رواية الماضي الملوث كامله وحصريه بقلم داليا السيد
بسم الله الرحمن الرحيم
رواية: الماضي الملوث
الجزء الثاني من رواية وجهان لامرأة واحدة
يا نبدأ على بركة الله
الفصل الأول
تحركت بريهان داخل المبني الفخم بخطوات ثابتة وقد فتح لها رجل الأمن الباب الزجاجي باحترام
بريهان الجبالي الأخت الوحيدة لرجل الذهب ليث الجبالي والذي ترك لها إدارة الفرع الخاص بشركته بلوس انجلوس، شركات التسويق الخاصة بماركة لاموند العالمية بالذهب والمجوهرات، أصبحت بريهان الآن هي المدير الإداري للفرع بعد أن أثبتت جدارتها بالمكان خلال العام والنصف الماضيين مما جعله يمنحها المنصب بعد أن أصيب المدير السابق بحادث طريق وكان الموت مصيره
كانت الألوان الرمادية والأسود هي الألوان المميزة لها بملابسها ورغم اعتراض دولت والدتها إلا أنها لم تهتم باعتراضها فحياتها تبدلت كثيرا والماضي مغلق عليه بسلاسل غليظة لا يدري بها سوى القليل ممن يعرفها ولكنها لم تكن تمضي وقت كثير لتفكر به فالعمل ومن قبله الدورات التدريبية التي لم تتوقف كانت تأخذ كل وقتها
فتح باب المصعد على الدور الذي به مكتبها، نظرت لها أليكس السكرتيرة وقالت "صباح الخير آنسة جبالي"
اكتسبت من أخيها الملامح الهادئة ومن ماضيها عيون رمادية تمتلئ بالغموض وخلفه يكمن حزن لا يعرف سببه سواها
قالت بصوت هادئ "صباح الخير أليكس، هل هناك رسائل هامة؟"
لم تنهض أليكس وقد بدا الحمل عليها بشهورها الأخيرة وقالت "بالتأكيد، الطلبات الأخيرة لم نرد عليها لذا هناك استفسارات كثيرة وصلت"
هزت رأسها ولم يتحرك شعرها الأسود القاتم الذي تركته دون قص ورفعته بكعكة بمنتصف رأسها دون تفكير بإطلاقه وقالت "سنفعل، ليث أرسل الرد بالموافقة على اقتراحاتي لذا عليكِ طباعة ما أمليته عليكِ بالأمس وإرساله لهم وبلغي الطاقم باجتماع بعد نصف ساعة، متى موعد الولادة؟"
تنهدت أليكس وقالت "آخر الشهر الموعد الأكيد وأي يوم هو احتمال"
منحتها ابتسامة هادئة عملية وقالت "إذن لا تنسي تدريب جولي لتحل محلك، سأفتقدك، أريد القهوة"
أجابت أليكس "حاضر لا تنسي موعد الغداء اليوم مع هاري"
هزت رأسها وتحركت لمكتبها وما أن جلست خلف مكتبها حتى فتحت جهازها وتركت تليفونها أمامها ثم اندمجت بالعمل عندما رأت رسالة على الهاتف من عهد -زوجة أخيها وصديقتها الوحيدة حاليا- تطمئن عليها وكانت مفاجأة عندما أخبرتها بأنها حامل ابتسمت وأرسلت لها رد بالتهنئة ثم عادت للعمل
انتهى الاجتماع على موعد الغداء وتحركت لسيارتها حيث قاد بها السائق، لم تحاول قيادة أي سيارة بأي يوم رغم أنها تجيد القيادة جيدا، ربما منذ تلك الحوادث التي مرت بها بحياتها جعلتها تأبى القيادة، الحادث الذي مات فيه والدها بمصر، إبراهيم الجبالي، كان الحادث الذي أعاد أخيها الكبير وغير الشقيق ليث لحياتهم وقتها عرف عهد زوجته ومن بعده حادث أخيها الأوسط معاذ والذي مات هو الآخر بسببه وانتهت الحوادث بها هي عندما كانت حياتها دمار وفشل و..
