رواية مذاق العشق المر كاملة وحصرية بقلم سارة المصري
الفصل الاول
"تعلن الخطوط الجوية التابعة لمصر للطيران عن وصول رحلتها رقم 704 والقادمة من باريس "، تردد النداء فى انحاء المطار ليتنهد رجل فى منتصف الستينات تقريبا وهو يضيق عينيه ليعادل الرؤية التى ضعفت بفعل الزمن ويجول باحثا عن وجه غاب عن عينيه لسنوات طويلة ، وجه يحمل بملامحه ذكريات الطفولة وعنفوان الشباب وطيشه وجنونه ، اعوام طويلة فصلت بينهما الا ان الوصال لم ينقطع وان كان هاتفيا، ربما كان هذا كافيا ليبقى ميثاق الصداقة قائما لكل هذا العمر رغم كل مافصل بينهما من مسافات ،أخذ يدقق النظر باحثا عن صديقه الذى قرر بعد اعوام طويلة العودة الى ارض الوطن مع ولديه حتى تلاقت اعينهما اخيرا ففتح كل منهما ذراعيه من قبل ان يقترب حتى من الاخر ، خطوات مسرعة متعثرة من كليهما دفعتهما فى النهاية الى عناق طويل وحميم بثا فيه كل ما اختزناه من مشاعر وذرفت فيه كثير من الدموع ، دموع الحنين لكل شىء للصحبة للوطن للاهل ولكل ذكرى حلوة كانت ام مرة ، دموع الكهولة ما اسهلها وما ايسر ان تراق فى لحظة وكأنها تخرج كل ما مر به الانسان على كل فترات حياته ، بعد دقائق استطاع كل منهما التخلص من بين ذراعى الاخر وان بقيت الايادى متشابكة بعض الشىء ، نظر محمود الى صديقه الغائب في حنين قائلا " اخيرا يا سمير ..رجعت بلدك اخيرا "
دمعت عينا سمير فى تأثر وقال " اخيرا يا محمود " وترك يده وهو يشير الى طفل فى التاسعة من العمر يرتدى نظارة سوداء ، كان اشقرالشعر يحمل ملامح اوربية صميمة ، مسح محمود على شعره وهو يقول " على ابنى "
مد محمود يده للطفل ليصافحه فلم يستجب ، فأشار سمير الى عينيه ليمتقع وجه محمود فى صدمة فالطفل كفيف ، تخلص من صدمته ليمسك بكتفى على وينحنى مقبلا جبينه وهو يقول " ازيك ياعلى ..معلش يابنى مش بعرف فرنساوى "
تفاجىء محمود للمرة الثانية حين رد عليه على بابتسامة " بتكلم عربى كويس يا عمو ..ازى حضرتك "
اعتدل محمود فى دهشة فرؤية هذا الطفل بملامحه الغربية تلك يتحدث العربية تبدو مزحة بالفعل وقبل ان يعلق ابتسم سمير وهز رأسه وهو يشير الى فتاة تبدو فى منتصف العشرينيات تقف خلفه وهو يقول" ودى ايلى ..ايلينا بنتى "
يبدو ان هذا هو اليوم العالمى للذهول فقد فتح محمود ثغره وهو يتأمل تلك الفتاة التى وقفت تبتسم فى ثقة ، كانت على عكس شقيقها تحمل ملامح مصرية صميمة ورثتها بالطبع عن ابيها ويبدو انها لم ترث من امها ملمحا واحدا ، كانت قمحية البشرة بنية العينين وللدهشة كانت ترتدى حجابا بسيطا وانيقا يتناسب مع زيها الراقى والمحتشم ، قطعت ايلينا تأمله وهى تقول " عمو محمود ازى حضرتك ..بابا كلمنا كتير عنك "
ابتسم محمود وهو يضع يديه فى خصره وينظر الى سمير قائلا " ماشاء الله ولادك بيتكلمو عربى كأنهم اتولدو واتربو فى مصر مع ان عمرهم ما زاروها "
ضحك سمير فأردف محمود " بصراحة لما قولت انك جاى مع ابنك وبنتك متخيلتش انهم هيكونو كدة ..انا قولت هلاقى اتنين خواجات..لكن اتفاجئت بيتكلمو عربى كويس وكمان ايلينا فرنساوية ومحجبة "
