رواية المعاقة والدم الفصل التاسع عشر 19 بقلم هناء النمر
فى نفس الوقت أو قبلها بساعتين اى فى حدود العاشرة مساءا ، خرجت رانيا من غرفتها وهى قلقة ، متجهة ناحية باب الشقة لترى من يدق بابها فى هذا الوقت ،
رفعت غطاء العين الخفية لتجد وجهه أمامها ،حقا انه هو ،
فتحت الباب ووقفت مجمدة أمامه دون أن تنطق بكلمة ، ولا تعرف حتى لماذا أصيبت بهذه الحالة من رؤيته ،
قال هو مبتسما ... مفيش حمدالله على السلامة ، أو حتى اتفضل ولا انا خلاص بقيت غريب ...
أشارت بيدها للداخل وهى تفسح له الطريق ليدخل ، اغلقت الباب والتفتت وعينيها تتبعه وهو يتتطلع حوله يمينا ويسارا على دواخل الشقة ، ثم استدار لها و قال
... وحشتينى ...
رفعت حاجبيها مندهشة وقالت ... وحشتك !
قال مؤكدا ... ايوة وحشتينى ، بقول حاجة غريبة ..
... دى أغرب حاجة سمعتها منك لحد دلوقتى بصراحة ، بس مفيش مشكلة ، حتى الأصحاب بيوحشوا بعض ، عادى يعنى ...
تساؤل مستنكرا. .. هو احنا أصحاب ؟
... لا طبعا ، إحنا اتنين متجوزين برتبة أصحاب ، كبر دماغك ، اتفضل اقعد ، واقف ليه ...
... ممكن تتفضلى ، عايزة أتكلم معاكى لو سمحتى ...
اتجهت لأقرب كرسى وجلست ، واختار هو أقرب كرسى لها وجلس هو الآخر ،
... رانيا ، انا اسف على طريقتى فى الكلام معاكى يوم حفلة أميرة ، حقيقى آسف ، انا بس كنت متعصب جدا ، ومدايق انك خبيتى مش اكتر ...
.. ليه ؟
... هو ايه اللى ليه ؟
... مدايق ليه ، ايه اللى دايقك فى انى اخبى ، انا اعرف عنك ايه ، انت بتبلغنى دايما بعد ما تقرر وتنفذ كمان ، ممنوع انا اعمل كدة ، بالمثل يانادر ...
.. ارجوكى متصعبيش الموقف اكتر من كدة ..
... بالعكس ، انا بسهله جدا ، بحاول افك تعقيداته ، لأن الشخص الوحيد اللى تعب من التعقيدات دى ، انت ليك طريقة معينة فى التعامل ، وأنا ليا طريقة تانية ، والاختلاف ده تعبنى انا ،
قررت انى أتعامل مع كل شئ بطريقتك انت ...
... بس ده غلط ؟
... هو ايه اللى غلط ، طريقتك؟
... أقصد غلط انك تغيرى طريقتك لطريقتى انا ...
... مبقتش تفرق اصلا ...
... يعنى ايه ، مش فاهم ...
... يعنى مش محتاجين نجبر نفسنا على الوضع ده اكتر من كدة ، مبقاش فى سبب ،
أميرة وبقت كويسة والحمد لله ،
كل واحد يختار طريقه وطريقته فى التعامل براحته بقى ...
... أنتى شايفة كدة ...
... طبعا ، وكان ده إللى مفروض يتم من زمان ، بمجرد ما سافرنا ، وكنا هنشترك فى رعاية البنت برده ، 7 سنين كتير اوى ، كفاية كدة ...
لم يعد قادرا على الرد بكلمة ، كل الكلام الذى جهز فى عقله ليقوله ، ذهب أدراج الرياح بعدما قالته الآن ، ظل يتأمل وجهها لثوانى وهى صامتة منتظرة رده على ما قيل ،
... يعنى عايزة تطلقى. ..
... أنا متجوزتش أساسا عشان أطلق ، ده عقد كتبناه سوا من سنين ، إحنا بس هننهى العقد ده ، وياريت فى أقرب وقت ممكن عشان اشوف انا هعمل ايه ...
