رواية المعاقة والدم الفصل السادس والعشرون 26 بقلم هناء النمر
المعاقة والدم ،،،،،،،،،،هناء النمر
الفصل السادس والعشرين
هناك داخل أروقة الحفل القائم فى الحديقة الخاصة بالفيلا الريفية الجميلة زات الطابق الواحد ، رغم أن الشكل العام يوحى بأن الحفل جيد والجميع متفاهم وسعيد ،
وداد وزوجها يتجولا بين المدعوين بالسلام والترحيب وعرض المشروبات والعصائر ،
إلا أن الحقيقة أن الجميع يحمل أشياء سلبية كثيرة داخلهم ، وكل منهم يتلفت حوله وكأنه ينتظر شيئا غير متوقع ،
لم يكن يتحدث منهم غير نادر ومحسن والذى عرف كل منهم زوجته للأخر رغم معرفة محسن المسبقة برانيا والتى لم ينساها نادر وهذا ما جعله يبتعد بها عن محسن أغلب الوقت ،
فجأة صعد الصراخ من أحد نواحى الحفل ، والجميع يتلفت ناحية مصدر الصراخ ، وبدأت الأصوات تتعالى بطلب الإسعاف بأسرع وقت .
اقترب نادر ورانيا ومحسن ايضا وزوجته وخلفهم وداد التى حضرت مسرعة للتجمع فى جانب الحفلة ،
إنها هى ، جدتها ، مستلقية على ظهرها على الأرض ولا تستطيع التنفس ، وابنها وزوجة ابنها حولها يصرخون بالاسعاف،
والمرأة العجوز على كلمة واحدة ... أميرة ، أميرة ، أميرة ...
... أميرة مين ياماما ، أرجوكى اهدى وحاول تاخدى نفسك ...
ثم يرفع رأسه ويصرخ من لوعته على أمه ... اطلبوا الإسعاف ....
ردت وداد ... طلبناها والله ...
كان الجميع ومن بينهم ابنها أن صراخ المرأة باسم حفيدتها المتوفاه هو احتضار من نوع ما ، إلا كريم ورانيا ونادر الذى ابتعد وحاول الاتصال بها دون جدوى ، الهاتف يدوى بالرن وحده فى غرفتها فى الفندق دون أى إجابة ، فعندما تخرج تتركه وتحتفظ فقط بجهاز mp4 وسماعته وتترك الهاتف ،
انضم كريم ورانيا لنادر لسؤاله وكانت الإجابة بالنفى وهو يقول
... مبتردش ، بالتأكيد خرجت تجرى ...
قال كريم ... انا عارف الشارع اللى بتجرى فيه ، ممكن اروح اشوفها ...
وهم من فوره بالانصراف فمنعه وهو يقول
... استنى ، تجيبها ازاى ،ومحسن والناس دى كلها ، ده العيلة كلها هنا ..
رفعت رانيا يدها وامسكت بزراعه وهى تقول
....سيبه يانادر ، لازم تيجى ، الست دى شكلها بتموت بجد ، ولو حصل من غير ما تشوفها ، هنشيل ذنبها ، واميرة هتزعل اوى ، ومش هتسامح حد ، مش هتسامحنا احنا شخصيا .....
صوتها الحنون وكلامها المنطقى مع لمسة يدها لزراعه جعلت يده الأخرى تترك زراع كريم وهو يسمح له بالذهاب ،
ثم مد يده الأخرى وجزبها بين زراعيه ليتشبث بها مما سيحدث، فرغم ما يحدث بينهما إلا أن رانيا كانت منذ سنين حاجز أمان له ، وهى واميرة قد اصبحتا عائلته الوحيدة .
اقترب نادر من الجدةض التى مازالت تنادى باسم حفيدتها ومن خلفه رانيا التى تمسكت بزراعه من خوفها من الموقف ،
حتى رأته الجدة وتوقفت عن النداء وعينيها متعلقة به ، هى تعلم أنه الوحيد من بين الحاضرين الذى يعلم بوجود أميرة ،
اقترب منه ، فقالت بصوت واهن ضعيف وعينيها تتضح بالتوسل والرجاء
. .. عايزة اشوفها ، هاتهالى ...
... حاضر ، كريم راح يجييها ، اهدى انتى أرجوكى ....
