رواية ميراث الندم الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم أمل نصر
بنظرة كاشفة خبيرة طالعته لمدة من الوقت، حتى خرج سؤالها اليه حينما طال الصمت بجلسته على الأرض بجوارها؛
– مالك؟ سرحان وحالك متغير ليه؟ لا يكون اتعركت من بت التنح.
قطب يجيبها باستغراب:
– مش بعادة يعني السؤال يا ام فايز؟ دا انتي لا بطيجها ولا بتطيجي سيرتها حتى،
تبسمت سكينة تعقب ردا له:
– ما هو انا مش بسأل عشانها، انا بسأل عشانك انت، حالك اتغير ومعدتش فاهماك، يكونش كرهتها هي كمان ، وناويت تجيب التالتة.
تتبسم ليتمتم بعدم استيعاب، لما تفوهت به:
– تالتة كمان؟! ايه جاب الفكرة دي في دماغك من الاساس يا سكينة؟ هو انا جادر ع اللي معايا عشان اجيب لنفسي نصيبة تاني؟ اما انت فاضية بالك والله.
ردت نفيسة تبوح بما أوغر به صدرها:
– انا برضوا اللي فاضية بالي؟ ولا انت اللي كل يوم بحال، من وانت عيل صغير محدش فاهمك ولا انت نفسك فاهم نفسك، مرة تعمل عمايلك وتجول جوزوني بت عمي انا الاولي بيها، وبعدها ومن غير سبب. تتجوز عليها و تهجرها بالسنين ودلوك جاي تحن من تاني بعد ما خربت، وبنيت ما بينك وما بينها سد حديد.
– سد حديد كمان!
ردد بها يشيح بوجهه عنها للناحية الأخرى باعتراض واضح، قبل ان يعود اليها مستطردًا :
– دا على اساس ان مطلجها ولا مش على زمتي مثلًا؟ فيه ايه ياما؟ سليمة مرتي على سنة الله ورسوله، يعني لو عوزت اخدها من الليلة، هخدها ومحدش عيلومني، لا الشرع ولا الجانون….. انا بس اللي عامل حساب لحزنها ومراعي نفسيتها
بسخرية واضحة عقبت سكينة:
– يعني انت اللي منعك بس حزنها ، والله وفيك الخير…… اهو ع الأجل ضحكتني يا فايز.
لم يعجبه التهكم ، ليردد بغضب استبد به:
– ضحكتك كيف يعني؟ جرا ايه يا ام فايز؟ هو انتي كمان هتتمهزجي بيا؟ ولا قلديها وجولي متأخر احسن، ما انا خلاص بجيت مهزجتكم.
عبست الملامح المجعدة، لتتمتم ردا عليه بأسى
– لا يا فايز انا مش هتمسخر عليك ولا اجلدها، انا بس هجولك شغل الاحساس عندك شوية يا ولدي، بطل تفكيرك في فايز وبس؟ شوف الحال ايه ودلوك بجي ايه .
اشتدت ملامحها وارتفع كفها تشير به حولهما لتردف بانفعال :
– شوف البيت اللي كان بيشغي بالفرح وهدوان السر دلوك بجى ايه؟ بجي خرابة يا فايز، راح العمار منه، وصفصف بس على مرتين ضعاف، واحدة راح منها السند بجوزها، والتانية ضهرها اتكسر بموت ولدها اللي ضيعت عليه شبابها ، وبعدها اتحرمت حتى من ريحته، حفيدها في البيت معاها، وبعد دا كله جاي تفتكر حجك عليها؟ ليكون نسيت ان ولدك مات غرقان ومحدش عارف سبب موته لحد دلوك؟
ابتلع ريقه بخزي امام لا يقدر على مواجهتها وقد افحمه تلميحها المباشر، لتردف بتأكيد زاد من سوء موقفه:
– نسيت يا فايز، زي ما كنت ناسيه برضوا هو حي، كان عندها حق سليمة.