انتفض واقفا وعينيه لا تفارق عينيها ،
يعلم جيدا ان رانيا قوية جدا وتمتلك قدرة السيطرة على نفسها ، لكن هذا لم يكن ابدا معه ، كانت مختلفة تماما عندما يخلو المكان حولهم من البشر ، كان لا يرى فى عينيها إلا أمرأة فى حضرة رجل ترغبه ، صحيح أن أفعالها بعيدة تماما عن ذلك ، لكن هو يمتلك القدرة على التفريق بين هذا وذاك ،
لماذا الآن ، لماذا تغيرت ، هل فقدت فيه الأمل إلى هذا الحد ،
تابعت بتقريرية تامة وتماسك مما أخرجه من سيل أفكاره
... العقد ده عقبة فى طريقك زى ما هو فى طريقى ، خلينا نشيل العقبة دى عشان نقدر نكمل ...
... اشمعنى دلوقتى ، فى جد دخل حياتك ؟
... وايه المانع ، عندى مشكلة تمنع ده ؟
... واضح انك مجهزة كل حاجة من زمان يارانيا ...
... دى مش مشكلتك يانادر ، دى حياتى انا وانا حرة فيها ...
سكت لثوانى كمن يجمع شيئا ليقوله ثم قال
... يعنى انا اتأخرت اوى ...
..، فى ايه ؟
... رانيا انا ، أقصد ، انا وانتى ، يعنى ...
... أتكلم على طول ، انا سامعاك ...
بدأ يغضب ويرفع صوته وهو يقول
... بطريقتك فى الكلام دى مش هعرف اقول حاجة ...
... طريقة ايه ؟
...بتتكلمى ببرود كأنى اللى بقوله مش فارق معاكى اصلا ...
... من بعض ما عندكم دكتور نادر ...
... رانيا ، ارجوكى ..
... خلاص خلاص ، اتفضل ، قول اللى انت عايزه وانا هسكت خالص ...
... رانيا ، انا بس جيت هنا عشان انتى وحشتينى ، حاسس أن كل حاجة بقت مش مظبوطة كن غيرك ، مش قادر ادخل البيت وانتى مش موجودة ...
... كل ده كويس ، ليه بقى ؟
... هو ايه اللى ليه ؟
... جاى ليه دلوقتى ؟ عايزنى ارجع أكمل الديكور اللى نقص تانى ؟
... رانيا ...
وقفت من غضبها وتابعت كلامها ووقف هو تباعا
... ومتدايق من البرود فى صوتى ، أنت شايف نفسك الأول بتتكلم ازاى ، كأنك راجع تشترى تحفة راحت من بيتك والديكور ناقص من غيرها ،
كلام مجهزه وبتقوله و مش حاسة منه اى حب أو حتى افتقاد زى ما انت بتقول ...
حاولت التمالك وبدأت فى تهدئة نبرة صوتها وقالت
...اسمع يانادر ، انا عارفة أن جواك حاجة مش قادر تقولها أو توصفها ، انا حاسة بيها من فترة ، وأنا كمان جوايا حاجة تشبهها ، بس الفكرة أن انا اصلا مش قادرة أحدد هى ايه ،
بس الهدوء والبرود ده مينفعش ، إحنا اتشغلنا فى أميرة اكتر من خمس سنين ، مفوقناش غير آخر سنتين ، مبدأتش انا أركز معاك ومع الاختلافات اللى بينا دى غير آخر سنتين بس ،
لقيت حاجات متخيلتهاش ، قمة فى تبلغ الإحساس والميكانيكية الغريبة اللى انا مش فاهماها اصلا ، وده مش هينفعنى فى الوقت الحالى ،
انا عديت التلاتين يانادر ، مبقاش فى وقت الهدوء دى ، السنين اللى جاية عايزة أعيشها وفى نفس الوقت اعوض فيها السنين اللى فاتت ،
وبطريقتك دى ، اللى ممكن اعيشه فى يوم ، انت هتعيشهولى فى أسبوع ، دا اذا حصل يعنى ،
أرجوك يانادر ، خلينا ننفصل بهدوء ، وكل واحد فينا يشوف طريقه احسن ...
طوال مدة كلامها وعينيه متسعة على آخرها ، لا يصدق كل ما تقول ، هل كانت تحمل كل هذا داخلها وهى صامتة ،
انتهت من حديثها وانتهى هو أيضا من كل ما كان يحمل من كلام ، انسحب وخرج وأغلق الباب دون أن ينطق بكلمة ،
أما هى ارتمت بجسدها جالسة لا تصدق هى الأخرى كل ما قالت ، والتى لم تتخيل ابدا ان تقوله ، وله هو بالذات .
.............................................