عندما توقفت السيارة انتهت الذكريات وفتح لها السائق فنزلت وتحركت لداخل المطعم ببدلتها السوداء وبلوزة زرقاء تحتها، تجولت عيونها داخل المطعم الفاخر وهي ترى هاري يشير لها فتحركت تجاهه
نهض للقائها فابتسمت وقالت "أهلا هاري"
جذب لها المقعد وهو يبتسم ويقول "بريهان كيف حالك؟"
هاري رئيس إحدى الشركات التي تتعامل مجموعة لاموند معهم بل من أهمهم وهاري كان يفضل التعامل معها شخصيا كما كانت تفعل ورغم أنها دخلت وسط رجال الأعمال منذ وقت قصير إلا أنها تسلقت السلالم بسرعة فائقة وبنجاح فائق لفت الأنظار إليها ربما كانت عهد القدوة لها بالحياة وجعلتها تريد النجاح الذي حققته قبل أن تتزوج ليث وتتفرغ لحياتها وابنهم أحمد
ابتسمت بوجه هاري وقالت "بخير، هل بدأت التفكير بالانتقال؟"
نظر لها بعيون بنية ضيقة ورفع خصلة شعر من نفس اللون للخلف وقال "لا، نيو جيرسي لا تلقى ترحيب من المالك"
طلب لها عصير قبل الغداء وهو يتناول كأسه الذي ما زال بيده فقالت "ومتى ستستقر؟"
ضحك وتألقت عيونه البنية ببريق لامع وهو يتجول على ملامحها وقال بصوت عميق "تمنيت كثيرا أن أفعل يوم رأيتك ولكن تعرفين النتيجة"
ضحكت وفرت من نظراته، هاري صديق تعرفت عليه منذ فترة لا تعرف عنه الكثير ولكن تعرف ما يكفيها لأن يكون صديق جيد خاصة وقت الأزمات، قالت "ستكف عن ذلك هاري ودعنا نبدأ الحديث المفيد، متى ستورد لنا المواد المطلوبة؟ أنا لا أحب غضب ليث عن التأخير"
تحرك بمقعده وقال "سنبدأ أول الاسبوع، غدا سنلتقي مع جوزيف مانسين وهو من سيقرر الأمور تعلمين أن الخيوط كلها بيده"
وضع الرجل لها العصير وابتعد فقالت "مانسين لا يحب التعامل معنا هاري فلتجد طريقة أخرى"
تبادلا الحديث عن العمل أثناء الغداء وللحظة توقفت عن المتابعة عندما لفت نظرها ذلك الجسد العملاق الذي ذكرها بأخيها وعندما رفعت عيونها رأت ذلك الوجه الطويل بارز العظام والابتسامة الساخرة تزين فمه ونظراته الحادة تتجه نحو الشقراء التي تقدمت بجواره
شعرت بالحرارة تكتسح جسدها ورغم ذلك سمعت هاري يقول "بريهان ماذا حدث؟ هل بكِ شيء؟ لقد شحب وجهك فجأة"
أبعدت وجهها عن الثنائي الذين تحرك لهما المسؤول باهتمام وأرشدهم للنصف الآخر من المطعم فارتاحت لأنها بعيدة عن نظراته الساخرة
انتبهت لهاري وقالت "آسفة هاري ولكن الصداع دق فجأة برأسي، هل انتهينا أريد أن أعود المكتب لدي عمل هام؟"
ظل يحدق بها لحظة حتى قال "حسنا، هل ستأتين حفل الغد؟"
هزت رأسها بالموافقة وتاهت نظراتها بعيدا وهي تجيب "نعم كليف أرسل لي دعوة تعلم أن هيلين زوجته تعاملت معي شخصيا وتعتبر نفسها صديقة لي"
تنهد وقال بقوة "ستأتين معي"
عادت له بعيون حادة وقالت "هذا أمر هاري؟"
زفر بقوة وقال "بريهان!؟"
تراجعت بالمقعد وقالت بضيق "لا أحب طريقتك هذه أنت لست المسؤول عني هاري أنا كبيرة بما يكفي لاتخاذ قراراتي بنفسي"
نفخ وتناول ما تبقى بالكأس مرة واحدة ثم عاد لها وقال "اهدئي بيري أنا لم أقصد، فقط لن أتحمل رؤيتك بذراع رجل آخر"
لم تتبدل ملامحها وهي تقول "والآن عليك بالتوقف أيضا هاري لقد ناقشنا هذا الأمر كثيرا وانتهينا، نحن فقط أصدقاء فلا تجعلنا نفقد هذا أيضا"
شحب وجهه وسكنت نظراته عليها قبل أن يقول "أخبرتك أني سأغير ديانتي بيري ووقتها يمكننا أن"
جذبت حقيبتها ووقفت بإصرار وقالت "شكرا على العصير والغداء هاري ولا أظن أن لدينا أي شيء آخر"
لم تكن تريد إثارة أي جلبة حتى لا تلفت انتباه تلك العيون الساخرة التي اختفت بركن خاص تأكدت أنه خفي عن العيون حتى يمكنه ممارسة هوايته المفضلة مع النساء، متى وصل لوس أنجلوس؟ ولماذا؟ هل ما زال يذكرها كما تذكره؟
تحركت ولكن يد هاري أمسكت معصمها لتوقفها وهو يقف بجوارها ونظراته الجادة تحاصرها وهتف "انتهينا بريهان سأغلق الأمر هل تجلسي الآن؟"
سكن الغضب قليلا داخلها وهي تكن لهاري مشاعر خاصة فكثيرا ما كان موجودا بأوقاتها الصعبة لذا عادت لتجلس ونفذ وعده بإغلاق باب الغضب وأكملا الغداء بجو متوتر وحديث بارد عن العمل..