❈-❈-❈
تعجد عليا، تعجد عليا كيف يعني؟ هتعجد عليا ازاي من غير رضايا؟ هو انا كنت وافجت الاول عليك عشان تدي نفسك الحق في الكلام من أساسه؟
صاحت بها تردد بما يقارب الهياج، وقد اشعل بعبارته الغضب والسخط بها، في وقت ترفض التدخل الاعتراض على ما قررته من الأساس ، ولا تدري ان بفعلها تثير جنون الاَخر:
– لأ يا نادية مش محتاج رأيك، وانا بالفعل ليا الحق عليكي، اكتب كتابي دلوك حتى لو من غير رضاكي، مدام انتي راكبه راسك ومش عاملة جيمة للي بيكلمك، حد جالك اني هفية ولا راجل اي كلام عشان تعصيني وتهبي في وشي كدة؟
– اا
همت بها ان تتابع اعتراضها بمواصلة لتحديه ولكن جليلة منعت زيادة الاصطدام بتوقيفها، والتدخل لتفصل، بأن تقف حاجزًا بينها وبينه.
– معلش يا ولدي اعذرها، وامسح غلطها فيا، انا والله وشك منك في الأرض، بس انت متعرفش باللي حصل وخلاها كدة .
رمقها بناريتيه، قبل ان يستجيب في الرد الى المرأة:
– على راسي من فوج يا خالة جليلة، انتي عارفة زين بمكانتك عندي، بس بتك غلطها اتعدى كل الحدود حتى لو كان اللي وصلها السبب في اللي حاصلها ده، بس ميمنعش انها تعمل جيمة للي واجف جصادها.
امتقع وجهها بغضب مكتوم بعدما زجرتها والدتها بضغطة منها على كف يدها، بتحذير لألى تتمادى، وتتكفل هي بالتوضيح:
– جيمتك فوج راسنا كلنا، ودي محتاجة كلام برضوا، دا انت كبيرنا ، بس برضك اللي اتجال صعب على أي واحدة في مكانها، وهي حرة متحملتش.
– انا عارف ان اللي اتجال صعب في حجها….
عقب بها مخففًا من حدته، يراقب خلجاتها بتمعن لأقل رد فعل منها، واستطرد:
– بس احنا مش غلطانين عشان نخافوا ولا يهزنا كلام حد، احنا صفحتنا بيضة ، وسمعتنا محدش يقدر يمسها.
عقبت على قوله بانفعالها محتجة:
– انت بتجول كدة عشان انت راجل، والكلام ما يلطكش، زي ما يلطني، انا اللي الكلام يخصني.
– وانتي تخصيني……. يعني اللي يمسك يمسني.
هتف بها بصرامة لا تقبل الجدال، ليعتلي الزهول ملامحها، وصدمة احتلت تفكيرها، تصيبه بالشلل، تخشي التصديق بالمقصود خلف المغزى من كلماته، حتى صدح الصوت الانثوي يجفل الجميع ناحية المدخل:
– معناها واضح جوي دي يا غازي يا دهشان، دا على كدة اللي سمعته وشايع في البلد يبجى صح؟
– امي سليمة.
تمتمت بها بزعر تطالع وقفتها المتحفزة بمدخل الاستراحة، تحمل على ذراعها معتز الذي ترك كف والدته منذ بداية الشجار، ومن هيئتها بدا واضحًا انها قد سمعت معظم الحديث على الاقل، مما زاد عليها ، تشعر بقدميها كالهلام، وغصة تشق حلقها في الدفاع عن موقفها.
– كلام كدب، احلفلك بإيه انه كدب وتأليف من ولاد الحرام، انما انا جدامك اها، لا اتخطبت ولا عمري كون زوجة لحد تاني غير حجازي الله يرحمه.
ضغط على نواجزه يحدجها بشرار عينيه، حتى ود ان يمسك بلسانها الأحمق بيده ، يعيد على تهذيبها من جديد حتى تكف عن التفوه بتلك الحماقات، وأذيته، ثم ما لبث ان يعود للمرأة مخاطبًا لها بشجاعة:
– انا عايز اجعد معاكي لوحدينا يا ست سليمة، افهمك اللي حاصل، وارسيكي على كل شيء
❈-❈-❈
داخل الشرفة بعيدًا عن عروسه بسبب الزيارة المفاجئة من الأقارب الذين أتو للزيارة من عائلتها وبعض الفتبات الصديقات.