ردت ايلينا نيابة عن ابيها فى ادب جم " احنا اه مشوفناش مصر قبل كدة بس لينا نص مصرى ..وبالنسبة للحجاب فده فرض على كل مسلمة واعتقد انه مش متحدد لا ببلد ولا جنسية "
نظر لها محمود فى اعجاب وقال " ماشاء الله ياسمير عرفت تربى "
قال محمود فى تأثر وهو يأخذ ولديه تحت ذراعيه " مش لوحدى ..جانيت الله يرحمها كانت ليهم نعم الام "
تنهد محمود فى تعاطف وهو يرى صديقه يرثى قصته القديمة وقال " الله يرحمها .." ، اما بداخله فلا زال ذهوله على وضعه ،جانيت الفرنسية المتحررة التى خسر سمير اهله من اجل الارتباط بها وغادر ارض الوطن باكمله من اجلها ولامه كل انسى على وجه البسيطة وحذره من عواقب ما يفعله تنجب له ولدين يسرا القلب والعين هكذا ، كيف ربتهما معه وعلى حد علمه انها لم تكن مسلمة حين تزوجها و..، قطع شروده صوت سمير وهو يقول " مش يلا بينا يامحمود انا والولاد محتاجين نرتاح" ، تنهد محمود وهو يشير الى سائقه الذى رافقه ليساعدهم فى نقل الحقائب .
****************************************************************
فتح سمير باب المنزل القديم ،منزل العائلة ،خطا فى تردد وكأن صدى اصواتهم لازال يجلجل فى اذنه كآخر مرة له فى هذا البيت ، تلك الاصوات التى كانت تعلو وتعلو لتعنى شيئا واحدا انه لم يعد له مكان ، تبعته ايلينا وهى تمسك بكف اخيها لتمنعه من التعثر ، نظر محمود الى صديقه الذى كان يتأمل كل زاوية من زوايا المنزل فى بطء ويتلمس الجدران فى حنين جارف ، رغم القسوة والنبذ والحرمان تظل العائلة هى الملجأ والمأمن يظل عشقها كعشق الوطن لعنة ، ظل سمير يتأمل المنزل وهو يستدعى كل ذكرياته به ، به قضى بعضا من طفولته وجل شبابه ، فى هذا المنزل بدأت احلامه وطموحه ، هذا المنزل يحمل رائحة من حنان امه وبعضا من شدة ابيه ، كل شىء فيه بقى على حاله الا الارواح الطيبة التى كانت تسكنه ، اقترب من منضدة وضعت عليها صورة لامه وابيه رفعها ودمعة تسيل على وجنته وهو يمسح بكفه عليها ويمر امام عينيه شريطا سريعا لذكرياته يتوقف عند المحطة الفاصلة ، جانيت الفرنسية التى عشقها ولم يندم يوما على حبه لها الذى كلفه الكثير ، دخلت حياته منذ ثلاثون عاما ، كان شابا يافعا سعيدا بوظيفته الجديدة فى احدى شركات الاستثمار الاجنبى حين رأى جانيت لاول مرة وقد جاءت لزيارة مصر مع وفد فرنسى ، كان مرافقا لهذا الوفد ولفتت جانيت بجمالها عقله العابث فهو لم يكن أكثر من شاب سطحى التفكير كأغلب جيله ، حاول التقرب اليها فتفاجىء بها تسأله فى احدى المرات عن الاسلام وتطلب منه ان يتحدث لها عنه ، تفاجىء سمير بطلبها فهو بالكاد يؤدى صلاته ولم يكن بالالتزام او الخبرة الكافية لهذه المهمة التى بالفعل لمست قلبه ، فلم يكن امامه خيار سوى ان يتعلم ويعلمها ، اقتربا معا من الله وسلكا طريقهما اليه سويا ، واكتشف معها لذة ايمان افتقدها فى حياته ، تعلمت جانيت معه كل شىء عن الاسلام وتبقى فقط القرار الاخير وهو اشهارها لاسلامها ،فى هذا الوقت لم يكن لدى سمير