استيقظت أميرة بعد التاسعة صباحا على مكالمة من كريم ، يطمئن عليها ويؤكد عليها موعد زيارة المصنع ، والعشاء ،
تناولت إفطار خفيف ، وارتدت ملابس كاجوال بسيطة مكونة من بنطلون جينز اسود وبلوزة قطنية بيضاء بثلاثة أرباع كم ،
مرت على الاستقبال وطلبت سيارة خاصة بدون سائق ، سوف تقودها هى ،
وافق موظف الاستقبال واخبرها انه سوف يتم تجهيز السيارة فى خلال 10 دقائق ،
خرجت متجهة للحديقة تحت اعين موظف الاستقبال الذى تعود تبليغ اخبارها ، جلست على أحد الطاولات فى الحديقة تتابع المارة أمامها وعقلها شارد فى وجهتها التى قررت الذهاب اليها ،
داخلها نداء قوى لا تستطيع مقاومته لرؤية هذا المكان مهما كانت العواقب ،
استقلت السيارة واتجهت لخارج الفندق وهى تسير ناحية وجهة معينة ، لم تكن على علم بالطريق ، انما تسير وفق ذكرى بسيطة داخل عقلها عندما كانت داخل السيارة التى تعود بها من المركز ،
وبالفعل وصلت للمكان الذى أرادته ، توقفت بالسيارة بعيدا نسبيا حتى لا يلاحظها أحد ، رغم أن المكان يبدوا خاليا تماما من البشر ،
وقفت لأكثر من نصف ساعة تتأمل المنظر العام للمكان الذى لطالما حلمت بالعودة اليه مشيا على قدميها ، وها هى الان كما ارادت بل اكثر ،
اقتربت من البوابة الحديدية الكبيرة المغطاة بالاتربة والمغلقة باحكام بأقفال حديدية كبيرة ،
ما هذا الهدوء الغريب ، لما باب البيت بهذا الشكل ، هل هجروه ولم يعد يعيش فيه أحد ،
تأملت الطريق من خلف البوابة لثوانى ، ثم تلتفت حولها لتبحث عن أى شخص فلم تجد ،
وفجأة أمسكت بأحد أعمدة البوابة وبدأت تسلقها برشاقة كأحد محترفى السرقة حتى وصلت لآخر ارتفاعها ، انتقلت للجانب الآخر وبدأت التسلق لأسفل ، وصلت للأرض وهرولت متعددة عن خلفية البوابة حتى لا يراها أحد ،
تلفتت حولها ، وجدت الحديقة مهملة تماما ، الأعشاب فى كل مكان وأغلب الأزهار التى تعودت رؤيتها من بعيد قد زبلت وماتت ،اتجهت لمبنى الفيلا الداخلية سيرا على قدميها ، رغم بعد المسافة والوقت الذى استغرقته فى الوصول ، إلا أنها لم تصب بأى تعب ، فهى رياضية من الدرجة الأولى ، إلى جانب انها كانت تتأمل فيما حولها أثناء سيرها وهى شاردة ، وليس فى ذكرياتها فى هذه الأماكن ، فهى لم ترها إلا وهى فى السيارة اثناء الذهاب والعودة من المركز الذى كانت تقطنه،
وصلت للمبنى ، تأملت البناية الشاهقة بملامحها التى بهتت من الأتربة التى غطتها وهجر أصحابها لها ،
بدأت تتفقد كل الأماكن والغرف التى لم تدخلها من قبل ، بداية من المضيفة الخارجية مرورا بغرفة المكتب والغرف المجاورة ، وصعودا بكل دور على حده ، حتى وصلت للدور الذى كانت تقطنه والذى يقع فيه غرفة والدها ووالدتها ،
دخلت أولا غرفة والدها ، يبدوا أن الغرفة قد تم تجديدها وتجهيزها بشكل أحدث مما تذكر ،
ابتسمت بسخرية ، فقد توقعت أن تكون الغرفة قد جهزت لتكون غرفة له ولعروسه الجديدة التى اختارها ووالدتها على سرير الموت ،
وأخيرا وصلت للسجن الخاص بها أو هكذا كانت تسميه ، غرفتها التى ظلت حبيسة لها لسنوات ،
فوجئت بما رأته ، كانت الغرفة كما تركتها تماما ، لم يتغير بها اى شئ على الإطلاق ، حتى نفس فرش السرير الذى تركته فى اخر ليلة لها هنا ، هى تذكره جيدا ، فهو الفرش الذى نسجت عليه أمها اسمها بيدها ، لكن لماذا ؟