كان يتلقى هو تهنئته الخاصة عبر الهاتف من جهة أخرى، صديق الغربة الذي جمعته به الايام، رفيق رحلته من الشقاء إلى الصعود، والذي كان هو جزء منها وقد كان لهو الفضل الكبير أيضًا في احداث التغير بشخصيته:
– الله يبارك يا صلاح عجبالك يا سيدي لما ربنا يهديك انت كمان.
– لمااا ربنا يهديني بقى، ع العموم انا فرحتلك اوي يا صاحبي، عشان انت طلعت شاطر بجد، نفذت اللي في مخك واتجوزت في وقت قياسي، حتى وانت مغير العروسة شابوه.
زفر بتنهيدة مثقلة بما يحمله بداخله، رغم ادعائه المرح مع صديقه الذي تابع بمشاكسة:
– رغم ان برضوا زعلان منك عشان طلعت ندل وما قولتليش ولا ادتني خبر. ع الميعاد بس اشطة ملحوقة لازم اردوهالك.
ضحك عمر معقبًا لقوله::
– ماشي يا سيدي ردهاللي لما تعملها انت وانا عند فيك هاجي واجوم بالواجب، ما انا اصلا مش محتاج عزومة، بس انت مجولتليش عرفت منين؟ جابلت حد من اهل البلد وبلغك؟
– لا يا سيدي مقابلتش حد من اهل البلد هناك، لأن انا أصلا في البلد هنا.
– اصلا في البلد ازاي يعني؟
ساله بفضول عاقد الحاحبين، وجاء رد الاخر :
– قي البلد، يعني نزلت مصر يا عم عمر، حضر نفسك بقى بالمحمر والمشمر، عشان خلال كام يوم كدة، هتلاقيتي طابب عليك.
– تزورني فين؟
تمتم يعتدل مستقيمًا بجسده، ليعيد على سؤاله مستفسرًا بانتباه شديد، :
– انت يا بني ادم انت، ياللي واخدني كدة على مشمي ، انا مش فاهم حاجة، امتى جيت من السفر يا صلاح؟
– لا اله الا الله، يا بني بقولك جاي ازورك، معناه اني في البلد بجد مش هزار، بقالي اسبوع اهو، بس انت طبعا مشغول وكمان مبتسألتش، يبقى هتعرف منين؟
– خلاص عرفت يا صلاح، تعالى يا سيدي واحنا نشيلك فوج راسنا .
– ايوة كدة اتعدل وسمعني الكلمتين دول، عشان اجي ازورك بقلب جامد .
أنهى عمر المكالمة بشرود شديد فيما اردف به الأخر، انه بالفعل قد قرر زيارته، اذن لابد بالتصرف منذ الاَن والتنسيق مع شقيقاته، لعمل الازم بالتحضر الجيد حتى يظهر امام الاخر بأبهى صورة.
وصل لأسماعه اصوات التوديع المرافقة للأحاديث والضحكات قرب مخرج المنزل، ، ف انتظر حتى غادرن جميع الزائرات، حتى خرج هو من الشرفة ، نحو تلك التي وقفت بوسط المنزل تنتظره بابتسامة تنير وجهها الجميل من الأساس ولكن……
– اخيرًا مشوا، بجالهم ساعة في اللت والسؤلات معايا، امي كانت بتخمس وشهم كل شوية عشان العين والحسد.
تفوهت بلهفة اعتاد عليها كأسلوب لها للتعبير عن فرحها الدائم منذ ارتباط اسمها بأسمه.
تقدم نحوها يستجيب للرد وعينيه تمر على ما ترتديه، وما تضعه من مساحيق كثيرة على بشرتها، وقد اتضح اليه انها وضعتها اثناء مرافقة النساء، ف اقترب حتى وصل اليها ليقف امامها تمامًا، ليشير بإصبعه:
– ايه الاحمر والألوان اللي حطيتها في وشك ده، لكن انا مش منبه عليكي متحطيش وتعكي مدام مش فاهمة..