ثم رفع عينيه لمحسن الذى اتسعت عيناه على آخرها من كلام نادر ، لا يعلم أن كان يجاريها فقط أم أن ما يشعر به من ناحية الموقف بأكمله صحيح .
بعدها بدقائق ظهرت أميرة عند الباب ، كانت ترتدى ملبسها الرياضى باللون الاسود المختلط بالأبيض ، شعرها معصوج للخلف إلا بعض الخصل المتدلية على جبهتها.
تطلع عليها كل من ينتبه لوجودها ، امسك كريم بيدها وجذبها بهدوء للداخل ، قلقها واضح جدا على وجهها ، تتلفت حولها ، تتطلع لاوجه الجميع والصمت الغريب المخيم على المكان ، حتى اقتربت من مكان وجود جدتها ومن حولها ،
فى البداية لم تنتبه لجدتها ، بلو وقعت عينيها على محسن الذى لم يرفع عينيه المتسعة على آخرها من عليها ، حاجباه معقودان باستفسار غريب ،
ذهوله واضح وضوح الشمس على وجهه،
كلما اقتربت ، كلما اتضحت الصورة لها ، تبينت المستلقية على الأرض والملتفين حولها ، تركت يد كريم واسرعت اليها ،
وقفت أمامها متعلقة عينيها بعين جدتها الواهنة والقريبة إلى الانغلاق ،
ثم نزلت على ركبتيها بكسرة وبدأت عينيها تمتلئ بالدموع وهى تقول
... ناناه ، مالك ، قومى . ..
هنا بدأ محسن يفقد اتزانه من هول ما يرى وما يسمع ، رفع يديه يستند على الحائط بجانبه ، وبدأ ضربات قلبه تزداد ، كيف لم يتعرف عليها ،
صحيح أنه شعر بشئ ناحيتها وأنها تشبه فتاته الراحلة بعض الشئ ، لكن لم يتخيل ابدا انها هى نفسها .
لم تستطيع الجدة الرد عليها ، فقد كان بينها وبين الاحتضار قاب قوسين أو أدنى،
رفعت يديها بضعف تتلمس خد الفتاة الذى ابتل من أثر الدموع ، ثم رفعت عينيها لنادر تتوسله بضعف فى حمايتها ، فهو الوحيد الباقى للفتاة الآن .
انتفض نادر وهو يقول ... كفاية اوى كدة ، انتى شوفتيها اهى ، انا هجهز العربية ، ونوديها المستشفى ...
ثم اخترق الصفوف مبتعدا ناحية سيارته ،
انا أميرة فمازالت تتمسك بيد جدتها وعلى وجهها يسيل نهرا من الدموع وهى تقول .. بلاش ياناناه ، خليكى معايا ...
اترسم على وجه الجدة ابتسامة بسيطة ضعيفة وعينيها متعلقة بحفيدتها ، التى رفعت وجهها وصرخت فى الجميع ... انتوا واقفين تتفرجوا، اتصرفوا. ..
ثم نظرت لجدتها وقالت .. عشان خاطرى متسيبنيش ...
لكن الجدة لم تتحرك ومازالت عينيها متعلقة بها لكن ثابتة الحركة بعض الشئ
نادتها أميرة .. ناناه ، ناناه ، ردى عليا ...
هنا عاد الخال بعدما ابتعد ليتصل بالطبيب ، عاد على صرخة أميرة فى الناس ، تطلع لها بتساؤل للحظة ، ثم مال على والدته يتفحصها ،
ثم تنهد طويلا وكأنه يحاول أن يتنفس ، ومد يده وأغلق عينيها المفتوحة ،
صرخت فيه أميرة ... انت بتعمل ايه ، بتقفلها ليه ، هى مش ماتت صح ، رد عليا ، انت ساكت ليه ...
انحنت عليها رانيا وهى تبكى ... قومى ياأميرة ...
ردت أميرة بهلع ... أقوم اروح فين ، مش هسيبها ، مماتتش لسة ..
ومدت يدها تحركها بعنف وهى تصرخ وتقول ... ردى عليهم ، ردى ياناناه ...
