رواية تشابك ارواح الفصل العاشر 10 بقلم أمينة محمد الالفي
الفصل العاشر من -تشابك أرواح-
«بداية نظيفة»
إن كان الانتقام سيريح صدرك من العذاب فإنتقم، وإن كان الإبتعاد عن الأذى سيجعلك تتعافى فابتعد، ولكن لا تؤذي شخصًا أنت لن تتحمل منه دعوة قد تصيبك وتُنهى أجلك!
كان ينظر له بين البرهة والثانية يطمئن عليه، بينما «حمزة» يستند بظهره على كرسي السيارة يتأوه بألمٍ فقط، جسده بأكمله مملوءًا بالجروح ووجهه به كدمات تحولت للون الأزرق والتي خرج منها الدماء، تورمت شفتاه وعينه اليُمنى، وها هو الآن خرج برفقة صديقه من المستشفى بعدما قام الطبيب بمعالجة تلك الجروح ووضع عليها اللاصق الطبي وأعطاه المسكنات اللازمة.
وصل به للحارة ليجد بأستقباله «مروان» «وآسر» «الحاج إبراهيم» ورفقته من رجال الحارة الكبار أيضًا «كعبدالستار» و«محسن»، سانده «مروان» مع «عبدالله» وهو يخرج تنهيدة من داخله لحال صديقه بذلك الوضع، والذي أوجعه هو رؤية سيارته المدمرة التي أرسل «عبدالله» أشخاصًا من ورشته ليجلبوها ليروا ما قد يمكن إصلاحه بها.
_"حمدلله ياسلامتك يا أخويا"
قالها «آسر» بحزنٍ لشكله بذلك الحال، بينما هو همس بتعبٍ ناحية «مروان»:
"أنا مش قادر أقف على رجلي يا مروان، طلعوني الشقة"
نظر «مروان» له وهو يتحرك به ولكن أوقفهم صوت«إبراهيم» الذي تدخل بسؤاله بإستنكار:
"عرفت مين عمل فيك كدا ياحمزة؟ أو لمحتهم!"
أومأ له وهو يرفع رأسه وأستقرت عينيه المتورمة التي تدارى خلفها اللون البُني الفاتح، فهو لمح «نادر» بالسيارة التي تحركت أولًا والتقط صورة للوحة الأرقام خاصتها، لماذا قد يؤذي شخصًا بتلك الطريقة كما فعل، ها هو عائد بأحمال ثقيلة على ظهره، ضاع عمله في لمح البصر وانهزم هزيمة كبيرة لا نصر بعدها، أجاب باختصار عليهم:
"نادر المصري ياحاج"
احتدت ملامح «إبراهيم» وأظلمت عينيه بغضبٍ جامح، بينما صُدم الواقفين جواره لتلك الجملة التي خرجت منه، لكل منهم مشاعر مضطربة مختلفة عن غيره، الأمر أصبح الآن أكبر من أي وقت سابق، الخيوط تتداخل ببعضها والعذاب يجتاح حياتهم جميعًا في الفترات القادمة.
تحركوا الثلاثة يساندون «حمزة» ناحية شقته والتي فتحت لهم «رزان» وهي ترى أمامها «حمزة» بجروحه تلك، توسعت عينيها بصدمة عندما أبصرته بذلك الشكل ولم تتحكم بصرختها التي خرجت بفزعٍ:
"يالهـــوي!"
تنهد وهو يبعدها بتعبٍ هامسًا:
"متصوتيش، أنا كويس"
دلف وهو يعلم أن القادم لن يكون بخيرًا، والمقصود بالقادم هو عندما تراه أمه بذلك الشكل المزري، بينما تقف «رزان» بالخلف وعينيها متجمعة بها الدموع على حاله.
انتبه الجميع لصوت انكسار صحنٍ وقع للتو من يد أمه التي خرجت من المطبخ على عجلةٍ من أمرها عندما استمعت لصرخات «رزان» ورأته الآن، صرخات متتالية من أمه وهي تقترب منه وتذرف الدموع بقلق كاد يخلع قلبها:
"يالهوي يالهوي يالهوي، مين عمل فيك كدا يابني، مالك ياحبيبي مين عمل فيك كدا ياحمزة!"
ساندها «عبدالله» وهو يخرج تنهيدة عميقة فهي فقدت أعصابها للتو بينما ساند «مروان» الواقف رغمًا عنه من التعب ليجلس، خرج صوت «عبدالله» يهدئ من الوضع:
"أهدي ياخالتي بالله عليكِ، حمزة كويس أهو الحمدلله هو بس خدله علقة كدا والحمدلله"
_"علقة إيه يابني دي، هو حمزة بيعمل لحد حاجة عشان يحصله كدا ياعبدالله، في إيه ياحمزة طمن قلب أمك ياحبيبي"
قالتها ببكاءٍ مرير أوجع قلبه على حالتها تلك، فهو يقبل رؤية أي شيء بالحياة إلا دموع أمه الغالية، ذلك ما هابه من اللحظة الأولى، وهو وقت معرفة أمه بما حدث له، تحدث بصوت خفيضٍ متعب:
"أنا كويس والله يا أمي متقلقيش، امسحي دموعك الله يكرمك ومتعيطيش"
كانت هنالك عيون متربصة على «رزان» الواقفة برجفة، يديها ترتعشان فتضمهما لبعضهما لتحاول تقليل خوفها برؤية «حمزة» بذلك الشكل، ولم تكن تلك العيون سوى خاصة «بآسر» الذي يحاول تذكر أين رآها من قبل، زاد الأمر سوءًا عندما رفع «حمزة» بصره عليها هو الآخر وتلاقت أعينهما بنظراتٍ غريبة لن يفهمها الموجودين، ثم أبعد بصره عنها ونظر ناحية «آسر» الذي سأل بإستنكار:
"أنا شوفتك قبل كدا في حتة مش فاكر فين؟"
وكأنها كانت بعالمٍ آخر عندما سمعت صوت «آسر» فُزعت وانتفض جسدها بعنفٍ:
"أنا؟ فــ..فين؟"
تربصت العيون جميعها على «آسر» بإستغراب، ليتحدث «مروان» يشرح له الموقف مسترسلًا:
"دي مرات نادر المصري أصلًا يا آسر، دي اللي حمزة لقاها عاملة حادثة وجابها عشان يساعدها!"
همهم «آسر» بتفهم وهو يحرك رأسه بهدوء، ثم ألقى نظرة عليهم وعاد يوجهها لها قائلًا في محاولةٍ لعصر عقله ليتذكر:
"المشكلة إني بجد شايفها في حتة قبل كدا و.. نادر المصري، يعني دي بنت شوكت ماهر؟"
أومأت له سريعًا برأسها والأمل تجدد للحظة على وجهها وهي تسأله بتلعثم، وداخلها ألف شعورٍ يتخبطون ببعضهم:
"آه بابا، أنت تعرفه!"
_"أنا شغال في شركته أصلًا، بس هو مش في مصر دلوقتي ده في دبي"
قالها «آسر» وهو يجلس على الكرسي المجاور للباب، بينما هي تلألأت عينيها كمن عثر على كنزٍ مُخبأ بإحدى الأماكن المهجورة ليكن له وحده، كانت تلك حالتها، تعيش في عالمها المهجور وحدها تبحث عن العون لتخرج من الظلام الذي أهلك حياتها:
"بجد والله؟ طب أنتو فالشركة تعرفوا تتواصلوا معاه بأي شكل من الأشكال!"
