رواية الماضي الملوث الفصل الثاني 2 بقلم داليا السيد
الفصل الثاني
من أنتِ؟
لم تكن دولت مستيقظة فحمدت الله وأسرعت لغرفتها وأغلقت الباب خلفها وظلت بمكانها لحظة وما زالت تقاوم الدموع، لم تعرف لماذا كان الأمر مؤلم لهذا الحد؟ فقط كلماته صورتها كامرأة سهلة الانقياد وحديثه يجعلها كذلك، تحركت للأمام حتى جلست على طرف الفراش وأغمضت عيونها وهي تهمس
"أنا لا أريد أي رجال بحياتي، أنا أصلا لا أصلح لأي رجل فلماذا تسقط بطريقي؟ ماذا تريد مني؟"
لم تصل لأي إجابات وظلت عيونه الساخرة تطاردها حتى سقطت بالنوم مع أول ضوء للنهار ولم تستيقظ إلا على رنين هاتفها، فتحت عيونها بصعوبة من البكاء ومدت يدها للهاتف لتجيب دون رؤية المتصل لتجد صوت هيلين تقول
"بيري كيف حالك عزيزتي؟"
رفعت شعرها الحالك عن وجهها واعتدلت بصعوبة من الصداع وقالت "أهلا هيلين"
سمعت المرأة تقول "لم تستيقظي بعد؟ إنها العاشرة"
الصداع ضربها بقوة فأغمضت عيونها وقالت "اليوم السبت هيلين"
ضحكت المرأة وقالت "إذن لنذهب للمنتجع الخاص بكليف ونمضي اليوم ونعود غدا بالمساء"
كانت متعبة حقا فقالت "لا هيلين أنا متعبة وأريد البقاء بالفراش اليوم"
ولكن المرأة لم تستسلم وهي تقول "لا أمامك نصف ساعة قبل أن أقود باتجاه بيتك هيا أحضري فستان أنيق للعشاء"
ولم تمهلها فرصة للاعتراض، تركت الهاتف وسقط رأسها على الوسادة للحظة عندما رن هاتفها برسالة فعادت تفتحه لتجدها من رقم غريب وتراجعت وهي تقرأ "الورود البيضاء تعني السلام ومني تعني الاعتذار"
تعالت دقات قلبها مرة أخرى وهي تقسم أنها منه، فزعت عندما دق الباب ودخلت الخادمة تقول "صباح الخير آنسة، مسز جبالي تسأل عنك"
نهضت وقالت "أخبريها أني قادمة هل يمكنك إعداد حقيبتي لليوم وغدا؟"
أجابت الفتاة "بالطبع آنسة هل أضع شيء رسمي؟"
تحركت للحمام وقالت "نعم من فضلك"
اغتسلت وبدلت ملابسها ببدلة بنية وربطت شعرها للخلف وتحركت للخارج ودولت تجلس أمام النافذة بغرفة المعيشة، طبعت قبلة على وجنتها وهي تقول "صباح الخير"
ابتسمت لها دولت وقالت "صباح الخير حبيبتي، عدتِ متأخرة بالأمس؟"
سكبت بعض القهوة لنفسها وأخذت كعكة وهي تقول "نعم، ماما هيلين تصر على قضاء العطلة بالمنتجع، ستمر عليّ الآن"
هزت رأسها وقالت "الورود البيضاء تخصك؟"
رفعت نظرها إلى حيث أشارت دولت ورأتهم بالزهرية، كانت باقة رائعة حقا وتثير الراحة بالنفس وربما كما قال السلام، احمر وجهها وتسمرت قدماها دون أن تتحرك وعيونها تتأمل الباقة بينما قالت دولت
"هل هناك مصدر لها؟"
انتبهت لدولت وقالت "آه، بالتأكيد، هل هناك بطاقة؟"
تأملتها دولت وقالت "لا"
هزت كتفيها وتذكرت الرسالة وقبل أن يعود الحديث كانت سيارة هيلين تقف أمام البيت فقبلت والدتها وفرت هاربة منها وهي تقول "سأعود غدا ماما"
تحركت خارجة والفتاة تضع حقيبتها بالسيارة وركبت بجوار هيلين والتي تحركت بها ورأت بوسي الصغيرة تهتف باسمها فالتفتت لترحب بها بسعادة
تركا الطفلة بركن الأطفال بالمنتجع وجذبتها هيلين لمركز التجميل وتدللت كلتاهما بحمامات التجميل والشعر والبشرة والتدليك وخرجا منه غاية في الراحة والسعادة ونست ما حدث بالمساء ولم تعد تذكر ذلك الرجل بذلك الوقت وهي تشعر بالسعادة لجمالها الذي ظهر بعد خروجها من المركز
