رواية المعاقة والدم الفصل الخامس عشر 15 بقلم هناء النمر
كانت تجرى بأقصى سرعة تمتلكها ، تمر بين الأروقة والشوارع والسيارات التى تعودت أن تمر من خلالها كل ليلة وهى تجرى ،
كانت تعشق الليل وهدوءه ، يمكنها من التفكير فى كل شئ ، بل قد تجد الحلول لمشاكل ، وتخطط لأشياء أخرى وهى تجرى ،
والآن كان دور هذا الغريب الذى اقتحم الموقف أو ان الظروف هى من اقحمته فى الموقف .
صحيح أنه كتلة رجولية متحركة وصحيح انه يذكرها بالشكل الدارج للرجال فى مصر الذى هو مختلف تماما عنهم فى ألمانيا ، والذى يشبههم فى الشكل عمها نادر ،
بالإضافة إلى أنه الرجل الوحيد الذى تحدثت معه بلغتها العربية المصرية ، ومجرد الكلام مع شخص آخر بلغتها الحبيبة آثار داخل قلبها مشاعر لم تفهمها لكن فى نهاية طريقها وبالقرب من شقتها قد قررت نفض هذا الشخص من عقلها تماما وكأن الموقف بكامله لم يحدث .
..............................................
وصلت رانيا لبيت جدها من والدتها الذى كانت تقضى فيه أيام الفيوم والذى ورثته عن والدتها بعد الوفاة ، فى حدود الحادية عشر صباحا ،
تجولت فى البيت لبعض الوقت وهى تتذكر ما حدث فيه ثم اتصلت بوداد واخبرتها بعودتها واخبرتها أيضا بموعد زيارتها لها ،
أرادت أن تكون الزيارة متأخرة عن موعد حفل السبوع بيوم حتى تهرب من رؤية باقى العائلة ، فهى ليست مستعدة بعد للمواجهة ،
نامت لبضع ساعات ثم خرجت من المنزل متوجهة للمحلات لتبتاع هدية للطفل .
.....................................................
فى نفس الوقت أو بعدها بساعة طبقا لفرق التوقيت بين مصر وألمانيا ، كانت تالى فى طريقها للعودة لشقتها ، فلديها بعض التصاميم المهمة لإحدى شركة الإعلان التى تعمل معها ، بالإضافة لمشروع التخرج الذى تعمل عليه والذى سيكون الفيصل لمستقبل جديد ،
سلمت على ريتا وتوجهت لغرفتها ، تحممت وارتدت برمودا جينز وبودى قطنى بدون أكمام ، خرجت وجهزت ساندوتش وكوب من القهوة وعادت لغرفتها ، جلست على الفراش ووضعت الطبق بجانبها وأمامها اللاب مفتوحا جوانبها الآخر كتاب يحتوى على بعض الصور التى تحتاجها فى التصميم ، وضعت سماعة mp4 فى اذنها والتى تصدع بإحدى سيمفونيات موسارت التى تعشقها ،
وبدأت فى فتح الملفات التى تحتوى على التصاميم الغير مكتملة ، وشرعت فى العمل .
مر عليها أكثر من ثلاث ساعات دون أن تشعر وهى منغمسة فيما تفعل ، لم يخرجها إلا ايميل ظهر أمامها على شاشة اللاب توب ، ومحتواه طلب لتصميم آخر بمواصفات معينة لمجموعة من الفواكه المجمدة والعصائر ،
المهم ليس محتوى الطلب وإنما لوجو الشركة صاحبة الطلب ، مكتوب باللغة الإنجليزية
,,,,,,,The Royal Taste ,,,,,,,
تجمدت أمام الاسم لثوانى وهى لا تصدق ما ترى ، هل هذا حقا يحدث ، أم أنها مصادفة ، هل يوجد شركة أخرى بنفس الاسم وللتعليب أيضا ،
رفعت اللوجو كما هو على البحث ، وانتظرت النتيجة على أحر من الجمر نفسه ،
وها هي ، إنها فعلا نفس الشركة ،
ومكتوب بالنص أمامها على الشاشة
The Royal Taste,
لصاحبها محسن سلام
تأكدت الآن ، فهى تتذكر تماما ما قرأته من أربع سنوات على الانترنت عن تغيير اسم مجموعة سلام ، ل Royal Taste بعد وفاة صاحبها رشاد سلام ،
تبسمت تالى وفى داخلها تقول
،، يالا السخرية ،،
الآن شركة والدها تطلبها لتصميم أغلفة العبوات ، وكيف لهم أن يعرفوها، هم فقط يطلبون من الشركة الكبيرة التى تعمل بها ،
فهى Matilda Jefferson ، مصممة الاغلفة التى أصبح اسمها يتردد مؤخرا فى هذه المجالات .