هنا تدخل «حمزة» وهو يطالعها بشكلها الذي تبدل بين اللحظة والثانية، لتصبح أكثر بهجةً ولمح اللمعة التي بعينيها تلك التي جعلت شيئًا ما يتحرك داخله تجاهها، وبالأخص تجاه مساعدتها ليراها بذلك الشكل الفرح:
"ماهو رد عليا يا رزان، وقولتله المكان نفسه اللي قولت لأختك عليه، أنا بصراحة معرفش رد عليا تاني ولا لا بس هشوف ونوصل معاه لحل، لو مقدرناش آسر يشوف يعرف يوصله من الشركة ولا لا"
أخرجت تنهيدة عميقة من داخلها وهي تومئ برأسها له وتحرك بعدها «عبدالله» يربت على كتف «حمزة» كنوعٍ من أنواع إعطاء القوة لصديقه الحبيب، وتحدث بابتسامة:
"هنسيبك ترتاح، والعربية بتاعتك هتخلص على ايدي ان شاء الله"
احتل الوجوم ملامحه وكأنه تذكر أمر سيارته التي تدمرت بالاجهزة التي بها، والتي أشتراها بعد عذابٍ وكسب نقودٍ من أكثر من عملٍ كدح بكل جدٍ فيهم ليجد لنفسه مشروعًا يليق به وإن كان الواقع ينافي ذلك، فهو درس واجتهد ولكنه لم يحظى بأي عمل يليق به، تعالت السخرية على وجهه وهو يجيب بتهكم:
"عربية إيه بقى، ماكينة القهوة اتدمرت وكل حاجة في العربية خربت ياعم عبدالله، اتكل على الله أعمل فيها اللي تعمله، أنا أصلًا باللي فيه ده مش هعرف أتحرك فأي مكان دلوقتي"
تنهدوا جميعًا بحرارة على حالته، فهم يعلمون أنه يحب العمل، وأنه يحمل مسؤوليات أمه ونفسه الآن من الألف وحتى الياء، تأكدوا أن ما داخله الآن أكبر من مجرد شجار تعرض له وضُرِب به، بل سيعاني بتفكيره في كيفية البحث عن عملٍ مرة أخرى ليكمل هذه الحياة التي تلاعب الإنسان كأنه عروس ماريونيت تأخذه أينما تريد وفي النهاية تلقي به بعيدًا وكأن لا حاجة له في هذه الحياة، ليُكمل عليه وصلة التأنيب والتعنيف للنفس.
اقترب «مروان» جالسًا على ركبتيه أمامه وهو يربت على ذراعه من الأعلى، يحاول بث به الطمأنينة ويسانده في محنته:
"في إيه ياصاحبي أنت مش راضي بقضاء ربنا ولا إيه، هي العربية دي نصيبها كدا ربنا أكيد مخبيلك حاجة أحسن يا حمزة، مخبيلك الحلو كله وهيراضيك بيه في الوقت المناسب، وبعدين الفلوس والحوارات دي بتيجي بالرزق، يعني أنت ملكش نصيب تدخل رزق بيتك الفترة دي فخلاص أنت هتسعى عشان تشوف مصدر رزق تاني، ربنا قال في كتابه العزيز «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، لعل وجودك على العربية دي كان هيبقى شر وربنا نجاك منه ياحبيبي، متزعلش نفسك وتعمل في نفسك كدا وأرضى بقضاء الله وقدره، وأحنا جنبك كلنا محدش فينا هيشيل أيده من أي حاجة، وحقك هيرجعلك تالت ومتلت لحد عندك وبأيدك ياحمزة بس اصبر لأن هما جايلهم التقيل قريب"
وكأن كلمات صديقه كانت كالدواء شفت الداء الذي داخله، أتت بوقتها تداوي كل الجراح التي داخله، يتعافى الإنسان بوجود أصدقاء جيدين بحياته، وتأتيه النكسة بوجود السيئين، وهو حظى بأصدقاء لن يعوضوا بتاتًا.
ردد بصوت خفيض بتنهيدة عميقة وهو يرفع يده يمسد على شعره بعنقه للخلف:
"ونعم بالله يا مروان، راضي الحمدلله"
ابتسم «مروان» برزانة وربت مجددًا على ذراعه وهو يتحرك من مكانه ليغادر رفقة الشباب ولكن قبل أن يغادر سأل والدة «حمزة» بابتسامة خافتة تحمل الأدب:
"لو أحتجتي حاجة ياخالتي كلمي أي حد فينا، محدش هيتأخر!"
_"كتر خيرك يابني، كتر خيرك ياحبيبي"
قالتها وهي تتحرك لجواره وتربت على كتفه بحنانٍ بينما هو ابتسم بوجهها وغادر مع البقية، أغلقت خلفهم الباب وعادت نحو ابنها وهي تتحدث بتنهيدة حزينة تحمل خلفها خليطًا من الحزن والهم الذي أحتلها لأجل ابنها وحيدها:
"هقوم اعملك حاجة تاكلها ياحبيبي، ارتاح"
كان شاردًا وعينيه تنظر نحو اللاشيء، ولكنه استمع لحديثها واكتفى بالايماء لها لتتحرك هي نحو المطبخ، واستقرت عينيه على الواقفة أمامه شاردة هي الأخرى، توقع بما قد تكون تفكر ويعلم أن داخلها يحمل الكثير والكثير من الألم، داخلها خدوش لن تتعافى بسهولة.
حاول افاقتها من شرودها ناظرًا نحوها بإمعانٍ، وبنبرة عميقة نبس:
"رزان، اقعدي واقفة كدا ليه؟"
_"ها.. آه هقعد"
فاقت من شرودها على حديثه واقتربت تجلس أمامه وهي تضغط بأظافرها على يدها لدرجة أنها كانت تترك خلفها العلامات التي تحولت لخرابيشٍ حمراء، استشعرت يديه فوق يديها بدفئ لم تشعر به يومًا، فرفعت نظرها سريعًا له وتركت عينيها تحكي كل شيء، عينين خضراء لامعة كاللؤلؤ وبها الاستياء والحرقة، وكأنها كانت تنتظر لمسة كتلك تواسي قلبها فأجشهت بالبكاء بغصة أليمة كانت متوقفة في صدرها، وحاولت الاعتذار عن شيء لا دخل لها به:
"أنا آسفة والله حقك عليا، أنا من ساعة ماشوفتك وأنت داخل كدا وعرفت إنه نادر اللي عمل فيك كدا، بالله عليك متزعلش وحقك عليا من كل اللي حصل للعربية بتاعتك وشغلك، أنا وعدتك وهوفي بوعدي بأني هخلي بابا يساعدك ويعوضك عن كل ده"
سحب نفسًا عميقًا وهو يربت على يديها بحنانٍ وتحدث بنبرة تحمل المواساة له ولها في ذات اللحظة، وتفوه بأسى حاول مدارته في نبرة خافتة:
"إيه يارزان بلعتي راديو، أهدي ومتقلقيش وبطلي تتأسفي على حاجة ملكيش ذنب فيها، أصلًا نادر ميعرفش إنك هنا، نادر بينتقم لسبب تاني يخص الحارة وجابها فيا، يعني زي ما تقولي تهويش وتهديد لينا، وعادي ياستي أنا راضي عن كل حاجة حصلت، متقلقيش ومتفضليش مشيلة نفسك ذنب بس"
كانت تتابع حديثه ولكن عقلها شرد بشيء آخر لا تعلم لِمَ أتى على بالها الآن، لا تعلم لِمَ الحزن يسير خلفها ملتصقًا بها يأبى الإبتعاد عنها، شرد عقلها لليلة ثقيلة على قلبها لا تستطيع إخراجها من ذاكرتها، ودون وعي منها كانت تحكيها له، كانت تشعر وكأنها تقف تراقب نفسها رفقة نادر وهو يمارس عليها كل أنواع العذاب الجسدي والنفسي.