عادت متأخرة كالعادة لتجد والدتها بانتظارها على مقعدها المتحرك بعد تلك الحادث منذ سنوات بمصر عندما مات زوجها الجبالي الكبير بها وأصيبت هي بالعمود الفقري مما أقعدها على الكرسي المتحرك
ابتسمت لها دولت وهي تُقبلها وقالت "متى ستعودين يوما مبكرا؟"
ألقت جسدها على المقعد الوثير وقالت بتعب واضح "من الصعب أن أخبرك ماما فالعمل لا ينتهي"
سألتها والدتها "تناولتِ العشاء أم أجعل ميرا تجهزه؟"
أغمضت عيونها بتعب وقالت "تناولته بالمكتب، أليكس تركت لي وجبة قبل رحيلها وهي المفضلة عندي فتناولتها كلها"
ابتسمت دولت وقالت "هل أخبرتك عهد بالحمل الجديد؟"
فتحت عيونها وقالت "نعم، أرسلت لي بالصباح، بالتأكيد بعد شهر العسل الثاني بالمالديف لابد أن تعود حامل، لقد ترك كل شيء لماك وعزيز ورحل معها ومع أحمد وجددا شهر العسل"
ضحكت دولت وقالت "يستحقون السعادة بعد كل المعاناة التي واجهتهم هل نسيتِ؟"
تنهدت ونهضت وهي تقول "لا ماما أنا أمزح هم يستحقون كل السعادة بالطبع، أنا بحاجة للنوم، لدي غدا يوم طويل، مرور على محلاتنا الخاصة وبالمساء حفل"
تحركت ولكن دولت قالت "ألن نتوقف عن دوامة العمل هذه والبحث قليلا عن حياتك الأخرى؟"
أغمضت عيونها ونفخت وقد أدركت أن دولت ستبدأ ذلك الحديث الممل عن الزواج والارتباط وأنها بلغت الثلاثين وعليها أن تفكر بحياتها
فتحت عيونها والتفتت لها وقالت بهدوء "ماما من فضلك لا داعي لنبدأ حديث تعلمين جيدا نهايته"
اسود وجه الأم وامتلأت عيونها بالحزن وهي تقول "أنتِ ابنتي الوحيدة بيري"
انحنت على والدتها وقالت "ماما أنتِ تعلمين جيدا أن ليس من السهل أن يكون هناك رجل بحياتي، ليس بعد ما أصابني"
ضمت المرأة يدها على يد ابنتها بقوة وقالت "هذا ليس سبب بيري هناك الكثيرات ممن لديهم إعاقة وهي لم توقف حياتهم"
لم تترك يد دولت ولم تستسلم لمشاعر الألم داخلها من الكلمة وهي تقول "لا وأنا لم أفعل ماما، حياتي لم تتوقف وها أنا ناجحة بعملي ولولا ذلك ما ترك لي ليث الفرع كله بكل محلات العرض، ماما الزواج والرجال ليس الهدف الذي أعيش من أجله"
قالت دولت برجاء "ولكن ليس هناك مجال للزواج هنا بيري دعينا نعود مصر، هنا كلهم أجانب"
جذبت يدها من يد دولت وابتعدت وهي تقول بفزع واضح "لا ماما، أنا لن أعود مصر خاصة إذا كان من أجل الزواج"
التفتت لوالدتها بإصرار وأكملت "ماما أنا أحب حياتي هنا، نجاحي كامرأة لها هدف تعلمين أن مصر لا تمثل إلا الفشل والدمار والنهاية لذا لا يمكنني العودة والا لخسرت كل ما تعبت من أجله بالعام والنصف الماضيين"
أخفضت دولت وجهها بحزن فتحركت لها وعادت نبرة الحنان تهزم الغضب وهي تقول "ماما أنا سعيدة هكذا ألا تهتمين بذلك؟"
