اخر الروايات

رواية ميراث الندم الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم أمل نصر

رواية ميراث الندم الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم أمل نصر



صعدت حتى سطح المنزل، لتجده متسطحًا على كوم من الرمال، ويبدوا انه قد غفى وبات ليلته عليه، زفرت بقنوط، لتخطو حتى وصلت اليه، فجلست جواره كي توقظه:

– عمر، يا عمر، اصحى يا خوي، ضاجت عليك ملجيتش غير ع الرمل وتنام؟!
فتح جفنيه اخيرًا، ليستعيد وعيه رويدًا رويدًا، حتى خرج صوته متحشرجًا، يضغط بطرفي السبابة والإبهام على عظمة أعلى أنفه، يكتنفه صداع بالرأس:

– خلاص يا جميلة انا صحيت اها، صحيت خلاص ……
هو انا نمت هنا كيف؟
قال بالاخيرة وهو يعتدل بجذعه يتطلع حوله في الأجواء، ونسمات برد لطيفة بعض الشي، تلامس جسده وبشرة وجهه، ليتوجه لشقيقته الصامتة، يعيد السؤال:

– ما تجولي يا جميلة كيف انا نمت هنا؟.
امتعضت ملامحها تجيبه على مضض:
– لو انت مش فاكر افكرك انا، انت امبارح كنت جالب ع الكل، امك بتجول انك جعدت اليوم كله برا، بعد ما دبيت كذا عركة معاهم ومع عيال خواتك، ولما رجعت متأخر على وش الفجر، محدش دري بيك ، غيب لما صحيوا على صوت الدب فوجيهم، وابوك افتكر حرامي ولا حصين نازل ياخد الطير، لكن اتفاجأ بيك متمدد على الرملة، جعد يكلمك عشان تجوم من مكانك وتنزل على أؤضتك، لكنك مكنتش حاسس اصلا، في الاَخر سابك على راحتك، عشان متجومش متعصب عليه.

مسح بكفه، على الذقن الغير الحليقة ليردف مع تذكره لأحداث الأمس:
– وه، حتى ابويا كمان كش مني؟ لدرجادي انا كنت عفش مع الكل؟

التوى ثغرها لتشيح بوجهها للناحية الأخرى، تمنع نفسها عن الانفعال، أو توبيخه عما بدر منه نحو والديها الطيبين من الأساس، ولكنه كان أذكى من أن يتجاهل:
– انا عارف انهم لسة زعلانين، وعارف اني غلطان يا ست جميلة، يعني مفيش داعي تولي وشك عني، هنزل اروح أرضيهم اطمني.

التفت اليه معقبة على كلماته:
– والله لمصلحتك يا واد ابوي، رضا الوالدين عليك من رضا ربك، بلاش نيجي عليهم، دا انت اكتر واحد عارف انهم غلابة، وما صدجوا ياخدوا نفسهم من الشجا بعد انت ما جومت بالبيت .

اومأ بضيق لينهض من جوارها، ليس لديه طاقة على معارضتها او الجدال معها:
– خلاص يا جميلة عرفت غلطي، وجولت ان اراضيهم، يعني مفيش داعي بجى للتجطيم…. خليكي جدعة بجى وروحي حضريلي لجمة افطر بيها،

اضطرت تجاريه، وقد حسبته استفاق من كبوته، ليعود لواقعه، والحياة التي تنتظره بعدما عاد بالمال الوفير،، ليحقق ما يصبوا اليه

نهضت على الفور بهمة كي تذهب وتعد له اجمل وجبة افطار، ولكن وقبل ان تصل للدرج اوقفها بهتافه:

– ناوية تروحي فرحها النهاردة ولا لأ يا جميلة؟
استدارت له، ليرى مزيج من حيرة وضعف، يعلو تعابيرها، قبل ان تجيبه بوضوح:

– والله يا واد ابوي مش هخبي عليك، عندي رغبة شديدة ان احضر فرح اعز صحباتي، وفي نفس الوجت، مستتجلاها احضر، ولا اشوف غازي الدهشان بعد ما رفضك و….

توقفت فجأة لتجفله بسؤاله :

– طب افترض روحت يا عمر، هتزعل مني؟
تسمر لبعض الوقت يطالعها بصمت ثم ما لبث ان يجيبها بكذب مكشوف:

– لاه يا جميلة مش هزعل، دي صاحبتك، يعني من حجك تروحي وتباركيلها، كل حاجة في الاخر نصيب.

بنبرة متشككة سالته:
– صح يا واد ابوي يعني انت متأكد من كلامك ده؟
– ايوة يا جميلة متأكد، وروحي حضريلي الفطار، خليني انزل اشوف مصالحي،
قالها والتف يعطيها ظهره، لينهي بينهما النقاش، فهبطت الدرج تسبقه في النزول الى الطابق الارضي.

هم هو بالحاق بيها، ولكن اوقفه صوت الهاتف، ضجر بغضب وقد ظنه نفس الرقم المتكرر، ولكنه تراجع فور ان راى هوية المتصل، صديق غربته صلاح صابر:

– الوو يا صلاح، عامل ايه يا صاحبي؟
وصله رد الاخر على الفور:
– الوو يا عمر يا خسيس، بقى يا راجل تنزل البلد وتنسانا خالص، طب اعمل حتى بحق العيش والملح اللي كان بينا، وافتكرنا برنة، اخص عليك.