تناولت الغداء مع هيلين وبوسي ثم اتجهت لغرفتها واستلقت على الفراش فاستغرقت بالنوم دون أن تشعر
عندما استيقظت كانت السادسة تقريبا، فتحت هاتفها لتتصل بدولت فوجدت رسائل صوتية سمعتها حتى وصلت للثالثة وصوت تعرفه يقول "هل الصمت يعني الموافقة؟ العشاء تحت نجوم السماء المضيئة مثل أقراطك الماسية"
شحب وجهها وعاد الغضب لها، كيف يجرؤ على ذلك؟ هل نسى ما فعله بالأمس؟
قذفت الهاتف وقد أغلقته مرة أخرى ولم تفكر حتى بالرد وهي تنهض وتغتسل وارتدت فستان رمادي طويل بحزام فضي أظهر خصرها النحيف وتعلق على أكتافها بحمالات عريضة وصدره على شكل حرف v، وتركت شعرها على نفس الانسيابية التي صففها بها مصفف الشعر بالصباح وخرجت تبحث عن هيلين حيث كانت بالمطعم
تلقاها المختص والذي كان يعرفها بابتسامة رائعة وقادها حيث هيلين تجلس وتتحدث لكليف فاندهشت وهي تقول "كليف! لم تخبرني هيلين بوجودك"
قالت هيلين "لم أكن أعرف بيري"
ابتسم وقال "انتهيت من عملي وشعرت برغبة بالعطلة، هل قطعت عليكم الخلوة؟"
ضحكت كما فعلت هيلين التي قالت "حبيبي أنا سأدع بيري تحضر معي كل عطلة لأنها جعلتك تأتي"
هتفت بتورد "هيلين!؟"
ضحك الرجل وقال "لا تنزعجي بيري فهي تقلل من مشاعري تجاهها وهذا يجرح مشاعري؟"
ضحك الجميع ووصل الرجل لأخذ طلبات العشاء ولكن قبل أن يطلب الجميع سمعوا صوتا تمنت ألا تسمعه وهو يقول "هل ستفعل بدوني كليف؟"
نهض كليف لتحيته ولم تفكر هي حتى بأن ترفع وجهها لرؤيته وقد تسللت الحرارة لجسدها رغم اعتدال الجو حولهم وسمعته وهو يتحدث لتحية هيلين حتى قفز قلبها من بين ضلوعها عندما قال "كيف حالك بيري؟"
بصعوبة رفعت وجهها لتلتقي بعيونه الزرقاء التي كانت تنظر لها وتأمرها أن تواجهه ولم تلاحظ مشاهدة هيلين وكليف لها عندما تأخرت بالرد فجذبت صوتها بصعوبة وقد أدركت أن ملامحها تغيرت وهي ترد
"أهلا زهير"
اسمه مختلف، لأول مرة تنطق به، ما زال يذكر أول مرة لهما وهي تتردد بقول سيد زهير ووقتها كان يغازلها بوقاحة مما جعل الأمر بينهما يسوء لأنها أيضا صفعته بذلك اليوم، للحظة تملكه الغضب من نبرة صوتها الرقيقة ونظراتها الغاضبة ولكنه لن يتراجع، لابد أن ترضخ مثلها مثل كل النساء اللاتي عرفهن من قبل، صوت كليف قطع اتصال نظراتهم وهو يقول
"زهير تعالى كنا سنطلب بدونك"
تألق ببدلته المسائية الخفيفة وأبعدت عيونها عنه كي لا يرى الغضب الذي يتأجج داخلها، فتح جاكته وجذب المقعد المجاور لها وجلس بكل جرأة وكأنه يتحداها أن ترفض وهو يقول
"التقيت بأحد الرجال قبل أن أركب السيارة فتأخرت"
طلب الجميع العشاء وقال كليف "المهم أنك هنا، بيري هل أرسل ليث الموافقة؟"
نظرت له وقالت "نعم بالأمس وأليكس أرسلت لمكتبك"
تراجع بالمقعد وهو يتأمل ملامحها وقد زادت جمالا رغم ألوانها القاتمة غير فاهم سببها، من هن مثلها من النساء يظهرن جمالهن بكل الطرق وليس الاسود والرمادي منهم ولولا اتصاله بكليف ما عرف أنها هنا معهم وما اقترح تناول العشاء معهم