اعتدلت وأرسلت ايميل بالموافقة وفى نفس الوقت ارسلت بقية التصاميم التى انتهت منها منذ قليل ،
بعدها بنصف ساعة وصل إليها ايميل يقول إن العميل يريد مقابلة المصمم لشرح ما يريد فى التصميم بنفسه ، والمقابلة غدا الساعة الثانية عشر ظهرا فى مقر الشركة ،
أعادت إرسال ايميل محتواه : هل سأقابل صاحب العمل ...
وكان الرد ... لا ، المقابلة ستكون مع مدير التسويق التجارى الخاص بشركته ...
تنفست الصعداء بعد قراءة هذه الجملة وادركت فى لحظة انها الان فى بداية مفترق طرق بين ما هى فيه الآن وبين ما كانت تريد تنفيذه وقد أرجئته منذ فترة من أجل أن تكمل دراسة أولا ،
و يبدو أن الظروف هى المتحكم الآن وهى من تعجل أو تأجل ما تريد ،
فى خضم جلستها هذه مع عقلها ومع سيل الأفكار السلبية والذكريات التى انفجر ثانية قبل الأوان الذى أرادته ، رن جرز الباب أكثر من مرة ويبدوا أنها وحدها فى الشقة ،
خرجت من غرفتها تتلفت فى أرجاء الشقة على ريتا أو ايميلى فلم تجد إلا الهدوء التام ،
اتجهت للباب وألقت نظرة من خلف العين المزروعة فى الباب ، فإذا به نادر ،
فتحت الباب ، فدخل دون أى كلام ، أغلقت الباب واستدارت له ، كان الغضب واضحا تماما فى عينيه وملامح وجهه و حتى وقفته وتربيعة يديه كانت أكبر دليل على مايدور داخله ،
وبدون أى مقدمات قال ،
...وافقت وخلصت ورق وسافرت وده كله من غير ما أعرف ، واعرف ازاى بورقة ملزوقة على التلاجة ....
ورفع يده بورقة صغيرة مطوية فى يده بشكل عشواقى ، ثم أكمل كلامه قائلا
....هى دى قيمتى عندها بعد كل السنين دى ...
تحركت تالى ناحية مدخل المطبخ وهى تقول
... زى ما هى دى قيمتها عندك بالظبط ..
تحرك خلفها وهو يقول ..، يعنى ايه ؟
... نفس الطريقة ياعموا ، تسيبلها ورقة ملزوقة على التلاجة أو حتى على باب اوضتها أو حتى تتصل بيها بعد ما تسافر من المكان اللى انت رحته ، سنين وانت محسسيها انها ملهاش قيمة عندك ، مدايق ليه دلوقتى ، عيش شوية اللى هى عاشته ..
كانت تعد القهوة وهى تتحدث بمنتهى الهدوء دون أى غضب أو أى ارتفاع فى نبرة صوتها ،
... أنتى دايما معاها ضدى ياأميرة ...
توقفت يدها عن الحركة بالملعقة فى كوب القهوة ، وقالت
... هو احنا فى حرب عشان تقوللى معاها ضدك ، إنت شايف كدة ، مش حقيقى ، انا مع الحق ، مع العدل ، انت معايا كنت أبويا ، وهى كانت امى ، واكتر بكتير اوى من كدة ،
انا ليا عين اشوف بيها معاملتك ليها ، وعقل يفلتر اللى بيحصل بينكم ، وقلب كان بيحس بكل لحظة عاشتها معاك ، انت اللى وصلتها لكدة مش انا ،
رانيا بالنسبالك كانت مجرد أداة تساعدنى بيها مش اكتر ....
كانت عينيه متسعة على آخرها وبين حاحبيه منعقد من الغضب الممزوج باندهاش من كلام الفتاة وهو يسألها ... أنا ؟
... أمال انا ، طبعا انت ، مكانش ليها وجود فى حياتك أساسا ، لا بتزعلها ولا بتفرحها ، لا بتقول كلمة حلوة ولا وحشة ، 7 سنين من يوم ماإتجوزتها وهى مجرد شكل ، زييها زى اى بورتريه متعلق فى البيت ...