كان مُمسكًا بها بقوة من شعرها الذي كان مازال طويلًا يصل بالتحديد لمنتصف ظهرها، يجذبها خلفه نحو غرفة تقمتها لأنها رأت بها كل أنواع العذاب الذي لم تشهده بحياتها ولا حتى بخيالها، أمسكها من يديها ووضعها بقوة ضد الفراش يربطهما في حديد الفراش، ثم سحب حزامه الجلدي من بنطاله وهي تبكي وتتوسله بأرتجاف:
"بالله عليك ارحمني، أبوس على ايدك ورجلك متعمليش حاجة أنا جسمي كله واجعني من آخر مرة ضربتني فيها، بالله عليك سيبني في حالي بقى يانادر كفاية كفايــة بقـى بالله عليك"
ابتسم «نادر» بشرٍ وخبثٍ كشيطان متجسد في هيئة إنسان، شكله كان مخيف بحقٍ، يحمل داخله كل أنواع الحقد والانتقام، العداء والكراهية لكل شيء وأي شيء، فشخصٍ مثله لا يعلم معنى الحب أو العطف، لا يعرف كيف يحب بالأساس، هذا داخله نقطة سوداء تكبر يومًا بعد يومٍ ثم ستملئه ليموت بشره ذلك، تحدث من بين أسنانه ببغضٍ وتهكم:
"أنتِ مبتسمعيش الكلام يا رزان وبتعصبيني، يبقى لازم تتربي ياحبيبتي، التربية حلوة برضو"
كان يبرم الحزام على يده ممسكًا به بأحكام وهوى بأول ضربة فوق جسدها لتصرخ بأعلى صوتها، صرخة دوت بأرجاء المنزل خرجت من حنجرتها المتألمة من صراخها كل ليلة على هذا الوضع، جسدها الذي فارت به الدماء كماءٍ غلى ولم يجد من يبعده عن النار، كانت تنتفض بمكانها مع كل ضربة تهوى على جسدها مع صرخة أعلى ألمًا من السابقة.
انتهى به الأمر وهو يرمي الحزام بعيدًا بأنفاسٍ لاهثة ومال نحوها يجلس على ركبتيه يفك قيدها بينما هي تنظر له بطرف عينيها برعبٍ واضح، شفتيها ترتجفان ووجهها احتلته بعض الجروح التي نشأت من ضرباته العشوائية، حتى جسدها الذي لم يكن يغطيه سوى قطعة فستانٍ خفيف تقطع منه القليل بسبب قسوة الضرب.
همس أمام وجهها بتشدقٍ وكره:
"بعد كدا متعمليش الحركات الوسـ.خـ.ة دي تاني ياروحي ماشي، تستعبطي وتعملي نفسك البت المسكينة قدام أمي وأختي ميتكررش تاني، محدش فيهم هينجدك أصلًا ولا هيساعدك أنتِ فاهمة!"
ضرب عدة صفعات خفيفة على وجهه لتهز رأسها بثقلٍ وأنفاسها العالية المضطربة تحاول إخراجها بصعوبة، تابعت يده التي تُخرج مقصًا لا تعلم من أين أتى به، لتُفزع بشكلٍ أكبر وهي لا تعلم ما الذي قد يفعله الآن بذلك، لا تعرف خطوته القادمة ولا تستطع معرفتها أبدًا؛ فهو كل مرة يفاجئها بشيء جديد يفعله، وتأكد شعورها عندما وجدته يمسك شعرها بين أصابعه بقوة ويبدأ بقصه بعشوائية، أغمضت عينيها بقوة تستمع للصوت الصادر من قص شعرها بقهرٍ شديد، ندبت حظها اللعين الذي أوقعها به وهي تنتحب بالبكاء المرير
لم تقوى على فعل شيء أمامه ولا حتى إبداء أي رد فعل له، فقط مستسلمة لكل العذاب الذي تلقته على يده في تلك الليلة التي انتهت بها مغشيًا عليها لا تعلم ما الذي أكمله عليها بالأساس.
أجهشت بالبكاء مستعدة لدخول دوامة كبيرة ستآكل كل الأجزاء التي كادت أن تتعافى، لتعود مجددًا لنقطة الصفر في شكلٍ مؤذي للنفس والروح، ضغطت على يديه الممسكة بيديها والتي كان يضغط عليها هو بمواساة.
لا يعلم كيف تمكن من سماع كل ذلك الآن؛ فهو تملكته رغبة كبيرة بتقطيع «نادر» لأشلاء ووضعه لإحدى الكلاب المارة التي بالتأكيد قد تُسم لأكلها للحم شخصٍ مثله، يحترق قلبه عما تحكيه وتشتت روحه أكثر، الآن علم حكمة ربه في وضع تلك الفتاة أمام عينيه ومساعدته له، حمد الله أنه لم يتركها ذلك اليوم وأتى بها لهُنا، لا يعلم ما قد كان سيصيبها وقتها إن تركها ولكنه بالتأكيد أمرٌ مرعب لا يستطيع الشخص الطبيعي تصوره.
تردد في إخراج الكلمات التي لا يعلم كيف يمكنه صياغتها وشدد على قبضته ليديها وهو يطالعها بذلك الشكل، وأخيرًا قرر التفوه بنبرة هادئة تحمل الطمأنينة:
"كان نصيبك من الدنيا يا رزان بس ربنا أختار إنك تقعي قدامي عشان أساعدك وأهربك منه، أحمدي ربنا على ده، تاني حاجة نادر ده شخص مريض ميستاهلش وجودك في حياته أصلًا وأنتِ اعتبري نفسك خلاص مبقتيش في حياته بس لازم تنسي كل ده وتمسحيه من جواكِ عشان تعرفي تكملي وتعيشي، وده عشانك أولًا وبعدين عشان أهلك اللي مش هيحبوا يشوفوكِ بالشكل ده"
هزت رأسها بالنفي بعنفٍ وهدرت ببكاءٍ مرير وصوتٍ متحشرج:
"أنا تعبانة أوي وجوايا كله نار، أنا مش هعرف أنسى أي حاجة يا حمزة، أنسى إيه ولا إيه ولا أشيل إيه من دماغي! الموضوع أكبر من كدا أنا عشت معاه حاجات صعبة كتير لو فضلت أحكيها مش هخلص، طب ليه حظي كدا أنا مأذتش حد في حياتي والله"
تنهد بعمقٍ وهو يومئ برأسه لها، كانت تراوغه غصة تتلاعب في حنجرته ولكنه حاول إخراج الكلمات لأجلها:
"ده مش حظ، ده نصيب من عند ربنا وأنتِ ألف شكر لله خلاص بعدتي عنه وأكيد ربنا هيعوضك عن ده والله ووقتها هتبكي فرح من العوض اللي ربنا هيطبطب بيه على قلبك، ولو شايفة صعوبة في التعافي ففي خطوات كتير أوي تقدري تعمليها بس بعد ما تخلصي من نادر بشكل نهائي، يعني حاربي عشان تنتقمي لنفسك وتطفي النار دي وبعدين ارتاحي ده حقك، وأنا وعد مني والله ما هسيبك غير وحقك في إيدك كمان"
تفاجئ بها تميل برأسها تستند على كتفه وتضغط بقبضتها على يده وأكملت بكاءها على هذا الحال، نبضات قلبها متسارعة كدق الطبول داخلها بقهرٍ، لسانها عُقد عن الكلام، الشهقات تخرج من أعماقها من بين بكاءها.
تقطع فؤاده عليها وظل مكانه لم يتحرك تاركًا إياها تخرج غصتها المتألمة تلك، ولم يكن هناك شاهدًا واحدًا على ما قيل الآن سوى أمه المتوارية خلف الستار تستمع لها والدموع شقت مجراها على خدها هي الأخرى حُزنًا على تلك المسكينة!
__________
خذ بتارك من الأيام التي مضت، والأيام التي تعيشها الآن، وحتى القادمة أيضًا، لا تترك لشخصٍ في هذه الحياة نفسك ليؤذها وتصبح أنت المُنكسر الضعيف الذي تهينه الحياة.