وصل الطعام وظل صامتا وهي تتابع كليف بالعمل حتى هيلين احترمت حديثهم وربما تملكه الإعجاب من طريقتها الواثقة وهي تتحدث عن العمل وأدرك أنها كانت جديرة بالمكانة التي اكتشف أنها وصلت لها مؤخرا
ما أن انتهى الطعام والذي رافقه تلك الزجاجة العتيقة والزهيدة بسعرها وقد تناول منها الجميع عدا هي وهو وقد تناولت عصير البرتقال، رفع الرجل الطعام ورن هاتف هيلين فقالت
"إنها المربية اسمحوا لي، بيري آسفة لابد أن أرى بوسي"
ابتسمت لها بينما نهض كليف هو الآخر وقال "انتظري هيلين أنا أرغب بالنوم، زهير أرجو أن تتصرف وكأنك صاحب المكان، بيري لستِ بحاجة لكلماتي"
اهتزت ابتسامتها وهي تدرك أي موقف وضعها به الزوجين عندما أجاب زهير "لا تقلق كليف أتيت لأستمتع بوقتي"
ابتسم كليف وتركهم مع زوجته وما أن تحركا حتى نهضت لتذهب ولكنه توقع ذلك فقبض على معصمها وقال "الورود لم تكن كافية، هل لابد أن اعتذر بنفسي؟"
نظرت ليده وقالت بقوة وغضب "ابعد يدك عني"
اندهش من قوتها في مواجهته فلم تتبدل ملامحه وقال "سأفعل بعد أن تجلسي، هيا بريهان كنت قد أسرفت بالشراب بالفعل"
ترددت قليلا وقد لانت قبضته على معصمها فجلست فترك يدها وقالت "لست ممن يفقد عقله بسهولة سيد زهير"
مال تجاهها بجسده وعيونه تتألق بنظرات لم تفهمها وهو يقول "لم تعودي تلك الفتاة التي تتلعثم أمامي وهي تخبرني عن خبراتها بالعمل، زهير أفضل، ولا، أنا لا أفقد الوعي بسهولة ولكن بجوار مؤثرات أخرى قد أفعل"
ظلت تحدق به للحظة ثم أبعدت وجهها عنه وقالت "هل تسمح لي بسؤال؟"
أخرج علبة سجائر ذهبية ولم تظن أنه كان يدخن ولكنه فعل وهو يشعل السيجارة الطويلة ذات الرائحة الغريبة بولاعة ذهبية أيضا لفتت انتباهها وبدا عليها بروز ربما حروف واضحة لم تفهمها
نفخ الدخان بعيدا عن وجهها وعاد لها قائلا "بالطبع ربما يحسن السؤال من وضعنا فنحن لا نجيد شيئا سوى الصفع والهروب"
غضبت وقالت "أنت تستحق، بكلا المرتين تستحق ولست نادمة"
ضحك بصوت هادئ وعيونه تلاحق عيونها الغاضبة وقال "لدي كل الأعذار لم أجد امرأة من قبل ترفض الغزل"
أبعدت وجهها المتورد من أمامه وقالت "بل ترفضك أنت سيد زهير، المشكلة أنك تظن أنك الرجل الذي لا يرفض"
اقترب منها فتعطر الجو برائحة عطره وهو يقول "كان ذلك صحيحا حتى وقفتِ أنتِ بالطريق وأدرتِ المسار لأصبح الرجل الذي يصفع"
نظرت له وقالت بثقة "هل تلمح للاعتذار لك لأني لن أفعل؟"
ظل يواجه عيونها ثم عاد ليدخن سيجاره ونفخه بقوة وقال "لا، لا أريد أي اعتذار هل نتوقف عند هذا الحد؟ أذكر أن لكِ عندي سؤال لم تلقيه بوجهي"
استسلمت هي الأخرى فلا مجال للحرب التي لن تتوقف وقالت "ماذا تريد مني؟"
ضاقت عيونه الجميلة وانزوى حاجبيه بعقدة على جبينه وقال "أعرفك، أريد أن أعرفك، منذ رأيتك وشعرت أن هناك الكثير خلف تلك العيون الحزينة والملابس القاتمة التي تصرين عليها وعندما رأيتك بالحفل لم أجد شخص لا يلقبك بالمرأة الباردة فما السبب؟"
اخترق ما لم تسمح لأحد باختراقه فشعرت بأنه يلف الخناق حول عنقها وهو يدس رأسه بسرداب ذكرياتها وهي تأبى أن تسمح لأحد، لن يسعد أحد وهو أولهم بمعرفة تاريخها المشين وذكرياتها السوداء أو..