اقترب منها كريم من الخلف وحملها رغما عنها وابتعد بها وهى تصرخ وتحرك قدميها ويديها ليتركها تعود لجدتها ،
حتى عاد نادر فى نفس اللحظة وتلقاها منه بين يديه ، تعلقت أميرة برقبته وهى تصرخ وتبكى ،
كل هذا ومحسن متجمد فى مكانه يتابع فتاته بكل ما تفعله ، وفجأة انتفض على صرختها فيه وهى فى أحضان عمها تقول
... انت السبب ، انت السبب ، فى الاول ماما ، ودلوقتى هى ، بيروحوا منى كلهم ، كفاية انت كفاية ، ضايع من زمان ....
تحول بكائها لحالة من الانهيار والصراخ الهستيرى ، والمشكلة أن جميع الجراحات التى أجرتها جعلتها لا تتحمل مثل هذا الضغط العصبى ،
انهارت بين يدى عمها وخارت قواها وسقطت فاقدة للوعى ، حملها نادر وخرج بها ناحية سيارته التى قد كان جهزها أمام الباب من أجل الجدة ،وخرجت تتبعه مهرولة رانيا ومن خلفها كريم .
............................................................................
فتحت عينيها بصعوبة بالغة ، وجدت نفسها على سرير وفى غرفة تبدوا كغرفة مستشفى ، أغلقت عينيها مرة أخرى تحاول أن تتذكر ما حدث ، ومع بداية تذكرها بدأت الدموع تنهمر رغما عنها ،
بدأت تحرك جسمها ابتدائا بقدميها لتقف ، لكن بمجرد المحاولة فقط شعرت بألم مبرح فى ظهرها جعلها تصرخ ،
دخلت الممرضة تجرى وهى تقول ... بتعملى ليه ، استنى ، الحركة ممنوعة عليكى ...
اعادتها لوضعها مرة أخرى ولكن اعادتها لم تزيل الألم بل بدأ يزيد ،
دخل أيضا رانيا ونادر واللذان سمعا صرختها من الخارج ،
أعطتها الممرضة مسكن ما ثم ذهبت لاستدعاء الطبيب ،
... ارتاحى ياأميرة ، انتى تعبانة ، مينفعش تتحركى ...
... يعنى ايه مينفعش اتحرك ، ليه ؟ هحضر دفن ناناه اذاى ؟
رفعت رانيا عينيها لنادر تستنجد به ، والذى بدا عليه القلق هو الآخر من سؤال أميرة والتى لاحظت ذلك فقالت
... انتوا بتبصوا لبعضكوا كدة ليه ، حصل ايه ؟
قال نادر وهو يقترب منها ... اللى حصل انك تعبانة ياأميرة ، ضغطك رفع فجأة وده أثر على المراكز العصبية فى ضهرك ، ولو مخدناش بالنا كويس ، ممكن يضع كل اللى عملناه طول السنين اللى فاتت ...
... يعنى ايه ، مش هحضر دفنها زى محضرتش دفن ماما ، مش هاخد عزاها بإيدى ...
... دى زمانها ادفنت اصلا ياأميرة ...
وكأنها اصابتها صاعقة من جملته هذه ، لكنها لم تصرخ أو تبكى فجأة ، بل صمتت تماما وكأنها تحاول إستيعاب جملته أولا ثم أدارت وجهها الناحية الأخرى واغمضت عينيها ،
لم تستطع رانيا ملازمة الصمت أكثر من ذلك وقالت
... أميرة ، اللى راح راح ، انا عارفة أن جدتك كانت الشخص الوحيد اللى بيفكرك بوالدتك الله يرحمها ، بس الصفحة دى انتى قفلتيها من زمان ، وكان كل اهتمامنا بالمستقبل ، ودلوقتى احنا فى خط فاصل بين الاتنين ، ياترجعى للى كنتى عليه ، يااما تتماسكى عشان نعدى المرحلة دى ...
ردت أميرة وصوتها مختنق بالبكاء ومازالت ملتفة للناحية الأخرى
... غصب عنى ...
استدارت رانيا لنفس الناحية ونزلت على ركبتيها لتقترب بوجهها منها ثم قالت ...انا مبقولش متزعليش أو متحزنيش عليها، بالعكس ، ده حقك ياقلبى ، بس انتى أقوى من كدة ، اقوى بكتير ، لازم تمسكى نفسك ، ادوكى أدوية عشان تنزل ضغطك ، لأنه هيأثر عليكى ، والحركة برده هيأثر عليكى ، على الأقل لمدة 48 ساعة ، ياكدة ، يااما نسبة عرج خفيفة فى رجلك أو حتى رجليكى الاتنين ، أرجوكى ياأميرة ، بحق كل اللى شوفتيه وعشتيه الخمس سنين اللى فاتوا ، امسكى نفسك اكتر من كدة ...
