على كفٍ وهي تتنهد بقلة حيلة:
"لا حول ولا قوة إلا بالله، طب أنا هقوم أصلي وادعيلك ربنا يهديكِ بقى، وبكرا نقعد وأعلمك إن شاء الله"
تابعتها «سيلين» وهي تتحرك من جوارها نحو المرحاض واكتفت هي بالجلوس جوار الشرفة لوقتٍ لم تشعر به ولا بنفسها حتى استمعت لصوت ضحكات شباب أسفل الشرفة فقامت تستند ونظرت لأسفل لتجده بينهم يقهقه مع أصدقائه بعد خروجهم من المسجد، ظل بصرها معلقًا عليه حتى شعر هو بمن يراقبهم فرفع بصره ناحيتها مما سبب إفزاعها بشهقة مكتومة ودخولها للمنزل بسرعة بينما هو أعاد بصره نحو أصدقائه ولم يعلق عليها أبدًا، تحدث بنعاسٍ:
"أنا معدتش قادر أقف، أنا هروح أنام وعشان صلاة الجمعة بكرا متفوتش حد فينا وأحنا نايمين، يلا تصبحوا على خير"
تحركوا متفرقين كل واحدٍ لمنزله بينما «عبدالله» و«مروان» اتجها نحو منزلهما الذي ببناية واحدة تخص عائلتهما وافترقا كل واحدٍ لشقته.
___________________
نامت على سماعها صوته يؤذن واستيقظت على صوته يؤذن أيضًا لصلاة الجمعة، تأملت سقف الغرفة في شرودٍ تستمع بوضوحٍ لكل كلمة يقولها كما العادة، ودت اليوم أن تكون هادئة أكثر من اللازم وصامتة، تلك الحرب التي تخوضها بينها وبين نفسها ستغير جزءًا كبيرًا داخلها، لن تمر مرور الكرام.
اعتدلت في جلستها بعد مدة من النوم بتلك الطريقة وغادرت الغرفة لتجد «مديحة» جالسة تتحدث بالهاتف وعندما لمحتها صمتت فورًا، فهمت أنها تتحدث ببعض الخصوصيات فتحركت هي نحو المرحاض تحاول استكشاف كيف يمكنها أن تستحم هنا، تنهدت بعمقٍ واختارت الملابس التي سترتديها وتذكرت حينما أتى لها يسألها عن شيء يخص أباها ولم تجبه ولكنه أعطاها تلك الملابس.
انتهت من حمامها الدافئ وخرجت وهي تستمع لصوت «مديحة» مع أمها بالمطبخ تقول بشهقة:
"الحقي يمّا الراجل أبو البت سيلين تحت ومروان وعبدالله واقفينله!"
لا تعلم كيف فتحت الباب وأخذت السلالم ركضًا نحو الخارج بينما شعرت بها «مديحة» وحثتها أمها على أخبار «مروان» بسرعة، وبالفعل تناولت هاتفها واتصلت به فعلم أن هنالك شيء يخص «سيلين» قد حدث وإلا لن تتصل به الآن فأجاب على الإتصال يستمع لكلامها:
"مروان.. سيلين سمعتني وأنا بقول أبوها تحت ونزلت جري، ألحقها لو مش عايزها تظهر!"
استمع لكلامها فقط وأغلق الإتصال ثم أعاد بصره نحو «وليد» بهيبة وحدة وهو يكز على عود الثقاب بفمه:
"نصيحة ياوليد امشي، لو عاوز تفضل بخير يعني، وبنتك أنت مش مهتم بيها أصلًا عشان تيجي تتهمنا إننا خطفناها وتبلغ علينا، روح اتهد في بيتك واستنى مفاجآت الحارة السارة تجيلك لحد عندك، ده غير مفاجآت عيلة عبدالمجيد المميزة جدًا والحصرية ليك أنت وبس!"
ضحك «وليد» عاليًا بصخب على حديثه ساخرًا منه ولم يكن وحده، بل معه «نادر» الذي أتى لتنفيذ الخطة التي اتفقا عليها، بينما «مروان» لم يعره إهتمام وأشار بعينيه «لعبدالله» وانسحب بهدوء للخلف ليختفي بين الجموع الواقفة ثم أسرع خطواته لتشبه الركض.