بدأت عينيها تلمع بسبب امتلائها بالدموع وهى تتابع
... دى مش جماد ، دى انسان ، واحدة ست جميلة جدا ، مليانة مشاعر وأحاسيس ، محتاجة تحب وتعيش ، محتاجة كلمة حلوة ولمسة حلوة من اللى بتحبه ، محتاجة راجل يكمل حياتها ويهديها أجمل هدية من راجل لست ، قلب وطفل يقولها ياماما ، ويكون سند ليها لما تكبر ،
و بالتأكيد انت مش الراجل ده ، قعدت معاك سنين وانت ولا انت هنا ، حاولت أوفق بينكم انا عايشة معاكم ومفيش فايدة ، سبتلكم البيت خالص ، قلت يمكن وجودكم مع بعض يقرب بينكم ، برده مفيش فايدة ، ايه مطلوب تانى ،
انت كنت عامل زى لوح التلج بالظبط ...
زاد اتساع عينيه وأنفاسه التى بدأت تتصارع مع سماعه لما لم يكن يتخيله ابدا من فم هذه الفتاة الصغيرة التى تربت على يده ، وهذا الوصف البشع الذى وصفته به ، قال بلسان متقطع
...هى ، هى مدتنيش اى إشارة ...
لم تدعه تالى يكمل كلامه وقد وصلت لمرحلة البكاء الفعلى ... إشارة ! إشارة ايه اللى انت كنت عايزها اكتر من 7 سنين إخلاص ، عنيها مشافتش راجل برة برغم العروض اللى قابلتها ، انت كنت انسان مستحيل ، صاحبت مرتين ، وهى كانت بتتفرج عليك وساكتة لأنها مقتنعة أن اللى بينكم مجرد عقد عمل ، وحتى كرامتها مسمحتلهاش انها تفكر تقرب منك حتى وانت بطريقتك دى ، وأنا نفسى لو مكانها كنت عملت كدة واكتر ،
اسمع ياعموا ، ودى آخر مرة هقولك الكلام ده ، طلقها وسيبها تعيش ، تلحق آخر فرصة ليها فى الدنيا دى ، يمكن تلاقى حد يقدر القلب اللى من دهب ده ، ومفيش داعى يكون ده جزائها بعد كل اللى عملته معايا ، ولو فكرت تئذيها اكتر من كدة ، انا اللى همنعك ...
رفع عينيه لها وقد أصابته صاعقة ،
... ايوة ، انا اللى همنعك ، ومش عدم تقدير لحضرتك واللى عملته معايا ، لكن فى النهاية انت راجل ومكملتش 35 سنة ، تقدر تبدأ فى أى مرحلة فى حياتك ، لكن هى عدت 30 ، مبقاش قدامها وقت كتير عشان تبدأ من جديد ...
... إيه ، عايزاها تتجوز ؟
... وليه لأ ، ايه المانع ، هو احنا اشترناها لحسابنا ، جارية عندنا ، ما تسيبها تعمل اللى هى عايزاه ....
لم يرد نادر بكلمة أكثر من ذلك ، تطلع لابنة أخيه لثوانى بغضب عارم ، ثم انسحب خارجا دون أن ينطق بكلمة ، فى قرارة نفسه يعلم انها على حق فى كل كلمة قالتها ، وهو كما وصفته بالفعل بل أكثر ، وأن رانيا لديها كل الحق أن تبدأ من جديد ، والعقل يقول انه من يجب أن يبتعد ، ومن الممكن أن يكون هذا ما أراده فى وقت ما ، فقد اعتبرها لبعض الوقت عقبة فى طريقه ،
لكن لماذا ؟ ، لماذا كل هذا الغضب ، ما سبب حالة الجنون التى دخلها عندما قرأ ورقتها الملصقة على باب الثلاجة ،
لماذا يكره فكرة تحررها منه وارتباطها بشخص آخر غيره ، يمتلك مشاعرها وقلبها وجسدها ،
رجل آخر غيره ، لماذا تصيبه هذه الفكرة بالجنون ،
وصل لبيته وقد ارتكزت فكرة أساسية فى عقله ، يجب أن يراها ، يذهب لها أينما كانت ، يحتاج لأن يتحدث معها بصراحة ليكتشف بنفسه ماذا تريد هى أن تفعل ؟
وقد قرر أن يفعل هذا ، ومن غدا سيبدأ فى تجهيز ما يحتاج إليه السفر لمصر ولو ليوم واحد .
.....................................................