ادنى شك ان جانيت قد اصبحت جزءا هاما فى حياته وانه بالفعل احبها وتمناها زوجه له ليكملا معا الطريق ، فعرض عليها الزواج ولم يحسب ان ردة فعل اهله ستكون بهذا العنف ، فقد رفضتها العائلة ورفضته معها ولفظته تماما خارجها ، حاول سمير وحاول سنوات ولكن دون جدوى ، بل واستغل والده نفوذه ليضيق عليه العيش فى وطنه فأصبح يفصل من عمل ولا يلبث ان يستقر فى غيره ليفصل منه ثانية حتى انتهى الامر واتخذ قراره بالهجرة الى باريس وبلا عودة فهو لن يحتمل ان يبقى فى وطن تحاك له فيه المؤامرات من اقرب الناس اليه ، لن يحتمل ان تنبت مشاعر الكراهية بقلبه تجاه اهله او تجاهه منهم ، لن يحتمل ان يحرم عليه رؤيتهم وهو على بعد كيلو مترات منهم، لن يحتمل ان ..، " سمير " انتبه على صوت محمود فاستدار له وهو لازال يحمل صورة والديه بين اصابعه " انت كنت بتقول حاجة يا محمود " نظر محمود الى الصورة وقال فى تعاطف " بقول لو محتاج تشوف مكان تانى .اشوفلك "
وضع سمير الصورة وهو يقول لمحمود فى امتنان " كتر خيرك يا محمود لحد كدة ..كفاية اوى تعبتك فى تنضيفه وتجهيزه تانى "
قال محمود فى عتاب " احنا اخوات يا سمير ..وبعدين يعنى هوا انا اللى نضفته بنفسى ماهم الخدامين .."
واضاف وهو ينحنى قليلا " اه بالمناسبة انا شوفتلك مكان مناسب للكافيه اللى انت عاوز تفتحه ..مع انى قولتلك ملوش لزوم وتشتغل معايا وانت اللى مش عاوز "
هنا تدخلت ايلينا فى الحوار قائلة " حضرتك برضه هتفتح كافيه فى مصر "
هز سمير رأسه قائلا " ايوة يا حبيتى انا مش بفهم فى حاجة غير كدة "
هزت ايلينا رأسها فى تفهم ونظرت الى المكان فى تفحص سريع وقالت " هشوف اوضا ليا واوضة لعلى عشان نستريح ..بعد اذنكو " واخذت ايلينا بيد على وادخلته الى احدى الغرف ، كان كفيفا ولكنه ذكيا للغاية ويمتلك من الحكمة مالا يمتلكه من تجاوزه بالعمر سنوات لم يكن من هؤلاء الذين يتذمرون من اعاقتهم ليحيو حياة درامية بل كان متعايشا معها كأنه امر طبيعى قدر لكل البشر ، كعادته حين دخل الغرفة اخذ يتعرف عليها بلمساته ويحفظ كل شىء فى ذاكرته بسرعة ليستطيع التحرك بها فى حرية ، عقدت ايلينا ساعديها وهى تراقب اخاها بابتسامة ملاك حارس يراقبه دوما بعلمه او دون علمه ، فعلى لم يكن اخاها الاصغر بل هو صديقها المقرب الذى تستمع الى رأيه فى بعض الاوقات حين يعرض حلولا لمشاكلها بسيطة كبساطة تفكيره ونقية كنقاء قلبه الذى لم يلوث بنزاعات البشر بعد ، جلس على على طرف الفراش وقال وهو يخلع نظارته " كدة حفظت الاوضة خلاص ..باقى الشقة لما ارتاح شوية "
ربتت ايليلنا على كتفه قائلة " تحب اساعدك فى حاجة حبيبى "
ربت على يدها قائلا " شكرا ايلينا بس ياريت لو تجيبيلى شنطتى من برة "
احضرت له ايلينا الحقيبة وفتحتها ولم تتدخل كما يحب فهى واثقة فى قدرات على التى تجعل ايا كان يشك فى كونه كفيف من الاصل ، تحسس على الحقيبة واخرج ثوبا للنوم منها واعاد غلقها من جديد فقالت ايلينا " تحب ارتبلك الهدوم فى الدولاب "