بينما «عبدالله» ابتسم باستفزاز «لوليد» وهو يرمي له كلماته اللاذعة:
"ماشاء الله ضحكتك تقرف، اتكل على الله بقى عشان الحارة محتاجة نضافة جامد بصراحة!"
تبع حديثه كلام «حمزة» الساخر هو الآخر والذي كان يقف جوارهم وبرفقتهم «آسر»:
"أصل بعيد عنك اللي يسوى وميسواش بقى يجيها، وكان فيه مشروع كبدة كلاب هيتفتح قريب أول حد هنعزمه أنت والبيه!"
كان «نادر» يوجه ناحيته نظرات نارية، فهو منذ أن رآه عرفه وتذكر عندما سأله عن الحادث، بادله «حمزة» النظرات بأخرى باردة تحمل ابتسامة صفراء تميز بها.
صدر صوت جهوري حاد ولم يكن سوى «الحاج إبراهيم» الذي وصل للتو وهو يقف في مقدمة الشباب ويسأل:
"في إيه هنا، أنت جاي تعمل إيه هنا ياوليد، أنت مش خايف أنفذ اللي قولتلك عليه بالذات إنك امبارح حاولت تبعت البوليس يقبض على ولادي؟"
وقف «وليد» قبالته بحدة هو الأخر وأجابه:
"لا مش خايف، اقولك نفذ اللي في دماغك وأهو تجيب لعيالك دول إعدام وتريحنا من لسانهم الطويل ده، عمومًا أنا جاي أعرفكم إني بحضر لقرصة ودن كويسة برضو زيكم، اتقلوا بس وهتبقى صدمة عليكوا زي اللي حصلت من تلت سنين كدا!"
كان يقصد بالذي حصل هو قتله «لعهد» وابتسم يستفزهم ليرد لهم ما حدث قبل قليل ولم يقوى وقتها على فتح فمه لقول كلمة.
_"ورينا شطارتك، مستنين!"
قالها «الحاج إبراهيم» بسخرٍ منه.
بينما على الجانب الآخر وقف قبالتها يمنعها من التحرك وهو يسحب أنفاسه بلهاثٍ من ركضه:
"انتِ إيه نزلك من الشقة، هو أنا مش منبه إنك متشوفيش الشارع؟"
حاولت أن تغادر فعاد يقف أمامها يمنعها ونظر لعينيها بحدة:
"ارجعي للشقة ياسيلين، لو أنتِ حابة تعملي حاجة لوجه الله وتساعدي الحارة وتساعدي الست فاطمة ترجع حق بنتها، أو حتى لو خايفة على نفسك من إن حد يعملك حاجة هنا!"
ابتلعت غصتها ورفعت عينيها الزرقاء التي احتد لونها بسبب أشعة الشمس وهمست بضعفٍ:
"عايزة اشوف بابي، أبعد يامروان!"
ابتسم بسخرية وكز أكثر على عود الثقاب ثم أزاله ورماه على طول يده:
"بابي مسألش عليكِ ياروح بابي الحرامي، أمشي احسنلك ياسيلين ومتخلنيش اتعصب أكتر من كدا!"
توترت لنظراته ووقفته أمامها بتلك الطريقة وحاولت مرة أخرى الفرار منه ولكنه عاد يقف أمامها دون لمسها وهو يزفر بضيقٍ وهدر بوجهها:
"هو أنت مبتفهميش، قولتلك امشي عالبيت يابنت الحـ.. استغفر الله العظيم، اتكلي على الله يا سيلين لو سمحت، لسه بكلمك بكل أدب"
_"أنت ليه بتعمل معايا كدا، أنا تعبت من الوضع ده وعايزة أروح بيتي، خليني أروح لبابي وأمشي معاه"
قالتها بنبرة ضعيفة تستضعه ولكنه نظر لها بسخطٍ وقال:
"إن شاء الله، قولي يارب يلا"
التفتت بالفعل لتغادر من أمامه بينما هو وقف يتابعها تسير حتى أصبحت قرب البناية التي تقطن بها «مديحة»، ولكنه لمح سيارة تأتي من بعيد تخص «لوليد» بسرعة البرق ناحيتها هي!
توسعت حدقتي عينيه بصدمة وركض ليلحقها قبل أن تصطدمها فهي كانت تقصدها هي تحديدًا، ولكنه وجد يد فتاة تجذبها بسرعة وهي تصرخ:
"حاســبي!"