زاد اختناقها ولمعت دمعة بعيونها فأبعدت وجهها ونهضت فجأة وقالت "أشعر بالتعب اسمح لي"
ولكنه أدرك أنه لمس بها حقيقة تريد الهروب منها وتلك الدمعة المتصدرة عيونها الجميلة أكدت ذلك فكان أسرع وهو يقف أمامها وقال بصدق "هل نسير قليلا على الشاطئ؟ ربما يساعدك البحر على الاسترخاء"
هزت رأسها بالرفض دون أن ترد وما زالت عيونها عالقة بعيونه ولم تنطق وهو يكمل "أعدك ألا أتجاوز، لم أتناول أي كحول الليلة"
ظلت تنظر له بصمت وهي تعرف أن كل ما عليها الآن أن تستدير وتلقي عليه تحية المساء وتذهب ولكنها لم تفعل وتركته يدفعها بلمسة رقيقة على ذراعها تجاه الشاطئ حيث غرزت الأحذية بالرمال وشعرت بنسمات باردة تشق طريقها لوجهها وازداد انعكاس ضوء القمر على البحر فجعله ستارة رمادية تنساب بهدوء مطلقة رائحة البحر الجميلة من حولهم
لم تدرك أنه كان يتأمل ملامحها الرقيقة بصمت وربما ما زال يصر على أفكاره ومع ذلك جزء خفي به يتساءل عنها
التفتت له لتراه يحدق بها ولولا الظلام لظهر خجلها من نظراته، أبعدت عيونها وقالت "هل عشت بمصر أبدا؟ لغتك العربية واضحة وكأنك عشت منذ الأذل بها"
وضع يداه بجيوب بنطلونه وأبعد وجهه عنها وقال "ولدت بها وعشت عشرين عاما من عمري هناك"
لم يتوقفا عن الحركة وعندما صمت نظرت له فأكمل بصعوبة وكأنه يبحث عن الكلمات "رحل والدي وأنا بالخامسة عشر وترك لي شركة الأسيوطي مديونة وأعداء لا حصر لهم، الأقارب اختفت من حولي ولم أجد أحد حتى بالجنازة"
توقف والتفت للبحر فتوقفت بجواره وقالت "أعمام أو عمات"
لم ينظر لها وهو يقول "وقتها لم أكن أعرف أحد منهم، كنت أعرف أن لي عم واحد وعمة ولكنهم كانوا يقيمون بأسيوط بلد والدي وهو ترك البلد صغيرا ورحل للقاهرة وهناك تزوج أمي وأنشأ الشركة"
أخرج علبة السجائر وأشعل واحدة والتفت لها وقال "لماذا تسألين؟"
اندهشت من سؤاله وقطعه لحكايته فرفعت حاجبها الأسود الطويل وقالت "أخبرتك أن لغتك كأصحاب البلد، هل أزعجك سؤالي؟"
ظل ينظر لها بصمت، لن يعجبها تاريخ والديه الذي لا يعرفه أحد ولا تاريخه هو أصلا، هو ماضيه الخاص وليس من حق أحد معرفته، نفخ الدخان بقوة وأجاب "يزعجني أنكِ تديرين الدفة بذكاء بعيدا عنكِ"
ظلت النظرات عالقة بينهما حتى أبعدت عيونها عنه وقالت "إذن سيتوقف كلانا عن التنقيب بماضي الآخر"
نظر لأكتافها الصغيرة التي واجهته وشعرها المربوط بقوة للخلف وقال "ربما، منذ متى وأنتِ بأمريكا؟"
رمقته بنظرة من تحت عيونها وقالت "عامان ونصف تقريبا"
أحنى رأسه بتقدير وقال "لغتك رائعة مع ذلك الوقت القصير"
ابتسمت وقالت "أنا كنت بمدرسة دولية اللغة الإنجليزية هي اللغة الأولى بها لذا لم تمثل لي اللغة أي مشكلة"
هز رأسه وقال "عائلة الجبالي اسم كبير بمصر وهنا"
أبعدت وجهها وقالت بعمق "نعم"
اختصار الإجابة زاده فضول تجاهها والغموض الذي يلفها يجذبه أكثر لها تحرك حتى وقف أمامها وحجب ضوء القمر عنها بقوامه الهائل فرفعت وجهها له بدهشة وهو يحدق بها وقال