كانت تجلس وحدها فى أحد المطاعم الراقية والتى اختارته بعناية حتى لا تقابل شخصا تعرفه ، حتى الطاولة التى جلست عليها ، طلبتها من النادل منزوية وبعيدة بعض الشئ عن الزحام ،
أكلت طعامها وسؤال واحد يدور فى رأسها ،
لماذا تتجنب الناس بهذا الشكل ؟
هى لم تفعل شيئا خاطئا لتشعر بالخزى منه ،
وقد أصبح ما هى فيه أمرا واقعا يجب أن تتعامل معه ، ولن تبقى مخبئة لرأسها كالنعامة بدون سبب فعلى ، يجب أن تتحرك وتواجه ،
يجب أن تعيش وتواجه وضعها الجديد ،
يجب أن تتقبل نفسها ووضعها الجديد هذا حتى يتقبله الناس .
أنهت وجبتها وحملت حقيبتها بعد أن وضعت بعض المال على الطاولة وانصرفت ،
وقفت لتشير لسيارة أجرة ، فهى لم تبتاع سيارة خاصة بها بعد ،
لكنها فوجئت بسيارة تنحدر باتجاهها فجأة لتتوقف بعدها ببضع أمتار ، وقفت السيارة لثوانى معدودة وكأن صاحبها يتأكد من الواقفة ، ثم عادت للخلف لتتوقف أمامها مباشرة ، كان الزجاج باللون الاسود فلم تتبين قائدها فى البداية إلا بعد أن فتح باب السيارة وخرج منها وهو مبتسم ،
أصابها الضيق من رؤيته ، فقد كان هو آخر شخص تريد رؤيته الآن ، تأملت وهو يقترب ،
مازال يحتفظ بشكله ووسامته التى رأته عليها اول مرة باستثناء بعض الخصلات البيضاء التى زينت شعره ،
اقترب منها والابتسامة تملئ وجهه وهو يتحقق منها من نبتة شعرها إلى أصابع قدميها ،
ويتعجب فى قرارة نفسه عن من احتفظت بهذه الجاذبية طوال هذا الوقت الذى مضى ، أم أنها تجذبه هو فقط ،
... أنا مصدقتش لما لمحتك من بعيد ...
ردت بامتعاض وهى نفس طريقتها فى الحديث معه من سبع سنوات
... ليه يعنى ، حد قالك انى مت ، ولا مش هرجع مصر تانى ...
... مش عارف ، بس كنت متخيل انى مش هشوفك تانى اصلا ...
.... اللى يسمعك كدة يقول إن احنا كان فى بينا عشرة ...
... بالنسبالى اكتر بكتير ، حمدالله على السلامة يارانيا ...
ودت لو أجابت بالله لا يسلمك ، لكنها لم تفعل وفضلت سلامة الحديث حتى تبتعد
.. . الله يسلمك ، بعد اذنك ، عايزة امشى ..
.. استنى هنا ، تمشى فين ، انتى اصلا لوحدك هنا ؟
.. حاجة متخصكش. ..
... لأ يخصنى ، انتى مرات اخويا ، ولازم أسألك واطمن عليكى ...
... متشكرة اوى ، ولو ده سببك فى الاهتمام ، فوفره ، انا مبقتش مرات اخوك ، تسمحلى اعدى بقى ...
مرت من جانبه لتبتعد ، فوجئت به يمنعها بيده دون أن يلمسها وهو يقول
... يعنى ايه ، اتطلقتوا ؟
.. ايوة ، ممكن تشيل ايدك ؟
رفع يده وسمح لها بالمرور وقد اتسعت ابتسامته، مرت هى وأشارت لتاكسى فتوقف ،
ركبت دون أن تنظر خلفها ، وانطلقت السيارة بها بعيدا .
.......................................... ....
قضى الجميع ليلتهم مستيقظين ، كل منهم لديه أسبابه فى حفاء النوم لعينيه ،
حتى أميرة التى تفكر فى موعدها الذى تنتظره ،
وقد حان ، وقررت أن تذهب وترى ، فهى فى النهاية Matilda ، فلماذا لا تذهب وترى وتواجه ،
وصلت لمقر الشركة فى موعدها بالدقيقة ، سلمت على الجميع وانتظرت الشخص المطلوب فى قاعة المقابلات ، فقد تأخر أكثر من عشر دقايق ،
وقبل أن تقرر أن تنصرف ، دق الباب وظهر هو من خلفه ،
وكما اعتقدت منذ يوم أمس ، بدأت الظروف تتحكم بها ، وليس العكس ،
وقفت وهى تطلع للقادم مصدومة من هذه المصادفة ، وتوقف هو أيضا فى مكانه لا يصدق انها هى ، صحيح أنه أعطى الرقم لأحد معارفه ليأتيه باسم صاحبته ، لكنه لم يتخيل أن يقابلها مرة ثانية وبهذه السرعة .