رفعت الأم عيونها الباكية لابنتها وقالت "أنا تعذبت كثيرا بسبب ليث وعانيت الألم والحزن حتى داوينا جراحنا وما أن فعلنا حتى اشتعل الألم من جديد من أجلك، أريد رؤيتك زوجة وأم، لكِ رجل يحبك ويرعاكِ وأطفال تملأ حياتك أنا لن أعيش للأبد بيري"
انحنت وضمت أمها لها بقوة وقالت "لا ماما، أطال الله عمرك من أجلي، عندما يأذن الله لي سيكون أمره منتهي فقط لا تحزني فأنا لا أتحمل دموعك وحزنك، أرجوكِ ماما"
هزت المرأة رأسها وضمت ابنتها لصدرها بحنان ولم تجادل أكثر وهي تعلم أن الحديث لا داعي له
ارتدت فستان اسود طويل بالطبع، مغلق الصدر فقط ذراعيها البيضاء الطويلة هي ما ظهر من جسدها وبالطبع ارتفع شعرها لمنتصف رأسها كالعادة وبعض الخصلات انسابت بحرية على أكتافها، أقراط لاموند الذهبية هدية أخيها بعيد ميلادها الثلاثين تلألأت من أذنيها وأسورة تماثلهم وجذبت حقيبة فضية تناسقت مع الحذاء الفضي الأنيق المناسب لها وقد كانت راضية عن نفسها والسائق يفتح لها أمام الفيلا المقام بها الحفل
كان من الصعب على امرأة أن تحضر حفل بدون رفيق ولكن الجميع أصبح يعرفها جيدا وأحيانا كانت تسمع لقب المرأة الباردة عندما تمر بجوار نساء أخريات ولكنها لم تهتم ولن تهتم
كليف كان منافس قوي وشريف لمنتجات لاموند ولكن هو يعتنق الفضة، من عشاقها كما هو ليث من عشاق الذهب لذا كانت المنافسة حرة وشريفة وبالعام الماضي أمضت عطلة نهاية اسبوع رائعة بمنتجع سياحي ملك له بدعوة من هيلين زوجته وقد أصبحت صديقة لها بسرعة خارقة وهي لم ترفض
أسرعت هيلين إليها وقد كانت بالثانية والثلاثين ولديها فتاة بالخامسة رائعة تعشق بيري جدا، لديها عيون خضراء رائعة وشعر أصفر قصير تهتم به جدا تحب مساحيق التجميل بكثرة جسدها ممتلئ قليلا ولكنها بالمجمل جميلة
احتضنتها هيلين وقالت "سعيدة أنكِ أتيتِ، هل فلتِ من هاري؟"
ضحكت بصوت مرتفع بينما ارتسمت ابتسامة هادئة على شفتيها وقالت "بالكاد هيلين، كيف حال بوسي الصغيرة؟"
وضعت هيلين يدها بذراع بيري وقادتها للداخل حيث امتلأت القاعة بالكثير من رجال الأعمال المعروفين والثراء هو السمة الأولى على الجميع، تلونت النساء من حولها بألوانهم وأزياءهم ولكن ولا مرة فكرت بتغيير ملابسها القاتمة..
كليف كان رجل متوسط القامة بمتوسط الأربعينات يهيم بحب زوجته وابنته، ابتسم لها وجذب يدها لفمه وقبلها وهو يقول "بيري تبدين رائعة"
قالت "وأنت أيضا كليف تبدو بأوائل الثلاثينات هيلين عليها أن تقلق عليك"
ضحك الثلاثة وتبادلوا الحديث بسعادة وسرعان ما انضم لهم العديد من رجال الأعمال ولم يذهب عنها انضمام نساؤهم لهم وهم يرمقوها بنظرة تعرفها جيدا..