وقفت رانيا عندما رفعت عينيها لتقع على محسن واقفا عن الباب والذى يبدوا انه سمع جزء كبير مما قالت رانيا ، لكنها سكنت تماما وأشارت لنادر لينظر خلفه ،
تحرك نادر بسرعة وامسك زراع أخوه فى صمت يحاول أن يجعله يستدير ليخرج ، لكن محسن لم يستجب بل قال وبصوت عالى
... مش هرجع يانادر ، دى بنتى ...
أدارت أميرة وجهها ناحية الصوت الذى تعرفه وتعلقت عينيها به ،
قال نادر .. مش دلوقتى يامحسن ، أميرة تعبانة ، سيبها ترتاح ونتكلم بعدين ...
... لا مش هسيبها ، كفاية الست سنين اللى فاتوا ،واللى عملتوا هحاسبك عليه بعدين ، دى بنتى انا ....
.. لا يامحسن ، بنت بالدم بس ، انا أبوها الحقيقى ، وأنا الوحيد اللى له كلمة هنا ، مش انت ...
... سيبه ياعموا ...
كان هذا صوت أميرة والذى استدار لها الجميع بعد طلبها هذا
فتابعت ... سيبوا لو سمحت , انا عايزة اتكلم معاه ..
قال نادر .. مش دلوقتى ياأميرة ...
.. عشان خاطرى ياعموا ، انا كويسة ، متقلقش ، وبعد اذنكم سيبونا شوية ...
تطلع كل من رانيا ونادر لبعضهم ، ثم تحركت رانيا فى اتجاه نادر وامسكت بيده تشجعه على الخروج ،فقال وهو يتحرك ببطئ خلف رانيا
... انا هقف برة ، لو احتاجتينى اندهيلى. ..
امائت أميرة بالايجاب ، ثم قالت لمحسن وهى تشير لكرسى جانبى ،
.. اتفضل .
الفصل السادس والعشرين
هناك داخل أروقة الحفل القائم فى الحديقة الخاصة بالفيلا الريفية الجميلة زات الطابق الواحد ، رغم أن الشكل العام يوحى بأن الحفل جيد والجميع متفاهم وسعيد ،
وداد وزوجها يتجولا بين المدعوين بالسلام والترحيب وعرض المشروبات والعصائر ،
إلا أن الحقيقة أن الجميع يحمل أشياء سلبية كثيرة داخلهم ، وكل منهم يتلفت حوله وكأنه ينتظر شيئا غير متوقع ،
لم يكن يتحدث منهم غير نادر ومحسن والذى عرف كل منهم زوجته للأخر رغم معرفة محسن المسبقة برانيا والتى لم ينساها نادر وهذا ما جعله يبتعد بها عن محسن أغلب الوقت ،
فجأة صعد الصراخ من أحد نواحى الحفل ، والجميع يتلفت ناحية مصدر الصراخ ، وبدأت الأصوات تتعالى بطلب الإسعاف بأسرع وقت .
اقترب نادر ورانيا ومحسن ايضا وزوجته وخلفهم وداد التى حضرت مسرعة للتجمع فى جانب الحفلة ،
إنها هى ، جدتها ، مستلقية على ظهرها على الأرض ولا تستطيع التنفس ، وابنها وزوجة ابنها حولها يصرخون بالاسعاف،
والمرأة العجوز على كلمة واحدة ... أميرة ، أميرة ، أميرة ...
... أميرة مين ياماما ، أرجوكى اهدى وحاول تاخدى نفسك ...
ثم يرفع رأسه ويصرخ من لوعته على أمه ... اطلبوا الإسعاف ....
ردت وداد ... طلبناها والله ...
