رواية المعاقة والدم الفصل السابع عشر 17 بقلم هناء النمر
افاقت من شرودها على اهتزاز الهاتف فى جيب الجاكت الذى ترتديه ،
... كنتى فين ؟
... برة ..
.. عارف انك كنتى برة ، انا كنت فى شقتك دلوقتى ، كنتى فين لحد دلوقتى ؟
... بتتكلم كدة ليه ، انا كنت فى عشا مع حد أعرفه ...
.. أنتى هتسرحى ياأميرة ...
... إيه اللى انت بتقوله ده ياعموا ...
ساد الصمت بينهما لثوانى ، واضح انه يحاول تمالك نفسه وكبح غضبه ،
.. انا اسف ، الساعة عدت واحدة وانتى لسة برة اتدايقت ...
... وبعدين ..
.. قلتلك خلاص ، انا اسف ، ادينى رقم رانيا فى مصر ...
.. ليه ؟
... عايز الرقم وخلاص ، لازم اقولك ليه ، ولا هى مأكدة عليكى متدنيش الرقم ...
... لأ ابدا ، عادى ، هبعتهولك فى رسالة ...
.. . دلوقتى لو سمحتى ، سلام ...
كان واضح تماما انه بدأ يفقد اتزانه من الغضب أو القلق أو حتى شوقه لصاحبته لسنين التى فقدها فجأة ، وقد كان هذا ضروريا لايقاظه من دور التباطؤ والبرود الذى كان متقمصا اياه طوال الوقت .
............................................
جافاها النوم منذ أن عادت لمصر ، افتقدت حس الأمان من افتقادها لجميع من تعرف ، حتى المكان الذى عادت إليه ليس مكانها ، شقة جديدة قامت باستأجارها بالقرب من الجامعة ،
رغم أنها كانت تنام فى غرفة وحدها طوال السنين التى مضت ، وهى الآن على نفس الوضع ، وحدها فى فراشها وغرفة مغلقة عليها ، إلا أنها تفشل دائما فى كل المحاولات لتنام .
رن هاتفها ، وضعت الكتاب من يدها ومدت يدها لتحضره ،
رقم ألمانى ، من صاحبه ، تواصلها مع أميرة يكون من خلال وسائل التواصل المتعددة على الانترنت، فتحت الخط ووضعت الهاتف على اذنها دون أن ترد ، سمعت الصوت الذى تحفظه من الجهة الأخرى وهو يقول
.. الو ، الو ، رانيا ..
تنهدت رانيا و حاولت اخماد شوقها الذى تعترف به لنفسها حتى لا يظهر من خلال صوتها ،
... ايوة يانادر ، ازيك ...
... الحمد لله ، اخبارك انتى ايه ...
... كويسة ، الحمد لله ...
... استقريتى ...
.. ايوة ، استلمت امبارح ، وأجرت شقة قريب من الشغل ، الدنيا تمام يعنى ...
... يعنى كان قرار نهائى فعلا ...
... أنت لسة بتسأل دلوقتى ...
... أنتى مرتاحة كدة ...
... الحمد لله ، حتى لو مش مرتاحة ، مسيرى هتعود على حياتى الجديدة ، وانت كمان ، أعتقد أنه سهل عليك انك تأقلم حياتك من غيرى ، لأنك اصلا كنت عامل كدة ، يعنى التغيير بسيط بالنسبالك ...
... أنتى شايفة كدة ...
... أنت شايف غير كدة ..
... لأ ابدا ، انا بس حبيت اطمن عليكى ، خدى بالك من نفسك ..
.. لا متقلقش عليا ، هقدر أعيش ...
... اوكى ، باى باى ...
... سلام ...
ظل الهاتف معلق على اذنها لثوانى لم تنزله، هل هو حقا اتصل بها ، هل انتهت المكالمة على ذلك بعد كل هذه السنوات ،
هى لم تندم ولو للحظة واحدة عما قامت به من أجل أميرة ، لكن هذا المغرور حقا قد جعلها تندم انها لم تنفصل عنه بمجرد ابتعادها عن عائلتها والسفر لبلد أخرى ، كان من الأفضل أن تستقل بحياتها بعيدا عنه .
.............................................