غادرت السيارة بسرعتها خارج الحارة بينما هو أتجه ناحيتهما وكانت من جذبتها هي «تسنيم» التي نظرت لها وله بقلق وسألتها:
"أنتِ كويسة؟"
كانت جسدها يرتجف ونظرت ناحيته وناحية «تسنيم» وهزت رأسها بالإيجاب فقط، ثم رفعت يدها ووضعتها على صدرها تحاول تنظيم أنفاسها بينما هو أصفر وجهه بقلق وعاود نفس سؤال «تسنيم» بتعجب:
"سيلين، أنتِ كويسة!"
سندتها «تسنيم» وهي تطالع ملامحها التي أحمرت فجأة وتنفسها الذي لم يعد منتظمًا أبدًا ومحاولتها في التنفس باتت فاشلة ثم نظرت نحو «مروان» بهلع:
"دي شكلها نوبة!"
_"نوبة إيه ياتسنيم!"
قالها هو الآخر بقلق فسندتها «تسنيم» جيدًا وحاولت أن تجعلها تسير وتجلس بها على سلم البناية ثم بدأت تحاول أن تجعلها تهدأ بكلماتها وهي تمسد على ظهرها:
"أهدي ياحبيبتي، خدي نفسك وأهدي، براحة خدي نفسك براحة خالص!"
ثم أمسكت كفيها تحفزهما بيدها وتفركهما بحنانٍ بينما هو تحرك ناحية محل بقالة جوارهم واشترى منه الماء وعصير لها، وعاد لهم ليجد المهلوعة بدأت تحاول أخذ أنفاسها فجلس على ركبتيه أمامها ومد لها قنينة الماء:
"اشربي، صلي عالنبي واهدي!"
همست «تسنيم» بصوت خفيض به اهتمام وهي تمسك منه الزجاجة وقربتها لها تساعدها في الشرب:
"عليه الصلاة والسلام، بقيتي كويسة دلوقتي؟"
شربت بعض الماء وهزت رأسها وهي تشكرها بصوت متحشرج مختنق:
"أحسن الحمدلله، الحمدلله إن الحالة مزادتش شكرًا ليكِ!"
_"العفو على إيه، دي نوبة ولا اضطراب؟"
سألتها «تسنيم» وهي تنظر نحوها بابتسامتها الهادئة:
"اضطراب، المفروض إني باخد دوا وبتابع مع My doctor"
تدخل هو هذه المرة ومد لها العصير وسألها بعدما شعر ببعض الشفقة ناحيتها:
"ألف سلامة، عارفة اسم الدوا واجبهولك؟"
أجابته وهي تأخذ منه العصير ثم نظرت تحديدًا نحو عينيه صاحبة الرسمة المميزة:
"آه عرفاه ممكن اكتبهولك على ورقة وشكرًا ليك، جبتلي حاجات كتير!"
وقف في مكانه وهو يبعد التراب عن ملابسه ثم أخرج هاتفه من جيبه ومده لها مفتوحًا على المذكرة:
"الشكر لله وحده، اكتبي اسم الدوا هنا"
أخذت الهاتف ودونته وأعادته مجددًا بينما هو نظر «لتسنيم» وتحدث بنبرة ممتنة:
"بعد أذنك ياتسنيم، خديها على شقة مديحة فوق واسنديها عشان متقعش وأنا همشي، هفضل واقف لحد ما أتأكد أنكم طلعتوا!"
ساندتها بالفعل وقامت معها «سيلين» التي ألقت عليه نظرة خاطفة وصعدت بعدها للأعلى غير قادرة على المناهدة أو التحدث معه.
بينما هو عاد أدراجه نحو البقية تحديدًا في المجلس، ألقى السلام على الجميع وجلس جوار «عبدالله»:
"السلام عليكم، إيه حصل بعد مامشيت؟"
أجابه «الحاج إبراهيم» بحنقٍ لغضبه الذي يكتمه لما حدث قبل قليل، فهو هدده بشيء كبير كقتل ابنته:
"مافيش هددنا ومشي هو والنطع اللي معاه، أنا مش فاهم جاي الحارة يعمل إيه النهاردة"
مرر «مروان» نظره على الجالسين جميعًا من كبار الحارة وأصدقائه ثم تفوه يرمي كلامه عليهم بسرعة:
"جاي يقتل بنته!"