"لا رجال بحياتك فهل هناك سبب؟"
شحب وجهها وشعرت ببرودة تسري بكل جسدها، مرة أخرى يتسرب لدواخلها التي لا تسمح لأحد أن يخترقها، لم تفر وهي تعلم أنها لابد أن تجيب لأنه لن يتوقف فقالت
"بمصر كرهت العلاقات وهنا العمل كان هدفي"
أخذ نفس عميق من سيجارته ونفث الدخان بالهواء الطلق وقال "كان هناك رجل؟"
ظلت ثابتة وقالت "ليس بالمعنى الذي تقصده"
لا يعلم أي مسمى يمكن أن يطلقه على ما شعر به وعندما تحركت من أمامه أوقفها بقبضته اللينة على ذراعها فنظرت له ولم ينتظر وهو يسأل "أي معنى إذن؟"
أبعدت يده بيدها الأخرى من على ذراعها وقالت بهدوء "ألا تظن أنك تتخطى الحدود سيد زهير؟"
انحنى ليصل لوجهها كما يفعل دائما ليواجه عيونها وهو يقول "الحدود أنتِ من يصر عليها"
ابتسمت ابتسامة رقيقة وقالت "لست أنا من اختصر ماضيه بكلمات تعد على الأصابع ثم نحن اتفقنا على التوقف عند الحاضر"
ظل ثابتا مكانه وهو لا يفهم تلك المرأة التي تحاوره بقوة وذكاء فقال بنبرة مختلفة "من أنتِ؟"
العيون كانت تنطق بأسئلة كثيرة كلاهم أراد إجابتها من الآخر وكلاهم يتستر خلف حاجز وهمي خلقه لنفسه ولكن الحاجز يكاد ينهار فيما بينهم لأول مرة
قالت بدون أن تظهر ما بداخلها من خوف أو حيرة من ذلك الرجل صعب المراس لدرجة أرهقتها فقالت "لا تخبرني أنك فقدت الذاكرة فجأة"
والتفتت لتبتعد ولكنه جذبها من ذراعها نحوه بقوة جعلتها تكاد تصطدم بصدره لولا أنها وضعت يداها الاثنان على صدره فشعرت بتيار كهربي يضربها بقوة والعيون الزرقاء أغلقت فجأة لترى منها ظلام أشعله الغضب وهو يقول بقوة
"ألا تعرفين شيء آخر سوى الهروب من المواجهة؟"
أخذها الغضب هي الأخرى من كلماته ولم تهتم بقربها منه بتلك الطريقة ولا قسوة يده على ذراعها ولم تتراجع من الغضب النابض بعيونه وهي تجيب بقوة "كلانا لا يعرف سوى تلك الطريقة ولكن كلا منا يهرب بطريقته سيد زهير فلا تلقيني بالطوب وأنت بالأساس من زجاج"
القسوة المرتسمة بعيونها أوقفته جعلته يبحث بسنوات عمره التسع والثلاثين عن امرأة مثلها واجهته بمثل تلك القوة وتعمقت داخله لتكشف حقيقة هو نفسه كان يرفض الاعتراف بها
قالت والألم يشتد على ذراعها "كنت أظن أنك تملك قوة جاذبية لا مثيل لها تجاه النساء وليست القوة البدنية منها أم أنها لي أنا فقط"
انتبه بالفعل لقبضته على ذراعها فتركها على الفور فرفعت يدها الأخرى لمكان أصابعه ومررتها عليها فانطلقت نظراته لذراعها وقال وقد استوعب ما كان يدور بينهم "أعترف أن كل شيء معك هو الأول بالنسبة لي"
كررت كلمته وهي تشعر بضيق من ألم ذراعها "الأول؟"
عاد لسجائره والتفت للبحر وقال "أول امرأة ترفض الغزل، أول امرأة تتمسك بالبنطلونات والفساتين الطويلة والقاتمة، أول امرأة توقفني عنها، أول امرأة تدفعني للعنف"
وخزة ألمت بصدرها بذكر ملابسها، ليتها تملك القوة للنطق بما لا يعرفه ولكن ليس هناك سبب يدعوها لتبرر له أي شيء يخصها لذا قالت "أحب الأفضلية، هل نذهب أشعر بالتعب؟"