صدمها بقوله المباغت، لتختفي البهجة على الفور وتحل على ملامحها اضطراب شديد، في الرد عليه باستفسار:
– عك! عك كيف يعني؟ دي امي هي اللي حطتلي المكياج عشان….
– عشان ايه؟
قاطعها يضاعف من توترها، حتى تلجلجت في الإجابة:
– عشان مجابلة الحريم اللي من ناسنا، مش انا لازم ابان جدامهم عروسة، والعروسة لازم تتزوج
دنى برأسه نحوها، يردد خلفها بما يقارب الاستهزاء:
– وهي العروسة متتعرفش غير بكيلو دهان على وشها.
ابتعلت الباقي من كلمات كانت تود ان تجادله بها، ولكنه أللجمها بمنطقه القاسي، لتصمت مبدية الطاعة والإنصات لانتقاده، حتى انه تناول محرمة ورقية، يمسح بها على بشرتها:
– الواحدة جبل ما تحط اي شيء في وشها تبجى فاهمة وعارفة باللي يناسبها، مش تسيب امها تمشيها على اسلوب الناس والستات اللي لا فاهمة في الموضة ولا حتى فاهمة في اي حاجة، بالجهل والتخلف بتاعهم.
توقف على استكانتها منتبهًا لهذا الغشاء الرقيق، بمقلتيها، ليستدرك لحالتها على الفور، ويلطف من لهجته:
– حبيبتي انا بتكلم ان انتي حلوة مش محتاجة مكياج،
القى بالمحرمة الورقية من يده، ليكوب وجهها بين كفيه مواصلًا استرضائها:
– انا عاذرك يا هدير، عشان انتي صغيرة ولسة متفهميش الدنيا، يبجى انتي كمان تعذريني لما انبهك، عشان اعلمك وتعرفي، ولا انت عايزة تبجى زي الحريم الجاهلة؟
بدا عليها التردد، بالتركيز في نصائحه الموجهة لها، ليواصل بنعومة لاقناعها:
– لازم تعرفي ان انا منجيتش اي واحدة والسلام عشان اتجوزها، انا اخترتك عشان عجبتني، وجولت ان هيجي من وراكي لما تبجي شاطرة وتسمعي الكلام، مش انتي بتسمعي الكلام برضوا؟ ولا هتتنفخي زي البنات الهبلة مع اي توجيه ولا نقد انا بجوله عشان مصلحتك وعشان تبجي زينة والناس تشاور عليكي، انك مرة عمر ، اللي صبر ونال بيها؟
– لا طبعا انا عايزة اشرفك بيا.
خرجت منها بعفوية وعلى الفور ، لتبزغ ابتسامة الرضا على ثغره وزاد من تقريب وجهها منها، يخاطبها بانتشاء قبل ان يضمها من خصرها ويرفعها اليه:
– وانا جولت من اول انك احسن اختيار ليا، حلوة ومطيعة، وهتسمعي الكلام، عشان تطوري معايا، وتبجي احسن واحدة في البلد، صح؟
– صح، صح طبعًا….
تمتمت بها، قبل ان تضيع باقي الكلمات بجوفه، وهو يقبلها بنهم، يسحبها لعالمه، ويضيع هو ايضًا معها في عالمها.
❈-❈-❈
– بتجولي مين يا عزيزة؟ يعني صفية هي اللي جالت الكلام ده؟
سألتها بلهفة عبر الهاتف، بعدما اخبرتها الأخرى عما تم تداوله داخل المنزل من ساعات، وغادرت على اثره جليلة عائدة لإبنتها صاحبة الشأن، وقد وصلها هي الأخرى ما وصل الجميع .
– ايوة يا فتنة، ما هي صفية لما سمعت متحملتش على اختها، وانتي عارفاها بجى عصبية، كانت هتتعرك وتكبر الموضوع، لولا بس امها جليلة هي اللي شددت عليها عشان الفضايح، ربنا يسترها، عزب عفش ولو عرف ممكن بولع في البلد كلها، انا خايفة جوي يا فتنة .