تبسم لقوله على غير ارداته، يسير نحو حاجز الشرفة الأسمنتي، يستمع لتوبيخه ولسانه السليط لا يكف عن الشتيمة، حتى وصل به للسؤال المُلح:

– طمني بقى؟ ايه الاخبار؟ اتجوزت ست الحسن اللي كنت فالق راسنا بيها ولا اتخلت عنك وفلسعتك؟

استشاط غضبًا يعض على شفتيه بغيظ شديد، فهذا الاحمق، ان علم ما حدث معه، لن يكف عن تذكيره بذلته، وهو لا ينقصه.
هم أن يكذب عليه ، ولكنه توقف فجأة، فور ان وقعت عينيه على هذه الفتاة الواقفة في الساحة الداخلية بمنزلهم في الأسفل، مع إحدى بنات شقيقاته، تتظاهر بالحديث معها، وعينيها لا تتوقف عن التطلع اليه، بنظرات الهيام التي أصبحت ترطب على قلبه في بعض الأوقات، تلامس هذه الجزء الرجولي به،
ليأخذ القرار على الفور، يجيب صديقه وكأنه أصبح أمر واقع:

– لا يا صلاح مش هي اللي كنت بكلمك عنها، بصراحة بجى، انا نزلت البلد وعيني زاغت على اللي الأحلى منها،

وصله الرد على الفور من الطرف الآخر:
– احلى منها كمان، مين دي ياد؟
تهكم ضاحكا:
– ويعني لو جولتلك على اسمها ولا اسم اهلها هتعرف؟…. يا سيدي ع العموم لما تنزل البلد انا هخليك تشوفها وتسلم عليها كمان، مش هتكسف منك ولا اداريها

❈-❈-❈

خرج من غرفته على أصوات الشجار العالي بين أبويه، ليتفاجأ بهما بوسط الصالة بعد تركهما الغرفة، والدته تصيح بانفعال شديد:

– يعني ايه يا فايز؟ برضك منشف راسك ومش ناوي تديني جسط الهدوم والحاجات اللي اشتريتها؟ دا كدة المرة ممكن تمسك سيرتي، ولا انت عايزها تفضحني جدام حريم البلد، عايزهم يجولوا مرة فايز بتاخد ومبتسدش؟

صاح بها الاَخير بدوره:
– خليهم يا ختي ياكلوا وشك ولا يجيبوا ويحطوا عليكي، انا مالي انا، مش انتي اللي بتتصدري جدامهم وتعملي نفسك هانم عليهم، تجيبي وتكومي من غير حساب، هكفيكي ايه ولا ايه؟ اجساط هدوم ولا ملايات ولا اجهزة كهربائية تغيري فيها كل شوية، خبر ايه؟ ما
تعيشي عيشة اهلك، هو انا كنت مدير بنك.

– لاه مش مدير بنك يا فايز، بس انت معاك فلوس، ولا ناسي فدادين الارض اللي وارثها عن ابوك؟ مخلي الناس تزرعها بالمشاركة وانت بتحصد المكسب اللي بيطلع منهم وتجاسمهم ع الجاهز

ضحك بصوت ساخر يعقب على قولها:
– حصدت الهم يا اختي، هو انتو اللي يعاشركم يشوف جرش، كل اللي كسبتهم راحوا على المصاريف، وإجارة البيت ، والوكل والشرب، اللي بتحشي فيه، انتي وعيالك، الكرش اللي مد جدام مترين ده، متعبي ايه؟ مش من اللي بصرفوا عليكم برضوا؟

بهتت تطالعه بصدمة، وكفه تشير على بطنها التي كبرت بالفعل، يذبحها بكلماته القاسية عديم الاحساس ، فما كان منها الا ان ترد له بالمثل:

– بتعايرني يا فايز، وبتعد عليا اللجمة اللي بحطها في خشمي،، طب انا بطني كبرت وفلتت من الحمل بالعيال، لكن انت بجى، بتتسبسب وتتعدل وتلبس في الجديد، على اساس انك ترجع الشباب من تاني، ومش حاسس بنفسك وانت عجزت من كتر الكيف اللي بتبلبع فيه، ومش حاسب تمنه، الكيف اللي بهدلك وخلاك هلهولة……

– هلهولة قي عينك.
صدرت مرافقة لدفعة قوية منه اوقعتها ارضًا، ركض على اثرها مالك ، ليرفعها عن الارض ويدافع عنها :

– متدمش يدك عليها، هي مكدبتش في اي كلمة جالتها على فكرة.
– هي برضوا اللي مكدبتش، اسفوخس عليك وعلى جلة ادبك ، لكن اجول ايه؟ ما هي دي تربيتها تربية شربات، تربية زفت زي وشها.

بصق كلماتها وخرج مغادرًا، يتركهما غير مبالي، لتغمغم ناظرة في اثره ببكاء:
– ابوك بيعايرني، شاف نفسه علينا وما بجيناش عاجبينه، ولد سكينة بيذلني باللجمة اللي باكلها.

كبت يربت عليها مهونًا وبمقت شديد يتشعب بداخله، عقب لها:
– ما هي دي طبيعته من الاول، مش جديد عليه البيع ولا الندالة.
– عارفاه يا ولدي وعارفة عفاشته، بس هو ليه يعني كدة معايا؟ لو عايزني اخس ، طب ما يديني فلوس وانا اروح للدكتور يخسسني وابجى احلى من اللي بياجوا في التليفزيون .

اردفت بها تزيد بالبكاء، ليغمغم هو داخله بابتسامة ساخرة:
– دا على اساس انه لسة باصصلك اصلا؟ ومش واخد تخنك دا حجة عشان يبرر لنفسه.

❈-❈-❈

وفي المنزل الكبير.

والذي كان يعج بعدد الافراد من العائلة في التجهيز والتحضيرات للعرس الكبير مساءًا، نساء واطفال، وفتيات من أبناء شقيقاته، يلوحن له بأيديهن بالتحية، ليعلق ويشاكسهن كعادته اثناء مروره جوراهن، يمارس سلطته بفكاهة كما يفعل مع اشقائهن الشباب في الجهة الأخرى:

– حركي نفسك زين يا بت، مش عايز لكاعة..
– احنا برضوا متلكعين يا خال؟ انت فعلا جصدك علينا؟
– امال يعني هكون جاصد الحيطة اللي وراكم يا مضروبة الدم انتي وهي، انتوا بينكم عايزين تتروجوا على اول الصبح:

اردف ليزيد بلف ذراع احداهن، بمزاح ثقيل منه، يقابلنه بالصرخات والضحكات، ليزدن من مناكفاته، وكأنه فتى يماثلهم في العمر، حتى كان صوت القهقهات ، يصل لاخر المنزل.

