اخر الروايات

رواية ميراث الندم الفصل السادس والعشرون 26 بقلم أمل نصر

رواية ميراث الندم الفصل السادس والعشرون 26 بقلم أمل نصر


بين ذراعيه، يضمها بين ذراعيه، حبيبة الطفولة وأحلام الصبا، يتأمل وجهها وحسنها الفتان عن قرب، بكامل جمالها وسحرها، شعرها الذي توقف عن رؤيته منذ أن كبرت امامه، وغطت ضفيرتها بالحجاب، يخلل اصابعه بين الخصلات الناعمة بحرية، ذراعه الملتفه حول خصرها، أعلى الملابس الخفيفية الناعمة، تشعل نيرانًا من الرغبة، بعد أن الصقها به، يتنشق رائحتها المسكية وكأنها تحيه، هي بين يديه واحلام النوم واليقظة معًا على وشك التحقق،
ولكن….
بشعور غير مريح على الإطلاق، رفع رأسه عنها مغمغمًا لها بضيق:
– تاني برضوا يا روح؟ اجربلك ازاي انا وانتي بترتجفي كدة.
رفرفت بأهدابها وللمرة الثانية تتشتت ابصارها، ما بين التهرب والارتباك عن التطلع اليه جيدًا، حتى شدد يضغط على خصرها ويهزهزها بانفعال:
– تاني هجولك بصيلي في عيني يا روح؟…. احنا اتفجنا مفيش هروب تاني، عارفة يعني ايه مفيش هروب؟
تطلعت اليه بعدم فهم، وقبل ان تستفسر عن مغزى مقصده، باغتها بقلبة جامحة، يعصرها بين ذراعيه، ليبدل الكلام بالفعل الحقيقي، كي ينهي لحظات الخوف والترقب بالهجوم المباشر،
ولكن…
نزعها عنه فجأة يبتعد، يحدق بها بجمود اجفلها، فتزداد اضطرابًا، وتطالعه بتساؤل جعله ينفعل عليها:
– انا عايز افهم، سبب الرجفة دي خوف بزياده، ولا هو توتر ولا ايه بالظبط؟
خرج صوتها اخيرا تحتج مرددة بدفاعيه، وهي تنكمش وتزيد بضم طرفي المئزر عليها، بمبالغة لا يغفل عنها:
– يعني هيكون ايه تاني كمان يا عارف؟ كسوف، ولا دا كمان حاجة غريبة؟
تخصر يردد خلفها باستهجان:
– لا مش حاجة غريبة يا روح، الغريب هو الزيادة، مفيش راجل يكره الكسوف من الست اللي بيحبها في اللحظة دي بالذات، بس الشي اللي بيزيد عن حده بينجلب لضده، ولا انتي ناسية ان كان ليا تجربة جبل كدة؟
قالها وتحرك بغضبه نحو خزانة ملابسه يلتقط ملابس للنوم، متجاهلًا عن قصد، بيجامة العرس المُلقاة على الفراش،، ليتخذ طريقه بعد ذلك نحو الخروج، ويجعلها تسأله باندهاش:
– طب انت واخد هدومك دي ورايح تغير فين؟ الحمام هنا في الأوضة.
اشارت على الأخير في الجهة القريبة منه، ليلقي نظرة خاطفة نحوه، قبل ان يلتف اليها مصدرًا قراره:
– هطلع اغير في الحمام اللي برا، لأني ببساطة مش هنام هنا، وهسيبك تهدي مع نفسك.
صعقت لتردد بصدمة :
– يا لهوي، هتسبيني النهاردة يا عارف؟ انتي عايزهم يثبتوا الكلام عليا.
توقف يفاجئها بابتسامة كاشفة ليعلق ردًا لها:
– اطمني يا روح، محدش يجدر يجيب سيرتك بنص كلمة، انتي بجيتي مرتي ، يعني اللي يمسك يمسني.
هم ان يتحرك ولكنها فاجاته باعتراض طريقه:
– بلاش تطلع يا عارف….
اسبلت اهدابها عنه بخفر ، لتتابع بضعف وصوت يخرج بصعوبة:
– بكرة الصبح لازم هياجوا عشان يطمنوا، عايزني ارد عليهم واجاوبهم بإيه لما يسألوني عن……
اردف يجيبها بصرامة وقد فهم مقصدها :
– جوليلهم عارف منبه عليا ، الحاجة الخاصة بيني وما بينه، محدش يطلع عليها غيرنا، ولو هتتكسفي سيبي الأمر عليا.
على قدر إعجابها بثقته بها، الا أنها لم تقوى على الزحزحة من محلها ، لتستطرد :
– طب وانت ايه اللي يجبرك تكدب على حاجة لسة متأكدتش منها بنفسك، مش يمكن…..
