رواية تشابك ارواح الفصل الثالث 3 بقلم أمينة محمد الالفي
الفصل الثالث من -تشابك أرواح-
«أينال المرء ما يود؟»
سألتك ما الحياة قاصدًا أن تُجيبني أنها أنا، وأن البُعد يعني الموت، لكنك أخبرتني بأن قربي لك هو الموت وبُعدي عنك هو النجاة.
بدأت تأن بألمٍ آثر تخديرها، الصداع يداهم رأسها فهي أثقلت بالأمس بالشرب مع أصدقائها:
"يا راسي"
قالتها وهي تفتح عينيها بتثاقل ناظرة حولها تحاول تجميع المكان الذي هي به!
لحظة واثنتان وصرخت لتذكرها أنها بالأمس تعرضت لعملية خطف مِن قبل رجُلين لم ترى منهما سوى القليل.
حاولت التحرك لتجد يدها مُقيدة بحبلٍ مربوطٍا بحديد قوي بالأرض، نظرت حولها تحاول تجميع تركيزها بالمكان الذي هي به؛ الذي كان عبارة عن غرفة كبيرة وينصفها طاولة مصنوعة من الجبس ومن الأطراف أرائك بشكل دائري مصنوعة أيضًا من الجبس ولكن يغطيها قطعًا من السجاد المقصوص ليناسب عرض الأريكة تلك، وعندما نظرت للأرض فوجدت التراب بها فعلمت إن تلك الغرفة -كما وصفتها بالبداية- في الشارع، ولكنها مقفولة من جميع الجوانب بالحوائط ولها باب للتو لاحظته عندما فُتح ودلف منه شاب ورجل كبير بالسن.
توسعت حدقتيها بصدمة عندما لمحته يقترب نحوهها مع المُسن وهي تقول:
"أنت؟"
ابتسم «مروان» بسخرية يطالعها وهو يجلس جوار الحاج «إبراهيم عبدالمجيد» عمه ووالد «عبدالله»، أجابها بنفس السخرية كسخريته عليها البادية على ملامح وجهه:
"آه أنا، إيه رأيك فالصدفة دي، الدنيا ضيقة أوي صح؟"
هزت رأسها يمينًا ويسارًا تقول بإنكار ونفي لما تشاهده أمامها:
"أنت ليه خاطفني، أنا معملتش أي حاجة، أنا اعتذرتلك إني كنت هخبطك بالعربية امبارح بس والله مكنتش قاصدة أعمل كدا، كل ده يستاهل إنك تخطفني؟"
ضحك «مروان» عاليًا وأجابها وهو يجول ببصره عليها من قدميها وحتى رأسها بتلك العباءة السوداء التي جعل «إبراهيم» زوجته تُلبسها إياها ليستر جسدها عن ذلك الفستان العاري الذي كانت ترتديه:
"أكيد لا يعني، أنا مش تافه كدا، بس أصلًا إني أظهر قدام عربيتك ده كان تخطيطي، يعني مش صدفة ولا حاجة"
انتبهت لنظراته التي جالت عليها فنظرت لنفسها لتبدأ مرحلة الاستيعاب عن تلك العباءة التي فجأة وجدت نفسها ترتديها، وقبل أن تسألهم ذلك السؤال؛ تحدث الحاج «إبراهيم» مسترسلًا بحديثه:
"اسمعي يابنت وليد الأنصاري، الحاجة مراتي هي اللي لبستك الجلباية دي عشان تسترك بدل ما أنتِ كنتِ جيالنا مكشوفة كدا، تاني حاجة وأهم حاجة أنتِ هنا بسبب أبوكِ، مش بسببك ولا بسبب أي حاجة تانية"
غمغمت بلا فهم بملامح عابسة، فهي للآن لا تفهم شيء مما يدور:
"My dad? بس هو معملش حاجة لحد"
تلك المرة زفر «مروان» وهو يرمقها بغضبٍ:
" بقولك إيه يابنت الحرامي أنتِ، بلا داد بلا قرف، أنتِ هنا بسبب عمايل أبوكِ الحرامــي، ومش هتتحركي من هنا قبل ما الحق يرجع لصحابه، ده آخر اللي عندنا دلوقتي"
ثم هب واقفًا وغادر المكان تحت نظراتها المصدومة التي يشوبها التوتر مما هي به الآن، بسبب أبوها هي بمأزق!