اشراق وجهه وهذه الروح الحماسية، يظهر جليًا حجم فرحته بزواج العروسين، شقيقته الأحب واقرب الأشخاص اليه من ابناء عمومته، صديقه عارف .

في اثناء ذلك دلفت هي تحمل ابنها ، ذاهبة في اتجاه
غرفة العروس، لتفاجأ بهن يتصدر الطرقة أمامها،
يكتنفها الحرج في تنبيههن، كما انها لم تقوى على كبت ابتسامتها،

حتى انتبهت عليها احداهن :
– خالة نادية تعالي خشي، دي عمتي روح طالباكي من الصبح.
اومأت بابتسامة مستترة تجيبها:
– ما انا جيت والله بس…..

– بس ايه؟ البيت بيتك، وسعي يا بت وانتي سادة الطريج كدة بتخنك ده.
قالها يدفع احداهن بفظاظة يدعيها، لتصيح به عاتبة، رغم ضحكها مع الاخريات:
– انا تخينة برضوا يا خال؟ طب والله العظيم انت راجل ظالم ، كدة ولا لا يا خالة نادية؟

اجفلت الأخيرة بطلب الفتاة النحيفة بالفعل لتلوح لها بابتسامة متوسعة، قبل ان تتحرك لتكمل طريقها:
– زينة يا حبيبتي والله،، هو انتي فيكي حاجة اصلا؟
– يعني انا اللي ظالم؟
هتف بها واضعًا كفه يده على صدره يتصنع الصدمة، هنا لم تقوي على كبت ضحكتها، لتذهب بخجلها امامهما، تاركة طبولا تدوي وحفلات راقصة بداخله، بالإضافة لتعليقات الفتيات الآتي ازددن في مناكفتهن له، وهو يبادلهن بدون تركيز، وقد ذهب عقله فيمن ملكت قلبه بضحكتها، حينما مرت من أمامه.

❈-❈-❈

دلفت اليها، تدفع الباب بنفسها بعد ان سمحت بدخول الطارق، وقد كانت بجوار خزينة الملابس تخرج منها بعض الأشياء الخاصة لتضعها في الحقيبة الصغيرة امامها:

– صباح الخير يا عروسة، جالولي انك طلباني.
تركت ما بيدها لتستقبلها بابتسامتها البشوشة كعادتها:
– صباح الهنا، خشي بسرعة واجفلي الباب، جبل ما تاجي واحدة من البنات وتتحشر وسطينا.

– وه، دا انت طالباني في امر ضروري صح على كدة.
تمتمت بها وهي تخطو للداخل، وتغلق الباب خلفها كما أمرتها ، ثم اقتربت لتشاكسها بحماس:

– ايه بجى؟ تكونيش لسة عايزة نصايح؟ ما انا جولت اجيبلك ام أيمن…
ضحكت وقد تلون وجهها بحمرة الخجل كما عهدتها، لتعلق ضاحكة:

– يا شيخة حرام عليكي، ام ايمن تاني، مش كفاية عمايلها امبارح في الحنة، دي خلت اصوات الحريم في الضحك توصل للرجالة برا، انا خوفت ليجي حد ويزعجلنا امبارح وربنا.

– لا يا ختي اطمني، ام ايمن اساسًا معروفة، لازم اي مكان تدخلوا تجلبوا مهرجان، المهم بجد، انتي كنتي عايزاني في ايه؟

خبئت ابتسامتها، ليعلوا ملامحها توترًا ظاهرًا، قبل ان تجلس وتخاطبها:
– طب اجعدي جمبي وبلاش الوجفة.

اذعنت تجاورها على طرف الفراش، لتسألها بقلق:
– انتي شكلك ميطمنش، ايه الحكاية؟ ما كنتيش كدة امبارح.
– كنت بمثل يا نادية.
تمتمت لتزيح خصلة متمردة من شعرها للخلف، ثم تابعت تبتلع ريقها بصعوبة:

– انا بحاول واجاهد مع نفسي اني اندمج مع الناس اللي فرحانالي، وامثل اني كمان فرحانة زيهم، لكن جوايا…… جوايا مش عارفة اسيطر على مجموعة المشاعر اللي متلخبطة…. انا……

حثتها نادية على المواصلة، بعدما توقفت، شاعرة بثقل الأمر عليها:
– جولي يا روح، هو انتي خايفة من الدنيا الجديدة اللب داخلة عليها ، ولاااا يعني عشان العريس نفسه…..

سحبت منها طرف الخيط لتردف على الفور:
– الاتنين…… الاتنين يا نادية، انا بجالي سنين وانا بحلم بالليلة دي، بس مع واحد تاني، انتي عارفاه، يعني مش عارف اللي كنت دايما رافضة فكرة ارتباطه بيا من الأساس……

انا يا نادية من ساعة ما قررت انصر اخويا ونفسي أولًا، على حساب حبيب اتمنيته وعشمت بيه، وانا من يوميها بدوس على جلبي لو حن، اضغط على عجلي عشان يقتنع ويمحي أي ذكرة ولا فكرة تخليني أضعف، عايزة الكل يعرف مين هي بنت الدهشان، بس بصراحة تعبت، والتفكير هيجنني، مكنتش عاملة حسابي خالص ان ابجى زوجة عارف….

بلمسات حانية ربتت نادية تخاطبها برقة:
– دا احساس طبيعي على فكرة، الجلبة السريعة، وان الأمر كله يتم في يدوبك شهر، هو دا اللي عاملك ربكة في دماغك، عارف واد عمك لحد دلوك بيثبت كل يوم انه راجل بالفعل مش بالكلام، طب يعني انتي حاسة نفسك مش جبلاه؟

ترددت في لحظة بتفكير يسبق اجابتها، ثم اردفت بما تشعر:
– بصراحة مش عارفة اجولك ايه؟…. ومش عارفة اجيبهالك ازاي عشان تفهميني..
اسبلت اهدابها عنها بحياء لم يخفى عن الأخرى، لتواجهها بابتسامة متوسعة:

– انا دلوكت بس فهمتك، ع العموم يا ستي، انا من رأيي تسيبي الأمور كدة تمشي لوحديها، عيشي اللحظة واخطفي فرحتك من الزمن، دي حاجة ما بتتكررش في العمر كله، ومدام فتحتي صفحة جديدة، وبتجاهدي نفسك انك تنجحي، أكيد ربنا مش هيخذلك.