نفضت التراب من على السرير وجلست على حافته ، تتحسس اسمها المنسوج على الملاءة المفروشة ،
لم تشعر إلا ودموعها تسيل عل خديها دون أدنى قدرة لها فى السيطرة عليها ،
رفعت يديها الاثنين وغطت بهما وجهها وتركت العنان للحظات من النحيب الصامت حتى هدأت وحدها ،
لم تثنيها هذه اللحظات عن ما تريد ، بل زادتها أصرارا عليه ،
رفعت رأسها بيقين وثقة بنفسها كما تعودت ، ثم قامت وهمت بالخروج ،
تجمدت تماما مكانها واتسعت عيناها عندما فوجئت بمن يقف أمام الباب بأريحية وكأنه يراقب الموقف من بدايته ،
تقدم منها بعض خطوات حتى أصبح الفاصل بينهما خطوتين لا أكثر وقال
... كنت واثق أن فى حاجة غلط ، فيكى حاجة غامضة انا مش فاهمها ، سألت عنك كتير هناك محدش عرف يساعدنى بحاجة ، قلت اجيبك مصر ، هنا هقدر أتصرف معاكى وافهم ايه الحكاية ،
شفتك مع نادر سلام وهو خارج من شقتك ، ودلوقتى دخلة بيت السلامية القديم وقاعدة فى اوضة بنتهم اللى ماتت وبتعيطى ،
انتى ايه حكايتك بالظبط ؟ انتى مين ؟
تمالكت أميرة نفسها وقالت وهى تهم بالمرور من جانبه ... مفيش حكاية ، اعتبر نفسك مشفتش حاجة ...
قبض على زراعها وهى تمر من جانبه ومال عليها بعض الشئ وقال
... يبقى نحكم السلامية نفسهم فى الموضوع ، اروح لكبيرهم وابلغه بالحكاية دى كلها وهو يتصرف ، وصدقينى ده عنده هسهس من اللى يقرب من عيلته، مبيترددش يعمل اى حاجة ...
تطلعت إليه بغضب مستتر ، بالطبع يقصد بكبير السلامية ، محسن ، الذى أصبح هذه الأيام هو كبير العائلة لما يمتلكه من أموال ،
وبالطبع لا يصلح ابدا ان يشك محسن بأمرها بأى شكل من الأشكال فى هذا الوقت بالذات ،
ومن الجانب الآخر هى لا تثق بكريم حتى الآن ، فهى الآن فى حيرة من أمرها ، ماذا تفعل ؟
هزها من زراعها وقال ... ردى عليا ، انتى مين ، بعتك نادر عشان تأذى محسن فى حاجة ...
بهذه الجملة تحول الأمر بالنسبة لأميرة لسخرية ، ضحكت على أثرها بصوت عالى جدا ،
فتنته ضحكتها ، فهو حقا معجب بها ،
جذبت يدها من بين يديه ، وتوجهت لكرسى هزاز كانت تضعه فى غرفتها لمجرد الحلم بالجلوس عليه فى يوم من الأيام ،
تلمسته بأصابعها ثم جلست عليه ، وأخذت تتحرك به وهى تقول ... تفتكر بعد السنين دى كلها وبعد ما بقى محسن بالقوة دى ، وبعد ما انفصلوا الاتنين تماما عن بعض ، هيفكر نادر يأذى محسن ،
مش واسعة شوية دى ...
... واضح انك تعرفى حاجات كتير عن العيلة دى ...
... وانت كمان تعرف بما لا يتناسب مع فكرة انك أخو مراته ، ولا عشان انت أخو مراته ، وشريكه وكمان تلميذه النجيب زى ما بيقولوا الناس عنك ...
معلوماتها ليست بالجديدة ، فمعظم الناس تعلم هذه الأمور ، لكن ما قالت زاده أصرارا على أن يفهم من هى ،
اقترب من حافة السرير وجلس فى نفس المكان الذى كانت تجلس فيه وانتظر منها أن تكمل ،
تابعت
... المشكلة بالنسبالى انى مش واثقة فيك عشان اقولك حاجة ، بس عايزة أفهم الأول ، انت عرفت انى هنا ازاى ، باعت حد ورايا ...
... ليه ، العربية كفاية ، فيها جهاز تتبع ، ولما بلغونى بمكانها مصدقتش وجيت وراكى ،
إنما بالنسبة للثقة ، صدقينى انا مش وحش ومعنديش نية انى ائذيكى ، بس أفهم ...