بدأ على فى فك ازرار قميصه وهو يقول " من امتى يا ايلينا بتساعدينى ..انتى عارفةانى بحب ارتب حاجتى بنفسى "
قالت ايلينا بسرعة " حبيبى انا مقصدتش حاجة ..انا اقصد ان المكان جديد مش اكتر "
ابتسم على قائلا " بس انا حفظته وحفظت كمان الدولاب فيه كام رف وكام دلفة ما تقلقيش " همت ايلينا ان ترد لولا ان قطع رنين الهاتف صوتها فتنهدت ليقول على " روحى ايلينا ردى على تليفونك وارتاحى شوية انتى كمان "
نظرت ايلينا الى على قائلة فى جدية وهى تنظر الى هاتفها " لو احتجت حاجة حبيبى بس ناديلى "
ابتسم على بينما خرجت ايلينا لتفتج باب الحجرة المجاور لعلى مباشرة وتفتح المكالمة هاتفة بالفرنسية التى تجيدها اكثر من العربية فهى اللغة التى ظلت تتحدثها سنوات " صوفيا ..كيف حالك عزيزتى "
جاءها صوت صوفيا الساخر " كيف حالك انتى وحال الصحراء التى سافرت اليها "
امتعض وجه ايلينا وهى ترد " مصر ليست صحراء ابدا صوفيا ..انا واثقة انها جميلة "
ضحكت صوفيا قائلة " ربما... ولكن ليست اجمل من فرنسا وطنك يا عزيزتى "
ابتسمت ايلينا وهى تتأمل الغرفة " وهنا وطنى ايضا يا صوفيا "
تنهدت صوفيا قائلة " بالمناسبة حينما علم ريان بسفرك اقام الدنيا ولم يقعدها ..لا اعرف حقا علام ينوى بالضبط تجاهك "
زفرت ايلينا فى ضيق قائلة " فليذهب الى الجحيم ..لقد انتهينا ولا سبيل للعودة بيننا ابدا "
_ولكنه يحبك ايلينا انتى تعلمين ذلك
قالت ايلينا فى حنق " هذا ليس حبا ابدا ..لقد حاولت كثيرا وانتهى الامر ولن ابقى طيلة عمرى فى دائرة الخطر "
_ربما لم تحبينه بالقدر الكافى لتحمل المخاطرة من اجله
اغمضت ايلينا عينيها وقالت " عزيزتى صوفيا دعى عنك تلك الاحلام الساذجة فهناك اشياء كثيرة اكبر من الحب تتحكم بنا "
_حقا لا اعرف بما اجيبك ولكن اتمنى لك السعادة فيما تختارينه
ابتسمت ايلينا وقالت " وانا ايضا صوفيا ..وبالمناسبة هل فكرت فيما قلته لك ؟؟"
ضحكت صوفيا وقالت جملتها المعتادة التى سأمتها ايلينا بالفعل " فيما بعد ايلينا فيما بعد "
قالت ايلينا فى احباط " لافائدة ترجى منك ايتها المتهورة ...انتبهى لحالك جيدا ..وتوقفى عن نسيان اشيائك فى كل مكان فلم اعد موجودة خلفك دائما لاجمعها ..مع السلامة "
انهت ايلينا المكالمة وهى تنظر الى اثاث الغرفة العتيق والراقى فى الوقت ذاته ، كان طراز البيت عربيا كلاسيكيا للغاية رأته فى كثير من الافلام المصرية القديمة التى كانت تتابعها لتشعر بها انها تأخذها لجولة فى وطنها الام ، نظرت الى صورة كبيرة تحتل جزءا ليس بالهين من احد الجدران ومن الواضح انها لجدها ، ملامحه صارمه ذو حاجبين كثين وشارب مفتول ونظرة قاسية لا تعلم هل اصطنعها ام الزمن كان كفيل بنقشها على ملامحه ، بدأت فى فك حجابها وهى تقف امام المرآة تفرد شعرها الغجرى الاسود الذى يمتد الى نهاية ظهرها ليعطها مظهرا مثيرا يختلف تماما عن مظهرها البرىء بالحجاب ، لم ترث ايلينا ملمحا واحدا من ملامح جانيت ورثت اكثر من ملامح محمود فجمالها كان مصريا خالصا له جاذبيته يزيده تلك النظرة الواثقة المتحدية فى عينيها وشخصيتها المنفردة الممتزجه