شردت بنظرها للأمام تتمتم بتمنى:
– ياريت يا نادية، ياريت، ربنا وحده العالم بحالي، انا فعلا بحارب نفسي وهواها،

❈-❈-❈

على شاشة الهاتف تقلب في الصفحات وتبحث عن طلبات صداقة والشخصيات التي قد تود التعرف عليها ، لتزداد تأففًا وحنقًا، لا يوجد رجل واحد يتساوى مع هذا الأحمق الذي كانت متزوجة منه قبل ذلك، حتى من أبناء عمومته ونائبي المجلسين في الدائرة التابعة لبلدتها، لا احد يصلح، لا أحد يناسبها، لا أحد يرضي غرورها ان ارتبطت به وتزوجته، تبًا.

تمتمت بها لتدفع الهاتف من يدها، ثم نهضت لتنظر من شرفة منزلها والتي تطل على الطريق الممهد لسير السيارات، متى يتسنى لها ان تخرج بسيارة هي الاخرى ، تتتنفس طريق الحرية، تخرج من قوقعتها وهذه الدنيا الضيقة الى اخرى تستوعب امرأة بجمالها،

امرأة تستحق الافضل، تستحق التدليل، تستحق الحب،
ام هو خلق للإناث التي اقل جمالا منها، تعلم جيدا انها ان خرجت من هذه الدائرة سوف تجد من يقدرها، تجد من ينافس الاَخر، بل ويغلبه

استفاقت من شرودها، وهي ترى سيارة شقيقها تدلف داخل محيط منزلهم، لتترجل منها والدتها وبعدها هو كذلك، انتظرت حتى دلفا اليها لتتخصر في استقابلهم بحنق متعاظم انتبها عليه الاثنان، ولكنهما تجاهلا يلقيا عليها التحية بروتينة، ليكملا حديثُ دائر بينهما:

– يا واد بجولك البنت عشرين سنة، ومعاها اختين اصغر منها، بس هي الأحلى فيهم، انا سألت وعرفت انها في السنة جبل الاخيرة في الكلية، يعني على ما خطبتها، تخلص السنة دي في بيت ابوها، وبعدها تاخد سنتها الأخيرة في بيتك، بعد ما تتجوزها.

– كمان جوزتيهالي ياما؟ يعني كل دا رتبتيه في اللحظة اللي شوفتيها فيها ، اما انت يا حجة رئيسة عليكي حاجات.

أكمل ضاحكًا باستخفافه، ليثير حنق والدته ، والتي صاحت به غاضبة:
– يا بوي عليك وعلى برودك يا ناجي، يعني انا بكلمك على بت حلال عجبتني، وشوفتها تنفع وتلجليجلك، وانت بجى بدل ما تديني رأي زين يريح جلبي ، تروح تتمهزج بكلامي، طب تجدر تجولي البت مش عجباك ليه؟ دا انت شوفتها بنفسك، حلا وجمال ، وكفاية انها في الاصل دهشان، يعني برضك بت عمك .

هم ناجي ان يبرر بنفس الحجج التي يدعيها دائمًا ، ولكن شقيقته تدخلت لتعلق ساخرة:
– سيبيه ياما وريحي مخك احسن، دا هيفضل كدة معلج بحبال الهوا، لا هو طايل سما ولا طايل ارض .

أثارت حنق شقيقها ليهدر ساخطًا بها:
– امسكي لسانك دا يا فتنة، وما تتدخليش في اللي ملكيش فيه، حرام تسمعي وانتي ساكتة وتوفري علينا حرجة الدم في مرة، اعوذ بالله منك.

حرك قدميه كي يغادر، ولكن رئيسة اوقفته تجذبه من مرفقه سائلة بإلحاح:
، ملكش دعوة بيها، وخليك معايا انا، البت عجباك ولا لاه يا ولدي؟ ريح جلبي وخلينا ندخلك ورا واد عمك على طول .

رد بجيبها بنزق، كي تتركه ويذهب:
– لاه يا مش عجباني، وشها حلو، بس معضمة ونشفانة، سيبيني بجى، عايزة اتسبح والبس بدلتي عشان اللحج زفة العريس، مفيش وجت.

نظرت رئيسه في اثره وهو يذهب من امامها بيأس يتملكها، تريد ان تفرح به كباقي شباب العائلة، ولكنه كالعادة لا يكترث، لا احد منهم يريحها، ان هو، او تلك التي تطالعها الاَن بنظراتها الماكرة، والتي لم يخلصها ان تظل صامتة:

– ما انت لو تكبري مخك عنه وتسبيه، هترتاحي ، بدل ما انتي تاعبة نفسك في المناهتة كدة على الفاضي معاه.

علقت بها، لتلفت نظرها اليها، ولتزيد من غيظها، حتى هتفت بها تنهرها:
– ملكيش دعوة يا فتنة، وانا طول ما انا جاعدة معاكم ، هلاجي الفرح اساسًا ولا اشوف الراحة، جطيعة تاخذني وتريحني منكم.

غمغمت تتابع بكلمات السخط منهم ومن حظها الاسود في العيش معهم وهي تغادر من امامها، كي تجهز نفسها هي الأخرى لحفل المساء، وعادت فتنة تزفر غيظها مرة أخرى، وحديث نفسها المستمر هذه الايام:

– كلكم شايفني هم تجيل عليكم، ومش حاملين لي كلمة ، ماشي، بكرة انا أروايكم مين هي فتنة.

❈-❈-❈

مساءًا وامام المنزل الكبير
توقفت السيارة السوداء والتي وقف غازي الدهشان بنفسه، لاستقبال صاحبها، والذي ما هم ان يترجل منها ، حتى هتف بمرحه المعتاد:

– اشهد ان لا اله الا الله، أخيرًا وصلت، هي بلدكم دي برا مصر ولا ايه يا عم الحج؟
تبسم غازي يضرب كفًا بالاَخر يغمغم بتصنع الغضب:
– لا اله الا الله، اهي دي جزاة اني دعيتك، لا وبعتلك عربية بسواج مخصوص، تاخدك من المطار عدل، انت مكانش ليك التعبير من أساسه .