على الفور ردت الأخيرة بلؤم تدعي عدم المعرفة:
– بصراحة عندك حج يا عزيزة، انا مش عارفة الناس بتألف من مخها ليه؟ يعني عشان واحدة اطلجت من جوزها وعيشها اتجطع معاه، مالهم بجى يركبوا ويأللفوا في القصص، بلد فجرية تحبل وتجوز من دماغها.
جارتها عزيزة في الحديث، وهي لا تبتلع هذه الكلمات العاقلة منها، ف هي الأدرى بجنونها وعجرفتها:
– عندك حج يا فتنة ، هي فعلا بلد فجرية، ياريته الواحد كان اتجوز في البندر ولا من البلاد الحلوة دي ، اللي كل واحد فيها بيبجي في حاله وملهوش دعوة بحد.
– دا كلامي انا من زمان يا عزيزة، جبل ما حظي يخيب واخد نصيبي هنا، بس معلش ملحوجة.
قالتها بنبرة تقارب الثقة اكثر من التمنى، لتعقب الأخرى بعدم استيعاب:
– ملحوجة فبن تاني كمان؟ هو انتي ناويتي تاخدي سكن انتي وبناتك برا البلد؟
– غبية.
نعتت ترددها داخلها، وقد استفزتها ببلاهتها كالعادة، ولكنها تفيدها في نقل الاخبار على الاقل:
– بجولك ايه يا عزيزة، اجفلي دلوك، عشان امي بتنده عليا ، ماشي، هبجى اكلمك بعد شوية انا .
– ماشي يا فتنة مع السلامة.
انهت الأخيرة المكالمة وابتسامة اتسعت على ثغرها، كانت تضحك دون ان تدري ، لقد فعلتها الملعونة نفيسة ، نقلت وأضافت وحبكت القصة بشكل درامي كعادتها، وبالطبع لن يكشفها احد، مدام الحديث بين النساء، هكذا تكون الاستفادة بحق من اصناف هذه المرأة ، مهما طلبت ونالت من المال ، لكنها تثلج الصدر حينما تنفذ إحدى مخطاطاتها هذه.
❈-❈-❈
اردف شارحًا لها عن كل ما حدث منذ البداية، وهذا الاتفاق الذي تم بموافقة شقيقها لإخراص جميع الألسنة، وغلق باب القيل والقال من الأصل، ليختم بمطلبه امام سكون الأخرى والتي التزمت الصمت بجلستها معهم، وقد بدا ان طاقتها نفذت من كل شيء ، تنتظر فقد انتهاء الأمر:
– كدة يا ست سليمة، ابجى انا بينت ووضحت كل شيء جدامك، وانتي ست عجلك يوزن بلد ، أكيد تعرفي الحل لوحدك، وانا بجولها اها، معتز في كل الحالات انا معتبره ولدي اللي مخلفتهوش من صلبي، هو وامه في حمايتي لحد ما ربنا يفك الكرب، او حتى على مدار عمري كله،..
صمت دقيقة امام تركيز الثلاث نساء معه، ليزفر خاتمًا بمطلبه:
– يمكن تكون تجيلة عليكي، بس انا بطلبها منك زي ما طلبتها من اخوها، انا طالب يد نادية منك بصفتك والدتها اللي خايفة عليها هي وولدها…
صعقت لتبرق عينيها في النظر اليه بإجفال لا يخلو من حدة، وهذه الجرأة التي تحدث بها امام المرأة الصامتة بغموض، كم ودت ان تصفعه برد قاس ليكف عن تثبيت الظنون بها ، ولتظهر برائة موقفها من كل هذا العبث، ولكنه لم بترك لها فرصة، فلم يكلف نفسه بالنظر نحوها على الإطلاق، متجاهلًا لها عن عمد، لينهض فجأة مستئذنَا:
– انا جايم يا ست سليمة، وسيبت الأمر في يدك،. سلام .
– سيبت الأمر في يدك.