كان يسير رفقة صديقه تجاه منزلٍ من ضمن منازل الحارة القديمة، بعيدًا بعض الشيء عن المجلس وعن بيوت الأصدقاء الأربعة، أخرج من جيبه علبة أعواد الثقاب وأخرج واحدًا وضعه بفمه يضغط عليه ليُفرغ شحنة غضبه عليه ويخفف من ضغطه.
كان يطالعه «عبدالله» وهو يضعه بفمه وضحك بتشدقٍ، فهو يعلم أن صديقه يحاول التخفيف عن ضغطه بتلك الطريقة التي بدأ فعلتها لأول مرة منذ خمسة سنوات ومداومًا عليها حتى اليوم:
"بالله أنا لو مكانك ما هحط الكبريت كدا فبوقي، أنا اللي هيضايقني هشق الكبريت في علبته وأولع في اللي قدامي، أصلي بحب ترييح الدماغ شوية"
ضحك «مروان» بخفة عليه وأجابه بمزاحٍ:
"تصدق فكرة، بس بعدها هنتشوي في نار جهنم"
شاركه الآخر بالضحكات حتى وصلوا أمام منزلٍ مكون من طابقٍ واحد ودلفا سويًا نحو باب الشقة ورفع «عبدالله» يده على الجرس ولم ينزله بالرغم من الصراخ القادم من الداخل بضيقٍ:
"مين الحيوان اللي أيده عالجرس كدا و.."
فُتح الباب ليتلاقا الثلج والنار، هو الثلج وهما النار آتيا ليأخذا بتارهما، الأول لأجل المسكينة المخطوفة، والثاني لأنه هدد حبيبته!
ابتلع «فتحي» غصته وهو يطالعهما بإمعان في محاولة منه لتبرير الموقف، وأردف بتلعثم:
"أهلًا وسهلًا، أنا والله كنت لسه بلبس وجايلكم أهو عشان عاوز أتكلم معاكم في موضوع يعني"
ابتسم«عبدالله» بنزقٍ ودفعه للداخل ودخل وخلفه «مروان» الذي تبدلت ملامحه لأخرى حانقة، رفع «عبدالله» يده على كتف «فتحي» يضغط عليه بقوة وتحدث بسخرية:
"ما إحنا قولنا نجيلك بنفسنا عشان متتعبش نفسك ياجدع، كله إلا تعبك يافتحي يا حبيبي، قولي بقى أنت ليه بتحب تروح لحاجة مش بتاعتك؟"
حاول «فتحي» إبعاد يد «عبدالله» الثقيلة عن كتفه وهو يرفع يده يبرر فعلته تلك بتلبكٍ واضحٍ على وجهه، كفريسة دخل عليها للتو المفترس:
"بص والله أنا هفهمك، أنا سألت مديحة وقولتلها إني عايز أتعرف على البت دي يعني وهي قالتلي هي عادي بتتعرف ومن البنات المتدلعة وبعدين قالتلي تعالى البيت واتعرف عليها وأنا والله والله ماكان قصدي حاجة أبدًا"
_"ياغتي نوغة، بتسمعي كلام مديحة ياحلوة"
قالها «عبدالله» ساخرًا بنزقٍ، ليتحدث بعده «مروان» بحدة:
"هنقول مديحة اللي قالتلك تروحلها البيت، أنا منبه عليك قبل كدا لما روحتلها المجلس وقولتلك أبعد عنها صح الكلام؟ صح الكلام، أنت إيه خلاك تروحلها تاني بقى!"
وقبل أن يجيب سأله «عبدالله» بعينين مظلمتين حادتين كصقرٍ يطالع فريسته:
"وبتهدد تسنيم ليه؟"
وجه«مروان» نظره ناحية «عبدالله» الذي مثّل التجاهل فهم هنا بالأساس لأجل «سيلين» وليس «تسنيم» ولكن العاشق لم يهدأ ولن يفعل.
أجابه «فتحي» متلعثمًا في حديثه بتوترٍ بدى على قسمات وجهه:
"حقكوا عليا والله مش هكررها لا هقرب من تسنيم ولا من بنت وليد الأنصاري"
همهم «عبدالله» بتفكيرٍ لأجابته التي لم تدخل عقله ومازالت عالقة بالخارج لا يود أن يصدقها، أدار وجهه ناحية «مروان» يسأله بسذاجة مصطنعة:
"أنا مش مصدق بصراحة، أنت مصدق؟"
هز «مروان» رأسه بالنفي لصديقه ثم وجه بصره ناحية المرعوب منهما فهو يعلم أنهما لا يتركان حقوقهما ويهابهما كما يفعل بقية أهالي الحارة، فلهما هيبة وسط الجميع لا يمكن تجاوزها، أردف «مروان» بابتسامة مصطنعة ودودة:
"بس هنسيبه يا عبدالله عشان هو عمال يرتعش، أنا عارف إن ديل الكلب عمره مايتعدل بس هنعمل نفسنا مصدقينه، بس لو حصل أي حاجة تاني متلومش على ردة فعل أي حد فينا، والكلام ده هيوصل للحاج إبراهيم، أصله بصراحة مينفعش يفضل مخدوع فيك كدا، إحنا اللي بيستغنى عننا بنستغنى عنه، ماشي يافتحي يا أخويا؟"
أماء له برأسه بطاعة وأبعد «عبدالله» يده عنه ثم مدها مجددًا ناحية ملابسه يهندمها وتفوه بتهديدٍ هو الآخر:
"مروان أخويا مؤدب شوية، أنا مش مؤدب بقى وفيا كل قلة الأدب اللي في الدنيا دي، فلو الموضوع ده اتكرر تاني متلومش قلة أدبي لما تشوفها عشان وربنا وقتها ما هرحمك يافتحي وأنت عارف إني أعملها زي ماعملتها مع الكلاب اللي زيك قبل كدا"
قصّد بكلامه أحد أصدقاء «فتحي» الذي كان يتردد ناحية الحارة ويضايق بناتها، فهو له مجموعة أصدقاء قذرين مثله، وقتها أمسكه «عبدالله» وسط الحارة والجموع وعلمه ما لم يتعلم وسط أهله، وضربه ضربًا مبرحًا حتى ركض الآخر من بين يديه متأسفًا ونادمًا ولم يعد من يومها للحارة!
أبتعد «عبدالله» عنه وغادر وتبعه «مروان» الذي ألقى نظرة حالكة عليه أخيرة، كان يسير جوار «عبدالله» وهو يفكر في قلبه الذي لم تخرج منه «تسنيم» والتي يبدو وكأنها لن تخرج، فهو جرب الحب ويعلم مذاق العذاب جيدًا في كيفية نسيان الحبيب، كاد أن يتحدث ولكن «عبدالله» قاطعه بقوله بهدوء يحاول أن يعلل له وكأنه كان يعلم أن صديقه يفكر في نفس الشيء:
"أنا لسه عطلان عند حتة إنه هدد تسنيم عشان كدا اتكلمت، أنا طول ما أنا عايش محدش يقدر يهددها ولا يقولها تلت التلاتة كام، ماعدا أبوها يعني!"
أنهى كلماته بضحكة ساخرة تلتها ضحكة «مروان» عليه جاذبًا إياه نحوه وذراعه حول كتفه:
"أرحمني يا أخي بقى بالله عليك"
سارا ناحية أعمالهما بضحكاتٍ بينهما يُحسدان على تلك الصداقة من الجموع، وكل شخصٍ هُنا يضرب بهما الأمثال في الإخوة.
_______________
يومٌ لك ويوم عليك، وتسير الحياة بما لا تشتهي الأنفس، ولو ذاق العبد المُر سيختار طريقًا من اثنين؛ إما الهلاك او النجاة، وكل مُقدر من عند الله.
حل المساء وأقتربت ساعات الليل، كانت تجلس بغرفتها بعيدًا عن العائلة بأكملها ممسكة بهاتفها بيديها والإبتسامة تعلو شفتيها، مفتوحًا على محادثة بينها وبين شخص ما يغرقها من الكلام المعسول أبياتًا وأشعارًا، حتى ثمل عقلها بما يقول لدرجة أنها لم تعد تفرق بين الحقيقة والخداع.