– لا يا عم الحج متقولش كدة، انت قفشت ولا ايه؟ هو احنا نطول ونحضر فرح في بيت الدهشان بحاله، الف مبروك يا كبير.
– ايوة كدة اتعدل .
هتف بها غازي قبل ان يقبل عليه ويعانقه عناقًا رجوليًا، يرحب به، وبزيارته الاولى للبلدة:
– شرفت البلد يا يوسف ونورت.

– والله البلد هي اللي منورة بناسها، بس ايه الفخامة دي كلها ، بسم الله ما شاء الله، اول مرة اشوف فرح واخد نص البلد لوحده، هي البلد دي مكتوبة باسمكم ولا ايه يا باشا؟

هتف بالاَخيرة ممازحًا مع غازي، والذي سحبه بعد ذلك ، ليعرفه على باقي افراد العائلة، قبل ان يحضر معه فقرات الحفل والتي لم تبدأ بعد .

❈-❈-❈

وفي مكان اخر.

حيث المناظر الخلابة بهذا المكان الذي اعد خصيصًا لهذه المناسبات والتقاط الصور الرائعة به، نظرا بموقعها المميز على أطراف النيل ، بالإضافة إلى الاستغلال الجيد من قبل احد المستثمرين، بتنظيمها الجيد .

وقفت بالقرب منه تضع كفها على موضع قلبه اعلى عظام صدره، تتبع تعليمات رجل التصوير، والذي امر الاخر بلف ذراعه حول خصرها، ليزيدها ارتبكًا، مقربًا رأسيهما، جبهته تستند على جبهتها، عسليتيه منصبة على سوداوتيها، لا تستطيع الهرب بعيناها عنه كما تفعل دائمًا، انفاسها مضطربة، في وضع ليست معتادة عليه من الأساس.

– حلو اوي .
هتف بها رجل التصوير، بعد التقاط الصورة، لتتنفس بالارتياح اخيرًا، حينما وجدته انشغل مع شقيقتها ، لتلفت انتباهه في التعقيب ساخرًا:
– احنا لسة مخلصناش على فكرة.

خرج صوتها باعنراض:.
– مخلصناش ايه؟ كفاية كدة صور يا عارف، وخلينا نروح، انت لسة متعتبش مناظر،

ازداد اتساع ابتسامة مشاكسة منه، لينفي متلاعبًا بحاجبيه، فتشيح بوجهه عنه بخجلها الدائم، وتزاد فتنة على فتنها، وكأن الحسن خلق لها وحدها، الفستان الأبيض زادها بهاءًا، وهي اليوم عروسه، روح قلبه اصبحت له اخيرًا، حتى وان كان على غير ما يريد، أن تكون له بإرادتها الكاملة، لكنه لن يمل ولن يهدأ حتى يأتي هذا اليوم قريبًا.

– معالي العريس، نستعد بقى للمنظر التاني.
– معاك يا غالي .
هتف بها كإجابة للرجل، قبل ان يجفلها بلف ذراعيه يقربها اليه فجأة، حتى سمع شهقة اجفالها ، ليتمتم بخبث بالقرب من اذنها:
– اهدي كدة امال وبلاش فضايح جدام الراجل، ارخي شوية وبلاها الرجفة دي، احنا جدام الناس، يعني لسة ما بجيناش لوحدينا .

زادت صدمتها لتطالعه متوسعة العينان كالجماد، ويقابلها هو بعبث أفعاله الجديدة عليها، لينقذها رجل التصوير، بأن اقترب يجهزهما لمنظر اخر.

❈-❈-❈

– بتجول مين يا عمر؟
– ايه مسمعتيش كويس؟ ولا البت محتاجة تعريف؟
تمتم بالكلمات متهكمًا، ليزيد من دهشة شقيقته التي لا تزال حتى الاَن، لم تستوعب بعد صدق نوياه، قبل ان تؤكدها فرحة والديها:

– ودي محتاجة تعريف، يا الف هنا يا ولدي ان ربنا هداك، يا زين ما اخترت، هي البت خفيفة صح، بس حتة عجينة وهتشكلها على يدك.
– ايوة وناس غلابة، يعني ما هيصدجوا
اضاف بها والده، ليخرج صوت الاحتجاج منها:

– ناس غلابة وعجينة في يده! انتوا بتتكلموا ازاي؟ في ايه يا بوي؟ فيه ايه ياما؟ هدير دي عيلة يدوب مجفلة السبعتاشر الشهر اللي جبل اللي فات، يعني ولدك يزيد عليها في العمر الضعف، تيجي ازاي دي؟

لاح الغضب على ملامح الثلاثة، وكانت الأم هي الأسبق في الرد بحمائية نحوها:
– وهي اول واحدة، ما كل بنات البلد بيتجوزا صغيرين، ثم كمان اخوكي شباب وصغير يا اختي، مش راجل عجوز عشان تجولي انظلمت.

– ايوة صح وانا متجوز امك على عمر ١٣ سنة يا ست جميلة، يعني بلاها من الكلام الفارغ ده.
علق بالاخيرة والدها داعمًا لرأي زوجته، لتصيح بهما مرددة :
– يا جماعة افهموني، انا بجولكم بنت سبعتاشر سنة، يعني حتى الماذون مهيرضاش يعجد لها، دي مجابتش السن القانوني، ولا انت ناوي تستناها سنة يا واض ابوي، معجولة ليك مرارة للصبر تاني؟

– لاه يا جميلة مش هصبر
صاح بها بوجهها، ليواصل باندفاع الحديث منه:
– انا هعجد عليها بالسنة، زي الاغلبية ما بتعمل في البلد، ودي حاجة مفيش اسهل منها.