نظر لها من خلف الدخان وقال "تفشل كل محاولتنا لإدارة حوار دون صراع"
أخفضت وجهها وقالت "إذن دعنا نوقف تلك المحاولات التي لا معنى لها، طابت ليلتك"
وتركته وذهبت، تابعها بعيونه وهي تذهب وللحظة شعر بشيء غريب بخطواتها ولكنه أدرك أن الرمال السبب فالتفت عائدا للبحر، ربما هي على حق، ربما عليهم إيقاف تلك العلاقة الفاشلة من قبل حتى أن تبدأ ولكن رفضها له يثيره ويجعله يريدها أكثر ولكنها كالصخر لا تتفتت بسهولة
بالصباح لم تتعجل النهوض من الفراش فقد حظت بليلة طويلة من الأرق وعدم النوم وكأنه أمسك بملعقة وأخذ يقلب بقعر ذكرياتها مجلبا ما سقط بالقاع إلى السطح كما أنها لم تكف عن التفكير به هو الآخر، بنيويورك حاولت أن تبحث لتعرف عنه أي شيء فلم تعرف أكثر مما هو معروف، الرجل الذي صعد القمة بمجهوده وما زال يحتفظ بمكانته، لا يرحم منافسيه، يخترق الصفقات دون تردد ولا يخسر أي واحدة، ماضيه مجهول ولا يعلم أحد نقطة البداية الخاصة به، أما شهرته العالمية فهي النساء، يلقين أنفسهم بطريقه راغبين به فجاذبيته لا يختلف عليها اثنان وكرمه معهن يجعلهم يزحفون خلفه، اختفى عامان من حياته ببداية الثلاثينات لا يعرف عنهم أحد شيء وعندما عاد اندفع لتلك الحياة العابثة أكثر وأكثر..
اليوم لم تملك عنه أكثر مما عرفت وهي كانت على حق بأن كلاهم يفر من المواجهة وكما بحياتها ماضي ملوث لا ترغب بذكره هو أيضا لديه ما يجعله يفر منه وربما هو سبب انغماسه بالحياة العابثة
لم تستطع إخفاء اللون الأزرق على ذراعها نتيجة قبضته وبلوزتها الزرقاء بلا أكمام والبنطلون القماشي يناسبها، تحركت للمطعم حيث كليف يدخن ويتناول القهوة فقالت "صباح الخير كليف"
جلست وهو يبتسم لها ويجيب "صباح الخير بيري تأخرتِ اليوم"
تبعها الرجل بالإفطار وهي تقول "تأخرت بالنوم أمس أين هيلين؟"
أشار للألعاب وقال "مع بوسي بالألعاب"
وفجأة انطلقت عيونها لذلك الجسد الرائع الذي يتقدم منهما بلباس البحر معلنا عن صدر عريض وأكتاف متناسقة وعضلات بطن واضحة من أثر الرياضة مع خصر نحيف وساقين ارتسمت العضلات عليهم بوضوح، جسد مثير للإعجاب حقا مع المياه التي تتساقط منه وخصلات الشعر المبللة تتناثر على جبينه أرادت لو ترفع يدها وتبعدها وتعجبت هل حقا يملك تسعة وثلاثين عاما؟
"صباح الخير"
جلس بجوار كليف الذي ضحك وقال "ما هذا؟ منذ متي وأنت بالبحر؟"
تجولت عيونه على ملامحها المتعبة بوضوح وهي تخفي عيونها بالطبق وسمعته يقول "منذ السابعة كليف أين هيلين؟"
رد الرجل "مع بوسي بالألعاب"
رن هاتف كليف فأخرجه ثم شتم وهو يقول "لابد أن أرد"
ونهض مبتعدا فأشار زهير للرجل الذي وصل بأطباق الطعام والقهوة له فقال "أعتذر عن هذا"
رفعت رموشها السوداء عن عيونها فواجهت نظراته وأصابعه البرونزية تشير لذراعها فأخفضت رموشها مرة أخرى وقالت "حسنا"
تناول الكرواسون وقال "بشرة حساسة مع رجل لا يملك أي ذوق"