نظروا له جميعًا في آنٍ واحد، فتنهد بعمق وقص عليهم ما حدث قبل قليلٍ:
"بنت الست حكمت رنت عليا عشان قالتلي إنها نزلت لما سمعت إن أبوها هنا، روحتلها ساعة ما اختفيت من وسطكم عشان أرجعها، العربية اللي كانت واقفة على أول الحارة واستغربنا ليه فضلت واقفة ورا كدا لقيتها جاية سريعة ومش هدفها تخبطني ولا يقتلني، هي جاية هدفها تخبط بنت وليد بالذات، وتسنيم شدتها على آخر لحظة!"
ابتلع «عبدالله» غصته عند ذكر اسم «تسنيم» ولكنه مثل اللامبالاة خصوصًا أن والدها يجلس معهم الآن، ولكنه تسائل باستغراب:
"طب وهو ليه يعمل كدا، هو في حد عاقل عاوز يقتل بنته؟"
هُنا تدخل شخصًا من أهالي الحارة وتحدث بفطنة:
"لا هو مش عايز يقتلها، هو عايز يلبسنا حتة زي خطفها وتعذيبها، مكنتش العربية هتخبطها تموتها قد ماكانت هتأذيها ونضطر ننقلها المستشفى ويبلغ علينا هناك ويبقوا كدا اتأكدوا إننا خطفناها بل وكمان أذيناها، ابن الكلب لعبها صح بس حظه بقا!"
تدخل هذه المرة «حمزة» بقوله بشرودٍ في تلك الحالة التي وضعوا بها:
"طب ما هو ممكن يعملها تاني ويجيب البوليس ويعرفوا إن فعلًا هي هنا، وقتها هتبقى مصيبة لعبدالله ومروان"
تبعه قول «آسر» الذي تحدث بهدوء أيضًا:
"معتقدش ممكن يعمل كدا عشان هو عارف إنه مش من مصلحته يسجنهم عشان الدنيا هتتقلب فوق دماغه، بالذات إن مروان قال امبارح في التحقيق إن وليد معاه ورق مزور والورق ده يوديه في داهية!"
أنهى «الحاج إبراهيم» تلك الجلسة بقوله:
"خلاص قفلوا عالموضوع، المحامي رفع محضر بالورق ده وأنه يتم الكشف عليه تاني برا مصالح وليد واللي شغالين معاه ... ورفع محضر بنتهمه بقتل عهد!"
نظروا جميعًا له فتلك القضية بالأخص تعهدوا على نفسهم بأن يأخذوا ثأرهم بيدهم، ولكن تغيرت الخطط وتغير القرار، ولم يجدوا مبرر للآن!
_____________
مريب الإنسان حينما يجد أن ما أختاره له الله ضررًا، وهو لا يستوعب أن هنالك حكمة مخفية لم تظهر بعد، مريب الإنسان الذي تسوقه نفسه وشيطانه، وما أبشع النفس الامارة حينما تقود صاحبها نحو الهلاك!
ترتجف، تنتفض في مكانها برعبٍ، اعتقدت أنه سيسلمها لزوجها مجددًا، قد تختار الموت على أن تختار أن تعود معه بإنكسار، كانت أمه «نادية» تجلس جوارها تربت على كتفها وهي تحاول مواساتها:
"يابنتي أهدي، أنتِ بتعيطي كدا ليه؟"
لم تجب عليها بل كانت تضم قدميها نحوها وتعانق نفسها في رعبٍ، وزاد رعبها عندما شعرت بالباب يُفتح ويدلف هو ولكنه وقف عند الباب يغلقه ببطء وهو ينظر لها في استغراب وتعجب:
"في إيه، أنتِ بتعيطي كدا ليه يارزان؟"
هبت واقفة أمامه وهي تسأله بنبرة منكسرة ضعيفة:
"هو أنت جبت نادر هنا ليه، أنا شوفته من البلكونة وأنتو واقفين معاه!"
سحب نفسًا يطمئن فهي فقط رأته لا غير، حاول التبرير لها ولكنها سبقته هادرة بحدة:
"هو أنت يعني مبقتش عايزني أفضل هنا وهو جه عشان ياخدني، كنت قولي تاني ومشيت أحسن يا حمزة"
أجابها بأستنكار وتغيرت ملامحه للحدة:
"أهدي يارزان، أنا لو عايز أمشيكِ من هنا كنت مشيتك من زمان ومقعدتكيش لحظة واحدة في بيتي ومع أمي وبلاش كلام عبيط أنتِ مش فهماه، أنا متفهم حالتك وخوفك منه بس متخربطيش معايا فالكلام!"