– يمكن ايه ؟ هو انا مستني دليل عفتك عشان اتأكد قبل ما ادافع عنك، انا مجدر وضعك يا روح، واللي خلاني اصبر بالسنين على أمل ضعيف، مش هيخليني اصبر وانتي في بيتي دلوك؟
قالها بصوت يمزج بين الحنو والحزم في اَن واحد، يخترق حصونها ويزلزلها من الداخل، لتخاطبه بالرجاء اخيرا:.
– طب حتى لو كان، نام هنا في فرشتك برصةا، ليه تطلع برا؟
لاحت على وجهه ابتسامة حقيقية ليعلق بجرأة أخجلتها،
– عشان مينفعش، لو جعدت هنا شوية الصبر اللي بجولك عليهم ، هيطيروا في الهوا…. ف انا احسنلي اني انام برا.
قالها ثم خرج من الغرفة، لتسقط هي محلها، تشعر بخيبة اختلطت بيأسها وحزن .
❈-❈-❈
عاد الاثنان بعد انتهاء حفل الزفاف، واطمئنانه على شقيقته في كنف ابن عمه زوجها الاَن، وحديث بين الاثنان لا يتوقف، حتى وهو قليل الكلام ، لكن مع صديقه الثرثار لا يصمد امام مزاحه ومناكفاته معًا، ترجل الاَخر من السيارة اولا، قبل ان يلحق به نحو مقر ضيافته بالمنزل،
كانت هي في هذا الوقت تودع ابناء شقيقها، قبل ان يغادرا مع والدتهم، لفتت انظار هذا الغريب، والذي تأنى بخطوات المقصودة يطالعها باعجاب انتبه عليه الاخر، ليزمجر ثم يدفعه بخشونة كادت تجعله يقع منكفئًا على وجهه، ثم ليسحبه من مرفقه حتى اذا وصلا الى داخل المنزل ، صاح به معترضًا:
– في ايه يا عم الحج؟ دي يدوب نظرة بريئة، وحتى ملحقتش املي عيني منها….
– يوسف..
هتف يقاطعه بحدة ينهاه:
– انا لولا اني واثق في اخلاجك، وعارف ان انت انسان كويس، اقسم بالله ما كنت هفوتهالك دي.
رد يجيبه بدرامية:
– وانا عملت ايه بس؟ بصراحة بقى انا عرفت قصتها وصعبان عليا تعيش كدة من غير راجل، وهي لسة في عز شبابها….
لم يكمل الأخيرة حتى قطع مجبرًا، وقد أجلفه الاخر بأن قبض على عنقه بعدائية مرددًا:
– وكمان لحجت تسأل عنها وتعرف ظروفها، يعني عينك راحت على حريم البيت يا يوسف، دي اخرة ثقتك فيك.
صرخ بالاَخيرة حتى جعل الاخر يرجوه مخاطبًا:
– والله ما راحت على حد، دا كان صدفة زي ما شوفتها دلوقتي، فك ايديك دي شوية عني، روحي هتطلع في ايدك،
تركه بعدها بلحظات، ليسعل الاخر لمدة ليست محددة
بالوقت، حتى تحول لصحكات متقطعة خبيثة، زادت من حنق الاَخر ليهدر به:
– ليك عين تضحك كمان، دا انت باينك عايزني اروح فيك في داهية النهاردة، وجف يا بني آدم، شيطاني بيوزني عليك.
اومأ بكفيه باستسلام ليحاول السيطرة متمتًا بمهادنة:
– خلاص يا عم اهو، وقف شيطانك دا عني، انا في الأصل مقصديش من اللي في دماغك، وحتى لو في، دلوقتي مينفعش خلاص.
قطب يرمقه بدهشة وغضب متزايد، ليردد الاَخر موضحًا بتسلية:
– ايوة يا عم مينفعش امال ايه؟ مدام فهمت وعرفت انها تخصك، يبقى خلاص بقى، ربنا يجمعك بيها على خير يارب.
برق بإجفال شديد يتمم بصدمة:
– ايه بتجولوا دا يا جزين؟ هو انت فهمت ايه؟ انا بكلمك عن….
صدح يقاطعه بمكر كاد ان يطيح بعقل الاَخر:
– يا سيدي خلاص فهمت، ولا محتاجة تعب منك في الشرح او التوضيح، دي حاجة كدة باينة زي عين الشمس، حاجة حلوة وجميلة كدة، على قد ما تبقى مكتوي بنارها، على قد ما تبسطك اقل همسة منها ، ربنا يوفقك ويحقق امانيك.
ختم يغمز بعيناه ليضرب الاَخر كفًا بالاَخر، ينكر بكذب مفضوح:
– لا حول ولا قوة الا بالله ، انا خابر من الاول ان فيك ربع ضارب، بس الظاهر كدة جلبت معاك بتهيؤات، روح عالج نفسك يا يوسف، روح عالج نفسك يا حبيبي.