يتبع
كانت تعشق الليل وهدوءه ، يمكنها من التفكير فى كل شئ ، بل قد تجد الحلول لمشاكل ، وتخطط لأشياء أخرى وهى تجرى ،
والآن كان دور هذا الغريب الذى اقتحم الموقف أو ان الظروف هى من اقحمته فى الموقف .
صحيح أنه كتلة رجولية متحركة وصحيح انه يذكرها بالشكل الدارج للرجال فى مصر الذى هو مختلف تماما عنهم فى ألمانيا ، والذى يشبههم فى الشكل عمها نادر ،
بالإضافة إلى أنه الرجل الوحيد الذى تحدثت معه بلغتها العربية المصرية ، ومجرد الكلام مع شخص آخر بلغتها الحبيبة آثار داخل قلبها مشاعر لم تفهمها لكن فى نهاية طريقها وبالقرب من شقتها قد قررت نفض هذا الشخص من عقلها تماما وكأن الموقف بكامله لم يحدث .
..............................................
وصلت رانيا لبيت جدها من والدتها الذى كانت تقضى فيه أيام الفيوم والذى ورثته عن والدتها بعد الوفاة ، فى حدود الحادية عشر صباحا ،
تجولت فى البيت لبعض الوقت وهى تتذكر ما حدث فيه ثم اتصلت بوداد واخبرتها بعودتها واخبرتها أيضا بموعد زيارتها لها ،
أرادت أن تكون الزيارة متأخرة عن موعد حفل السبوع بيوم حتى تهرب من رؤية باقى العائلة ، فهى ليست مستعدة بعد للمواجهة ،
نامت لبضع ساعات ثم خرجت من المنزل متوجهة للمحلات لتبتاع هدية للطفل .
.....................................................
فى نفس الوقت أو بعدها بساعة طبقا لفرق التوقيت بين مصر وألمانيا ، كانت تالى فى طريقها للعودة لشقتها ، فلديها بعض التصاميم المهمة لإحدى شركة الإعلان التى تعمل معها ، بالإضافة لمشروع التخرج الذى تعمل عليه والذى سيكون الفيصل لمستقبل جديد ،
سلمت على ريتا وتوجهت لغرفتها ، تحممت وارتدت برمودا جينز وبودى قطنى بدون أكمام ، خرجت وجهزت ساندوتش وكوب من القهوة وعادت لغرفتها ، جلست على الفراش ووضعت الطبق بجانبها وأمامها اللاب مفتوحا جوانبها الآخر كتاب يحتوى على بعض الصور التى تحتاجها فى التصميم ، وضعت سماعة mp4 فى اذنها والتى تصدع بإحدى سيمفونيات موسارت التى تعشقها ،
وبدأت فى فتح الملفات التى تحتوى على التصاميم الغير مكتملة ، وشرعت فى العمل .
مر عليها أكثر من ثلاث ساعات دون أن تشعر وهى منغمسة فيما تفعل ، لم يخرجها إلا ايميل ظهر أمامها على شاشة اللاب توب ، ومحتواه طلب لتصميم آخر بمواصفات معينة لمجموعة من الفواكه المجمدة والعصائر ،
المهم ليس محتوى الطلب وإنما لوجو الشركة صاحبة الطلب ، مكتوب باللغة الإنجليزية
,,,,,,,The Royal Taste ,,,,,,,
تجمدت أمام الاسم لثوانى وهى لا تصدق ما ترى ، هل هذا حقا يحدث ، أم أنها مصادفة ، هل يوجد شركة أخرى بنفس الاسم وللتعليب أيضا ،
رفعت اللوجو كما هو على البحث ، وانتظرت النتيجة على أحر من الجمر نفسه ،
وها هي ، إنها فعلا نفس الشركة ،
ومكتوب بالنص أمامها على الشاشة
The Royal Taste,
لصاحبها محسن سلام
تأكدت الآن ، فهى تتذكر تماما ما قرأته من أربع سنوات على الانترنت عن تغيير اسم مجموعة سلام ، ل Royal Taste بعد وفاة صاحبها رشاد سلام ،
تبسمت تالى وفى داخلها تقول
،، يالا السخرية ،،
الآن شركة والدها تطلبها لتصميم أغلفة العبوات ، وكيف لهم أن يعرفوها، هم فقط يطلبون من الشركة الكبيرة التى تعمل بها ،
فهى Matilda Jefferson ، مصممة الاغلفة التى أصبح اسمها يتردد مؤخرا فى هذه المجالات .