أجابته بنفس الحدة وتبع حديثها سؤالها بتعجب وضمت يدها نحو صدرها:
"ياسلام، طب قولي هو بيعمل إيه هنا في الحارة؟"
زفر وابتعد من أمامها نحو الأريكة جالسًا عليها وأخرج سيجارة بيده يشعلها بينما هي راقبته بعينيها وبما يفعله:
"نادر له مصالح تانية مع الحارة غير حوارك، فيه مشكلة تانية وأنا اكتشفت بالصدفة لما جالي عند العربية إنه نفسه اللي معانا حوارات معاه، بس مرضتش أقولك عشان دي حاجة تخص الحارة وهو لسه معرفش إنك هنا، بس عرف إني أنا اللي جه سأله عن الحادثة!"
اقتربت وجلست جواره واستكانت ملامحها بينما تحدثت أمه تطمئنها:
"شوفتي يابنتي مافيش حاجة تخصك أهو، أهدي أنتِ كنتِ عمالة ترتعشي جامد"
وجهت بصرها ناحية «نادية» وتحدثت بحزنٍ طغى على ملامحها:
"أنا عندي إستعداد أموت ياطنط ولا أرجع لنادر تاني، محدش يعرف نادر كان بيعمل فيا إيه"
نظر لها وكأنه يستنبط ما قد فعله بها «نادر» من مجرد نظرات، بالرغم أنه كان يعرف من مظهرها الذي رأها به أول مرة، ملامحها المشوهة من الضرب، وجسدها المملوء بالكدمات، وشعرها المقصوص بطريقة غريبة، وحتى وجهها الشاحب طوال الوقت وكيف تُفزع من كل شيء، ولكنه فضّل أن يمثل الجهل أمامها ليستمع منها هي.
قرأت نظرات التساؤل على ملامحه وهمست بضعفٍ وهي تنظر بعينيه تحديدًا بنظراتها التي تحمل خليطًا بين الحزن والرهبة، حتى الفزع احتلها في حديثها المتلعثم:
"كان .. كان بيضربني كتير، مكنش شخص كويس خالص ولا بيعاملني بشكل كويس، كنت زي .."
نظرت لأمه بدموعها التي انهمرت من عينيها بحرقة:
"كنت زي الجارية بالنسباله، هو شخص مريض وكان محتاج يتعالج يا طنط والله، أنا شوفت معاه حاجات كتير أوي صعبة محدش يستحملها"
كانت نظراته بينها وبين أمه التي نهرته بعينيها ألا يضغط على الضعيفة تلك، واقتربت نحوها تضمها في عناقٍ أموي:
"حقك عليا ياحبيبتي، متزعليش نفسك وأهدي كدا، صلي عالنبي يابنتي"
_"عليه أفضل الصلاة والسلام"
ردداها سويًا بنبرة هامسة بينما هو يفكر في أشياء عدة في هذه اللحظة، أولها الشيء العجيب الذي وصله قبل قليل ألا وهي رسالة من أبيها يسأل بلهفة عن مكانها!
ماذا عن حديث أختها بأنها أخبرت أبوها وأنه سيأتي لها فورًا!
سأل بالرغم من معرفته الإجابة منها ولكنه قرر أن يسمع منها:
"هي أختك دي قد إيه! وبتحبك ولا لا؟"
سؤاله غريب بالنسبة لها جعل الاستغراب يتشكل على ملامحها، ما الذي يتفوه به الآن؟
أجابته بنبرة بها دهشة من سؤاله وتعجب:
"أصغر مني بسنة، آه بتحبني، إيه السؤال ده يا حمزة؟"
حرك كتفه بلا مبالاة يمثله أمامها وأجابها:
"سؤال وسألته، بس هنشوف كلنا إن شاء الله وأبوكي رد عليا النهاردة وقولتله نفس الكلام اللي قولته لأختك اللي هي المفروض قالتهوله، بس هو كلمني وكأنه مكنش يعرف أي حاجة فحبيت اسأل أختك اللي قالت إنها قالتله دي نظامها إيه"
حركت عينيها بينه وبين اللاشيء تفكر في حديثه بتعجب، ولكنها وجدت مبرر قالته بهدوء:
"عادي ممكن تكون معرفتش تقابل بابا من وقتها، يعني عشان بابا مشغول علطول وكدا"
_"ممكن!"