كانت تجلس على مكتبها الذي تدرس عليه وأمامها كُتبها التي لا تعبئ بها بالأساس ولكنها تخدع أهلها بأنها تدرس الآن ولا مجال للتحدث معها في هذا الوقت حتى تنتهي، خدعة من الأجيال يلقونها على أهاليهم فيصدقون، ولكن الخداع نتيجته مُرة، وقاسية.
دلفت عليها أختها وهي تتحدث بهدوء وتتناول بين يديها العباءة لترتديها:
"تارا أنا رايحة عند الست فاطمة أشوف البت اللي جابوها هنا للحارة عشان هي تعبانة شوية"
فُزعت من دخول أختها المفاجئ وتوترت، التفتت تنظر لها وأغلقت الهاتف وهي تجيبها:
"طيب ماشي، أنا بذاكر لسه قدامي شوية!"
طالعتها «تسنيم» بتمعنٍ وهي تحاول استنباط لِمَ أختها خافت بذلك الشكل، ولكنها حاولت أبعاد الظنون السيئة عن عقلها وأقنعت نفسها بأنها كانت شاردة وخافت عندما دخلت هي بشكل مفاجئ، أردفت بابتسامة هادئة:
"ربنا يوفقك ياحبيبتي، أنا خلصت المطبخ والأكل، تامر أخوكِ احتمال يجي النهاردة بدري من شغله لو جه وأنا لسه مجتش معلش أبقي حطيله أكل خليه ياكل قبل ماينام، وأبوكِ أنا حطتله وكل ودخل يريح شوية"
_"آه تمام حاضر"
قالتها «تارا» بإيجاز لها لتغادر وبالفعل غادرت «تسنيم» نحو منزل «الحاج إبراهيم» وداخلها تتمنى ألف مرة ألا تراه حتى لا تضعف وتعود لنقطة الصفر في محاولة إخراجه من عقلها، فَرض عليها الواقع الإبتعاد عن الحبيب؛ فأصبحت بلا قلبٍ وروحٍ فقط جسدٍ يعيش ينتظر يومه لينتهي من هذا العالم.
صعدت السلالم لتجده خارجًا من شقة «مروان» ورآه أمام عينيه، طالعها لثوانٍ وتسمرت هي مكانها تنظر له تحاول ابتلاع الغصة التي توقفت بحلقها، وما صدمها أنه لم يعرها إهتمامًا بل أكمل نزوله وهو يدندن بصوتٍ خفيض:
"اللي باعنا خسر دلعنا، راح لحاله يلا يودعنا، بالسلامة والقلب ناسيه، آآه واللي باعنا خسر دلعنا .."
تخطاها كأنه لا يعرفها وهي عينيها تسير معه في كل حركة وكأنها علقت على شيء جذابٍ لا تستطيع التخطي عنه، لِمَ يدندن لها تلك الأغنية بالأخص؟
أيقصدها للتو في كلماته، وتأكدت عندما غادر البناية بأكملها وظلت هي واقفة عالقة مكانها وروحها تأبى الارتياح والإستقرار.
بينما هو عندما خرج من البناية أخرج تنهيدة عميقة من داخله كانت عالقة تحمل القهر الشديد على حاله الآن، من أحبها لا تريد الحياة مساعدته في الحصول عليها، وكأنه عدو لها ولنفسه لا تقبل ارضائه ولا هو يقبل التخطي قدمًا.
تحركت بجسدها نحو شقة أهله حاملة فوق أكتافها خذلانها من كل شيء مرت به في الحياة، أولهم فقدانها لأمها في عمرٍ هي بأشد الحاجة لها فيه، ثانيهم فقدانها لشخصٍ يحبها حبًا كبيرًا مثله، ثالثهم أبًا قاسيًا عليها وأختًا تحملها موت أمها وأخًا مشغولًا طوال اليوم بعمله بالكاد يروه، وآخرهم هو تلك الجامعة التي تدرس بها رغمًا عنها لأجل أن يقال عنها طبيبة!
طرقت الباب طرقاتٍ خفيفة فوجدت من يفتح لها «سيلين» بعينين بهما التيه، وكأنها ترى انعكاسها بتلك الفتاة الآن فتنهدت بعمقٍ وسألتها:
"أنتِ كويسة؟"
كانت عيناها مُعلقة على «تسنيم» بإضطرابٍ لمشاعرها التي توترت بقوة خلال اليومين الأخيرين، أجابتها وداخلها ألف شيء يدور في القادم، تُرى أترغب في مُصداقة أم ترغب الاطمئنان فقط:
"I'm fine thanks، حابة تدخلي؟"
أومأت لها «تسنيم» ودلفت وهي تبحث بعينيها عن «فاطمة» وتقوس حاجبيها وتبدلت ملامحها للاستغراب وهي تتسائل:
"اومال خالتي فاطمة فين؟"
أغلقت «سيلين» الباب خلفها والتفتت تنظر نحوها مشيرة بأصبعها ناحية المطبخ ثم تحركت عدة خطواتٍ له:
"في المطبخ، بتعمل أكل وكدا"
اتجهت خلفها ناحية المطبخ هي الأخرى حتى استقرت عينيها على «فاطمة» فابتسمت لها بودٍ وأقتربت تضمها من ظهرها ويديها حول كتفها بأشتياقٍ واضح:
"وحشتيني أوي يافطوم، عاملة إيه؟"
ربتت «فاطمة» على يدها بضحكة خفيفة وهي تقول بحنانٍ بالغ لتلك التي تعتبرها كابنتها الثانية، كانت المُقربة من المرحومة«عهد» وها هي مازالت هنا تواسي أمها و«عهد» لم تعد هُنا!
كانت هناك عينان زرقاوتين متربصتان عليهما بنظرات تحمل الألم والاشتياق للحنان ذلك الذي لم تستشعر به يومًا، ماتت أمها وهي بعمر السنتين فقط، بالكاد كانت تعرف التفرقة بين الكلمات البسيطة وكان قلبها مُعلقًا بها بشدة وقتها، ولكن أخذ الله روحها لتستقر في السماء ودُفن جسدها ليستقر تحت الأرض، وهي هُنا مُعلقة بين الأرض والسماء بلا حول ولا قوة، وضاعت في ظلمات الحياة تنافس كل شيء وكأنها بسباقٍ لا تعلم متى ستربح به أو حتى تخسر، حتى وصلت هنا في بئر عميق مظلم، حاوطها الحُزن ويبدو وكأنه .. انضجها.
يبدو وكأنها شردت لكثير من الوقت لأن «تسنيم» تحاول التحدث معها منذ برهة وهي لم تكن معهما في العالم بالأساس، أجابت بتيهٍ وهي تنظر لها:
"ها، I'm here"
كانت تطالعها بشكٍ وسألتها بنبرة هادئة ولكنها تحمل بين طياتها الحنان:
"أكيد؟ فيكِ حاجة أو تعبانة؟"
اكتفت الأخرى بهز رأسها بالنفي وغادرت من المطبخ نحو الخارج لتجلس على أقرب أريكة وهي تضم قدميها نحوها، تود أن تطلب من أحد أن يشتري لها أمورًا عدة تخص أي فتاة، تريد أن تغسل شعرها بشكلٍ جيد وتعتني به ولكن حتى الاستحمام هنا صعبٌ؛ فتصميم المرحاض هنا مختلفًا تمام الاختلاف عن تصميم مرحاض بيتها، كل شيء مُختلف هنا حتى في النوم.
لمحت «تسنيم» تقترب منها وجلست جوارها وهي تربت على كتفها بحنانٍ ونبست بخفوتٍ مع ابتسامة بسيطة شقت فمها:
"لو فيه حاجة حابة تحكيهالي أحكي، أدينا قاعدين سوا يعني!"