اعتدلت وأرسلت ايميل بالموافقة وفى نفس الوقت ارسلت بقية التصاميم التى انتهت منها منذ قليل ،
بعدها بنصف ساعة وصل إليها ايميل يقول إن العميل يريد مقابلة المصمم لشرح ما يريد فى التصميم بنفسه ، والمقابلة غدا الساعة الثانية عشر ظهرا فى مقر الشركة ،
أعادت إرسال ايميل محتواه : هل سأقابل صاحب العمل ...
وكان الرد ... لا ، المقابلة ستكون مع مدير التسويق التجارى الخاص بشركته ...
تنفست الصعداء بعد قراءة هذه الجملة وادركت فى لحظة انها الان فى بداية مفترق طرق بين ما هى فيه الآن وبين ما كانت تريد تنفيذه وقد أرجئته منذ فترة من أجل أن تكمل دراسة أولا ،
و يبدو أن الظروف هى المتحكم الآن وهى من تعجل أو تأجل ما تريد ،
فى خضم جلستها هذه مع عقلها ومع سيل الأفكار السلبية والذكريات التى انفجر ثانية قبل الأوان الذى أرادته ، رن جرز الباب أكثر من مرة ويبدوا أنها وحدها فى الشقة ،
خرجت من غرفتها تتلفت فى أرجاء الشقة على ريتا أو ايميلى فلم تجد إلا الهدوء التام ،
اتجهت للباب وألقت نظرة من خلف العين المزروعة فى الباب ، فإذا به نادر ،
فتحت الباب ، فدخل دون أى كلام ، أغلقت الباب واستدارت له ، كان الغضب واضحا تماما فى عينيه وملامح وجهه و حتى وقفته وتربيعة يديه كانت أكبر دليل على مايدور داخله ،
وبدون أى مقدمات قال ،
...وافقت وخلصت ورق وسافرت وده كله من غير ما أعرف ، واعرف ازاى بورقة ملزوقة على التلاجة ....
ورفع يده بورقة صغيرة مطوية فى يده بشكل عشواقى ، ثم أكمل كلامه قائلا
....هى دى قيمتى عندها بعد كل السنين دى ...
تحركت تالى ناحية مدخل المطبخ وهى تقول
... زى ما هى دى قيمتها عندك بالظبط ..
تحرك خلفها وهو يقول ..، يعنى ايه ؟
... نفس الطريقة ياعموا ، تسيبلها ورقة ملزوقة على التلاجة أو حتى على باب اوضتها أو حتى تتصل بيها بعد ما تسافر من المكان اللى انت رحته ، سنين وانت محسسيها انها ملهاش قيمة عندك ، مدايق ليه دلوقتى ، عيش شوية اللى هى عاشته ..
كانت تعد القهوة وهى تتحدث بمنتهى الهدوء دون أى غضب أو أى ارتفاع فى نبرة صوتها ،
... أنتى دايما معاها ضدى ياأميرة ...
توقفت يدها عن الحركة بالملعقة فى كوب القهوة ، وقالت
... هو احنا فى حرب عشان تقوللى معاها ضدك ، إنت شايف كدة ، مش حقيقى ، انا مع الحق ، مع العدل ، انت معايا كنت أبويا ، وهى كانت امى ، واكتر بكتير اوى من كدة ،
انا ليا عين اشوف بيها معاملتك ليها ، وعقل يفلتر اللى بيحصل بينكم ، وقلب كان بيحس بكل لحظة عاشتها معاك ، انت اللى وصلتها لكدة مش انا ،
رانيا بالنسبالك كانت مجرد أداة تساعدنى بيها مش اكتر ....
كانت عينيه متسعة على آخرها وبين حاحبيه منعقد من الغضب الممزوج باندهاش من كلام الفتاة وهو يسألها ... أنا ؟
... أمال انا ، طبعا انت ، مكانش ليها وجود فى حياتك أساسا ، لا بتزعلها ولا بتفرحها ، لا بتقول كلمة حلوة ولا وحشة ، 7 سنين من يوم ماإتجوزتها وهى مجرد شكل ، زييها زى اى بورتريه متعلق فى البيت ...