– كمااان عايز تتجوزها بورجة وتمضي على وصولات بمبالغ ضخمة ضمان، طب ليه يا واد ابوي؟ ما تستني ندورلك على بت تكون مكملة السن ومناسبالك حتى في التعليم عشان تفهمها وتفهمك، دي واخدة شهادة الإعدادية بس وانت خربج معهد خدمة اجتماعية.

وكأن بمحاولاتها لأقناعه تهدف الى العكس،، ليزداد تشبثًا بالأمر، تبسم باتساع يقارعها:
– طب وانا مالي بتعليمها؟ مش كفاية تعرف تقرا وتكتب، ولو ع الوصولات، كانت من امتى نفعت حد دي؟ عمرك سمعتي عن واحدة في بلدنا اشتكت جوزها بالوصولات؟

هتفت بالاخيرة المتبقية لها:
– طب وليه الاستعجااال؟ ليك عليا من الصبح انا واخواتك البنتة نطلع وندور……

– انا هخطب واقرا فاتحة الليلة يا جميلة!
برقت عبنيها في التطلع اليه بصدمة؛ اكتملت اركانها وهو يتابع:
– انا كلمت جوزك، يدي فكرة لابوها، والراجل ما صدج ورحب بزيارتي، يعني ليكي عليا يا بت ابوي اتمم الأمر بالكتير خمس تاشر يوم او سبوع، وافرحكم، ولا ايه رأيك ياما؟

– رأي، ربنا يتمملك على خير يا ولدي، دا يوم الهنا اللي اشوفك فيه عريس .

تحولت الجلسة للمباركات من الوالدين مع مزاحه معهما، متجاهلين عن قصد اعتراض جميلة، والتي وضح لها جليًا الاَن، سبب الإصرار الغير مبرر من شقيقها ، وقد علمت ما يحمله خلف هذه الابتسامة المرتسمة على ملامحه بزيف، ليخرج صوتها في جملة اخيرة:

– خليك فاكر ان العند يورث الكقر يا واد ابوي.

❈-❈-❈

تطلعت الى صغيرها تملي عينيها منه، بعد أن انتهت من تصفيف شعر رأسه، وقد اصبح أمامها كطقعة الحلوى بحلته الصغيرة، ورابطة العنق التي التفت حول ياقة القميص، زادت على سحر طلته، لتشبعه بالقبلات

– ايه يا واد الحلاوة دي؟ جمر يا ناس جمر .
ضحكت جليلة من خلفها، لتتمتم بالآيات الحافظة، قبل ان تقترب وترفعه اليها مغمغمة:
– ما براحة يا بت ع الواد، ان كان حبيبك عسل متلحسوش كله، سيبي حباية لسته،

قالتها لتأخذ دورها هي الأخرى بتقبيله، ثم لتضمه اليها بعشق قائلة:
– ربنا يخليهولك يا بتي، وتشوفيه ببدلة فرحه هو كمان .
– يارب ياما، امتى اليوم دا ياجي.
– هياجي ان شاء الله ، دي السنين بتمر في غمضة عين، بس انتي جولي يارب.

– يارب.
تمتمت بها، ثم انتبهت على نظرة المرأة المتقحصة لها، قبل ان تسألها:
– وانتي صح مستنيه ايه؟ يدوبك تلحجي تغيري جلبيتك ، خلاص العروسة على وصول.

اعتلى التردد تقاسيمها لتردف بالرقض:
– انا بجول تروحي انتي كفاية، اهو تراعي معتز معاكي..
– وانتي ما تروحيش ليه؟ ايه اللي يمنعك؟ دا الفرح في جلب البيت.

ردت بحرج يكتنفها:
– مش حكاية برا البيت ولا جواه، بس انا حساها تجيلة ، امبارح كانت ليلة حريم وعدت، النهاردة دخلة كبيرة وهيلمان، خليني أحسن هنا في البيت.

شعرت جليلة بالشفقة على صغيرتها، ان تفقد المعنى الحقيقي للفرح بهذه العمر الصغيرة ، وقد حرم عليها مظاهره، ولكنها لن تتركها للحزن:

– نادية، اسمعي مني يا بتي، متحرميش على نفسك لحظة زينة ولا حاجة تفرحك، انتي مش هتجضي عمرك كله في عزا، المرحوم جرب ع السنة، انا مجولتكيش اجلعي الأسود دلوك، بس ع الأجل نوعي حتى بتحجيبة رصاصي أو كحلي، مش لازم كله يبجى اسود غطيس، دي ليلة صاحبتك وحبيبتك، هايهون عليكي تسبيها برضوا في ليلتها لوحدها؟ دي حتى تبجى عيبة في حجك.

❈-❈-❈

– واحد، اتنين، تلاتة، صلي على رسول الله
تمتم يوسف بالاَخيرة بجزع، بعدما تفاجأ بالعديد الطلقات التي تطلق من عدة أشخاص، في عدة اتجاهات، اقربها كان من صديقه المجنون، والذي فاجئه بمسكه السلاح وكأنه لعبة بين يده، لا يكف عن استخدامها

– ما كفاية يا كبير، كل التحية دي مكفتكش، ولا حتى خايف من طلقة عشوائية تيجي في حد وتعمل مصية زي ما بنسمع.

ضحك غازي ليعقب، ويغيظه بمرح:
– لا يا حبيبي، احنا معندناش عشوائية، محدش فينا بيمسك السلاح غير لما يكون متأكد من التعامل معاه، لو خايف انت خش استناني جوا في المندرة.

– خايف ايه يا عم انت كمان؟ ما تحسن ملافظك، انا برضوا هخاف، انا بس بحذرك، افهم بقى.
ردد بها يوسف مستنكرًا الاستخفاف به، ليقابل الاخر احتجاجه ضاحكا يقول:
– يعني انت مش خايف من السلاح ولا ضرب النار، طب اهي عربية العرسان دي اللي داخلة علينا ، وريني شطارتك بجى.