ابتلعت ريقها ونظفت حنجرتها تحاول إخراج الكلمات بشكلٍ مرتب وتحدثت بصوتٍ خفيض:
"بصراحة أنا فعلًا محتاجة حاجات من الصيدلية، وعايزة شامبو نوعه كويس لشعري، وعايزة Bofy lotion,
I feel disgusted of myself"
<أشعر بالاشمئزاز من نفسي>
نظرت لها «تسنيم» بطرف عينيها تُباغتها بسخطٍ ثم تفوهت بتشدقٍ:
"لا يبقى متحكيش، خليكِ ساكتة أحسن"
أنهت كلماتها بضحكة خفيفة لتشاركها «سيلين» أيضًا بها وأعادت خصلاتها لخلف أذنها، خطر على بالها شيئًا فتحدثت به بسرعة:
"Ok look, ينفع تعلميني اتوضى إزاي؟"
رفعت «تسنيم» حاجبيها بدهشة وطالعتها بشكلٍ كامل حيث استدارت بجسدها نحو «سيلين» وسألتها:
"هو أنت مبتعرفيش تتوضي؟"
أجابتها الثانية بنفي وهي تُخرج تنهيدة عميقة من داخلها تحاول استجماع شتات نفسها لتحكي لها هي الأخرى وبالرغم من أن الكلام ثقيلٌ عليها:
"آه أنا مبعرفش أصلي بصراحة، ولا بعرف اتوضى، فممكن تعلميني لأني محدش علمني!"
خرجت «فاطمة» على كلماتها من المطبخ وهي تطالعها بشفقة على حالها، أثرت كلمات «سيلين» بها فتحرك جزءًا ما داخلها من تلك التي تطلب التقرب من الله وهي لا تعلم أي شيء، فأي حياة كانت تعش؟
جلست جوارها ومازال بصرها مُعلقًا عليها مما زاد توتر «سيلين» التي وجهت بصرها لها لتلك النظرات الغريبة بالنسبة لها، تدخلت «فاطمة» بالكلام الذي أردفت به بنبرة هادئة تحمل الشفقة:
"أنتِ عمرك ما صليتي؟"
لماذا يضغطون عليها كلهم بذلك السؤال الاستنكاري الذي يجعلها كل مرة تشعر وكأنها مُنفرة من نفسها أكثر من قبل، ولكنها اكتفت بالإيماء وقررت أن تستفيض بالكلام معها قائلة:
"اممم أنا محدش علمني، مامي ماتت وأنا عندي سنتين ياطنط وبابي مشغول أوي بشغله مش فاضيلي فأنا محدش علمني، ومكنش حد بيعلمني فالـ .."
كادت أن تنطق بكلمة إنجليزية كما اعتاد لسانها على ذلك بسبب المجتمع الذي كان يحيطها والمدرسة التي كانت تدرس بها، فأكملت كلماتها تحاول ألا تضع كلمة إنجليزية بمنتصفها:
"مكنش حد بيعلمني فالمدرسة، ولا حتى اللي كانت بتربيني علمتني، أنا أصلًا حياتي كانت مابين صحابي والسهرات والحفلات"
_"لا حول ولا قوة الا بالله، أنتِ شكلك ضايعة خالص يابنتي، طب أنتِ ..."
تفوهت «فاطمة» بحسرة عليها وكادت أن تسألها سؤالًا ما خجلت أن ترميه لها، لا تعلم كيف تسألها بذلك الشيء لذا تناقلت بينها وبين «تسنيم» التي كادت أن تفهم لما ترمي بحديثها فقررت هي التكلم بدلًا عنها:
"تقصد خالتي يعني كنتِ مصاحبة ولاد وبتروحي وتيجي معاهم، أنتو بتوع مصر بتشربوا خمـ..رة والحاجات دي أنتِ شربتي وكدا؟"
صمتت وشعرت بالخزي منهما، شعرت بأنها تود أن تنشق الأرض وتبلعها في هذه اللحظة، في عمرها الرابع والعشرين وتتعلم أساسيات دينها؛ فهي لا معرفة لها بأي شيء:
"أنا فهمت قصد سؤالك الأول إني يعني كان بيحصل بيني وبين صحابي حاجة صح؟ لا مكنش بيحصل إحنا كنا just friends وكدا، بالنسبة للشُرب فأنا شربت مرتين يمكن"
ضمت «تسنيم» شفتيها لداخل فمها بصدمة مما تفوهت به تلك التي تجلس جوارها، بينما توسعت حدقتي «فاطمة» وهي تضرب كفًا على كفٍ وتقول بأسفٍ لحالها وأسى عليها:
"لا حول ولا قوة إلا بالله، اتشاهدي يابنتي من أول وجديد، قولي يابنتي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله"
وبالفعل تحركت شفتي «سيلين» بذلك ولمعت عينيها بدموعٍ أبت النزول الآن:
"أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ربنا يسامحني يارب، أنا والله مكنش قصدي أعمل كدا ياطنط، أنا مكنتش شايفة حاجة قدامي غير صحابي وإزاي أفرح نفسي واتسلى وأعمل shopping، أنا فيه حاجة جوايا اتغيرت من وقت ماجيت هنا وعشت معاكم، زي مايكون فيه حاجة غريبة جت نزلت كدا على قلبي وخلتني عايزة أصلي وأعرف أكتر من ديني، طنط بالله عليكِ متحطنيش في نفس الـzone بتاع بابي، أنا والله مليش ذنب"
أنهت كلماتها وأجشهت في البكاء بحسرة وحزنٍ أليم يجرح القلوب ويفلق الحجر لنصفين من صوت شهقاتها المُتألمة، ربتت «فاطمة» على ظهرها بحنانٍ وهي تبادل «تسنيم» النظرات المُتحسرة:
"سبحان الله، سبحان الله اللي نزل على قلبك السكينة والهداية، ويهدي من يشاء صحيح يابنتي، طيب قومي ادخلي استحمي وأنا هاجي أعلمك إزاي تتوضي، ومروان طول ما هو فاضي يبقى يقعد معاكِ شوية يتكلم فالدين ويفهمك وأنا هنا هكون معاكِ فحاجات كتير وهعلمك الصلاة"
أمسكت «سيلين» كف «فاطمة» بين يديها المرتجفة وهمست بثقلٍ من بين بكاءها ووثبتت عينيها في عيني «فاطمة»:
"بجد شكرًا ياطنط، شكرًا أوي ليكِ وأنا هفضل أحاول أبقى كويسة وأقرب لربنا، ومروان قالي الصبح لما جبتوني من عند طنط حكمت إنه هيقعد معايا يعلمني شوية!"
ثم تحركت من بينهما ناحية الغرفة التي جلست بها هنا وأخذت ملابس بيتية من بين ملابسها وتوجهت بخطى سريعة نحو المرحاض، وكأنها تود أن تلحق اللحظات الأخيرة في حياتها في طاعة الله وعبادته قبل أن تغادر روحها لخالقها.
بينما «تسنيم» قامت من مكانها وهي تربت على كتف «فاطمة» ومالت بجسدها تقبلها على رأسها وهمست:
"طول عمرك قلبك طيب وأبيض وحنين ياخالتي، ربنا يجازيكِ خير ويباركلك فاللي هتعمليه معاها، وربنا يعوض قلبك خير يارب يانور عيني ويصبر قلبك على حبيبتنا عهد"
ابتسمت «فاطمة» بوجهها بهدوءٍ وهي تغمغم بتنهيدة تدل على قلة حيلتها:
"الحمدلله يابنتي، رضا من عند ربنا وكل اللي ربنا يجيبه وياخده خير وإحنا منقدرش نعترض عليه!"
ثم تحركت معها ناحية الباب تودعها وغادرت بينما هي جلست تتذكر تلك الأيام والساعات واللحظات التي كانت بينها وبين ابنتها التي لم تدم حياتها طويلًا بل تحولت لذكرى تتذكرها يوميًا بينها وبين نفسها.