تمتمت بها بتحريك شفتيها فقط متسائلة عن مغزى مطلبه، قبل ان تنتبه لقول والدتها:
– سليمة يا خيتي، اديكي شوفتي بنفسك المجنونة بتي وعمايلها، وغازي واد عمنا وكبير عيلتنا، يشهد ربنا ، ما شوفنا منه غير كل خير، والكلام اللي جالهولك من شوية، ما كدب في حرف منه، وبيعمل غير للصالح وبس.
– ايوة بس انا برضوا لحد دلوك مش موافقة، مش موافجة يا جدعان، يلبسوني في الكلام والحديت ليه؟
عقبت بها نادية بدفاعية ، تبرء ساحتها، فقاطعتها سليمة:
– لكنك مخطوباله بالفعل يا نادية، ولا انتي مش واخدة بالك منها دي؟
شحبت تجيبها برفض تام؛
– لا طبعا، هو جالي انه مستني رأيي، زي ما جالك انتي كمان دلوك ، ولا يكون فاكراني هتجوز بالطريجة الغبية دي؟ واتبع كلامهم والاتفاق الزفت ده، يولع ناجي بجاز وسخ ايه هيهمني؟
– بهمك ولدك يا نادية.
تفوهت بها سليمة توقف استسرالها، لتتابع مستطردة وكأنها تحدث نفسها:
– حتى بعد ما بعدتكم عن البيت، برضك النار محاوطاكم من كل ناحية، مفيش فايدة مكتوب علينا التعب، يعني حتى لو عملتي اللي في دماغك وسيبني البيت، برضك مش هيبطلوا تلسين ولا كلام وحديت عليكي، مفيش مهرب من المكتوب.
سألتها بعدم فهم،
– يعني ايه؟ انا مش فاهماكي.
اقتربت برأسها نحوها بوجه مشتد، تصغط على الكلمات:
– يعني اوعي تفتكري ان غازي الدهشان لما طلب يدك مني دلوك ، دي كانت هرتلة منه، ولا جرأة من راجل مجنون…….
– برضك مش فاهمة ، انتي عايزة تجولي ايه؟
صاحت تردد بها بانفعال، لتضيف على قولها جليلة :.
– عمالة تتكلمي بالالغاز يا سليمة، ما تجيبي من الاَخر وعرفينا انتي جصدك ايه؟
❈-❈-❈
– كنت عارف اني هوافج!
هتفت بها فور ان اقتربت منه اسفل المظلة الخشبية الكبيرة بحديقة المنزل، والتي اتخذ جلسته عليها، بعدما غادرهم، وكأنه كان يعرف بمجيئها.
ارتفعت رأسه اليها يشير لها أن تجلس مقابلة له، مخاطبًا لها بتوقير:
– عشان عارف ان عجلك يوزن بلد، وان أمان معتز وامه اهم عندك من الدنيا وما فيها.
عقبت تجفله بردها:
– بس انت الأمر عندك مش معتز وبس، انا شايفة دا في عيونك زين .
مباشرة كالقطر، على قدر ما ضاعفت من دهشته لفطنتها وذكائها الشديد في كشفه، على قدر ما احرجته بصراحتها، حتى انه اضطرب على غير إرادته في الرد مقرًا لها:
– مدام شايفاها في عيني، يبجى مفيش منه لزوم الانكار…. انا عايز اتجوزها، تبجى هي مرتي وولدها ولدي، مش هزود اكتر من كدة عشان مبعرفش…. وكل اللي تطلبيه يا ست سليمة انا موافق عليه .
ردت بأسى يغلف صفحة وجهها:
– انا مش طالبة أكتر من أمانهم وحمايتهم، حتى لو كان دا من اصعب الأمور عليا، ان اشوف حد تاني يحل محل ولدي الله يرحمه، بس دا قدر ومكتوب، والحي أبجى من الميت، وزي ما بيعمل اهل البلد هنا لما يجوزا الفتى لمرة اخوه الميت عشان يصون عياله، أكيد يعني انا مش هلاجي احسن منك.
كانت تجبره على احترامها سابقًا، وبعبارتها الأخيرة جعلت رابط ما يميزها عن الجميع بمحبته وتقديره، وهو ابدا لن يخذلها:
– الله يرحمه ويصبر جلبك عليه يارب.