كان الجميع ومن بينهم ابنها أن صراخ المرأة باسم حفيدتها المتوفاه هو احتضار من نوع ما ، إلا كريم ورانيا ونادر الذى ابتعد وحاول الاتصال بها دون جدوى ، الهاتف يدوى بالرن وحده فى غرفتها فى الفندق دون أى إجابة ، فعندما تخرج تتركه وتحتفظ فقط بجهاز mp4 وسماعته وتترك الهاتف ،
انضم كريم ورانيا لنادر لسؤاله وكانت الإجابة بالنفى وهو يقول
... مبتردش ، بالتأكيد خرجت تجرى ...
قال كريم ... انا عارف الشارع اللى بتجرى فيه ، ممكن اروح اشوفها ...
وهم من فوره بالانصراف فمنعه وهو يقول
... استنى ، تجيبها ازاى ،ومحسن والناس دى كلها ، ده العيلة كلها هنا ..
رفعت رانيا يدها وامسكت بزراعه وهى تقول
....سيبه يانادر ، لازم تيجى ، الست دى شكلها بتموت بجد ، ولو حصل من غير ما تشوفها ، هنشيل ذنبها ، واميرة هتزعل اوى ، ومش هتسامح حد ، مش هتسامحنا احنا شخصيا .....
صوتها الحنون وكلامها المنطقى مع لمسة يدها لزراعه جعلت يده الأخرى تترك زراع كريم وهو يسمح له بالذهاب ،
ثم مد يده الأخرى وجزبها بين زراعيه ليتشبث بها مما سيحدث، فرغم ما يحدث بينهما إلا أن رانيا كانت منذ سنين حاجز أمان له ، وهى واميرة قد اصبحتا عائلته الوحيدة .
اقترب نادر من الجدةض التى مازالت تنادى باسم حفيدتها ومن خلفه رانيا التى تمسكت بزراعه من خوفها من الموقف ،
حتى رأته الجدة وتوقفت عن النداء وعينيها متعلقة به ، هى تعلم أنه الوحيد من بين الحاضرين الذى يعلم بوجود أميرة ،
اقترب منه ، فقالت بصوت واهن ضعيف وعينيها تتضح بالتوسل والرجاء
. .. عايزة اشوفها ، هاتهالى ...
... حاضر ، كريم راح يجييها ، اهدى انتى أرجوكى ....
ثم رفع عينيه لمحسن الذى اتسعت عيناه على آخرها من كلام نادر ، لا يعلم أن كان يجاريها فقط أم أن ما يشعر به من ناحية الموقف بأكمله صحيح .
بعدها بدقائق ظهرت أميرة عند الباب ، كانت ترتدى ملبسها الرياضى باللون الاسود المختلط بالأبيض ، شعرها معصوج للخلف إلا بعض الخصل المتدلية على جبهتها.
تطلع عليها كل من ينتبه لوجودها ، امسك كريم بيدها وجذبها بهدوء للداخل ، قلقها واضح جدا على وجهها ، تتلفت حولها ، تتطلع لاوجه الجميع والصمت الغريب المخيم على المكان ، حتى اقتربت من مكان وجود جدتها ومن حولها ،
فى البداية لم تنتبه لجدتها ، بلو وقعت عينيها على محسن الذى لم يرفع عينيه المتسعة على آخرها من عليها ، حاجباه معقودان باستفسار غريب ،
ذهوله واضح وضوح الشمس على وجهه،
كلما اقتربت ، كلما اتضحت الصورة لها ، تبينت المستلقية على الأرض والملتفين حولها ، تركت يد كريم واسرعت اليها ،
وقفت أمامها متعلقة عينيها بعين جدتها الواهنة والقريبة إلى الانغلاق ،
ثم نزلت على ركبتيها بكسرة وبدأت عينيها تمتلئ بالدموع وهى تقول
... ناناه ، مالك ، قومى . ..
هنا بدأ محسن يفقد اتزانه من هول ما يرى وما يسمع ، رفع يديه يستند على الحائط بجانبه ، وبدأ ضربات قلبه تزداد ، كيف لم يتعرف عليها ،
صحيح أنه شعر بشئ ناحيتها وأنها تشبه فتاته الراحلة بعض الشئ ، لكن لم يتخيل ابدا انها هى نفسها .
لم تستطيع الجدة الرد عليها ، فقد كان بينها وبين الاحتضار قاب قوسين أو أدنى،
رفعت يديها بضعف تتلمس خد الفتاة الذى ابتل من أثر الدموع ، ثم رفعت عينيها لنادر تتوسله بضعف فى حمايتها ، فهو الوحيد الباقى للفتاة الآن .