تراجعت بالمقعد وهي تنهي الإفطار وتناولت كوب القهوة دون أن تنظر له وقالت "لقد قبلت الاعتذار سيد زهير"
ظل ينظر لها وتوقف عن الطعام وهو يكتم غيظه دون التصريح به حتى أخرج صوت بدا هادئا وهو يقول "لماذا؟"
واجهته أخيرا وقد لمعت عيونها بنور الشمس وبدت أجمل مما هي وهي تبدي دهشتها وقالت "لماذا ماذا؟"
أنهى الطعام وأخرج علبته ليشعل سيجاره الغريب ولقد أعجبتها رائحته ثم عاد لها وقال "سيد"
احمر وجهها من معنى كلماته وهو يكمل "تعلمين أن الألقاب هنا لا معنى لها وأظن أننا تعارفنا من وقت يسمح لنا بتجاوزها وبصراحة أنا لا أحب طريقتك بنطق سيد هذه"
ظلت تنظر له وتحولت لضيق من كلماته عندما نهض وقال "أحتاج لحمام وارتداء ملابسي، أراكِ على حمام السباحة ألا تسبحين؟"
الأحمر ذهب وتحولت للأصفر فضاقت عيونه لتبدلها وهي تبعد وجهها وتجيب باختصار يزعجه "لا"
الصمت سيطر عليهما للحظة قبل أن يتحرك للغرف ورمشت عيونها بدمعة مسحتها وهي تنهض بضيق وتحركت للألعاب ربما تهون الفتاة الصغيرة عليها أحزانها..
نظرات النساء من حولها جعلتها تدير رأسها باتجاه عيونهم لتراه يتقدم تجاهها ببنطلون رياضي قصير محكم على عضلات فخذيه وتي شيرت أبيض شفاف مضبوط على كتفيه وصدره وشعره انجذب للخلف بطريقة مثيرة للإعجاب، مرة أخرى تتساءل هل حقا ذلك الرجل يملك عمره هذا أم أنها إشاعة؟
أبعدت عيونها لبوسي التي نادتها فابتسمت للفتاة عندما طار عطره الذي حفظته لها وهو يقول بمرح "مرحبا بوسي، هل تستمتعين؟"
هتفت الفتاة الصغيرة بسعادة "بالتأكيد عمي زهير، هل ستنضم لنا؟"
ألقى نظرة جانبية على فتاته التي تتجاهله بشكل يثير جنونه ثم عاد للصغيرة وقال "ربما، أين ماما وبابا؟"
ما زالت لا تقوى على النظر له وهو بتلك الجاذبية التي لا يمكن مقاومتها والفتاة تجيبه "ماما تجلب لي عصير ولا أعلم أين أبي"
وأخير قال "أرى أنكِ لا ترحبين بوجودي"
أدركت أنه يخاطبها فقالت "ولماذا لا أفعل؟"
انحنى ليقترب من أذنها وقال "اتفقنا على البسين"
رفعت جانب وجهها له لتلتقي بعيونه الرائعة وانسحبت منها الكلمات وهي تغوص داخل زرقة عيونه وبسرعة قطعت النظرة وقالت "أنا لم أفعل، أنت تلقي أوامرك ولكن ليس علي تنفيذها"
غاظته أكثر فاعتدل للحظة قبل أن يقول "وما معنى ذلك؟ عدم صحبتي لأنها أوامري أم لدي فرصة لو طلبت التحرك معي لمكان آخر بشكل أفضل؟"
ساعدت بوسي لامتطاء اللعبة ثم التفتت له لتواجهه وقالت "مكان آخر؟"
استقبل عيونها باهتمام وقال "لدي مطعم بمكان ساحري وظننت أننا يمكننا الذهاب للاستمتاع به وتناول الغداء"
لا تعلم لماذا لم ترغب بالرفض وشعرت أنها لو فعلت فهي تعلن عن رفضها فعلا لصحبته، سمعته يقول بنبرة نافذة الصبر "والآن ماذا؟ هل نذهب؟ أعدك أن أكون جنتلمان"
حاولت ألا تبتسم لكلماته وهزت رأسها بالموافقة وقالت "فقط ننتظر حتى تعود هيلين"
صوت هيلين جعلها تلتفت وهي تسأل "وها أنا عدت، ماذا هناك؟ أهلا زهير"
حياها وقال "سنذهب لتناول الغداء، أخبري كليف أننا سنعود قبل السابعة"