كيف ستصل له وتخبره بما يدور وبأنها مخطوفة من قِبل أشخاص لا تعرف عنهم شيء.
مررت بصرها على الحاج «إبراهيم» الذي أخرج تنهيدة عميقة قبل أن يتفوه:
"إحنا ناس مش بتوع مشاكل يابنتي، بس أبوكِ اضطرنا للحال ده، وبسببه أنتِ هنا معانا، متقلقيش هنعاملك أحسن معاملة وهنضايفك كمان ونأكلك ونشربك، بس أبوكِ يبقـى لمرة واحـدة ابن حلال ويرجع حقوقنا"
قبل أن تتفوه خرج هو الآخر لتدخل بعدها زوجته «فاطمة» بالطعام لها ووضعته جوارها وهي تفك قيد يديها مغمغمة:
"أنا فاطمة مرات الحاج إبراهيم اللي كان هنا، جبتلك الغدا عشان تاكلي ولما تخلصي لو احتجتي أي حاجة هتلاقيني عندك، أنا كدا كدا هطل عليكِ كل شوية"
صوبت الأخرى نظرها نحو «فاطمة» وهي تهمس بتوسل:
"طب مشيني من هنا بالله عليكِ، please يا طنط أنا لازم أمشي، ده ده فيه واحد هنا كان مع عمـو الحاج عاوز يخلص عليا!"
رددت «فاطمة» جملة "عمو الحاج" بصوت أقرب للهمس وباستعجاب لتلك التي تقبع أمامها، رفعت بصرها نحو«سيلين» وهي تهدئها بتنهيدة:
"قصدك مروان؟ لا لا متخافيش مش هيعملك حاجة، وأنا مقدرش أهربك من هنا، إحنا بنرجع حقنا يابنتي، كلي وربك هيفرجها ان شاء الله"
ثُم غادرت الغرفة وأغلقتها بإحكام خلفها بينما «سيلين» أمسكت يدها تُمسدها بألمٍ؛ نتيجة ربطها من أمس وحتى الآن بحبال قاسية، جالت ببصرها على الطعام الذي أتت به «فاطمة» قبل قليل بتنهيدة وهي تنظر له قائلة:
"OMG ده الأكل ده مليان سعرات حرارية مش طبيعية، بياكلوه إزاي كدا؟"
ولكن كانت الأصوات الخارجة من معدتها لها رأي آخر؛ فتلك التي تُفكر في جسدها وكيفية إبقائه رشيق وصحي لم تستطع مقاومة الجوع الذي يقتحمها، مدت يدها نحو الطعام وبدأت تلتهم منه ما تستطيع بجوعٍ، أعجبها الطعام ومذاقه فأنهت الأطباق التي أمامها كلها، وكأنها لم تكن تتحدث عن السعرات منذ قليل.
__________________
منذ صبيحة اليوم وهي تجلس معها هُنا تحاول أن تُخرج ما بداخلها من مشاعر فياضة مليئة بالحزن على هيئة كلمات بسيطة بها نبرة مُتألمة:
"أنا بجد تعبت يا مرام، مبقتش عارفة أروح فين ولا اجي منين! تعب وعلطول بتعب ...حمل ومش عارفة اجيبله الطفل اللي هو عايزه!"
تنهدت «مرام» بحرارة يغطيها الحزن وهي تربت على ظهرها قائلة:
"مرضك ده ربنا هيجعله في ميزان حسناتك يا رنا، متفضليش تفكري فيه بتشاؤم عشان أنتِ بتتعبي ياحبيبي، وبالنسبة للطفل .. آسر نص مشاكله معاكِ عشان قالك إنه مكتفي بيكِ ومش عايز، ودي إرادة ربنا يا رنا مينفعش نعترض عليها، الله أعلم لو كان حصل حمل كان ممكن يجرالك إيه بعد الشر"
هزت «رنا» رأسها بعنادٍ:
"أكيد فيه حلول، أكيد .. يارب بجد ابعتلي حل يارب"
سحبت «مرام» نفسًا عميقًا لا تعرف كيف تواسي التي أمامها في شيء كهذا وهما لا يد لهما بالأمر، ولكنها فعلت ما تفعله دومًا مع أي شخص تحبه حزين أمامها... العناق.