– انا برضوا اللي اتعالج؟ الله يسامحك، مقبولة منك، بس عشان ظروفك….
– ظروف ايه اللي يخرب عجلك.
هتف بها يندفع نحوه بانفعال، جعل الاَخر يرتد بأقدامه للخلف، يزيد بالضحكات يغيظه،
حتى استشاط الاخر حتى كاد ان يفتك به، قبل ان يوقفه نداء رجله:
– غازي بيه، كنت عايزك في كلمتين.
التف نحوه يتمالك الغضب والصخب الدائر بداخله ، ليجيبه باضطراب يخفيه:
– بكرة الصبح يا بسيوني، خد يوسف بيه دلوك ووصله للأؤضة بتاعته.
تمتم بها وتحرك مغادرًا على الفور من أمامها، تتبعه ابصار بسيوني بتعجب، جعل الاَخر يخاطبه بتساؤل:
– ايه يا بسيوني؟ هتفضل لازق في مكانك، مش ناوي يا حبيبي توصلني زي ما قالك غازي؟
❈-❈-❈
الفراش الجديد، أم هي الغرفة الغريبة عنها، ام هو الشعور بالذنب وتأنيب الضمير الذي لا يكف عن تعذيبها، في أن تتركه في تلك الليلة الخاصة، ألا يحصل على حقه الطبيعي في نيلها، وينام ليلته خارج الغرفة.
– يووووه.
تمتمت بها بضجر اصابها، لتعتدل بجذعها وترفع الغطاء عنا، ثم تنزل بقدميها، لترتدي خفها وتحركت لتخرج على الفور.
لم تتعب في البحث عنه، وقد وجدته متسطحًا على أحدى الارائك الاَثيرة، غاطسًا في النوم، يخبئ بساعده على عينيه، تقدمت نحوه حتى وقفت بجواره متخصرة بغيظ، تغمغم بصوت خفيض:
– عندك جلب وبتاكل رز مع الملايكة، وانا النوم ما راضي يعتب جفني.
زفرت تخرج دفعة كثيفة من الهواء بصدرها، قبل أن تجلس بعدها بجواره، وحيرة تستبد بها، ما بين تردد يقيدها في ايقاظه، وعذاب الفكر في تركه.
حاولت اخراج صوت بصعوبة:
– عارف.
لم يستجيب، ولكن مع لمستها الخفيفة على ذراعه، تحركت من فوق عينيه، لتكشف وجهه بالكامل لها، فكانت فرصتها الذهبية في النظر اليه عن قرب، بعيدًا عن حصار عينيه الغافية الاَن، فلا تحتاج الى الهرب منه كما يخبرها دائمًا.
لترى هذه التغيرات الجديدة بملامحه، الخطوط التي نبتت مع الزمن، اثار بعض الحبوب القديمة ببشرته القمحية الجاذبة، لقد تغيرت واخشنت عما كانت تتذكرها، أنيق حتى في نومه، هذه السمة التي لم يتخلى عنها ابدا،
فهو الوحيد من أبناء عمومتها الذي لم يهوى الزراعة، فلم تحرقه الشمس مثل شقيقها لتوشمه بسمرتها.
عسليتيه المغطاة اسفل ستار جفنيه، عظام الفكين البارزة، شفتيه العريضة، والتي اجتاحت ثغرها منذ ساعات، و….
استدركت لتنفض رأسها فجأة عن شعور الضياع الذي شعرت به وقتها، تأثرا بأول قبلة تنالها، وقد دارات بها الأرض، حتى انها لم تعي ما حدث جيدا، سوى بعد خروجه.
ابتلعت لتنهض من جواره، مفضلة تعذيب الضمير، على الضياع الذي سوف يكتنفها ان اصرت الاَن على ايقاظه، ف لتذهب وتترك الأمور كما تسير وحدها، لتعود لسريرها الجديد، ربما تجد به الراحة.
غافلة عمن ارتفعت رأسه من خلفها، يعض على شفتيه بغيظ شديد، عينيه منصبة على الجسد الملفوف بعد أن بدلت المنامة العارية، التي منعت عنه النوم، لبيجامة ناعمة التصقت به، تدخل بقلبه الحسرة، لعجزه عن اللحاق بها، مفضلًا غباء التريث والإحتراق بالصبر .
ضرب بقبضته على جبهة رأسهِ، مغمغمًا بقلة حيلة:
– ما كنتي استنيتي في اوضتك، جيتي ليه؟ هو انا كنت ناجص!
❈-❈-❈
صباح اليوم التالي.