توقفت أميرة عن الحركة بكرسيها وقالت
... أنا أميرة محسن سلام ...
يتبع
رفعت غطاء العين الخفية لتجد وجهه أمامها ،حقا انه هو ،
فتحت الباب ووقفت مجمدة أمامه دون أن تنطق بكلمة ، ولا تعرف حتى لماذا أصيبت بهذه الحالة من رؤيته ،
قال هو مبتسما ... مفيش حمدالله على السلامة ، أو حتى اتفضل ولا انا خلاص بقيت غريب ...
أشارت بيدها للداخل وهى تفسح له الطريق ليدخل ، اغلقت الباب والتفتت وعينيها تتبعه وهو يتتطلع حوله يمينا ويسارا على دواخل الشقة ، ثم استدار لها و قال
... وحشتينى ...
رفعت حاجبيها مندهشة وقالت ... وحشتك !
قال مؤكدا ... ايوة وحشتينى ، بقول حاجة غريبة ..
... دى أغرب حاجة سمعتها منك لحد دلوقتى بصراحة ، بس مفيش مشكلة ، حتى الأصحاب بيوحشوا بعض ، عادى يعنى ...
تساؤل مستنكرا. .. هو احنا أصحاب ؟
... لا طبعا ، إحنا اتنين متجوزين برتبة أصحاب ، كبر دماغك ، اتفضل اقعد ، واقف ليه ...
... ممكن تتفضلى ، عايزة أتكلم معاكى لو سمحتى ...
اتجهت لأقرب كرسى وجلست ، واختار هو أقرب كرسى لها وجلس هو الآخر ،
... رانيا ، انا اسف على طريقتى فى الكلام معاكى يوم حفلة أميرة ، حقيقى آسف ، انا بس كنت متعصب جدا ، ومدايق انك خبيتى مش اكتر ...
.. ليه ؟
... هو ايه اللى ليه ؟
... مدايق ليه ، ايه اللى دايقك فى انى اخبى ، انا اعرف عنك ايه ، انت بتبلغنى دايما بعد ما تقرر وتنفذ كمان ، ممنوع انا اعمل كدة ، بالمثل يانادر ...
.. ارجوكى متصعبيش الموقف اكتر من كدة ..
... بالعكس ، انا بسهله جدا ، بحاول افك تعقيداته ، لأن الشخص الوحيد اللى تعب من التعقيدات دى ، انت ليك طريقة معينة فى التعامل ، وأنا ليا طريقة تانية ، والاختلاف ده تعبنى انا ،
قررت انى أتعامل مع كل شئ بطريقتك انت ...
... بس ده غلط ؟
... هو ايه اللى غلط ، طريقتك؟
... أقصد غلط انك تغيرى طريقتك لطريقتى انا ...
... مبقتش تفرق اصلا ...
... يعنى ايه ، مش فاهم ...
... يعنى مش محتاجين نجبر نفسنا على الوضع ده اكتر من كدة ، مبقاش فى سبب ،
أميرة وبقت كويسة والحمد لله ،
كل واحد يختار طريقه وطريقته فى التعامل براحته بقى ...
... أنتى شايفة كدة ...
... طبعا ، وكان ده إللى مفروض يتم من زمان ، بمجرد ما سافرنا ، وكنا هنشترك فى رعاية البنت برده ، 7 سنين كتير اوى ، كفاية كدة ...
لم يعد قادرا على الرد بكلمة ، كل الكلام الذى جهز فى عقله ليقوله ، ذهب أدراج الرياح بعدما قالته الآن ، ظل يتأمل وجهها لثوانى وهى صامتة منتظرة رده على ما قيل ،
... يعنى عايزة تطلقى. ..
... أنا متجوزتش أساسا عشان أطلق ، ده عقد كتبناه سوا من سنين ، إحنا بس هننهى العقد ده ، وياريت فى أقرب وقت ممكن عشان اشوف انا هعمل ايه ...
انتفض واقفا وعينيه لا تفارق عينيها ،
يعلم جيدا ان رانيا قوية جدا وتمتلك قدرة السيطرة على نفسها ، لكن هذا لم يكن ابدا معه ، كانت مختلفة تماما عندما يخلو المكان حولهم من البشر ، كان لا يرى فى عينيها إلا أمرأة فى حضرة رجل ترغبه ، صحيح أن أفعالها بعيدة تماما عن ذلك ، لكن هو يمتلك القدرة على التفريق بين هذا وذاك ،
لماذا الآن ، لماذا تغيرت ، هل فقدت فيه الأمل إلى هذا الحد ،
تابعت بتقريرية تامة وتماسك مما أخرجه من سيل أفكاره
... العقد ده عقبة فى طريقك زى ما هو فى طريقى ، خلينا نشيل العقبة دى عشان نقدر نكمل ...