عانقتها وهي تربت على على شعرها وظهرها بحنانٍ بالغ، بينما الثانية استكانت بين أحضانها بشكل حزينٍ.
بعد ساعتان تقريبًا عاد من العمل يحمل اثقالًا فوق اثقاله، يأكل الإنسان التمني، وتعذبه الأحلام، وينهش به الواقع، حتى يبحث عن حلٍ وإن كان لا يناسبه، جلست جواره وهي تُمسك يده بيديها بحنان قائلة بنبرة خافتة:
"آسر ياحبيبي، أنا مكنش قصدي أي حاجة والله، كل هدفي كان إني أشوفك أب زي ما أنت بتحلم، مش قصدي أي حاجة بكلامي ده ولا قصدي ازعلك والله، متزعلش مني ياحبيبي حقك عليا!"
مُنذ البارحة وهو عابس الوجه بها، لا يتحدث بسبب عرضها عليها بأن يتزوج ابنة خالته، لم يجبها عازمًا على عدم التحدث معها حتى تعقل وتعود لرشدها من طلباتها الغريبة.
أحبها بشدة منذ أول لقاء بينهما، عرفها عندما كانت بالجامعة التي بجوار عمله وكان يراها دومًا، كان يتحجج بالمرور من هُناك حتى يراها فأصبحت هي تلاحظه، بدأ بينهما الكلام البسيط ثُم تلاه إعجابًا واضحًا وعلاقة حب كبيرة انتهت بزواجهما، ولكن شاء الله ان يبتليها بمرضٍ السرطان الذي منعها طبيبها من الحمل بسببه، وقد كانت تلك صدمة بالنسبة لهما، ولكنها مرت بتمسكه بها وحبها له، وها هي الآن تُخبره أن يتزوج غيرها؛ لينجب طفلًا له.
خرج من شروده على صوت بكائها المقهور فتنهد ناظرًا نحوها وهو يهمس بثقلٍ:
"أهدي يا رنا أرجوكِ، حبيبتي أنا خايف علينا، خايف من المشاكل تداهم حياتنا، وبتقوليلي اتجوز مرام، يعني مش خسارة حاجات كتير هتبقى بينا لأ ده كمان خسارة بنت خالتي اللي ملهاش غيرنا، مرام مش هتوافق على حاجة زي دي أصلًا"
ضمها نحوه بعدما أنهى حديثه يطمئنها ويهدئ من حُزنها، ونطقت هي من بين شهقاتها وبكاءها:
"طب جرب، مش هتخسر حاجة يا آسر، جرب بالله عليك أنا مش مبسوطة وأنا كدا، أنت حُبك للأطفال طبير أوي ونظراتك لولاد أختي وأنت بتلاعبهم بتقطع قلبي"
ظل يمسد على شعرها حتى شعر بجسدها يتثاقل فوق جسده فعبس باستغراب وهو يبعدها عنه ليجدها تُغمض عينيها بتعبٍ وهي تفقد وعيها، جعلها تستلقي والفزع احتل كيانه، حاول إفاقتها:
"رنا، رنا فتحي عينك وبُصيلي"
توجه لغرفتها راكضًا وسحب إسدالها وخرج يحاول أن يجعلها تلبسه ولف بعشوائية حجابها، حملها بين ذراعيه وغادر المنزل فورًا تحت نظرات أمه التي صرخت عندما رأتها بتلك الحالة و«مرام» التي تصنمت مكانها بصدمة
_"أنا رايح المستشفى بيها"
قالها بسرعة ليُعلمهما عن طريقه وغادر بها نحو المستشفى بسرعة جنونية لدرجة أنه كاد ان يصطدم بأكتر من سيارة بسيارته.