وثانى يوم مساءا عندما كان فى طريقه للمطار وداخله وازع قوى بأن يراها لم يقاومه ، أمر السائق أن يحول وجهته ويعود لبيتها ، وصل للمبنى وقبل أن يترجل من السيارة ، رأى ما يجعله يعود أدراجه داخل السيارة مرة أخرى ،
باب المبنى يفتح وتخرج منه تالى مع أحدهم ويبدوا عليهم التناغم الكامل ، يبتسم كل منهما للأخر ، ركبت السيارة بجانبه وانطلق به ،
من هو وماذا تفعل معه ، الأهم من هذا أن هذا الوجه مألوف جدا بالنسبة له ، لقد رآه من قبل ، هو متأكد انه يعرفه ،
أمر السائق أن يتحرك ، وعاد لوجهته مرة أخرى باتجاه المطار وعقله فى حالة هيا ج كامل يبحث داخله عن صاحب هذا الوجه ، وماذا تفعل الفتاة التى يريدها معه.
..............................................
بعدها بيومين ، كانت رانيا فى طريقها لمكتب العميد بعدما استدعائها من قبله مرتين ، وهى تعتذر بسبب وجودها فى محاضرة مع الطلبة وصممت على اكمالها ،
قبل دخولها رأت بعض أمناء الشرطة والعساكر يقفون على باب المكتب ، لم تهتم واستأذنت للدخول ،
... السلام عليكم ...
رد العميد بغضب وصوت عالى ... عليكم السلام ، ايه يادكتورة ، مش بعتلك اكتر من مرة ...
ردت رانيا وهى بكامل هدوءها ... متأسفة جدا يادكتور ، كنت فى محاضرة وحضرتك عارف انهم متأخرين فى المنهج ...
... حسابك على الموضوع ده هيتم بعدين ، أول ما ابعتلك لازم ...
... خلاص يادكتور ، حصل خير ...
كان هذا صوت رجولى صدر من خلفها مما جعلها تلتفت لترى من يتحدث ،
رجل يجلس بوقار واضعا قدم فوق الاخرى ، يبدو انه فى أوائل الأربعينات من عمره ، تتخلل بعض الشعيرات البيضاء شعره ،
تابع الرجل كلامه دون أن يتحرك
... الكلام ده تخلص بعدين ، انا مش فاضى ، كفاية العطلة اللى سببتها الدكتورة ...
سألت رانيا العميد باستنكار وهى تشير على الجالس ... ومين حضرته ...
رد العميد ... اللوا رفعت امين ، مدير أمن القاهرة ...
... تشرفنا ، لكن ايه علاقته بالموضوع ...
... سيادة اللوا يبقى والد الطالبة تسنيم رفعت ، اللى عندك فى أولى ...
فهمت رانيا ما يحدث حولها بعد نطق الاسم ، لكن هى حقا لا تهتم لكون الرجل مديرا لأمن أم لا ،
فى النهاية هو والد طالبة مستهترة مغرورة لا تحترم اساتذتها .
وقف الرجل واقترب منها بخطوات ثابتة وهادئة ، ووقف قبالتها مباشرة وبتحدى قال
... اللى انتى عملتيه ميصحش ابدا يادكتورة ، مش بنت رفعت امين اللى تطرد بالشكل ده قدام زمايلها. ..
ردت رانيا بقوة وثبات ... والله مش مشكلتى هى بنت مين ، بنت حضرتك طالبة مش مسؤولة بالمرة ...
لمعت عين الرجل من الغضب ، لكن رانيا لم تهتم وتابعت كلامها
... ايوة ، محترمتنيش ولا احترمت المحاضرة ولا حتى زمايلها ، بالرغم من أنها عارفة انى مبدخلش حد بعدى ، إلا أنها بتتعمد بعدى المحاضرة ، متخيلة انى هعديها واسيبها تدخل ، ولما جيت اكلمها ، ردت عليا بقلة زوق ، متخيل بقى انى هسمى عليها ، ولا هتهت واخاف لما يكون والدها مدير أمن ، متأسفة اوى ، مش هيحصل ...
قال الرجل بغضب ... يعنى ايه الكلام ده ...
... اللى حضرتك سمعته وفهمته ، انا خلاص حرمتها من دخول باقى محاضراتى ، ولو عايزة تدخل الامتحان هى حرة ، كدة كدة مش هتنجح غير لما تحضر الشرح ، وده آخر كلام عندى ،
بعد اذنكم ...
تركتهم وخرجت والرجل يكاد ينفجر من الغضب والغيظ ، لكن لم يظهر ذلك إلا فى معالم وجهه فقط ، لم يتحدث هو الآخر بل سلك طريقه للخارج دون حتى أن يلقى السلام على العميد ،
فتح أحد العساكر له باب السيارة ليدخل ، لمحها بعيدا وهى تنطلق بسيارتها باتجاه باب الجامعة ،
قال لأمين الشرطة الذى يقف بجانبه ،
... تعرفلى عنها كل حاجة ، من الألف للياء ، فاهم ..