استيقظت على وقع الخبر الذي اخبرتها بيه شقيقتها الصغرى ، حتى ذهبت لولداتها تشتكي لها، وقد ظنتها لعبة او سخرية، وكان رد المرأة هو التأكيد لها بجدية لا تقبل التشكيك، حتى صرخت بلهفة بوجهها
– أمانة انتي بتتكلمي جد؟ وغلاوة جدي حسين ما تكوني بتلعب بيا؟
قهقهت المرأة تضرب كفًا بالاَخر، لتردد لها:
– يا مجنونة يا ام مخ ضارب ، ما انا بجالي ساعة عمالة احلفلك، بكل الأيمانات، يعني اللي باجي هو غلاوة جدك حسين؟ طب، وغلاوة جدك حسين يا ستي انا ما بكدب، أبوكي قرا الفاتحة امبارح والنهاردة بعد شوية هنروح ننجي الشبكة .
خرج صوتها من بين الضحك الذي كان يقارب الجنون:
– ياما انا مش مصدجة، ازاي يعني اصحى من النوم، الاجي نفسي مخطوبة ومجرية فاتحتي ، لا ومن مين؟ العريس الزين اخو خالتي جميلة، اللي جاي من الخليج .
للمرة الالف صارت تضحك والدتها على تعليق صغيرتها، التي على وشك الجنون من فرط فرحتها، لتعود مؤكدة
بالقول:.
– طب ومالوا يا عبيطة؟ هو النصيب دي ليه ميعاد، اهو عمر نفسه ده، جميلة ياما جالت وعادت عن جوازه الجريب، وانه هيتجدم لواحدة رايدها، وفي الاخر جالك انتي، يبجى نصيب ولا مش نصيب؟
– اكيد نصيب،
رددت بها بخجل خلفها ، قبل ان تستدرك لتسألها:
– طب هي ليه صح مجبتش سيرة جدامنا، هو مش المعروف برضوا ان الكلام في البداية بيبقى كلام حريم، وبعدها لما يبجى فيه جبول ورضا، يخش كلام الرجال والاتفاجات.
استدارات عنها المرأة نحو الموقد الغازي تقلب الطعام داخل الطنجرة، تجيب بما ذهب به ظنها:.
– هو المفروض زي ما بتقولي كدة، بس هو يمكن عشان جاي من السفر وعايز يخلص، وكمان متنسيش ان ابوكي يبجى صاحب جوز جميلة، والراجل هو اللي كلمه ولم الاتنين على بعض، يعني في بيتها مش اغراب
بدا جليًا عليها الإقتناع بوجهة نظر والدتها، ولكن فرحتها الغالية لم تنسيها الشيء الأهم في السؤال عنه:
– طب انا صح ليه محدش خد رأيي في الحكاية دي، مش لازم برضوا، كان ابويا جه وسألني ان كنت موافجة عليه ولا لأ؟ زي ما بشوف في المسلسلات.
شاكستها والدتها تغيظها:
– وانتي بجى كنتي عايزاهم ياخدوا رأيك ليه؟ يكونش مش عاجبك العريس؟ خلاص اروح ابلغ ابوكي.
قالتها لتتحرك مغادرة، راسمه على وجهها الجدية، لتصرخ الاخرى تتشبث بذراعيها لتوقفها:.
– لا ياما انتي ما صدقتي ولا ايه؟ دا انا بهزر والله.
عادت والدتها للضحك مرة أخرى لتعقب بتشديد ووعيد:
– ايوة كدة صنف يخاف ما يختشيش…..سيبيني بجى اكمل الطبيخ اللي في يدي، وانتي روحي وافطري واتسبحي، عشان على جريب الضهر كدة، هياجي العريس ياخدنا على محل الصاغة.
هذه المرة صدرت شهقتها بصوت عالي تتسائل بجنون:
– يا حلاوة يا ولاد، كمان هجيب الشبكة النهاردة.
❈-❈-❈
فور ان اخبره عما سمع ورأه بأم عينيه بالأمس، انتفض عن مقعده يهدر به:
– إنت متأكد من كلامك دا بسيوني؟
رد يجيبه بلهجة قاطعة للشك:
– زي ما متأكد من شوفتك جدامي؟ انت عارفني يا غازي بيه، عمري ما هخربط بكلام واعر زي ده غير وانا متأكد.
حضرتك موصيني مشيلش عيني عن معتز طول ما انا جاعد في ورديتي، ساعتها كنت رايح اجيبه من ورا الصوان لما شرد من العيال اللي كان بيجري وراهم، لمحت ناجي بيه وهو بيرفعه ويشيله، معرفش ليه جلبي مطاوعنيش ارجع، ف اضطريت اجف مكاني، على ما تيجي امه ع الاقل او يسيبه، لكن اللي حصل بجى، وشكل الست نادية وهي بتزعجله….. مع هيئة الخوف اللي كانت باينة على وشه، خلوني ادارى واستنى عشان اسمع الحوار كله.