وقبل ان يخرج منه الاستفسار، اجفل بانطلاق وابل من الطلقات التي تصدر في وقت واحد، بعدد الأشخاص الذي تزايد فجأة،

ليغمغم يوسف بارتعاب يخفيه:
– يا نهار ابيض، كل ده عشان الترحيب بوصول العرسان امال لو حرب أهلية، كان هيبقى الوضع ازاي؟

❈-❈-❈

بعد قليل
وبداخل الجزء الخاص بالنساء اتخذت العروس مقعدها على المنصة المخصصة لها ولعريسها، والذي ذهب الاَن، ليتلقى التهاني والمباركات من الرجال في الجزء الخاص بهم ايضًا، واغاني الدي جي والسماعات العليا، تنطلق من الجهتين،

– وعلى قدر ضخامة الفرح وازدحام الصوان بالمدعوين، الا أن وجود الأقرباء من المحبين، كان لو وضع اخر، شقيقات العروس وبناتهن، لا يتوففن عن الرقص والتصفيق، والتشيجع لكل من يشاركهم.

وعلى إحدى الاغاني الشهيرة المنافسة على اشدها، بين الفتيات الصغار، لتعلق نادرة التي كانت تجاور العروس في هذا الوقت.

– شوف يا خوي البنات مضاريب الدم ، عاملين عمايلهم، انزلي يا روح خدي لفة وسطيهم.

اعترضت لها بمنتهى بابتسامة صفراء، فقد ملت من هذا الطلب المتكرر:
، لأ يا نادرة، ولو عايزة تروحي انتي ترجصي وسطيهم ، روحي، عشان انا مش نازلة من الكرسي دا النهاردة .

عبست الأخيرة تشاكسها بقولها:
– يا باي عليكي، هتعملينا فيها عروسة وبرستيج، خليكي يا ختي لازجة في الكرسي، اروح انا اهيص

قالتها وفور ان نزلت من المنصة ، هزهزت كتفيها بالرقص تضاعف من مناكفتها، والأخرى تتصنع الغضب رغم ابتهاجها من الداخل، لتلتف بعدها نحو التي تقف متفرجة بجوار والدتها، لتدعوها بالاقتراب، حتى اذا أصبحت بجوارها، عاتبتها على الفور :

– كدة برضوا يا نادية، من ساعة ما جعدت عمالة اشاورلك، وانتي ولا معبراني.

قطبت الاخيرة بدهشه تطالع غضبها الغير مبرر، فتأخذ دورها هي الأخرى في المشاكسة:
– طب وليه العصبية؟ انا اصلا مكسوفة من جعدة الكوشة جمبك، بالاسود اللي لابساه، معلش يعني….

قاطعتها على الفور بحمائية:
– ومالوا الأسود؟ دا انتي احلى من كل الموجدبن في الفرح بيه، اصحي لنفسك يا نادية دا انتي جمر.

– والله انتي اللي جمر.
رددت بها بامتنان لا يخلوا من اعجاب حقيقي بها، لتردف بعدها:

– على فكرة يا روح، انا بتكلم جد والله، حريم البلد النهاردة هيتهبلوا عليكي، انا بسمع تعليفاتهم بنفسي، بس انتي ليه مكشرة، ولا تكونيش لسة متوترة؟

ظهرت اجابة السؤال على ملامحها التي تجهمت فجأة بشكل فكاهي، جعل الأخرى تعلق بابتسامة تجاهد لإخفاءها:
– معجول لسة يا روح، مش احنا اتفجنا نعيش اللحظة؟
– يا بنتي هو مديني فرصة افكر طبيعي حتى عشان اعيش ولا أنيل.

خرجت منها بعصبية لتستدرك وضعها على الفور امام البشر، ثم اقتربت منها، تستكمل حديثهما الهامس، بعيدا عن الصخب الدائر حولهم:

– يا نادية والله بيوترني بتصرفاته، يعني مثلآ في العربية فضل ماسك وداني يوشوشني بكلامه الجريء، وانا في نص هدومي، لا عارفة اتجاوب معاه، ولا جادرة ارفع عيني في المراية جدام السواج، ولا في الفوتسيش اجواك ايه بس؟

لم تقوى نادية على كبت ضحكتها، لتتمتم لها بمكر:
– هو باين عليه فاهمك، وشكله كدة مستحليها معاكي، فوكي عشان ميزودتش في الغلاسة عليكي..

رددت خلفها ياستخفاف:
، بزود فين تاني؟ هنا كمان جدام الناس؟!

وما كادت ان تنهيها حتى التفت رأسها مع الأخرى، على صوت زغاريط النساء التي صدحت بقوة، ترحيبًا بدخول العريس وخلفه عدد قليل من رجال العائلة، كشقيق العروس ووالد العريس وعمه، وبعض الشباب .
انتفضت نادية تريد النهوض من جوارها ولكن الأخرى أوقفتها تجذبها من مرفقها:

– اجعدي متجوميش، هو اساسا داخل عشان يسلم على جدتي، مش واخدة بالك .

اعترضت بحرج تريد نزع قبضتها عن مرفقها:
– طب سيبي يدي، ما هو أكيد لازم يجي ويجعد جمبك.
تجاهلت تزيد بالتشبث بها، حتى أجفلها اشارة الأخر نحوها، سهمت بنظرها اليه بعدم فهم، ولكن نادية وضحت لها:

– بيجولك انزلي، شكله عايزاك ترجصي معاه وسط البنات .
سمعت منها وقد تأكد لها بالفعل مطلبه، التفت براسه عنه، وبعند طفولي رفضت ان تنظر اليه مغمغمة بضجر:

– جال انزل جال، دا انا اختي من الصبح بتتحايل عليا وانا ورافضة، طب مش نازلة.
وبإصرار أشد،، وصل اليها ليسحبها من كفها أمام الجميع وبدون نقاش، بابتسامة جعلت السيدات يطلقن الزغاريد، ابتهاجًا بفعله، لترضخ له نتيجة الحرج، وعلى غير ارادتها، لتتخذ مكانها بالوسط بجوار الجدة التي وقفت تحرك ذراعها بالعصا، تعبيرًا عن فرحها بزواج حفيديها، لتشتعل الأجواء على انغام المزمار البلدي، وقد التف حولهما الفتيات الصغيرات لتضطر هي ان تجاري الوضع وتتمايل معه على قدر ما تستطيع، تخطف نظرات مفهومة نحو صديقتها والتي اندمجت هي الأخرى في التصفيق مع البقية ، لا تخفي ابتسامتها ولا ضحكتها على ردود أفعالها.