بالتزام شرقى فى الخارج والتزام غربى عملى فى داخلها ، تمنت كثيرا ان تزور مصر فى الماضى ولكن لم يخطر ببالها الاقامة ولا تعرف لما قرر ابوها العودة فى ذلك التوقيت بالذات وخاصة بعد ان مر على وفاة جانيت خمس سنوات وحياتهم واعمالهم مستقرة كثيرا فى باريس التى تحبها ولم تفكر ابدا فى تركها ففيها عاشت كل ذكرياتها مع امها الراحلة وفيها صديقاتها العديدات على اختلاف ثقافتهن وفيها خاضت اكثر من معركة من اجل حجابها ، معارك لاتنتهى وتشعرها بلذة حقيقية فهى كانت تجاهد من اجل مبادئها ودينها وستختفى تلك اللذة فى وطن اسلامى كما تتوقع عن مصر ، لا تعرف لما تشعر بعدم الارتياح منذ ان قرر والدها العودة الى مصر ، لاتدرى سببا لشعورها بالاختناق منذ ان وطئت قدمها ارض المطار ، تنهدت وهى تتعزى انها مجرد اعراض لاى بداية ونقلة جديدة فى الحياة ودعت الله ان تكون بداية موفقة
*************************************************************
ترأست سميرة مائدة الافطار حيث غاب زوجها هذا الصباح لمقابلة صديقه فى المطار كما اخبرها ، نظرت الى الاطباق المتراصة بعناية وتأكدت ان الخدم ليسو بحاجة الى اى لفت نظر هذا الصباح فقد نفذو اوامرها دون اى اضافات او نقصان معتاد ، نظرت الى السلم حيث كان يهبط ابنها الاوسط زين بخطواته السريعة التى تتلائم تماما مع جسده الرياضى ذو الطول الفارع وتبعته اخته ايتن بخطوات متمهلة تناسب تماما حذائها الانيق ذو الكعب المرتفع الذى يصدر صوتا بدا مزعجا لاذن اخيها وهو يرتطم برتابة بدرجات السلم الرخامى ليتجاوزها مسرعا وهو يتأفف ويقف فى لحظات امام امه يقبل يديها ورأسها ككل صباح قبل ان يتخذ مجلسه وتتبعه ايتن لتفعل المثل وتتخذ مجلسها بدورها ليبدءا فى تناول الطعام ، شبكت سميرة كفيها ببعضهما وهى تنظر الى السلم من جديد للحظات وتضيق عينيها ليقول زين فى خبث " ماما ..يوسف زمانه نازل ولا احنا مش مكفينك والا ايه يا ست الكل "
هزت سميرة رأسها وهى تقول " ابنى البكرى واللى شايل همكو كلكو من زمان مع ابوكو "
ابتسم زين ونظر الى شقيقته ايتن قائلا " شايفةواخد الحب كله واحنا .." وهز كتفيه فى حركة مسرحية ساخرة فتصنعت ايتن الامتعاض فهزت امها رأسها واساريرها تنفرج تدريجيا وهى ترمق يوسف يهبط السلم فى هيبته المعتادة ، يبدو ان الطول سمة وراثية فى العائلة فيوسف كان اكثر طولا من اخيه ، نظراته جدية يحمل سترته على ذراعه ونظارته الشمسية الانيقة تعلو رأسه ، اقترب يوسف من امه وقبل يدها ورأسها فى احترام وهو يقول " صباح الخير على عيونك يا ست الكل ..يا احلى حاجة فى الدنيا كلها "
ربتت سميرة على كفه وهى تقول " صباح الفل يا حبيبى ..اقعد افطر يلا "
نظر يوسف الى زين وايتن قائلا فى تهكم " نازلين اكل اكل مش بتستنو حد ابدا "
قال زين وهو يبتلع طعامه " انت اللى اتأخرت وساعة البطون بقا انت عارف "
رد يوسف وهو يسحب كرسيه ليجلس " انا مبتكلمش عنى انا بتكلم عن بابا هوا فين ؟؟"
ردت امه وهى تضع بعض الطعام فى طبقه " خرج من بدرى يقابل واحد صاحبه فى المطار "