أخذوها منه نحو الطوارئ لفحصها بينما هو جلس على أقرب كرسي وجده؛ فأعصابه تلفت بالنصف ساعة التي مرت عليه الآن، جسده يرتجف من الداخل لخوفه عليها، خوفه يوميًا من فقدانها يداهمه ويقلق نومه.
ظلت كلماتها تتردد بإذنيه بأن يتزوج، الأمر يقلقها ويُحزنها كونه يحب الأطفال بدرجة كبيرة وهي لا تستطيع أن تنجب له، ولكنها لا تعلم بأنه لا يود الطفل سوى منها لا من غيرها، منهما سويًا ليكن ثمرة حبهما.
أعاد خصلاته للخلف باصابعه بقوة وهو يحاول أن يهدئ، ساحبًا نفسًا عميقًا لأعماقه ثُم أخرجه على مهلٍ يُفكر بكل قرار سيأخذه بالمستقبل.
______________
يسير بخطى بطيئة نحو مجلسه هو وأصدقائه كل يومين تقريبًا ليتحدثوا فيما بينهم عن أي شيء يودون، فهم أقرب الناس له، وهو كذلك:
"مسا مسا عالناس الكويسة!"
كان المكان تحديدًا أمام محل الملابس الخاص «بمروان»، والذي أجابه بحنق:
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعدين نقول مسا!"
جلس جواره «حمزة» وهو يجيبه بنفس النبرة:
"والله بقول اللي على لساني، يوه!"
وضع «مروان» يده على قدم الآخر وهو يربت عليها بعنفٍ قليلًا:
"لا ياخويا، عود لسانك عالسلام، عشان تاخد أجر"
ابتسم «عبدالله» لحال صديقه الذي يظل خلفهم في النصائح الدينية وانتظام بعضهم على الصلاة كان بسبب الله ثم «مروان»، الذي هو بالأساس حديث الحارة عن أدبه وأخلاقه، وما يقدمه للأطفال بتعليمهم الآذان وتحفيظهم القرآن الكريم.
نبس «عبدالله» بحاجبٍ مرفوع:
"اومال الولا آسر محدش بيشوفه ليه؟"
أجابه هذه المرة «حاتم»:
"أنا لسه شايفه من شوية نازل جري بالست مراته على أيده وخدها ومشي علطول في عربيته!"
نظروا له جميعًا بقلقٍ ليردف «مروان»:
"استر يارب، ربنا يشفيها ويعافيها، هتصل بيه أشوف الدنيا ولو محتاج حد فينا نروحله"
أخرج هاتفه من جيبه ورن عليه ليقابله الآخر بشكرٍ له وأنها تم فحصها في المستشفى والآن بخير، وضع هاتفه على جنبٍ وهو ينظر نحو «حمزة» الذي أخرج نحنحة من حنجرته ليتفوه:
"فيه حاجة لازم تعرفوها، دلوقتي أنا .. أنا النهاردة الصبح وأنا شغال حصل قدامي حادثة!"
_"ياستار يارب.."
قالها «عبدالله» وهو يطالعه بشفقة ليكمل الآخر:
"المهم إنهم كانوا بنتين يعني، واحدة باين ماتت والتانية.. عندي فالشقة!"
_"إيــه ياروح امك؟"
نبس بها «عبدالله» بصدمة فرفع الآخر حاجبه يطالعه بمعنى أن ينتبه لحديثه وأكمل «مروان» على حديث «عبدالله» قائلًا:
"أنت بتقول إيه ياحمزة، عندك إزاي يعني!؟"
وقبل ان يتحدث «حمزة» هتف «عبدالله»:
"لا وبيبصلي إزاي، ده عايزني أقوم ابوظله وشه كمان!"
زفر «حمزة» بسخطٍ:
"ياعم اتهد بقا الله يكرمك واسمع، هو أنا يعني قاعد في أم الشقة لوحدي، ما امي قاعدة معايا، البت طلبت مني اساعدها إنها تهرب، باين كان فيه حد بيجري وراها وأنا فعلًا عملت كدا لسبب معرفش إيه هو بس حسيت في حاجة جوايا بتقولي ساعدها!"