.. فاهم يافندم ....
................................................
انتهت ماتيلدا من اختباراتها ، ولم تنتظر حتى النتيجة ، جهزت جزء كبير من متعلقاتها الشخصية وحجزت مع أول طائرة متجهة للقاهرة ، بعدما اتفقت مع نادر على ذلك على أساس أنها ست قضى أسبوعين فى مصر لا أكثر وستعود معه مرة أخرى ، حاول اقناعها بأن تنتظره حتى يسافرا سويا ، لكنها أرادت الذهاب وحدها أولا ، رغم عدم اقتناعه بالأمر إلا أنه وافق لأنه يعلم وجهتها الأولى ، رانيا .
لم تخبر تالى كريم بسفرها ، بل قررت أن تعلمه فى الوقت الذى تريده بعد عودتها لمصر .
وقفت على آخر درجة من درجات سلم الطائرة وقدميها تمتنع عن ملامسة الأرض التى لم تقف عليها طوال حياتها ، أنزلت قدميها بصعوبة بالغة لتلامس الأرض التى قضت عليها ما يقرب من خمسة عشر عاما قعيدة على كرسى مدلوب .
أوراقها كاملة وصحيحة ، انتهت اجرائات المطار بسهولة ، تركت متعلقاتها فى المطار على أن يرسلها لعنوان اعطتهم اياه وكان عنوان شقة رانيا فى الساعة الثامنة مساء ، وقد كانت وقتها الساعة لا تتعدى الثانية عشر ظهرا ،
استقلت تاكسي وطلبت منه أن يوصلها لجامعة القاهرة ، وقد فعل ،
دخلت رانيا من باب الجامعة ، كانت مختلفة و مميزة بين الطلبة بملابسها الكاجوال الحديثة ،
تمشى بتأنى تنتقل بعينيها بين الطلاب التى لطالما حلمت أن تكون واحدة منهم بل افضلهم والمتفوقة عليهم .
وصلت لمكتب الأساتذة على وصف كل من تسأله ليرشدها ،
دخلت من الباب المفتوح ووقفت فى مقدمته تتطلع للجالسين وقد انتبه لها معظمهم ، حتى أعينها على رانيا ، ابتسمت ،
غمزتها الجالسة بجانبها وأشارت لها فى اتجاه الباب ، رفعت رانيا عينيها للباب وجدت كيان جميل شاهق يقف ويتطلع لها بحنان وشوق ،
هرولت اليها واخذتها بين زراعيها واطبقت بهم عليها ، لم تشعر بمدى شوقها لهذه الفتاة إلا عندما رأتها واخذتها بين زراعيها ،
طلبت منها أن تنتظرها بعض دقائق لتذهب وتعتزر عن آخر محاضرة لها ، اخبرتها أميرة أن لا تفعل ، فهى تريد أن تدخل لمكتبة الجامعة وتتجول فيها لبعض الوقت ، فقد كان حلم من أحلامها أن تكون من رواد هذه المكتبة ،
وافقت رانيا وذهبت معها ، عرفت أمينة المكتبة عليها لكى تسمح لها بالتجول فى أروقة المكتبة ، وذهبت رانيا لإلقاء محاضرتها وبعدها التقيا وعادت مع رانيا لشقتها ،
قضيا الوقت كله فى الحديث عن ما مر بكل منهما ولم تحضره الأخرى ،
... فعلا ، أخو مرات محسن ...
.. تخيلى ، وشريكه كمان فى الشغل ...
.. بنسبة كبيرة ؟
... اللى كان مكتوب 48 % من الشركة والمصنعين ...
... يعنى حق الإدارة لباباكى برده ...
.. طبعا ، الغريب انه عرفنى بنفسه على أنه مسؤول تسويق تجارى ، ولما سألت اتأكدت فعلا من كدة ، مجرد موظف فى الشركة مع أنه له نصها ، مش فاهمة ليه ؟
... متستعجليش ، هتفهمى ، بس ناوية على ايه دلوقتى ...
... هكمل معاه زى ما هو عايز ...
.. ازاى يعنى ؟ تروحى الشركة على انك ماتيلدا ...
... بالظبط ، صاحبة تصميم العبوات ، هدخل فى وسطهم وهقابل بابا نفسه من غير ما يشك فيا ..
... وبعدين ؟
... بعدين يحلها ربنا ، لكن الاهم دلوقتى ان فى حاجات جوايا لازم اعملها قبل ما ابدأ فى أى حاجة ، أولها وأهمها انى لازم اشوف جدتى ...
... إيه ، جدتك ؟
يتبع