... اشمعنى دلوقتى ، فى جد دخل حياتك ؟
... وايه المانع ، عندى مشكلة تمنع ده ؟
... واضح انك مجهزة كل حاجة من زمان يارانيا ...
... دى مش مشكلتك يانادر ، دى حياتى انا وانا حرة فيها ...
سكت لثوانى كمن يجمع شيئا ليقوله ثم قال
... يعنى انا اتأخرت اوى ...
..، فى ايه ؟
... رانيا انا ، أقصد ، انا وانتى ، يعنى ...
... أتكلم على طول ، انا سامعاك ...
بدأ يغضب ويرفع صوته وهو يقول
... بطريقتك فى الكلام دى مش هعرف اقول حاجة ...
... طريقة ايه ؟
...بتتكلمى ببرود كأنى اللى بقوله مش فارق معاكى اصلا ...
... من بعض ما عندكم دكتور نادر ...
... رانيا ، ارجوكى ..
... خلاص خلاص ، اتفضل ، قول اللى انت عايزه وانا هسكت خالص ...
... رانيا ، انا بس جيت هنا عشان انتى وحشتينى ، حاسس أن كل حاجة بقت مش مظبوطة كن غيرك ، مش قادر ادخل البيت وانتى مش موجودة ...
... كل ده كويس ، ليه بقى ؟
... هو ايه اللى ليه ؟
... جاى ليه دلوقتى ؟ عايزنى ارجع أكمل الديكور اللى نقص تانى ؟
... رانيا ...
وقفت من غضبها وتابعت كلامها ووقف هو تباعا
... ومتدايق من البرود فى صوتى ، أنت شايف نفسك الأول بتتكلم ازاى ، كأنك راجع تشترى تحفة راحت من بيتك والديكور ناقص من غيرها ،
كلام مجهزه وبتقوله و مش حاسة منه اى حب أو حتى افتقاد زى ما انت بتقول ...
حاولت التمالك وبدأت فى تهدئة نبرة صوتها وقالت
...اسمع يانادر ، انا عارفة أن جواك حاجة مش قادر تقولها أو توصفها ، انا حاسة بيها من فترة ، وأنا كمان جوايا حاجة تشبهها ، بس الفكرة أن انا اصلا مش قادرة أحدد هى ايه ،
بس الهدوء والبرود ده مينفعش ، إحنا اتشغلنا فى أميرة اكتر من خمس سنين ، مفوقناش غير آخر سنتين ، مبدأتش انا أركز معاك ومع الاختلافات اللى بينا دى غير آخر سنتين بس ،
لقيت حاجات متخيلتهاش ، قمة فى تبلغ الإحساس والميكانيكية الغريبة اللى انا مش فاهماها اصلا ، وده مش هينفعنى فى الوقت الحالى ،
انا عديت التلاتين يانادر ، مبقاش فى وقت الهدوء دى ، السنين اللى جاية عايزة أعيشها وفى نفس الوقت اعوض فيها السنين اللى فاتت ،
وبطريقتك دى ، اللى ممكن اعيشه فى يوم ، انت هتعيشهولى فى أسبوع ، دا اذا حصل يعنى ،
أرجوك يانادر ، خلينا ننفصل بهدوء ، وكل واحد فينا يشوف طريقه احسن ...
طوال مدة كلامها وعينيه متسعة على آخرها ، لا يصدق كل ما تقول ، هل كانت تحمل كل هذا داخلها وهى صامتة ،
انتهت من حديثها وانتهى هو أيضا من كل ما كان يحمل من كلام ، انسحب وخرج وأغلق الباب دون أن ينطق بكلمة ،
أما هى ارتمت بجسدها جالسة لا تصدق هى الأخرى كل ما قالت ، والتى لم تتخيل ابدا ان تقوله ، وله هو بالذات .
.............................................