انتفض نادر وهو يقول ... كفاية اوى كدة ، انتى شوفتيها اهى ، انا هجهز العربية ، ونوديها المستشفى ...
ثم اخترق الصفوف مبتعدا ناحية سيارته ،
انا أميرة فمازالت تتمسك بيد جدتها وعلى وجهها يسيل نهرا من الدموع وهى تقول .. بلاش ياناناه ، خليكى معايا ...
اترسم على وجه الجدة ابتسامة بسيطة ضعيفة وعينيها متعلقة بحفيدتها ، التى رفعت وجهها وصرخت فى الجميع ... انتوا واقفين تتفرجوا، اتصرفوا. ..
ثم نظرت لجدتها وقالت .. عشان خاطرى متسيبنيش ...
لكن الجدة لم تتحرك ومازالت عينيها متعلقة بها لكن ثابتة الحركة بعض الشئ
نادتها أميرة .. ناناه ، ناناه ، ردى عليا ...
هنا عاد الخال بعدما ابتعد ليتصل بالطبيب ، عاد على صرخة أميرة فى الناس ، تطلع لها بتساؤل للحظة ، ثم مال على والدته يتفحصها ،
ثم تنهد طويلا وكأنه يحاول أن يتنفس ، ومد يده وأغلق عينيها المفتوحة ،
صرخت فيه أميرة ... انت بتعمل ايه ، بتقفلها ليه ، هى مش ماتت صح ، رد عليا ، انت ساكت ليه ...
انحنت عليها رانيا وهى تبكى ... قومى ياأميرة ...
ردت أميرة بهلع ... أقوم اروح فين ، مش هسيبها ، مماتتش لسة ..
ومدت يدها تحركها بعنف وهى تصرخ وتقول ... ردى عليهم ، ردى ياناناه ...
اقترب منها كريم من الخلف وحملها رغما عنها وابتعد بها وهى تصرخ وتحرك قدميها ويديها ليتركها تعود لجدتها ،
حتى عاد نادر فى نفس اللحظة وتلقاها منه بين يديه ، تعلقت أميرة برقبته وهى تصرخ وتبكى ،
كل هذا ومحسن متجمد فى مكانه يتابع فتاته بكل ما تفعله ، وفجأة انتفض على صرختها فيه وهى فى أحضان عمها تقول
... انت السبب ، انت السبب ، فى الاول ماما ، ودلوقتى هى ، بيروحوا منى كلهم ، كفاية انت كفاية ، ضايع من زمان ....
تحول بكائها لحالة من الانهيار والصراخ الهستيرى ، والمشكلة أن جميع الجراحات التى أجرتها جعلتها لا تتحمل مثل هذا الضغط العصبى ،
انهارت بين يدى عمها وخارت قواها وسقطت فاقدة للوعى ، حملها نادر وخرج بها ناحية سيارته التى قد كان جهزها أمام الباب من أجل الجدة ،وخرجت تتبعه مهرولة رانيا ومن خلفها كريم .
............................................................................
فتحت عينيها بصعوبة بالغة ، وجدت نفسها على سرير وفى غرفة تبدوا كغرفة مستشفى ، أغلقت عينيها مرة أخرى تحاول أن تتذكر ما حدث ، ومع بداية تذكرها بدأت الدموع تنهمر رغما عنها ،
بدأت تحرك جسمها ابتدائا بقدميها لتقف ، لكن بمجرد المحاولة فقط شعرت بألم مبرح فى ظهرها جعلها تصرخ ،
دخلت الممرضة تجرى وهى تقول ... بتعملى ليه ، استنى ، الحركة ممنوعة عليكى ...
اعادتها لوضعها مرة أخرى ولكن اعادتها لم تزيل الألم بل بدأ يزيد ،
دخل أيضا رانيا ونادر واللذان سمعا صرختها من الخارج ،
أعطتها الممرضة مسكن ما ثم ذهبت لاستدعاء الطبيب ،
... ارتاحى ياأميرة ، انتى تعبانة ، مينفعش تتحركى ...