بمراجل الغضب التي كانت تشتعل بداخله، صدر صوته بتحذير صارم، وهدوء ما يسبق العاصفة:
– أكيد انت عارف ان الكلام ده ميطلعش حتى بينك وبين نفسك .
رد بسيوني بثقة لرئيسه:
– طبعا يا بيه، دي مش عايزة كلام.
اومأ له لينصرف على الفور، وتوقف هو محله ، عاقد الحاجبين بشدة، يستند بذراع على احدى جزوع الاشجار الضخمة في محيط الحديقة، وبيده الأخرى الممسكة بالعصا، يطرق بها على سطح الأرض، وتفكير مضني، ما بين غضب يدفعه، لكسر باب المضيفة الذي تتخفى بها بعيدا عنه، كي يسألها ويعرف التفاصيل منها، او الذهاب مباشرة نحو هذا البائس ابن عمه، يكسر عظامه ، ويطحنه بالضربات الموجعة، حتى يُقر هو بنفسه عما حدث.
ولكن صوت اخر، كان يدعوه للتريث، ولكن كيف له ان يسحب الكلمات من فمها، وهي الكتومة والتي دائمًا ما تتجنبه..
ظل على حالته بوجه متجهم لا يبشر بالخير، حتى انتبه عليه صديقه، والذي أتى يلقي التحية، ليتفاجأ بهذه الهيئة ويعلق ممازحًا:
– لا إله إلا الله، دي خلقة دي الواحد يصطبح بيها على اول الصبح ، في ايه يا عم؟ ما تفرد وشك، واعتبرني ضيفك، مش واحد شغال عندك.
لم يستجيب لدعابته، بل التفت اليه متحليًا ببعض الزوق، في الرد عليه:
– معلش يا يوسف سامحني، خلجتي مجلوبة لأمر ضروري وشاغلني هنا في البلد، وانت مش شغال عندي، انت صاحب بيت
كلماته ارتدت بأثرها على الآخر، ليسأله بقلق:
– موضوع ايه بالظبط؟ انت شغلتني على فكرة، ليكون خناقة ولا طار قديم وظهر زي ما بنسمع:
قطب غازي بشبه ابتسامة لاحت على ثغره، يعلق بسخرية:
– خناجة وطار وضرب نار، في ايه يا يوسف؟ هو انت ليه عايش في الخيال بتاع المسلسلات الصعيدية، يا حبيبي احنا عايشين وبنمارس حياتنا الطبيعية، يعني الحاجات دي مش سمة اساسية في بلادنا، ومش في كل البلاد كمان عشان تعرف.
– مش في كل البلاد.
ردد بها من خلفه، يتصنع الحرج بدراما، كادت ان تضحك غازي، لولا نيران الغضب التي تغلي بداخله، فتغاضي يخاطبه:
– بجولك ايه، انت مش كنت عايز تتفرج ع البلد النهاردة جبل ما تمشي، انا هبعت معاك بسيوني دلوك يخليك تشوفيها حتة حتة، وبالمرة تاخد فكرة على ملك الدهشان والأراضي اللي نملكها .
تلقف يوسف قراره بترحيب مهللًا:
– حلو، انا كمان متشجع للمشوار ده، كلمت فراج ابن اختك وجدان من شوية، بس قالي انه هيوصل والدته تصبح ع العروسة، مش انتوا عندكم صباحية بردوا للعرسان؟
بذكر العروس امامه، استدرك غازي ، ليتمتم وكأنه وجد الحل لمعضلته:
– روح، ازاي كانت تايهة عني دي؟
❈-❈-❈
وفي منزل العروس
والتي وقفت امام شقيقاتها بوجه تلون وانسحبت الدماء منه كطفل مذنب، يلجمه الخطأ حتى عن الرد ،
عقب هذا السؤال المتوقع والموجه لها من الكبرى، بعد ان انفردتا بها في غفلة من الحاضرين معهما، من ابناء عمومتهن واشقاء العريس.
– يا بنتي مالك ما تردي وطمنينا.
اطرقت تبتلع ريقها بصعوبة، وخرج ردها بخجل شديد:
– ارد اجولك ايه بس يا وجدان؟ الحمد لله.
تدخلت نادرة تردد خلفها بمرح:
– حمد لله، طب ما تعرفيني انتي بتحمديه على ايه؟ طمني جلبنا يا بت، عشان نحط صباعنا في عين التخين، فين الحاجة؟
بالاَخيرة وقد فهمت على مقصد شقيقتها، وهو الدليل على عفتها كما هو متعارف في العادات والتقاليد التي نشأو عليها، دارت الدنيا بها، لا تعلم بما ترد عليهما، ليتها تماسكت قليلًا عن الارتجاف بين يديه، ليتمم مهمته، او حتى يأخذها بالقوة، ولا ينفر منها ويترك لها الغرفة، لتجد نفسها الاَن في هذا الموقف الذي لا تحسد عليه.