استيقظت أميرة بعد التاسعة صباحا على مكالمة من كريم ، يطمئن عليها ويؤكد عليها موعد زيارة المصنع ، والعشاء ،
تناولت إفطار خفيف ، وارتدت ملابس كاجوال بسيطة مكونة من بنطلون جينز اسود وبلوزة قطنية بيضاء بثلاثة أرباع كم ،
مرت على الاستقبال وطلبت سيارة خاصة بدون سائق ، سوف تقودها هى ،
وافق موظف الاستقبال واخبرها انه سوف يتم تجهيز السيارة فى خلال 10 دقائق ،
خرجت متجهة للحديقة تحت اعين موظف الاستقبال الذى تعود تبليغ اخبارها ، جلست على أحد الطاولات فى الحديقة تتابع المارة أمامها وعقلها شارد فى وجهتها التى قررت الذهاب اليها ،
داخلها نداء قوى لا تستطيع مقاومته لرؤية هذا المكان مهما كانت العواقب ،
استقلت السيارة واتجهت لخارج الفندق وهى تسير ناحية وجهة معينة ، لم تكن على علم بالطريق ، انما تسير وفق ذكرى بسيطة داخل عقلها عندما كانت داخل السيارة التى تعود بها من المركز ،
وبالفعل وصلت للمكان الذى أرادته ، توقفت بالسيارة بعيدا نسبيا حتى لا يلاحظها أحد ، رغم أن المكان يبدوا خاليا تماما من البشر ،
وقفت لأكثر من نصف ساعة تتأمل المنظر العام للمكان الذى لطالما حلمت بالعودة اليه مشيا على قدميها ، وها هى الان كما ارادت بل اكثر ،
اقتربت من البوابة الحديدية الكبيرة المغطاة بالاتربة والمغلقة باحكام بأقفال حديدية كبيرة ،
ما هذا الهدوء الغريب ، لما باب البيت بهذا الشكل ، هل هجروه ولم يعد يعيش فيه أحد ،
تأملت الطريق من خلف البوابة لثوانى ، ثم تلتفت حولها لتبحث عن أى شخص فلم تجد ،
وفجأة أمسكت بأحد أعمدة البوابة وبدأت تسلقها برشاقة كأحد محترفى السرقة حتى وصلت لآخر ارتفاعها ، انتقلت للجانب الآخر وبدأت التسلق لأسفل ، وصلت للأرض وهرولت متعددة عن خلفية البوابة حتى لا يراها أحد ،
تلفتت حولها ، وجدت الحديقة مهملة تماما ، الأعشاب فى كل مكان وأغلب الأزهار التى تعودت رؤيتها من بعيد قد زبلت وماتت ،اتجهت لمبنى الفيلا الداخلية سيرا على قدميها ، رغم بعد المسافة والوقت الذى استغرقته فى الوصول ، إلا أنها لم تصب بأى تعب ، فهى رياضية من الدرجة الأولى ، إلى جانب انها كانت تتأمل فيما حولها أثناء سيرها وهى شاردة ، وليس فى ذكرياتها فى هذه الأماكن ، فهى لم ترها إلا وهى فى السيارة اثناء الذهاب والعودة من المركز الذى كانت تقطنه،
وصلت للمبنى ، تأملت البناية الشاهقة بملامحها التى بهتت من الأتربة التى غطتها وهجر أصحابها لها ،
بدأت تتفقد كل الأماكن والغرف التى لم تدخلها من قبل ، بداية من المضيفة الخارجية مرورا بغرفة المكتب والغرف المجاورة ، وصعودا بكل دور على حده ، حتى وصلت للدور الذى كانت تقطنه والذى يقع فيه غرفة والدها ووالدتها ،
دخلت أولا غرفة والدها ، يبدوا أن الغرفة قد تم تجديدها وتجهيزها بشكل أحدث مما تذكر ،
ابتسمت بسخرية ، فقد توقعت أن تكون الغرفة قد جهزت لتكون غرفة له ولعروسه الجديدة التى اختارها ووالدتها على سرير الموت ،
وأخيرا وصلت للسجن الخاص بها أو هكذا كانت تسميه ، غرفتها التى ظلت حبيسة لها لسنوات ،
فوجئت بما رأته ، كانت الغرفة كما تركتها تماما ، لم يتغير بها اى شئ على الإطلاق ، حتى نفس فرش السرير الذى تركته فى اخر ليلة لها هنا ، هى تذكره جيدا ، فهو الفرش الذى نسجت عليه أمها اسمها بيدها ، لكن لماذا ؟