___________
_"أنت كنت مستني مني رد، أنا عايزة كتب كتابنا يبقى آخر الأسبوع الجاي، النهاردة الحد وأنا لقيت فستان يليق بالمناسبة وعلى قدها يعني"
كانت تقف أمامه تتحدث بقلبٍ مرتجف لتلك الهيبة الواقفة أمامها، تحاول أن تسيطر على نفسها بألا تظهر مشاعرها بشكلٍ أكبر أمامها، تحاول أن تواري كل ذلك الخفقان داخلها.
تبدو للذي أمامها بأنها سعيدة ولكنها على النقيضِ تمامًا، لا يعرف قلبها السعادة ويأتي عليها الليل فتنهار وحدها وسط خيباتها وحبها الذي لم تحصل عليه يومًا.
وأخيرًا تناطقت شفتاه بعدما تفحص ملامحها لقليلٍ من الوقت، وكأن للتو عرف أنها تملك ملامح رقيقة وناعمة كوردة ظهرت من بين حديقة مليئة بالاشواك فقط، كان نبرته تحمل الخفوت لئلا يجرحها من رقتها تلك:
"مافيش مشكلة يامرام، أنا موافق بس أنا مش عاوز اللي يحصل يأثر على علاقتنا سوا، أنتِ عارفة أنا وأنتِ كنا قراب إزاي وأنتِ متربية معايا وأنا وأنتِ كنا منبع أسرار بعض، فمتقلقيش من كل حاجة بتحصل عايزك تسيبي كله عليا وأنا هحل كل حاجة، وزي ما قولتلك أنا مش هسيبك ولا هطلقك إلا لو طلبتي ده"
شعرت بأنها محاطة بأربع جدران بغرفة ضيقة مُغلقة عليها وتلك الجدران تقترب منها شيئًا فشيء، شعرت بأنها تريد أن تلقي عليه ذلك السؤال البسيط الذي لا تود أن تعرف أجابته ولكن فضولها يأكلها في إلقائه:
"هو أنت عايزني أطلب الطلاق يا آسر؟ حاسس إنك عايزني أعمل كدا!"
تبادلا النظرات لثوانٍ كل منهما داخله جلجلة لا يعرف كيفية الهرب منها، ولكنه تفوه بهدوءٍ بالغ وهو يهز رأسه بنفي:
"مش عاوز، هنكمل زي أي زوجين عادي يا مرام!"
سحبت نفسًا عميقًا تحاول معه إخراج ما بداخلها ولكن تأبى المشاعر الخروج وعلقت بفؤادها تؤلمه:
"تمام إن شاء الله"
حرك رأسه ومد يده ناحية الحقيبة السوداء التي تحمل بداخلها المسليات ثم مدها لها وابتسم بصخبٍ:
"طب خدي الحاجة بتاعتك اللي طلبتيها، وأنا جبتلك شوية حاجات أنتِ بتحبيها كدا، دلعي نفسك!"
تناولتها منه مع ابتسامة ارتسمت على ثغرها؛ فهو بين حينٍ وآخر يشتري لها تلك المُسليات في محاولة لإدخال السرور لقلبها بعد فقد عائلتها على غفلة وتوغل لقلبها الوحدة والحزن، يحاول أن يعوضها كما تفعل أمه معها!
____________________
هي المستحيل الذي توغل لحياته، هي مُحالٌ تستكين بشكلٍ خاص بين ثنايا فؤاده؛ فتحول المستحيل لممكن، وتغير المُحال لمستطاع!
أنهى صلاة العشاء وغادر رفقة «عبدالله» «والحاج إبراهيم» ناحية البناية خاصتهم، وصلوا للشقة بينما هو تحدث بنبرة سريعة «للحاج إبراهيم» بابتسامة:
"استنى ياحاج، فيه حاجة عايز أديهالك تديها لسيلين!"
اعتلت ملامح الاستغراب على وجهه هو وابنه بينما «مروان» تحرك ناحية شقته واختفى لدقائق وخرج ومعه كتب دينية مبسطة لتفهمها، منها عن الأذكار ومنها عن السور الصغيرة التي ستصلي بها وكيفية الصلاة، ثم مدها «للحاج إبراهيم» وابتسم بخفة:
"هما دول!"
أخذها منه وتنهد بعمقٍ ونبس بنبرة خافتة:
"جزاك الله خير يامروان، تمام"
وتحرك هو ناحية شقته بينما «عبدالله» تحرك مع «مروان» ناحية شقته ولكن أوقفهما صوت «فاطمة» التي خرجت وأردفت بحدة مزيفة لهما:
"خد يالا منك له، ادخلوا اتعشوا وبعدين امشوا"
أخرج «عبدالله» صوتًا من فمه مستنكرًا وهو ينظر تجاه «مروان» ويشير بيده على أمه:
"دي أمي اللي أحيانًا بتنزلني الشغل من غير فطار، ياحبيبتي ياحنينة، أهو الواحد ياكل من إيدك أحسن ما يتسمم من ايد مروان!"
لكمه «مروان» في كتفه بإمتعاضٍ، وتحرك ناحية «فاطمة» وهو يخبرها بابتسامة اعتلت ثغره وبها البراءة المزيفة:
"أنا بقول متعشيهوش برضو يا مرات عمي، نيميه جعان عشان الواد ده أنتو نسيتوا تربوه باين"
ربتت «فاطمة» على كتف «مروان» بحسرة مزيفة تجاريه في حديثه مستهزئين بمزاحٍ على ابنها:
"شايف يابني آخرة كرمي معاه الولا ده، يلا الحمدلله أما ذرية صالحة بصحيح"
اقترب منهما «عبدالله» بسخطٍ وأبعد «مروان» عن أمه بدفعة خفيفة وهو يدلف للمنزل وتحدث غير مكترثًا بما يقولان:
"صالحة إيه يا أمي، دي فاسدة والله العظيم"
ضحكوا ثلاثتهم وأستقروا في الصالة تحديدًا وهو يمرر نظره على الشرفة لتستقر عيناه عليها جالسة بها، كانت شاردة ولكن عندما سمعت صوته وجهت بصرها عليهم جميعًا واعتلى على ثغرها ابتسامة دافئة، انتبهت «فاطمة» لتلك الابتسامة خاصتها ثم لنظرات «مروان» وهمست له:
"أنا علمتها إزاي تتوضى وخليتها تصلي معايا المغرب والعشا، وقولتلها مروان لما يجي يقعد معاكِ يعلمك شوية!"
أومأ لها برأسه وهو ينظر ناحية «الحاج إبراهيم» الذي ناوله الكتب موافقًا الرأي على حديث زوجته وأبتسم بخفة قائلًا:
"فاطمة قالتلي إنها أبيض زي البفتة، وأنت ماشاء الله عليك بتعرف توصل المعلومة بشكل كويس، أدخل أقعد معاها شوية لحد ما العشا يخلص!"
أومأ له مجددًا دون إضافة كلمة وتوجه لها يلقي عليها السلام بابتسامة بسيطة كادت تظهر:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
_"أهلًا يا مروان، ازيك؟"
جذب كرسي وجلس أمامها في الشرفة التي تجاور شرفته بشكلٍ ملتصق وتطل منها الزهور التي تحمل رائحة جذابة وتجعل الجالس بها لا يود التحرك منها:
"في فضل ونعمة الحمدلله، بس حد يقولك السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ردي عليه السلام وتقولي وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بتاخدي عليها 30 حسنة"
لمعت عينيها متلألأة كطفلٍ صغير ينظر لشيء مبهر يود تجربته، فتوسعت ابتسامتها شيئًا فشيء وقالت بلهفة:
"بجد، طب قولي تاني السلام!"