تناولت رشفة من العصير عندما سمعت هاري يقول "رغم أنه الأسود إلا أنه مذهل عليك بيري"
التفتت تجاهه وقالت وقد بدا وسيما حقا وعيونه تلمع لرؤيتها "هو لوني المفضل هاري"
هز رأسه وقال "أعلم، لا تتنازلين عن تلك الألوان القاتمة، ما السر بها بيري؟"
أبعدت عيونها عنه وهي ترفع كأسها لفمها لتتوقف عيونها على تلك العيون الزرقاء التي تعرفها جيدا وهي تحدق بها بطريقة أفزعتها، لم تستوعب الأمر ورشفة العصير التي لم تنتبه لها جعلتها تسعل بشدة فأخذ هاري منها الكوب حتى هدأت واعتذرت فقال
"هل أنتِ بخير؟"
أدركت أن المفاجأة أخذتها، لماذا يسقط بطريقها هذه الأيام؟ ونظراته تلك هل تعني شيء؟ كان يحدق بها بطريقة أفزعتها
هدأت وقالت "أنا بخير هاري، من الواضح أن الازدحام ورائحة الدخان جعلوا صدري يضيق"
كان هاري مهتم حقا بها بينما تعمدت هي ألا ترفع وجهها مرة أخرى بنفس الاتجاه، ليس لديها أي رغبة برؤيته مع نساؤه ولا مواجهة نظراته الساخرة التي عرفتها..
أعادها هاري للهدوء بكلماته الهادئة وأخذها للأحاديث العامة حتى أنه استطاع أن يجعلها تضحك وقد نست ما حدث ولكن ما زالت تشعر بوجود ذلك الرجل حولها وكيف لا وهي تدرك تماما ما يفعله بها وقد كرهته بسبب ذلك وما زالت تكرهه
كانت صحبة هاري لطيفة حقا وهو الوحيد الذي بإمكانه جعلها تخرج من البرود الذي تحيط به نفسها وقد تساءل رجال كثيرة حول تلك المرأة التي لا علاقات لها ولا رجال بحياتها، كانت تضحك على كلمات هاري ولكن سرعان ما اقتربت منهم فتاة عشرينية شقراء متفتحة الملابس ووقفت بجوار هاري ورمقت بيري بنظرة غير مفهومة جعلتهم يوقفون الضحك وهي تقول
"بالتأكيد لم تأتي بي معك لتتركني وتذهب لامرأة أخرى، هذا ليس من الذوق بشيء هاري"
التفت للفتاة وذم فمه بشدة وبيري تدرك أن تلك حركته عند الغضب ولكنه تماسك وقال "لن نتحدث عن الذوق الآن شيلا، هذه بريهان صديقتي وبيننا عمل"
رفعت شيلا وجهها الأبيض النحيف المستدير لبريهان وقالت بامتعاض واضح "امم، عمل، حقا؟ وهل أنتم تعملون الآن حبيبي؟"
جز على أسنانه بينما نفخت بريهان وقالت "لا، نحن نتناول المشروب سويا ولقد انتهينا، أتمنى لكما سهرة سعيدة"
وتحركت مبتعدة حتى قبل أن يعترض هاري على ذهابها، أول زجاج دلفت منه للحديقة حيث اختفت أصوات الموسيقى والمدعوين وارتجفت قليلا من نسمة الليل الباردة ولكن مشهد السماء الرمادية من تأثير نور القمر المكتمل جعلها تشرد معه وربما أرادت عد النجوم المتناثرة حوله بغزارة بليلة بدت رائعة حقا وظلت لحظة شاردة وربما كاد الماضي يجذبها بقوة ولكن ذلك الصوت العميق والمحلى بالنبرة الساخرة جعلها ترتد من ذكرياتها البعيدة وتفزع له وهو يقول
"تبدين بالضبط مثلها"
ابتعدت من قربه الذي لم تشعر به ورمقته بنظرة نارية بعيونها الجميلة فبدا كما كان من عام ونصف مع بعض التجاعيد حول فمه وعيونه دليل على التسعة وثلاثين عاما التي يحملها، أبعدت عيونها وحاولت الثبات وتهدأ جسدها الغاضب ولم ترد فابتسم نفس ابتسامته الساخرة وقال
"الأسود عليكِ كالسماء الانسيابية والأقراط الماسية نجومك ووجهك الأبيض المستدير قمرك المضيء"
احمر وجهها من كلمات الغزل الصريحة وهي تندهش لنفسها فهي لم تتأثر بكلمات أي رجل من قبل فلماذا ترتجف لقربه وتحمر لكلماته؟