استجمعت شجاعتها تتذكر قوله لها بالأمس، لتخبرهم:
– اا الحاجات دي بيني وبين جوزي، عارف منبه عليا بكدة امبارح، ان مطلعش الكلام ده لأي حد .
شهقت شقيقتها تتخصر باستهجان تقارعها:
– اسم الله عليكى يا ختي وعلى جوزك، احنا مش أي حد يا ماما، احنا اخواتك، ولينا حج عليكي فيها دي.
– حج ايه يا نادرة؟
هتف بها يقتحم عليهن الغرفة، اجفل الشقيقتان، لتمتم المذكورة تكذب بحرج:
– يعني هيكون ايه بس يا عم عارف؟ دي حاجة بيني وبين اختي، اطلع منها انت بس يا عريس، وسيبنا نستفرض بيها اللحظة دي، اطمن مش هنعوج عليك
– أممم، عارفها انا الحاجة اللي تجصديها دي.
زام بفمه، يردف بها باتسامة خبيثة أخجلت المرأتين،،
– هي مش جالتلكم برضوا ان دي حاجة بيني وبين جوزي؟
– وه، خبر ايه يا عارف؟
غمغمت بها وجدان بدهشة، وقد افحم بجرأته شقيقتها الأخرى، امام زهول العروس، والتي أجفلها بلف ذراعه حول خصرها يضمها اليه امامهما، متابعًا حديثه ببعض المزاح في الجدال مع شقيقتها الكبرى، المتمسكة بالعادات القديمة
كتمت هي شهقتها، في محاولة للأندماج معهما، ومع ذلك لا تنجح ابدًا بفضله، لمساته المتكررة بقصد ارباكها، رغم التصرف امامهم بطبيعية، خبيييث ، هذا ما تأكدت منه الاَن .
– يعني انت مُصر وناوي تمشي غلى عوايد البندر، طب ما تلبسها بنطلون كمان، عشان تبجى ع الموضة بالمرة.
اردفت بها نادرة في متابعة لمزاحهم، ليردد لها مقارعًا:
– واجيبلها عجلة، تتفسح بيها وسط الخضرة.
قالها وانطلقت ضحكات الثلاث، حتى اذعنت وجدان ترفع راية الاستسلام أمام اصراره:
– خلاص يا سيدي مدام متفجين، ربنا يهنيكم ببعض، هو احنا هنعوز ايه أكتر من كدة، ياللا يا نادرة نلم نفسنا، بدل ما يطردنا واد عمك بوشه المكشوف ده..
عقب على قولها بضحكة عالية، يغيظها خاطفًا قبلة من عروسه المصدومة من الأساس ليردف:
– جلبك حاسس والله يا بت عمي، كان نفسي اعملها، خصوصًا وان كل اللي كانوا حاضرين مشوا، بس للأسف مش هينفع، جاتنا زيارة تجيلة من واحد غلس، طالب يجابل العروسة.
خرج السؤال من نادرة يسبق الأخريات:
– مين دا اللي جاي وطالب يشوف العروسة في يوم صباحيتها؟
❈-❈-❈
– انا اللي أصريت على جوزك اجعد معاكي لوحدينا .
قطبت تحدق بشقيقها متسائلة بدهشة اختلطت بقلقها، تخشى ان يكرر معها مع فعلته شقيقاتها:
– خير، خير يا واد ابوي، بس هو مش عارف برضوا جالك زي ما جال لنادرة ووجدان.
– جال ايه لنادرة ووجدان؟
سألها بعدم فهم ، لتضطر أن تجيبه على استحياء:
– يعني…. على موضوع…… ان اللي بيني وبينه…. ما حدش له دعوة بيه.
توقف يطالعها للحظات بعقل مشتت حتى استدرك لخجلها الشديد، يستوعب أخيرًا ، فيُخبرها بحسم:
– انا جايلك في طلب تاني خاااالص…. ركزي معايا يا روح.
لفت انتباهاها لتسأله بفضول:
– طلب ايه يا واد ابوي؟
سمع منها واشتدت تعابيره، ليسألها بانفعال مكتوم:
– الواد ناجي جل بأصله ازاي مع نادية؟ ودور البت فتنة كان ايه بالظبط؟
– فتنة وناجي، هو انت عرفت ازاي؟
ردها العفوي سريعًا، كان ابلغ تأكيد على علمها بما حدث، قبل ان تتراجع بكذب مكشوف:
– ااا انا معرفش ان نادية اتعركت معاهم.