ابتسم على تصرفها وسحب نفسًا عميقًا ورمى عليها السلام مجددًا بنبرة خافتة:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
أجابته بنفس نبرة اللهفة التي كانت بها وبعينين لامعتين:
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يامروان"
تنطق اسمه بشكلٍ مختلف عن البقية، وكأنها تستلذ به خلال نطقها له، كانت تنطقه بفتح الميم وسكن الراء وفتح الواو، بشكلٍ صحيح كما يجب أن يُنادى «مَرْوَانّ».
وضع الكتب التي بيده على الطاولة الموضوعة بينهما وفردهم أمامها، كانوا أربعة كل منهم يحمل اسمًا وموضوعًا مخلتفين، أمسك الأول بين يده ورفعه أمام وجهها وبدأ يتحدث بثباتٍ:
"دي الأذكار والأدعية، فيه أذكار الصباح والمساء وفيه أدعية طول ما أنتِ قاعدة أدعي بيها لنفسك ولغيرك، وفيه أذكار قبل النوم وسورة المُلك"
فتحه وبدأ يشرح لها بتفصيلٍ عما بداخل الكتيب وهو يشير بأصبعه على ما يشرحه بينما هي كانت تصب كامل تركيزها معه:
"دي أذكار الصباح، وقدام كل حاجة تقرأيها كام مرة، وهنا المساء ونفس الحوار، ودي الأدعية أهي ادعي لنفسك بيها الله يهديكِ ويوفقلك حالك، ودي أذكار النوم أهي وسورة الملك!"
أومأت له بابتسامة وتناولته من يديه وهي تتفحصه بعينيها ونبست بابتسامة عريضة:
"Ok, thank you"
سحب نفسًا عميقًا وأشار لها بعينه يغمغم مستطردًا:
"ركزي فإنك تتكلمي معايا بالعربي، بلاش الانجلش!"
ضمت شفتيها بتفكيرٍ للحظات فيما قاله وأجابته بتنهيدة:
"حاضر، ماشي"
مد يده يمسك الكتيب الثاني وفتحه أمام عينيها والذي كان مُدونًا على غلافه كيفية الصلاة:
"ده بيعلمك الصلاة، بس الست فاطمة هتعلمك الصلاة عشان توريكِ بشكل عملي يعني أفضل مني، بس الكتيب فيه كل حاجة بأشكال مُصورة كدا، وفيه فضل وأهمية الصلاة .. أبقي اقرأيها براحتك"
ثم أغلق الكتيب وأستند بظهره للخلف وهو ينظر نحوها ثم أبعد نظره نحو السماء يستطرد بنبرة بها راحة كبيرة لمن يستمع لها، كانت عميقة خافتة:
"الصلاة دي حاجة مهمة إحنا اللي بحاجة ليها، يعني إحنا كبشر اللي محتاجين أننا نصلي وندعي ربنا ونتوسل له ونترجاه إنه يسامحنا ويعفو عنا ويغفرلنا ويسكننا فسيح جناته ..."
ثم سحب نفسًا عميقًا يتمعن بتفكيره في فضل الصلاة وأهميتها وأكمل:
"الصلاة هي أول فريضة فرضها ربنا سبحانه وتعالى بعد التوحيد، يعني إحنا بنقول في أركان الإسلام الخمسة؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وهو ده التوحيد بالله عز وجل، بعده إقامة الصلاة ثم إيتاء الزكاة وبعدين صوم رمضان وبعد الصوم حج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا، يعني طالما أنتِ موحدة بالله يبقى أول حاجة بالنسبالك تعمليها هي الصلاة، وبعدها الزكاة والزكاة دي شرحها هيطول هبقى أشرحهالك في يوم تاني، بعدهم رمضان .."
ثم نظر لها يجس نبضها في الصوم فأردفت سريعًا تجيبه تدافع عن نفسها:
"لا أنا بصوم والله، كنت بصوم في رمضان يعني"
أومأ مبتسمًا بخفة عليها وأعاد بصره ناحية السماء واسترسل مُكملًا:
"حلو أوي، وبعد الصوم حج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا، يعني اللي يقدر يروح يحج ويعمل عمرة ومعاه فلوس لكدا يروح .. الصلاة أول حاجة هنتسأل عليها قدام ربنا، يعتبر التواصل بينك وبين ربنا هو عن طريق الصلاة، لما بتقفي كدا تصلي بتبقي واقفة بين ايد ربنا وبتدعيله وهو شايفك وسامعك، ربنا سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم «(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)»،
وقال برضو عز وجل بسم الله الرحمن الرحيم «(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَناتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ ذلِكَ ذِكرى لِلذّاكِرينَ).»،
وفيه آية جميلة أنا بحبها بتقول بسم الله الرحمن الرحيم «(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
وآيات كتير كتير أوي بتتكلم عن الصلاة وفضلها وإنها فرض، لما تقرأي قرآن هتقرأيها بنفسك، عندنا 5 فروض يعني خمس صلوات وهما الفجر الظهر العصر المغرب العشاء، بنصلي وأحنا عقلنا كله مع التركيز في الصلاة، يعني الخشوع، مبنفكرش في حاجة تانية غير أننا إزاي نصلي بتركيز ونسيب الدنيا كلها ورا ضهرها"
ثم وجه بصره لها فوجد عينيها لامعتين بدموعٍ محبوسة داخلها لم تهبط، قُشعر بدنها من حديثه عن الصلاة وقراءته للآيات القرآنية بصوتٍ عذب، جسدها ارتجف خوفًا عما اضاعته في حياتها كلها، تنهد بعمقٍ وقرب منها الكتيب ليستقر فوق السابق، ثم أمسك الثالث ورفعه أمام وجهها قائلًا بهدوء:
"ده كُتيب بيتكلم عن الإسلام بشكل أكبر وعن الإيمان وفيه بعض قصص الأنبياء والمرسلين، أما الرابع ده عن تفسير جزء عم، ده الجزء رقم 30 في القرآن بس هو سهل في الكلمات بتاعته وهتعرفي تقرأيه، بس أنا هقرألك فيه برضو شوية عشان تسمعي مني وابقي رددي أنتِ وشغلي التلفزيون وهاتي على قناة القرآن الكريم واسمعي"
أومأت له بابتسامة خافتة وتحمست عندما قال أنه سيقرأ لها القرآن فهي تحب صوته منذ أن استمعت له في المسجد، بينما هو نظف حنجرته وبدأ يتلو عليها بصوتٍ هادئ، عذب، خافت، يعلم كيف يقرأ بشكلٍ صحيح فزاد من جمال صوته.
قرأ عليها السورة القصيرة حتى وصل لسورة الكافرون وتوقف ينظر لها بينما هي كانت تحاول أن تردد خلفه بينها وبين نفسها حتى توقف تمامًا، وتحدث بعد تنهيدة عميقة:
"دول كدا ست سور احفظيهم عشان تصلي بيهم عالأقل لحد ما تحفظي تاني!"
أومأت له برأسها وتناولت من يده الكتيب الرابع وداخلها ألف شعورٍ متداخلين ببعضهم، منهم السكينة التي احتلت ثنايا قلبها وغلفت وجدانها، والأمان كمن رسى بمركبه على شط البحر بعد رحلة صعبة بين الأمواج العاتية، وبعض التوتر الذي أصابها خوفًا من ألا تفهم عليه شيء، بعضًا من الرعب من يوم الحساب بعد غفلة طويلة.
بعينين شاكرتين همست بشكرٍ وأمتنان غلفا نبرتها:
"شكرًا بجد يا مروان، بجد شكرًا ليك"
اكتفى بالإيماء لها ووجه بصره بعيدًا ناحية الداخل وهو يلمح «فاطمة» تشير لهما بأن يدخلا حتى يتناولوا جميعًا وجبة العشاء، وبالفعل استقروا حول الطعام وبدأوا في تناوله وكل منهم بعقله في عالمٍ آخر، ولكن فقط شيء يشع في أرجاء المكان؛ ألا وهو الأمان!