... يعنى ايه مينفعش اتحرك ، ليه ؟ هحضر دفن ناناه اذاى ؟
رفعت رانيا عينيها لنادر تستنجد به ، والذى بدا عليه القلق هو الآخر من سؤال أميرة والتى لاحظت ذلك فقالت
... انتوا بتبصوا لبعضكوا كدة ليه ، حصل ايه ؟
قال نادر وهو يقترب منها ... اللى حصل انك تعبانة ياأميرة ، ضغطك رفع فجأة وده أثر على المراكز العصبية فى ضهرك ، ولو مخدناش بالنا كويس ، ممكن يضع كل اللى عملناه طول السنين اللى فاتت ...
... يعنى ايه ، مش هحضر دفنها زى محضرتش دفن ماما ، مش هاخد عزاها بإيدى ...
... دى زمانها ادفنت اصلا ياأميرة ...
وكأنها اصابتها صاعقة من جملته هذه ، لكنها لم تصرخ أو تبكى فجأة ، بل صمتت تماما وكأنها تحاول إستيعاب جملته أولا ثم أدارت وجهها الناحية الأخرى واغمضت عينيها ،
لم تستطع رانيا ملازمة الصمت أكثر من ذلك وقالت
... أميرة ، اللى راح راح ، انا عارفة أن جدتك كانت الشخص الوحيد اللى بيفكرك بوالدتك الله يرحمها ، بس الصفحة دى انتى قفلتيها من زمان ، وكان كل اهتمامنا بالمستقبل ، ودلوقتى احنا فى خط فاصل بين الاتنين ، ياترجعى للى كنتى عليه ، يااما تتماسكى عشان نعدى المرحلة دى ...
ردت أميرة وصوتها مختنق بالبكاء ومازالت ملتفة للناحية الأخرى
... غصب عنى ...
استدارت رانيا لنفس الناحية ونزلت على ركبتيها لتقترب بوجهها منها ثم قالت ...انا مبقولش متزعليش أو متحزنيش عليها، بالعكس ، ده حقك ياقلبى ، بس انتى أقوى من كدة ، اقوى بكتير ، لازم تمسكى نفسك ، ادوكى أدوية عشان تنزل ضغطك ، لأنه هيأثر عليكى ، والحركة برده هيأثر عليكى ، على الأقل لمدة 48 ساعة ، ياكدة ، يااما نسبة عرج خفيفة فى رجلك أو حتى رجليكى الاتنين ، أرجوكى ياأميرة ، بحق كل اللى شوفتيه وعشتيه الخمس سنين اللى فاتوا ، امسكى نفسك اكتر من كدة ...
وقفت رانيا عندما رفعت عينيها لتقع على محسن واقفا عن الباب والذى يبدوا انه سمع جزء كبير مما قالت رانيا ، لكنها سكنت تماما وأشارت لنادر لينظر خلفه ،
تحرك نادر بسرعة وامسك زراع أخوه فى صمت يحاول أن يجعله يستدير ليخرج ، لكن محسن لم يستجب بل قال وبصوت عالى
... مش هرجع يانادر ، دى بنتى ...
أدارت أميرة وجهها ناحية الصوت الذى تعرفه وتعلقت عينيها به ،
قال نادر .. مش دلوقتى يامحسن ، أميرة تعبانة ، سيبها ترتاح ونتكلم بعدين ...
... لا مش هسيبها ، كفاية الست سنين اللى فاتوا ،واللى عملتوا هحاسبك عليه بعدين ، دى بنتى انا ....
.. لا يامحسن ، بنت بالدم بس ، انا أبوها الحقيقى ، وأنا الوحيد اللى له كلمة هنا ، مش انت ...
... سيبه ياعموا ...
كان هذا صوت أميرة والذى استدار لها الجميع بعد طلبها هذا
فتابعت ... سيبوا لو سمحت , انا عايزة اتكلم معاه ..
قال نادر .. مش دلوقتى ياأميرة ...
.. عشان خاطرى ياعموا ، انا كويسة ، متقلقش ، وبعد اذنكم سيبونا شوية ...
تطلع كل من رانيا ونادر لبعضهم ، ثم تحركت رانيا فى اتجاه نادر وامسكت بيده تشجعه على الخروج ،فقال وهو يتحرك ببطئ خلف رانيا
... انا هقف برة ، لو احتاجتينى اندهيلى. ..
امائت أميرة بالايجاب ، ثم قالت لمحسن وهى تشير لكرسى جانبى ،
.. اتفضل .