نفضت التراب من على السرير وجلست على حافته ، تتحسس اسمها المنسوج على الملاءة المفروشة ،
لم تشعر إلا ودموعها تسيل عل خديها دون أدنى قدرة لها فى السيطرة عليها ،
رفعت يديها الاثنين وغطت بهما وجهها وتركت العنان للحظات من النحيب الصامت حتى هدأت وحدها ،
لم تثنيها هذه اللحظات عن ما تريد ، بل زادتها أصرارا عليه ،
رفعت رأسها بيقين وثقة بنفسها كما تعودت ، ثم قامت وهمت بالخروج ،
تجمدت تماما مكانها واتسعت عيناها عندما فوجئت بمن يقف أمام الباب بأريحية وكأنه يراقب الموقف من بدايته ،
تقدم منها بعض خطوات حتى أصبح الفاصل بينهما خطوتين لا أكثر وقال
... كنت واثق أن فى حاجة غلط ، فيكى حاجة غامضة انا مش فاهمها ، سألت عنك كتير هناك محدش عرف يساعدنى بحاجة ، قلت اجيبك مصر ، هنا هقدر أتصرف معاكى وافهم ايه الحكاية ،
شفتك مع نادر سلام وهو خارج من شقتك ، ودلوقتى دخلة بيت السلامية القديم وقاعدة فى اوضة بنتهم اللى ماتت وبتعيطى ،
انتى ايه حكايتك بالظبط ؟ انتى مين ؟
تمالكت أميرة نفسها وقالت وهى تهم بالمرور من جانبه ... مفيش حكاية ، اعتبر نفسك مشفتش حاجة ...
قبض على زراعها وهى تمر من جانبه ومال عليها بعض الشئ وقال
... يبقى نحكم السلامية نفسهم فى الموضوع ، اروح لكبيرهم وابلغه بالحكاية دى كلها وهو يتصرف ، وصدقينى ده عنده هسهس من اللى يقرب من عيلته، مبيترددش يعمل اى حاجة ...
تطلعت إليه بغضب مستتر ، بالطبع يقصد بكبير السلامية ، محسن ، الذى أصبح هذه الأيام هو كبير العائلة لما يمتلكه من أموال ،
وبالطبع لا يصلح ابدا ان يشك محسن بأمرها بأى شكل من الأشكال فى هذا الوقت بالذات ،
ومن الجانب الآخر هى لا تثق بكريم حتى الآن ، فهى الآن فى حيرة من أمرها ، ماذا تفعل ؟
هزها من زراعها وقال ... ردى عليا ، انتى مين ، بعتك نادر عشان تأذى محسن فى حاجة ...
بهذه الجملة تحول الأمر بالنسبة لأميرة لسخرية ، ضحكت على أثرها بصوت عالى جدا ،
فتنته ضحكتها ، فهو حقا معجب بها ،
جذبت يدها من بين يديه ، وتوجهت لكرسى هزاز كانت تضعه فى غرفتها لمجرد الحلم بالجلوس عليه فى يوم من الأيام ،
تلمسته بأصابعها ثم جلست عليه ، وأخذت تتحرك به وهى تقول ... تفتكر بعد السنين دى كلها وبعد ما بقى محسن بالقوة دى ، وبعد ما انفصلوا الاتنين تماما عن بعض ، هيفكر نادر يأذى محسن ،
مش واسعة شوية دى ...
... واضح انك تعرفى حاجات كتير عن العيلة دى ...
... وانت كمان تعرف بما لا يتناسب مع فكرة انك أخو مراته ، ولا عشان انت أخو مراته ، وشريكه وكمان تلميذه النجيب زى ما بيقولوا الناس عنك ...
معلوماتها ليست بالجديدة ، فمعظم الناس تعلم هذه الأمور ، لكن ما قالت زاده أصرارا على أن يفهم من هى ،
اقترب من حافة السرير وجلس فى نفس المكان الذى كانت تجلس فيه وانتظر منها أن تكمل ،
تابعت
... المشكلة بالنسبالى انى مش واثقة فيك عشان اقولك حاجة ، بس عايزة أفهم الأول ، انت عرفت انى هنا ازاى ، باعت حد ورايا ...
... ليه ، العربية كفاية ، فيها جهاز تتبع ، ولما بلغونى بمكانها مصدقتش وجيت وراكى ،
إنما بالنسبة للثقة ، صدقينى انا مش وحش ومعنديش نية انى ائذيكى ، بس أفهم ...
توقفت أميرة عن الحركة بكرسيها وقالت
... أنا أميرة محسن سلام ...
يتبع