التفتت له ورفعت رموشها الطويلة لتنظر له بأناقته المثيرة للاهتمام ببدلته التي كانت من ثلاث قطع وهي تعلم أنه لا يرتدي سواها، ربطة العنق رائعة حقا، عطره جذبها بقوة، كان عليها أن تتحدث حتى لا يدرك تأثيره عليها فقالت
"ما زلت تفعل ذلك"
ضحك بصوت معتدل وتناول بعض من مشروبه ثم قال "وما زلتِ تحمرين خجلا"
أبعدت وجهها واستدارت لتذهب ولكنه خطا خطوة واحدة فسد عليها طريق العودة وقال "لماذا تغضبين من كلمات الغزل بريهان؟ أي امرأة تهواها وتعشق سماعها؟"
إذن ما زال يذكرها، بل ويذكر اسمها، كيف وهو يعرف العديد من النساء، الحقيقة هو ربما لا يعرف عددهم من كثرتهم وأن يتذكر اسمها من بينهم أدهشها، تغاضت عن سؤاله وقالت وهي ترفع حاجبها الأسود الطويل
"أنت تذكر اسمي!؟"
انحنى من طوله الشاهق ليصل لوجهها وقال برقة "تلك العيون لا تنسى عزيزتي، فقط لم أكن أعرف أين اختفيتِ؟"
تراجعت من قربه وأنفاسه التي تدل على الويسكي وقالت "لا أظن أنه من شأنك"
تحركت مرة أخرى ولكنه تحرك معها وسد الطريق أيضا فقالت بضيق "هل تبتعد عن طريقي؟"
لمعت عيونه الزرقاء بنظرة مسحت كل قوامها حتى عاد لعيونها وقال "لم تعاملني امرأة بتلك الطريقة من قبل، أنت منفردة عزيزتي"
تراجعت بقلق من حالته ومن كلماته ولكنها تماسكت ولم تضعف وقالت "لأني أعرف أي نوع من الرجال أنت ولا أحب التعامل معهم لأنني لست نوعية النساء التي تملأ جناحك"
ضحك بقوة وتراجعت هي حتى توقف وسقطت عيونه عليها مرة أخرى وقال "هل هذه نظرة غيرة بيري؟"
غضبت وقالت بقوة وحزم "لا تناديني بهذا الاسم ليس مسموح لك لتفعل هل تفهم؟"
وكأنه لم يثير غضبها وهو يلتهم وجهها بنظراته وقال بهدوء "لستِ باردة كما يدّعون"
وانحنى مرة أخرى حتى اقترب منها جدا وهو يقول "بل أنا أرى امرأة حارة ومثيرة وفاتنة وقضاء ليلة معها بالفراش سيكون من أمتع ما يكون"
لم تتردد لحظة وهي تنزل بأصابعها الطويلة على خده بقوة جعلت يدها تؤلمها والدموع تنطلق لعيونها من إحساسها بالإهانة وهتفت به "أنت حقير"
وتحركت أخيرا من جواره بأقدام مهتزة وقد ارتجف جسدها وفقدت الرؤيا أمامها من دموعها وهي تخترق الزحام من حولها حتى حصلت على المعطف الخاص بها وحقيبتها ورحلت لسيارتها وانطلق بها السائق وقد تركت دموعها تنزل وهي لا تدرك سببها، ربما كلماته جعلتها تشعر أنه يظنها من تلك النساء الرخيصة، أو أنها لم تتوقع منه ذلك، أغمضت عيونها وهي تدرك أنه ينتقم منها لأنها رفضته مرة بالماضي واليوم فعلتها مرة أخرى فليس عليها أن تغضب كلاهم جرح الآخر ولكن هو يستحق
لم يلتفت لها بعد أن طبعت أصابعها على وجنته وشعر بقوة الغضب الذي تسبب لها فيه والغضب الذي تملكه، سمع حذاءها وهي تسرع خارجة ملقية إياه خلفها باحتقار كما فعلت المرة السابقة، لم تهينه أو ترفضه امرأة سواها وعلقت بذهنه منذ رآها وزاد الأمر عندما رفضت دعوته للفراش فأراد أن يهينها فردت له الإهانة بقوة زادته غضبا على غضبه مما جعله يطبق بأصابعه على الكأس حتى تفجر بيده ورغم أنه جرحه وشعر بدفء الدماء إلا أنه لم يهتم ولم يسكن الغضب الذي أشعلته داخله وهو ينطق من بين أسنانه
"تشعلين النيران داخلي بكل مرة أراكِ، أي امرأة باردة أنتِ؟ أنتِ بركان متفجر بكل أنواع الحمم وتحرقين كل من يقترب منك ولكن ترى من منا سيطفئ لهيب الآخر؟"
يتبع..