غافلة عمن وقف هو الاَخر مشدوهًا بفتنتها، لا يرى بشرًا من الحفل غيرها، وبرغم كل الحواجز لا يملك الارادة التي تمكنه من إزاحة النظر عنها، حتى حينما انتبهت له اخيرًا، لتلتقي عينيها بخاصتيه عدد من اللحظات، شعر بها وكأنه انفصل عن الواقع، ولم يعد في الكون غيرهما، وكأنها استجابت لنداء قلبه، كي يروي عطشه بنظرتها، ينقض العهود ويخالف الوعود الذي قطعها على نفسه، يستجدي كلمة واحدة منها ، ليتها تشعر به وبما يحمله لها بقلبه.

ولكن كيف؟ وقد قطعت تفسد سحر اللحظة، بأن انزلت ابصاره عنه، وغيرت حتى المكان التي كانت تقف به قبالته، ليعود ليأسه مرة أخرى ويتذكر مقارنتها المجحفة له بزوجها الراحل .

❈-❈-❈

بعد قليل وقد أوشك الحفل على الانتهاء، خرجت من صوان النساء لتبحث عن طفلها الذي غافلها يركض مع الاطفال،
بصوت خفيض كانت تهتف منادية باسمه حتى لا تثير انتباه الرجال اليها في الصوان الاخر .
– معتز، انت يا زفت…..

قطعت وقد تفاجأت به امامه محمولا على ذراعي هذا الغليظ، على الفور امتقعت ملامحها، وتحفزت بتظرة محتدة تخاطبه بأمر :

– نزلي الود من على يدك .
قابل غضبها، بهدوء شديد يلطف بقوله:
– خبر ايه يا بت عمي؟ هو انا هخطفه، دا معتز دا حبيبي والله، حرام عليكي تمنعيني عنه.

غلت الدماء برأسها لنردف بتهديد صريح، تقطع عليه اي طريق للتواصل:
– نزل الواد وبلاش كلامك الملون ده، انا مش عايزة صوتي يعلى، بس لو زودت عن كدة ، مش هايهمني حد، ان شالله حتى اجول على عملتك السودة وجلة اصل اختك اللي دارت عليك ، ولا يكونش فكرت سكوتي ضعف ولا خوف منك .

كانت قوية وحاسمة في توجيه التهديد المباشر له، حتى اجبرته على انزال الطفل، يكتنفه اضطراب شديد، وابصاره تتلفت في الانحاء حوله خشية سماع احدهم للحديث بينهم، يردف بمهادنة:

– ايه اللي حصل يا بوي لدا كله؟ انا في الاول والاخر، عايزك قي حلال ربنا، يعني مش جاصد أذية.

تناولت كف ابنها لتسحبه اليها وتقربه، تبصق بعبارتها الأخيرة بوجهه قبل ان تستدير وتذهب:
– واحنا لا عايزنك حلالك ولا حرامك، بس اكفينا شرك وابعد عنينا، يا اما تبجى انت اللي جيبته لنفسك.

ظل واقفًا لحظات يتطلع في اثرها بوجه انسحبت الدماء منه، يمسح على عرق جبهته الباردة بقلق شديد، لقد اجفلته بحدتها، وهو الذي منى نفسه بنسيانها ما حدث وقد مر على هذا الأمر شهور ، يبدوا ان الطريق مازال طويلا بينها وبينه، ولكنه لن ييأس.

اقنع بها نفسه، قبل ان يتحرك ويعود الى حفل الرجال بعرس ابن عمه، جاهلًا عمن كان يقف متخفيًا في جهة قريبة، وقد سمع كل الحديث .

❈-❈-❈

انتهى حفل العرس اخيرًا:

وها هي الاَن تقف بغرفتها، الغرفة التي اسسها من أجلها منذ سنوات، تجهزت وارتدت مئزرها في انتظار دلوفه، ليعود اليها بعد لحظات ، بعدما تركها منذ قليل، كي يودع مجموعة من أصدقاء الغرباء ، قبل عودتهم لبلادهم،

كانت تجلس على طرف التخت تضم على طرفي المئزر بقوة، حتى تخفي أي شيء أسفله، شعرت به يتقدم بخطواته الوتيدة حتى وقف فجأة دون صوت ليجبرها على رفع رأسها اليه، والتقت ابصارها بعسلتيه المشتعلتين نحوها، بنظرة تحمل اشياء جعلته لا تقوى على استيعابها في هذا الوقت، فخرج صوتها بصعوبة في الحديث له:

– ااا وصلت صحابك ، ولا سلمت عليهم؟
لم يجيبها بشيء، بل جاء صوتها محفزًا ليقترب ويدنو اليها، وتناول مرفقها بين يديه، ثم رفعها اليه، كي تقف قباله،
فازدادت خجلا، وازداد ارتباكها حتى لم تعد بقادرة على مواجهته، قبل ان يمسك بذقنها بطرف اصبعيه، ليجبرها على مواجهته، وهو يخاطبها:

– بصيلي كويس يا روح، حطي عينك في عيني، خلاص معدتش بجى فيه هروب، انتي ليا وانا عمري ما كنت غير ليكي، فاهمة انا بجولك ايه؟

أومأت بهز رأسها، بصمت لم يعجبه، ليشدد بإمساك ذقنها ويأمرها:
– كرري انا جولت ايه ؟
ابتلعت تخرج الكلمات منها بصعوبة:
– انااا ليك، وانتي عمرك…. ما كنت لحد…. غيري.

– جدعة يا روح.
تمتم بها ، ثم فاجئها بأن التفت ذراعه حولها، ليجذبها بقوة نحوه، حتى ارتطمت بصدره، لتصدر صوت شهقة الاجفال منها، وشعر برجفتها، ليعقب بضجر:

– انتي لسة برضوا بترجفي يا روح؟

يتبع…..




السادس والعشرون من هنا

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close