وفجأة قبض على يدها وجذبها دون أي كلمات ونظرت لهيلين ولكنها انتبهت لابنتها فعادت تنظر له كي لا تتعثر خلفه وهي تقول "هل تترك يدي يمكنني أن أسير بمفردي"
لم يفعل ولم يبطئ من خطواته وهو يتحرك خارج المنتجع لترى سيارة مكشوفة حديثة جدا حمراء اللون فتح لها الباب وقال "أعلم، تفضلي"
نظرت له وقالت بضيق "كف عن إجباري على فعل الأشياء أنا لا أحب ذلك"
انحنى عليها مقربا وجهه منها وقال "لا تعارضين كل متعة يمكنك الحصول عليها لمجرد أنها معي، أنا لا أحب ذلك"
كادت تضحك من طريقته وهو يقلد كلماتها ففرت لمقعدها كي لا تضحك بوجهه، أغلق بابها وتحرك لمكانه وانطلق بالسيارة بسرعة جعلت خصلات شعرها تتطاير حول وجهها وقالت
"ألا تقلل السرعة؟"
نظر لها ثم عاد للطريق وقال "لا، أحب الطريقة التي يتطاير بها شعرك حول وجهك من الهواء"
نظرت له وما زالت تبعد خصلات شعرها عن وجهها والدهشة تعلو ملامحها فأكمل "لا مجال لأن تصفعيني لكلمات الغزل الآن وإلا قتلنا بحادث مروع"
ابتسمت وأبعدت وجهها ولكنه التقط ابتسامتها فقال "هل هو رفض للابتسامة بصفة عامة أم أيضا لأنكِ معي؟"
لم تنظر له ورفضت أن تضحك مرة أخرى وقالت "كف عن ذلك"
ابتسم ورفع يده دون أن تنتبه وجذب رباط شعرها لينطلق متطايرا فالتفتت وهي ترفع يدها والدهشة تلفها وشعرها يكاد يغطي وجهها وهي تهتف "ماذا تفعل؟"
قال بثبات "أحرر جزء منك"
تجمد وجهها عليه من كلماته فالتفت لها ورأى عيونها من بين شعرها فأبعدت وجهها وهو يقول "نحن خرجنا للاستمتاع بريهان، يمكنك أن تفعلي وبالليل يعود كلا منا لطريقه وانسي ما كان فقط دعينا الآن نلهو دون قيود"
عادت تنظر له وقالت "هل كل حياتك هكذا؟"
لم ينظر لها ولم يجيب لوهلة ثم قال "أعتقد أنك تملكين إجابة مذهلة عني أليس كذلك؟"
أبعدت شعرها ولم تبعد عيونها عنه وقالت "هل أنت تفعل المثل تجاهي؟"
ضحك بصوت مرتفع أذهلها حتى انتهى وقال "حقا أنتِ امرأة لا مثيل لها"
عضت شفتها السفلى من جهلها بمعنى كلماته وأبعدت وجهها فقال "لا"
التفتت له مرة أخرى فواجه عيونها وأكمل "لا بيري أنا لا أملك عنكِ أي إجابة أخبرتك بالأمس أني أريد أن أعرفك لأنه ببساطة لا يوجد عنكِ أي شيء، ورقة بيضاء كلون بشرتك، مدير مكتبي عجز أن يجد عنكِ أي شيء فقط أخت الجبالي"
زادت دهشتها وهي تواجهه وقالت "هل بحثت عني؟"
هدأ السيارة وهو يدخل مطعم زجاجي على جبل مرتفع والمكان من حوله رائع حقا، رفض الإجابة على سؤالها وهي نست السؤال وهي تتأمل ما يحيط بها بإعجاب وسمعته يقول
"لدينا حجز باسمنا لنمضي اليوم كله، المكان هنا جديد يمنحك خصوصية بكل شيء"
نزلت وقد وصل لها وبدون انتظار موافقتها قبض على يدها وكأنه حق مكتسب ولا يسمح لها بالاعتراض فقالت "أنت تصر على ذلك"
لف رأسه تجاهها وقال بعيون تتحداها "أنتظر أن تمنعيني"
عيونها أخبرته بأنها لا تملك القوة لتفعل وتورد وجنتيها جعله يصر على ما يفعله، لن يتوقف ولن يمنعه أحد من اختراق جدران تلك المرأة وإذابة جليدها
يتبع..