ما كادت ان تنهيها حتى تفاجأت تنكمش على نفسها فزعًا من هيئته، وقد استوحشت ملامحه، ليشدد عليها بتهديد صريح:
– من غير لف ولا دوران، ولا أخد ورد في الحديت، هتجولي اللي حصل بالحرف.
– طب ما انا معرفش….
همت بها ان ترواغه بقولها ، ولكنه قاطعها بصرامة مرعبة:
– انا جولت مش عايز لف ولا دوران ، اخلصي يا روح وخلصيني، مينفعش اطول في جعدتي اساسًا، اتكلمي يا بت.
❈-❈-❈
بعد خروجهم من محل الملابس الذي توقفت به المرأتان جميلة وصديقتها، لانتقاء بعض قطع الملابس هدية العريس للعروسة، بعد ابتياع الشبكة، سار بهما لداخل المحل الملاصق له، ليرطبان حلوقهم، بارتشاف عصير الفواكه الطازجة، جلست معه على طاولة تخصهما ، في ركن منزوي الى حد ما
بعدما ابتعدت عنهما المرأتان بقصد اخلاء الجو لهما، كي يتعرفا على بعضها:
– انا مبسوطة جوي، مش عشان الشبكة الزينة اللي اشترتهالي وبس، لا دا عشان كله، انا مش مصدجة نفسي والله
اردفت بالكلمات تعبر عما يجول بداخلها، تبادره الحديث، علّه يفك جموده، الذي طال حتى ملت، وكان رده لها:
– مش مصدجة ان اختارتك وخطبتك؟ عشان مكنتيش متوقعة صح؟
هتفت بعفوية وقد أعجبها تجاوبه:
– ايوة امال ايه؟ وهي دي حاجة هينة، دا انا من ساعة ما صحيت وعرفت بالخبر، وانا مش عارفة اتلم على جسمي، مش عارفة اللي صايبني بالظبط، أعصابي سايبة، وقلبي بيتنفض من جوا و……
قطعت شاعرة بخطأ ما في قوله، لتُبهت منتبهة لهذه النظرات المتفحصة والتي سار يرمقها بها، تسير على تفاصيلها بتأني، ليردف كي يحفزها على المتابعة:
– جولي تاني يا هدير، ماله بجى جلبك؟
شعرت بالقشعريرة مع قوله الاخير، حينما انحدرت ابصاره على موضع قلبها، لتردف بارتباك متهربة:
– ما انااا جولت خلاص، هكرر ليه تاني؟ انا ريجي نشف.
قالتها وانكفئت على كأس العصير لترتشف منه، تهرب من حصار عينيه والتي أصبحت تشعر بها تخترفها الاَن، تطوف عليها بتمعن من حجاب رأسها حتى حذائها في الأسفل، وأتى قوله المفاجئ لها؛
– الجزمة اللي انتي لابساها دي، بجالها كام سنة معاكي ؟
– هاا
خرجت منها بإجفال في البداية حتى استوعبت، تجيبه:
– يعني سنتين، ابويا جابلهالي ع العيد اللي جبل اللي فات .
– جصدك ع العيد اللي جبل جبل اللي فات،
ردد بها خلفها، ليتابع لها موضحًا:
– انا بصححلك، عشان انتي جولتي سنتين.
اومأت تبتلع ريقها بحرج شديد، فإشارته حول الحذاء القديم لم تخفي عليها، ليردف متابعًا بتعليماته لها:
– شوفي يا هدير، عايزك من هنا ورايح تهتمي جوي باللي بتلبسيه، ياريت لما تشتري هدوم، تبعدي عن المعارض والكلام الفاضي ده، نجي محلات حاجتها نضيفة، زي المحل اللي دخلناه من شوية، هما خمس تاشر يوم الباجية ع الفرح، مش عايز هدوم الجهاز تبجى كوم ع الفاضي، تجيبي الحاجة الغالية ومش لازم تكتري،
للمرة الثانية تومئ برأسها بطاعة، ولكن هذه المرة كانت تتوجه ببصرها نحو والدتها وشقيقته وكأنها تبتغي منهما الدعم او المغادرة، بتململها في جلستها امامه، انتبه ليتمص قلقها بأن باغتها بالقبض على احدى كفيها التي سارت تفركهم ببعض اسفل الطاولة، ليجفلها بالضغط عليها يلطف لها:
– الغوايش في ايدك النهاردة، كانت تهبل.
نجح بصرفها عن التطلع نحو الاخريات ليتابع متغزلًا:
– انا بتكلم على يدك الحلوة، ولا جوز عنيكي الوسعين المرسومين بالكحلة، ولا سمارك اللي غلب البيض بجمالهم، انتي حلوة جوي يا هدير.