طالعه «عبدالله» بملامح عابسة تحمل بين طياتها الحنق:
"لا وأنت يالا بسم الله ماشاء الله حَسيس موت!"
قهقه عليهما «مروان» بقلة صبر فهما هكذا دومًا بينهما شد وجذب:
"كمل يابني، وبعدين!"
كان «حمزة» يطالع الآخر بنفس ملامح السخط وأكمل:
"المهم يعني قعدنا أنا وأمي نكلمها، طلعت بنت رجل أعمال كبير واسمه واسع هنا فالبلد بس هو مش عايش في مصر، صاحب ماركة رزان للعطور؛ شوكت ماهر الرفاعي"
سأل «مروان» بفضولٍ:
"دي بتهرب من إيه؟ يعني أبوها رجل أعمال ومش عارف يساعدها!"
هز «حمزة» رأسه بنفي وهو يجيبه بتنهيدة:
"بتهرب من جوزها، البت لما شوفتها باين عليها مضروبة، وشها فيه أثر لكدمات اصلًا، وبتقول إنها مش عارفة توصل لأبوها عشان جوزها كان مانعها تكلمهم بقالها سنتين أصلًا، فـ هنشوف لسه هعمل معاها إيه وأوصلها لأبوها إزاي!"
رمى «عبدالله» كلماته بإمتعاض وهو يدير وجهه عنهما:
"لا وأنت الصادق هي حارة المتشردين والمخطوفين، كل من هب ودب بقى فيها!"
رفع «حمزة» حاجبه باستغراب وهو يعتدل في جلسته:
"قصدك على مين؟"
مال«مروان» بجسده قليلًا للأمام واحتدت ملامحه واجابه ببساطة:
"يقصد بنت وليد الأنصاري، ما إحنا خطفناها!"
_"نهار ابوكو اسود انتو بتقولوا إيه!"
قالها الآخر بصدمة فلكمه «مروان» في ذراعه بكوعه قائلًا:
"هو أنا مقولتلكش معدتش تسود علينا أم اليوم، اتلم بقا!"
رفع «حمزة» يده يلوح بها في وجه «مروان»:
" ياعم اتلهي، واخلص قول عملتوا إيه؟"
قص عليه «عبدالله» الحكاية من أولها وحتى آخر مقابلة حدثت بين والده وهي و«مروان»، وأن القادم هو كيفية استغلال الفريسة التي اصطدوها.
__________________________
الاعتياد لا يتطلب الكثير من الوقت ليكن، بل يكفي حنية أسرة ودفئ عناق ليحتوي الضعيف فيجعله يعتاد.
كانت تحمل الأطباق مع أمه وتساعدها في إعداد الطعام، مبتسمة بودٍ:
"وحضرتك بقى أنتِ وحمزة عايشين هنا لوحدكم؟"
كانت الثانية تتذوق الطعام لتعرف إن كان يحتاج لشيء أم لا وأجابتها ببساطة:
"آه يابنتي، أبوه مات من سبع سنين، كان ياحبيبي حمزة لسه بيبدأ يكبر، ومسابلناش حاجة ورثه أخواته شفطوه، وأنا وحيدة مليش حد يجري وراهم في محاكم وابني كان لسه شب بسيط، بدأت اشتغل واخيط هدوم للحارة وكنت بصرف عليه!"
وكأنها كانت تحمل همًا لا تعلم لمن ستتحدث عنه، وانتهزت فرصة سؤال «رزان» فبدأت تقص عليها كل شيء، استندت «رزان» على الحائط خلفها وهي تربع يديها أمام صدرها متحدثة بشفقة:
"لا حول ولا قوة إلا بالله، طب ودلوقتي حمزة ليه مبيشتغلش بشهادته! يعني اللي عرفته كدا إنه باين شغال عالعربية دي بس!"