ابتسم يوسف بامتنان لأمه وقال " ده صاحبه اللى كان مسافر باريس مع مراته ومرجعش تانى "
هزت سميرة رأسها قائلة " ايوة هوا ..رجع مع ابنه وبنته وناوى يستقر بعد الغربة "
قال يوسف وهو يبدأ بتناول طعامه " الراجل ده غريب اوى ..بابا لما كان بيحكى عنه كنت بحس انه مخه فيه حاجة ...بقا معقول يسيب بلده واهله عشان خاطر واحدة "
تنهدت ايتن وقالت " بيحبها يا ابيه ...الحب بيعمل المعجزات "
نظر يوسف الى اخته نظرة طويلة وقال وهو يعود الى طعامه " حب ايه وكلام فارغ ايه ..الحب مش موجود غير فى الروايات الخايبة اللى بتمققى فيها عنيكى ياست ايتن ...ده واحد ضعيف الشخصية جرى ورا نزواته "
قالت سميرة فى صرامتها المعتادة " عيب يا يوسف اللى انت بتقوله ده متنساش والدك بيعزه قد ايه "
نظر يوسف الى امه وقال فى اعتذار " مقصدتش حاجة يا ست الكل ..بس الحكاية انى مش مقتنع تماما بحاجة تاخد من الواحد عقله وكيانه ويقولك حب ..حب ايه بس وبتاع ايه "
تمعنت به سميرة للحظات وقالت " مشكلتك يا يوسف انك جد اوووى وبتاع شغل وبس ..مش عارفة والله هتتجوز ازاى ولما تتجوز مراتك هتعمل فيها ايه " حك يوسف ذقنه بسبابته وهو ينظر الى طعامه كأنه المفر من القصيدة اليومية التى ستلقيها امه على مسامعه ، فكل الطرق لديها تؤدى الى طريق واحد الزواج ،ضحك زين وهو يميل الى يوسف قائلا " استلقى وعدك بقا ..موال كل يوم "
وبدأت امه بالفعل قصيدتها التى يحفظها عن ظهر قلب " يوسف حبيبى ..انت مش ناوى تفرح قلبى بيك بقا ..يابنى انت عندك دلوقتى اتنين وتلاتين سنة هتستنى ايه بس ...اللى فى عمرك دلوقتى عندهم عيل واتنين وتلاتة ..كل ما جبلك عروسة تطلعلى فيها القطط الفاطسة ...اختار انت يا حبيبى لو عايز بس فرحنى "
كان يوسف كالعادة يتظاهر انه يسمعها بينما يتناول طعامه بهدوء فقد تعود على هذا كل صباح ولكن حين اضافت امه الجزء الجديد كاد ان يبصق مافى فمه " ايه رأيك فى سمر بنت عمك اهى حلوة وغلبانة "
ازدرد يوسف طعامه بصعوبة وهو يقول " سمر مين ...نهار اسود ..دى عيلة "
ردت سميرة فى جدية " اولا عشر سنين فرق مش كتير ...ثانيا زى ما ابوك بيقول احنا اولى بلحمنا ..البنت اتيتمت بدرى وهيا واخوها ملهمش غيرنا "
ابتسم يوسف فى خبث وهو ينظر الى زين قائلا " مادام احنا اولى بلحمنا يبقا زين اولى بقا ..هوا قريب فى السن منها ...خمس سنين ارحم كتير من عشرة ..وبعدين انا شايفها ميالة ليه "
رفع زين حاجبه فى استنكار وقال " جرا ايه يايوسف سمر زى اختى ...من فضلك متهزرش فى الحاجات دى "
تخطاه يوسف بنظراته لينظر الى ايتن قائلا " وحسام بقا ياخد ايتن بالمرة ده قرب يبوس رجلك يا مفترية عشان توافقى "
قطبت ايتن حاجبيها وقالت فى غضب " ده نجوم السما اقربله منى ...انا اتجوز واحد زى ده على آخر الزمن "
تضايق زين من طريقتها فى الحديث على ابن عمه وصديقه فالتفت لها قائلا فى استنكار " وماله ده ان شاء الله يا ست هانم ...راجل محترم ويعتمد عليه "
لوت فمها فى سخرية وقالت " ومالها سمر يا سى زين ماهى حلوة وصغيرة ودكتورة علاج طبيعى اد الدنيا والف مين يتمناها "