بدأت عينيها تلمع بسبب امتلائها بالدموع وهى تتابع
... دى مش جماد ، دى انسان ، واحدة ست جميلة جدا ، مليانة مشاعر وأحاسيس ، محتاجة تحب وتعيش ، محتاجة كلمة حلوة ولمسة حلوة من اللى بتحبه ، محتاجة راجل يكمل حياتها ويهديها أجمل هدية من راجل لست ، قلب وطفل يقولها ياماما ، ويكون سند ليها لما تكبر ،
و بالتأكيد انت مش الراجل ده ، قعدت معاك سنين وانت ولا انت هنا ، حاولت أوفق بينكم انا عايشة معاكم ومفيش فايدة ، سبتلكم البيت خالص ، قلت يمكن وجودكم مع بعض يقرب بينكم ، برده مفيش فايدة ، ايه مطلوب تانى ،
انت كنت عامل زى لوح التلج بالظبط ...
زاد اتساع عينيه وأنفاسه التى بدأت تتصارع مع سماعه لما لم يكن يتخيله ابدا من فم هذه الفتاة الصغيرة التى تربت على يده ، وهذا الوصف البشع الذى وصفته به ، قال بلسان متقطع
...هى ، هى مدتنيش اى إشارة ...
لم تدعه تالى يكمل كلامه وقد وصلت لمرحلة البكاء الفعلى ... إشارة ! إشارة ايه اللى انت كنت عايزها اكتر من 7 سنين إخلاص ، عنيها مشافتش راجل برة برغم العروض اللى قابلتها ، انت كنت انسان مستحيل ، صاحبت مرتين ، وهى كانت بتتفرج عليك وساكتة لأنها مقتنعة أن اللى بينكم مجرد عقد عمل ، وحتى كرامتها مسمحتلهاش انها تفكر تقرب منك حتى وانت بطريقتك دى ، وأنا نفسى لو مكانها كنت عملت كدة واكتر ،
اسمع ياعموا ، ودى آخر مرة هقولك الكلام ده ، طلقها وسيبها تعيش ، تلحق آخر فرصة ليها فى الدنيا دى ، يمكن تلاقى حد يقدر القلب اللى من دهب ده ، ومفيش داعى يكون ده جزائها بعد كل اللى عملته معايا ، ولو فكرت تئذيها اكتر من كدة ، انا اللى همنعك ...
رفع عينيه لها وقد أصابته صاعقة ،
... ايوة ، انا اللى همنعك ، ومش عدم تقدير لحضرتك واللى عملته معايا ، لكن فى النهاية انت راجل ومكملتش 35 سنة ، تقدر تبدأ فى أى مرحلة فى حياتك ، لكن هى عدت 30 ، مبقاش قدامها وقت كتير عشان تبدأ من جديد ...
... إيه ، عايزاها تتجوز ؟
... وليه لأ ، ايه المانع ، هو احنا اشترناها لحسابنا ، جارية عندنا ، ما تسيبها تعمل اللى هى عايزاه ....
لم يرد نادر بكلمة أكثر من ذلك ، تطلع لابنة أخيه لثوانى بغضب عارم ، ثم انسحب خارجا دون أن ينطق بكلمة ، فى قرارة نفسه يعلم انها على حق فى كل كلمة قالتها ، وهو كما وصفته بالفعل بل أكثر ، وأن رانيا لديها كل الحق أن تبدأ من جديد ، والعقل يقول انه من يجب أن يبتعد ، ومن الممكن أن يكون هذا ما أراده فى وقت ما ، فقد اعتبرها لبعض الوقت عقبة فى طريقه ،
لكن لماذا ؟ ، لماذا كل هذا الغضب ، ما سبب حالة الجنون التى دخلها عندما قرأ ورقتها الملصقة على باب الثلاجة ،
لماذا يكره فكرة تحررها منه وارتباطها بشخص آخر غيره ، يمتلك مشاعرها وقلبها وجسدها ،
رجل آخر غيره ، لماذا تصيبه هذه الفكرة بالجنون ،
وصل لبيته وقد ارتكزت فكرة أساسية فى عقله ، يجب أن يراها ، يذهب لها أينما كانت ، يحتاج لأن يتحدث معها بصراحة ليكتشف بنفسه ماذا تريد هى أن تفعل ؟
وقد قرر أن يفعل هذا ، ومن غدا سيبدأ فى تجهيز ما يحتاج إليه السفر لمصر ولو ليوم واحد .
.....................................................