أتى قوله بأثر السحر، لتهدأ فجأة متناسية حديثه الاول عن الحذاء والمظهر، لتتذكر فقط كلمات الغزل التي يلقيها على اسماعها، تضحض شعور عدم الراحة الذي يتسرب لها خلسة من حين لاَخر، وتقنع نفسها بأنه عمر امير احلامها التي كانت مستحيلة، وتحققت فجأة، تفتح اذنيها للإنتباه له، يغمرها دفء كفه القابضة بقوة على كفها الصغيرة، وكأنه سلمت له الدفة، ليسير بها كيف يشاء.
❈-❈-❈
خلف المنزل، وحيث كانت تتابع صغيرها وهو يركض خلف صغار الحملان المولودة حديثًا، تضحك من قلبها على لعبه معهما، كانت مندمجة في متابعتهم، يسعدها انطلاقه في براح الأرض الشاسعة والمحيط المقارب للبرية، والتي تأتي بأثرها بالابتهاج عليها هي أيضًا، حتى انتبهت اخيرًا على الظل الطويل خلفه، لتفاجأ به، امامها مباشرة، ملامح مشتدة ووجه متجهم، ابصاره مرتكزة بصورة أثارت داخلها القلق لتساله:
– في حاجة يا غازي بيه؟
ظل على صمته لحظات يزيد بداخلها الريبة، حتى خرج صوته اخيرا بغموض:
– ليه مجولتليش ع الججيجة؟
– حجيجة ايه؟
سألته بعدم فهم، ليهدر بها بانفعال:
– حجيجة الواطي وجليلة الاصل اللي كانت مرتي، ليه خبيتي عني؟ مجولتيش ليه عن اللي عمله الزفت ده هو واخته معاكي؟
اجفلها بسؤاله، لتعلم الاَن سبب التجهم، وهذه الشراسة التي تعلو ملامحه، والتي أدخلت في قلبها الرعب، لتنكر بكذب مكشوف.
– زفت مين؟ انا معرفش انت بتتكلم على ايه؟
زمجر بصوت وحشي مكتوم، ضاعف في قلبها الفزع من هيئته، ليهدر بها :
– بلاش تلفي وتدوري معايا في الحديت يا نادية، انا دلوك بس عرفت اللي حصل، روح جالتلي بكل اللي تعرفه عن الموضوع، ولا دي كمان هتكدبيها؟
على الرغم من صدمتها بعلمه بما حدث، إلا أن غرابة الحديث جذبتها للتساؤل:
– امتى روح فتنت باللي حصل؟ دي النهاردة صبايحتها؟.
قالتها بعفوبة شتته لبعض الوقت قبل ان يستدرك بغضبه :
– هو احنا في صباحيتها النهاردة ولا دخلتها؟ انا بسألك ع اللي حصل ، جوليلي ناجي عمل ايه معاكي يا نادية؟ وفتنة…… كان دورها ايه بالظبط؟
همت ان تنكر ولكنه لحق عليها من البداية:
– من اولها عشان انا معنديش مرارة، بسيوني سمع كل الحديت اللي دار بينك وبين ناجي امبارح، وانا النهاردة روحت واتأكدت منه بنفسي من روح، روح اللي غصبتيها تجفل خشمها وتداري زيك، على عملة واد عمها اللي عايز الحرج .
اطرقت برأسها، غير قادرة على مواجهته، ليهدر بها بانفعال:
– ساكتة ليه؟ بجولك كل حاجة انكشفت،
صاحت به مرددة باستنكار:
– ولما هي كل حاجة انكشفت، وروح حكتلك، ايه لزوم تسمع مني تاني؟ ع العموم اهي فرصة عشان اتأسفلك ع الكلام اللي سمعته في يوميها، اقسم بالله ما كانت جاصدة اجلل منك، بس دا كان رد لكرامتي، جبل ما يكون رد على كلام فتنة اللي……
– اللي ايه؟
تمتم بها، شاعرًا بانخلاع قلبه من محله، خشية مما قد يسمعه عن الأذى الذي طالها في بيته، وتحت حمايته، كما كان يتخيل ، قبل ان يصدم بالحقيقة المرة.
هتف بها حازمًا بأمر
– نادية انا مش عايز اعتذار، عايز تحكي كل اللي حصل.
تأففت مقللة:
– تفاصيل ايه تاني؟ ما خلاص بجى، دا كان موضوع وفات وكل واحد….
– مفيش حاجة فاتت
صاح مقاطعًا بجنون يتراقص في عينيه، يعود بالتشديد عليها، بنيران مستعرة، وحمم سائلة تسري بأورته:
– انا لازم اسمع دلوك، الواد ده عمل ايه بالظبط؟ مينفعنيش الكلام العايم، انا لازم افهم عشان احدد العقاب.



السابع والعشرون من هنا

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close