زفر فى غضب قائلا " دى غير دى "
مالت اليه وصوتها يعلو اكثر " الاتنين واحد من حقك تختار وانا مش من حقى ليه ؟؟"
قال زين من بين اسنانه " وطى صوتك واتكلمى بأدب "
رفعت صوتها اكثر وهى تقول " انا اتكلم زى ما انا عاوزة "
رفع زين صوته بدوره وهو يقول " انتى قل..." قاطعته سميرة وهى تقول " الله الله حلو اوى يا بيه يا محترم انت والهانم ..متضربو بعض قدامى احسن "
ربت يوسف على كف امه وقال " اهدى يا ست الكل عشان صحتك "
ونظر الى اخويه فى صرامة وقال " صوتكو يعلى تانى فى وجود ست الكل رد فعلى مش هيعجبكو نهائى فاهمين ولا لا "
زفرت ايتن فى ضيق وهمت لتقوم قائلة " انا رايحة كليتى "
رمقها يوسف بنظرة ارعبتها وقال " محدش يتحرك غير لما ماما تسمحله فاهمة ولا لا ..اتفضلى اقعدى "
ضغطت ايتن باسنانها على شفتها السفلى وجلست فى تأفف بينما ابتسمت سميرة وهى تنظر الى ولدها فى امتنان وكأنها تخبره انه دوما لها نعم السند ، نظرت الى السلم بابتسامة قالت بعدها فى خفوت صارم " ولاد عمكو نازلين مش عايزة حد فيكو ينطق بكلمة تضايقهم "
جاءت سمر ومن خلفها حسام الذى بحث تلقائيا عن كرسى مقابل لكرسى ايتن وابتسم لها فى خجل وهو يضبط نظارته على وجهه فى ارتباك ، نظرت له ايتن فى ضيق لتشيح بوجهها بعيدا ، حسام لم يكن بالجاذبية والوسامة التى تحلم بها فتاة مثل ايتن بالكاد تجاوزت سنوات مراهقتها وهى الان فى التاسعة عشر من العمر ، كانت تشدها المظاهر وحسام بمظهره المتواضع كان يئد اى محاولة منه للفت انتباهها لتتقرب منه وتتعرف على جوهره الحقيقى ، هو فقط يرتبك امامها وتضيع منه الكلمات الا انه ناجح فى عمله يدير احدى شركات المجموعة بنجاح مذهل ، صرامته تخيف كل موظفينه واسمه معروف فى الاوساط الثقيلة لرجال الاعمال مثله كيوسف وزين على الرغم من انه اصغرهم فهو فى السادسة والعشرين بينما زين فى السابعة العشرين .
اما سمر فجلست على كرسيها فى حزن فقد سمعت مادار بينهم من حوار قبل ان يصل اخوها ، وزعت نظراتها بين الجميع فقد سمعت منهم مايكفى هذا الصباح ، تعرضت للرفض من ابنى عميها وكأنها مجرد عرض او بضاعة يراد التخلص منها لانها لم تعد لها قيمة ، لم يكلف احد نفسه بسؤالها هى عن رأيها قبل ان تطرح للبيع هكذا وكأن موافقتها امر مفروغ منه فمن ستجد افضل من ابناء البدرى للزواج ، لقد عاشت فى هذا المنزل كأمانة يخشى عليها من السرقة لم تنل ولو نصف الحرية التى نالتها ايتن فحياتها اقتصرت على الجامعة والمنزل ولكنها لم تشعر فى حياتها بالاهانة مثلما شعرت بها فى هذه اللحظة ، لم تستطع ان تتحمل اكثر فاستئذنت الجميع وعادت الى غرفتها لتذرف دموعها بعيدا عن الجميع كما اعتادت .
**************************************
" متشكر ايلينا " قالها محمود وهو يتناول فنجان قهوته منها وهى تبتسم وتمرر فنجانا اخرا لأبيها لتجلس فى مقعد مجاور له ، ارتشف محمود من قهوته وقال فى تلذذ " الله تسلم ايدك "
قالت ايلينا فى سعادة " شكرا يا عمو .."