كانت تجلس وحدها فى أحد المطاعم الراقية والتى اختارته بعناية حتى لا تقابل شخصا تعرفه ، حتى الطاولة التى جلست عليها ، طلبتها من النادل منزوية وبعيدة بعض الشئ عن الزحام ،
أكلت طعامها وسؤال واحد يدور فى رأسها ،
لماذا تتجنب الناس بهذا الشكل ؟
هى لم تفعل شيئا خاطئا لتشعر بالخزى منه ،
وقد أصبح ما هى فيه أمرا واقعا يجب أن تتعامل معه ، ولن تبقى مخبئة لرأسها كالنعامة بدون سبب فعلى ، يجب أن تتحرك وتواجه ،
يجب أن تعيش وتواجه وضعها الجديد ،
يجب أن تتقبل نفسها ووضعها الجديد هذا حتى يتقبله الناس .
أنهت وجبتها وحملت حقيبتها بعد أن وضعت بعض المال على الطاولة وانصرفت ،
وقفت لتشير لسيارة أجرة ، فهى لم تبتاع سيارة خاصة بها بعد ،
لكنها فوجئت بسيارة تنحدر باتجاهها فجأة لتتوقف بعدها ببضع أمتار ، وقفت السيارة لثوانى معدودة وكأن صاحبها يتأكد من الواقفة ، ثم عادت للخلف لتتوقف أمامها مباشرة ، كان الزجاج باللون الاسود فلم تتبين قائدها فى البداية إلا بعد أن فتح باب السيارة وخرج منها وهو مبتسم ،
أصابها الضيق من رؤيته ، فقد كان هو آخر شخص تريد رؤيته الآن ، تأملت وهو يقترب ،
مازال يحتفظ بشكله ووسامته التى رأته عليها اول مرة باستثناء بعض الخصلات البيضاء التى زينت شعره ،
اقترب منها والابتسامة تملئ وجهه وهو يتحقق منها من نبتة شعرها إلى أصابع قدميها ،
ويتعجب فى قرارة نفسه عن من احتفظت بهذه الجاذبية طوال هذا الوقت الذى مضى ، أم أنها تجذبه هو فقط ،
... أنا مصدقتش لما لمحتك من بعيد ...
ردت بامتعاض وهى نفس طريقتها فى الحديث معه من سبع سنوات
... ليه يعنى ، حد قالك انى مت ، ولا مش هرجع مصر تانى ...
... مش عارف ، بس كنت متخيل انى مش هشوفك تانى اصلا ...
.... اللى يسمعك كدة يقول إن احنا كان فى بينا عشرة ...
... بالنسبالى اكتر بكتير ، حمدالله على السلامة يارانيا ...
ودت لو أجابت بالله لا يسلمك ، لكنها لم تفعل وفضلت سلامة الحديث حتى تبتعد
.. . الله يسلمك ، بعد اذنك ، عايزة امشى ..
.. استنى هنا ، تمشى فين ، انتى اصلا لوحدك هنا ؟
.. حاجة متخصكش. ..
... لأ يخصنى ، انتى مرات اخويا ، ولازم أسألك واطمن عليكى ...
... متشكرة اوى ، ولو ده سببك فى الاهتمام ، فوفره ، انا مبقتش مرات اخوك ، تسمحلى اعدى بقى ...
مرت من جانبه لتبتعد ، فوجئت به يمنعها بيده دون أن يلمسها وهو يقول
... يعنى ايه ، اتطلقتوا ؟
.. ايوة ، ممكن تشيل ايدك ؟
رفع يده وسمح لها بالمرور وقد اتسعت ابتسامته، مرت هى وأشارت لتاكسى فتوقف ،
ركبت دون أن تنظر خلفها ، وانطلقت السيارة بها بعيدا .
.......................................... ....
قضى الجميع ليلتهم مستيقظين ، كل منهم لديه أسبابه فى حفاء النوم لعينيه ،
حتى أميرة التى تفكر فى موعدها الذى تنتظره ،
وقد حان ، وقررت أن تذهب وترى ، فهى فى النهاية Matilda ، فلماذا لا تذهب وترى وتواجه ،
وصلت لمقر الشركة فى موعدها بالدقيقة ، سلمت على الجميع وانتظرت الشخص المطلوب فى قاعة المقابلات ، فقد تأخر أكثر من عشر دقايق ،
وقبل أن تقرر أن تنصرف ، دق الباب وظهر هو من خلفه ،
وكما اعتقدت منذ يوم أمس ، بدأت الظروف تتحكم بها ، وليس العكس ،
وقفت وهى تطلع للقادم مصدومة من هذه المصادفة ، وتوقف هو أيضا فى مكانه لا يصدق انها هى ، صحيح أنه أعطى الرقم لأحد معارفه ليأتيه باسم صاحبته ، لكنه لم يتخيل أن يقابلها مرة ثانية وبهذه السرعة .
يتبع