تمتم بها بمؤازرة ليخرج بسؤاله الملح رغم تردده:
– طب معلش يعني كنت عايز اعرف منك، عرفتي تقنعيها على كدة؟ يعني هديت على حيلها، وبطلت الجنان اللي كانت طالعة فيه ، بس انا عاذرها والله.
قال بلهفة جعل الأخيرة تتبسم على غير ارادتها، تطالع الرجل المهيب، وقد غلبه عشق امرأة ضعيفة لا حو لها ولا قوة، وكم من عروش وممالك اهتزت لنفس هذا السبب.
❈-❈-❈
– اخوكي عملها يا روح.
هتف مجلجلًا بضحكاته، ليجبرها على الخروج سريعًا من المرحاض بمئزرها الأببض، والمنشفة التي كانت ومازالت تجفف بها شعر رأسها، لتسأله بلهفة:
– عمل ايه المجنون دا يخليك تضحك وتفتحها كدة ع الرابع؟
سقط يجلس بركبتيه على الاَريكة أسفله، ليجيبها غامزًا بعد أن توقف بصعوبة عن ضكاته:
– خد الموافجة اخيرا وهيتجوز حلم عمره، بت هريدي جبلت بيه يا روح
– يا سلام.
تمتمت عاقدة الحاجبين، تستوعب ما يتقوه به، لتتناول فرشاة الشعر تمشط بها معقبة بعد ذلك:
– حلم عمره ازاي يعني؟ هو كان يعرفها منين اصلا عشان تلحج تبجى حلم عمره؟ انا اللي اللي اعرفه انه اول مرة يشوفها كان في عزا جوزها .
مدد قدميه على الأرض امامها، ليجيبها باسترخاء:
– ما هو دا اللي انتي تعرفيه يا عسل، اما انا بجى عارف الحكاية من أولها، دي حب من جت عمره ما كان ١٩ سنة وهي عيلة ١٢ سنة.
توسعت عيناها واشتعل الشغف برأسها، لتجلس جواره
على الفور، تخاطبه بإلحاح:
– طب ومستني ايه؟ ما تجول على طول يا عارف.
تحركت رأسه بالنفي يشاكسها بتسلية:
– بالساهل كدة؟ عايزاني اعترف واجرلك على سر صاحبي ببلاش؟ طب اغريني، اديني اللي يعوضني عن عذاب الضمير، بعد ما اعترفلك…
زمت شفتيها بغيظ، تكبت ابتسامتها، ثم ما لبثت ان تهجم بقبضتيها على تضربه معبرة حنقها:
– لا وانت ضميرك صاحي جوي، بطل غلاسة يا عارف، مش بعد ما شوجتني باقتباس مشوق ، تخلى بيا .
قهقه بصوت العالي يسيطر على قبضتيها، ليزيد عليها:
– يا ستي وانتي مالك؟ مش ليكي تفرحي باخوكي وبس ، وسيبي الاسرار الصحاب، ولا هي حشريه من الحريم وخلاص.
– ايوة حشرية يا عارف، جول وحياة غلاوتي عندك.
صاحت بالاَخيرة وقد استبد بها الفضول، لتواصل الإلحاح والتهديد بكل السبل والأسلحة التي تملكها الانثى، تدخل بقلبه البهجة، حتى اجبرته أن يقص لها القصة بأكملها، وقد حصل منها على ما يرضيه، ويسكت ضميره على حسب قوله.
❈-❈-❈
وبداخل غرفتها، وبعد ان سطحت صغيرها على الفراش، ليغفى بجوارها ، وتظل هي تراقبه بعدم كلل أو ملل، وقد ضج رأسها بالأفكار المتناحرة به، لا تصدق انها فعلتها، لترضخ وتوافق على ما كانت ترفضه بقوة في الصباح، لكن ماذا كان عليها تفعل وسط هذه النيران المشتعلة حولها؟
كيف استجابت لرأي لسليمة؟!