واضافت وهى تميل للأمام قليلا " كنت عاوز اسأل حضرتك على المكان اللى احنا فيه ايه مداخله ومخارجه اقرب سوق او سوبر ماركت .." قاطعها محمود قائلا " حيلك حيلك ايه يا بنتى ده كله "
هزت ايلينا كتفيها قائلة " حضرتك عارف ان بابا بقاله سنين برة مصر واكيد كل حاجة اتغيرت ..هنحتاج لحاجات كتير نشتريها مش هنعيش على الدليفرى "
ابتسم محمود وهو ينظر الى سمير ثم الى ايلينا وواصل " بس البلد جديدة عليكى ايلينا هبعتلك حد من الشغالين يساعدك "
بسطت ايلينا كفيها امامها قائلة " لا لا لا ..انا مبحبش حد يعملى حاجة فى بيتى انا بحب اعمل كل حاجة بنفسى "
ابتسم محمود وهو يتذكر ايتن وسمر التى لا تجيد احداهما اى شىء سوى الثرثرة عديمة المعنى ، اتاه صوت سمير ليخرجه من عالمه " مستغرب ليه ...ايلينا ست بيت شاطرة جدا والدتها توفت من خمس سنين وهيا شالت مسئولية اخوها والبيت كله "
مط محمود شفتيه ونظر الى ايلينا متسائلا " وناوية برضه تشتغلى مع بابا فى الكافيه ؟؟"
ردت ايلينا " لا انا هدور على شغل فى مجالى "
_مجالك ؟؟
ربت سمير على كتف ايلينا قائلا " ايلينا مصممة ازياء بتصمم ازياء للمحجبات بس وكان ليها شهرة واسعة هناك فى باريس وسط العرب والمسلمين "
ابتسم محمود وهو ينظر لها فى اعجاب واضح لم يستطع اخفائه وفكرة ما تراود عقله " حلو اوى ..يبقا مش محتاجة تدورى احنا مجموعتنا بتوكيل لبس معروف واكيد هنحتاجك ..انا هكلم يوسف يسلمك شغل من بكرة "
شبكت ايلينا اصابعها وقالت " لحظة واحدة يا عمى بس ..اولا حضرتك مشوفتش شغلى ولا السى فى بتاعى عشان تعرف اذا كنت مناسبة للشغل ولا لا ...ثانيا واضح ان حضرتك مش اللى بتدير الشغل يعنى سورى ابن حضرتك هوا اللى من حقه يحدد ده "
عقد محمود ساعديه وهو يتراجع فى كرسيه قائلا " حاسس ان فيه ثالثا قوليها بالمرة "
حكت ايلينا كفها بجبينها قائلة " بصراحة انا مبحبش موضوع الواسطة فى الشغل ده خالص انا احب لما اكون موجودة فى مكان اكون موجودة عشان المكان ده محتاجلى ومحتاج شغلى ..يعنى انا مش هقبل اشتغل وانتو ممكن متكونوش محتاجين مصممين ازياء اصلا وهتشغلنى مجاملة "
رد محمود " خلينا ناخدها واحدة واحدة ..انا فعلا مش ماسك الشغل ويوسف هوا رئيس مجلس الادارة وانتى متعريفهوش معندوش مجاملات فى الشغل يعنى لو شغلك مش عاجبه لو حتى امه مش هيقبل وجودك وده برضه اجابة على سؤالك التانى انك مش هتكونى موجودة فى مكان مش محتاجك " ..اما بالنسبة لحاجتنا لمصممين ازياء فده حقيقى ..احنا فعلا محتاجين تغير ..اديكى شايفة الحجاب فى الشارع عامل ازاى ...يا اما لبس ضيق مينفعش يتقال عليه حجاب اصلا يا اما مهرول ويكره الناس فى الحجاب وانا اهو شايف لبسك قدامى راقى ومحترم وفى نفس الوقت شيك فوجودك فى المكان هيكون اضافة كبيرة ..وزيادة اطمئنان ليكى انا مش هقول ليوسف حاجة على علاقتنا ببعض ..انتى هتروحى تقدمى السى فى بتاعك وتوريه شغلك وهوا يحكم ايه رأيك ؟؟"
تنهدت ايلينا وهى تنظر الى سمير فقال " متبصليش انتى طول عمرك مسئولة عن قراراتك "
رفعت ايلينا رأسها قائلة " خلاص ياعمو حضرتك ادينى العنوان واى رقم تليفون اقدر اتواصل بيه مع الشركة عشان اعرف اخد معاد "
قال محمود فى اهتمام " طب خلينى اساعدك فى موضوع المعاد ده لان الدنيا بتبقى زحمة عنده وممكن تتأخرى على ما تقابليه "
رفعت ايلينا حاجبها وهى تشير بسبابتها قائلة " عمو انت وعدتنى مش هتتدخل "
نظر محمود الى سمير فى استسلام قائلا " بنتك واضح انها عنيدة ..عنيدة جدا ...خلاص يا ستى اللى يريحك "