مصمصت الثانية فمها كست مصرية أصيلة وضربت كف على الآخر وهي تجيبها بمرارٍ:
"يسمع منك ربنا، ياريت يابنتي، دأنا ابني محاسب قد الدنيا ومتخرج من كلية تجارة إنجليزي كمان، وصرف على نفسه في كليته وذاكر واجتهد عشان يتعين دكتور، بس ولاد الحرام كتير وكان فيه ناس مستقصداها فخلوه يشيل مواد ويعيد السنة، ومن ساعتها يابنتي مش لاقي أي شغل، كله عاوز مصالح ووسايط!"
تنهدت «رزان» بحزنٍ طغى على وجهها وهي تقول بحسرة:
"اللي ميستاهلش معاه مال الدنيا كله وشغال في مناصب ميستاهلهاش، واللي يستاهل بيحفر فالأرض عشان يدور على لقمة عيش!"
أتاها الرد ليُوقظ عقلها من صاحبة الخبرة بالحياة وهي تخبرها أثناء رؤيتها لطعامها صاحب الرائحة المميزة:
"والله يابنتي ربنا موزع على كل بني آدم أربعة وعشرين قيراط؛ منهم مال لناس، وصحة لناس تانية، ومنهم ذرية صالحة، زوج صالح، زوجة صالحة، وفي منهم رزقه الجنة وميخدوش عالارض، ربنا عادل وموزع الأرزاق صح"
ابتسمت «رزان» ابتسامة واسعة لذلك الحديث الذي سمعته للتو، لتجيبها على حديثها:
"عندك حق والله ياطنط ... ألا صحيح حضرتك اسمك إيه؟"
_"نادية" قالتها السيدة نادية أم «حمزة» صاحبة القلب الطيب وهي تقهقه على السؤال المُفاجئ، وتمرر بصرها على وجه تلك التي أمامها، فتاة رقيقة، بسيطة، ذات بشرة بيضاء ولكن يشوبها بعد الكدمات القديمة التي لا تعرف سببها ولكنها ليست من الحادث، بشعر أسود يصل لبداية كتفها، يبدو وكأنه مقصوصًا بشكل عشوائي، تنهدت بعمقٍ فتلك يبدو وكأنها تحمل بين طياتها الكثير والكثير، من الألم والجرح.
________________________
كانت جالسة في مكانها لا تعلم أين تذهب أو كيف تهرب من هُنا، يبدو وكأن المكان بأكمله مُحاصر بأشخاصٍ لن تستطيع الهرب منهم.
أين والدها من كل ما يحدث لابنته ووحيدته التي خُطفت؟ والحقيقة المُرة التي لن تنساها وستظل محفورة في ذكراها بأنه لا يهتم لأجلها ولا لمشاعرها وحياتها بأكملها، يعتقد أنه طالما وفّر لها النقود فذلك يكفيها.
لن يكتشف أين هي إلا عندما يمر أيام على اختفائها وإن لاحظ بالأساس ذلك بعد أيام، سارت دمعة ساخنة تلفح وجنتها بحرقة على ما وصلت له في الحياة.
شعرت بمن يفتح الباب ببطء شديد فرفعت بصرها سريعًا نحوه وهي تراقب ذلك الغريب الذي يدلف بتوجس.
_______________
ولماذا لا يمكن للمُحب أن ينال مَن يُحب وقتما يريد، وكأن كل العالم وقف بينه وبين حبه لتلك الفتاة التي أحبها منذ أن كان مراهقًا يهوى حتى أصبح رجلًا يكبر مع حبه لها، ولكن للظروف المُحيطة رأي آخر.
كم تمنى لو تعود أيام الحب التي جمعتهم سويًا، عندما كان يراها وقتما يريد وأينما يريد، ولكنه الآن مُقيد، لا يقوى على فعل شيء سوى طلب يدها من والدها ورفضهم له ثم طرده.
يتذكر جيدًا ذلك اليوم الذي أتت له فيه مهرولة باكية وهي تخبره أنها لن تعد تراه ولن يكن هناك حبًا بينهما، لأن أباها أراد ذلك.
وعلى ذكر بكاءها سمع صوتها تطلب نجدته ببكاء وصراخ:
"الحقنــي يا عــبدالله، أبويا اغمى عليه ومش راضي يفوق!"
____
يتبـــع