قالها ببساطة وتحرك من مكانه نحو غرفته ينهر نفسه على خفقات قلبه التي بدأ يشعر بها وهي جواره، يحاول أن يقنع نفسه بأن تلك الخفقات ماهي إلا شعورًا بالشفقة والحزن عليها فقط.
__________________
أخذت عهدًا على نفسها بأن تنسى عينيه الخضراء التي أسرت قلبها، فبات العهد عهدًا وبات النسيان نسيانًا، وأصبح الحنين يحتلها والهيام سبيلها نحوه.
كانت تجلس رفقة أمه وبيدها الهاتف تُريها عليه فساتين بسيطة التصميم لكتب الكتاب، كانت تراهم بنظرات هادئة عكس الفرحة التي تجتاح قلبها فهي تعلم أنها لن تكتمل بعد الزواج، بل ستحدث مشاكل عدة وكبيرة هي لن تكن لديها القدرة على مواجهتها!
_"ده حلو، أكتر واحد عجبنا يبقى خلاص خليكِ عليه وعرفي البنت إنك هتشتريه"
قالتها خالتها فابتسمت لها بخفوت:
"خلاص تمام ياخالتو، هو فعلًا أكتر واحد عجبني"
شعرا بدخوله ولكن هذه المرة كان شاحب البشرة، بعينين متعبتين واضح عليهما، سألته أمه بقلق:
"مالك يا آسر أنت كويس؟ وشك أصفر كدا ليه وعينك داخلة لجوا!"
جلس على أقرب كرسي رآه أمامه وهز رأسه بعد سحبه لنفسٍ طويل:
"مش عارف، حاسس إني من امبارح مش مظبوط وتعبان أوي وجسمي كله مهدود، بالذات بعد ما صليت الفجر التعب زاد عليا"
عبست «مرام» باستغراب لذلك وسألته بقلقٍ:
"فيه حاجة معينة وجعاك طيب؟"
أجابها نافيًا ذلك وهو يقول بنبرة خافتة:
"لا جسمي كله فيه تكسير، دنيتي كدا مش مظبوطة، وعندي شعور بقبضة مش طبيعي"
تحركت أمه جواره ومسدت على شعره بحنانٍ وهي تقول بفزعٍ احتلها لرؤية ابنها وحيدها بتلك الحالة:
"اسم الله عليك ياحبيب قلبي، اسم الله عليك، بسم الله الرحمن الرحيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم .."
كادت تكمل الآية الكريمة ولكنه أبعدها بنفورٍ وتحرك من مكانه قائلًا:
"أنا طالع!"
وتبدلت الملامح لأخرى حانقة غاضبة، عند وقفته على قدميه لم يشعر سوى بدوارٍ يجتاحه، والدنيا تدور من حوله كأنه بدوامة ضخمة، ثم وقع مغشيًا عليه أرضًا لا يشعر بأي شيء، صراخ وعويل أمه و«مرام» ملئ البيت!
_________
كانت تجلس في البيت بعدما غادرت «مديحة» رفقة أمها للسوق قبل دقائق، دلفت هي نحو الغرفة تستلقي علها تنم قليلًا لأنها لم تنم منذ الأمس إلا ساعاتٍ قليلة، سمعت خطوات بطيئة تتجه نحو الغرفة فتغيرت قسمات وجهها بتعجب واستغراب، واعتدلت في نومتها لترى من بالخارج فوجدته يقتحم الغرفة عليها ويغلقها وهو يشير لها بالصمت:
"شششش ولا نفس!"
ارتعبت أوصالها خوفًا وفزعًا وتحركت من مكانها وهي تصرخ بوجهه:
"امشي من هنا، أنت جاي تعمل إيه.. أنا هقول.. هقول لمروان لأن دي تاني مرة تحاول تجيلي"
_"مروان إيه بس ياقطة، فكك من مروان وخلينا فينا دلوقتِ!"
قالها بتلاعب وهو يقترب نحوها في خطوات بطيئة تثير بها الرعب أكثر