– نادية انتي لسة صاحية؟
هتفت بها جليلة وهي تدلف اليها بالغرفة، لترد الأخيرة بعد أن رقعت اليها رأسها:
– نعم ياما، كنتي عايزة حاجة؟
– سلامتك يا عين امك، مش انا اللي عايزاكي يا حبيبتي، تعالي برا كلمي .
سألتها تعتدل بجذعها عن الفراش باهتمام:
– مين اللي عايزني برا ؟.
اكتنف جليلة التردد، تتمتم مجيبة لها بتعلثم:
– ااا، خ… خ.. بصي ما انتي اطلعي تشوفي بنفسك.
– ايه هو اللي اشوفه بنفسي؟ مين اللي جاي يزورنا في الوجت ده؟ والساعة تمانية؟
صدرت منها عالية وبانفعال، غير عابئة بالإشارات الساذجة من والدتها التي تجتهد بها بكفيها وبحركة جسدها يصعد ويهبط وشفتيها التي كانت تغمغم بكلمات غير مفهومة ، زادت من تشتت الأخرى، حتى اجفلها الصوت القوي :
– انا يا نادية اللي عايزك مش حد غريب.
برقت عينيها بشر، نحو والدتها التي وقفت امامها كطفل مذنب تهادنها بصوت خفيض بالكاد يسمع:
– اطلعي شوفيه عايز ايه يا حبيتي، أكيد جاي يطمن عليكي .
حدجتها بنظرة نارية جعلتها ارتدت للخلف برعب من هيئتها، لتنهض عن تختها بعجالة، وتلف على رأسها بالحجاب، قبل ان تخرج اليه بحالتها الغاضبة تلك :
– اهلا يا غازي بيه، معلش الوجت ليل وانا بصراحة استعجبت بجيت حد في الوجت ده.
اخفى ابتسامة داخله، ليرد على قولها بمرح :
– لا ولا يهمك، انا أصلا مش غريب .
قالها ثم جلس على الكرسي القريب منه، يدعوها للجلوس هي الأخرى:
– اجعدي يا نادية، انتي هتفضلي واجفة
عضت على نواجزها بسخط داخلها، لهذا البرود الذي اتخذه منهجًا معها، غير عابئًا بجلافتها في الحديث معه:
– يارب بس يكون الموضوع ضروري اللي جعلك تاجي مخصوص على هنا، حتى وهي الساعة تمانية.
شددت على الأخيرة بأسلوب كاد ان يضحكه، ولكنه تماسك ليردف ردًا لها:
– طبعا مهم يا نادية، بس في البداية كدة بلاش منها غازي بيه دي، احنا خلاص داخلين في جواز يعني يحقلك تناديني باسمي حاف
– حاف كمان
تمتمت بها بنصف شهقة كبتتها على الفور، لتتابع بحدة:
– اظن ان الكلام ده لسة بدري جوي عليه، لسة مفيش اي حاجة رسمي تمت.
قابل أنفعالها بمنتهى الهدوء:
– صح طبعا وليكي حج فيها، بس هانت، كلها كام يوم وكله يبجى رسمي .
قالها يركز على ردود افعالها، وقد اسبلت بعينيها عنه، صامتة باستسلام، وقد نفذت طاقتها عن الجدال والنزال،
ف استطرد يخبرها:
– انا كنت عند عزب من شوية اتفجت معاه على كل حاجة، كتب الكتاب هيتم بعد سنوية المرحوم على طول زي ما اتفجنا.
– على طول كدة
تمتمت بها بصدمة، لتردف سائلة:
– مكنش ينفع يتأجل الموضوع دا شوية، انا حاسة….
– مفيش تأجيل يا نادية.
هتف بها مقاطعًا ليتابع بحزمه، واعملي حسابك من دلوقت، هيبجى كتب كتاب ودخلة كمان .
– بتجول ايه؟
اردف ردًا على سؤالها بتحدي:
– اللي سمعتيه يا نادية، عزب هيجي بكرة ويفهمك على التفاصيل، وانا من دلوك هجهز الدور التالت، شجتك يا ناادية.
يتبع…
الثالث والثلاثون الاخير من هنا