اخر الروايات

رواية ميراث الندم الفصل العشرون 20 بقلم أمل نصر

رواية ميراث الندم الفصل العشرون 20 بقلم أمل نصر


 في الجلسة التي جمعتهم حول الجدة الكبيرة، ولديها بجوارها، تتحدث معهما بسجيتها، غير عالمة بما يحدث حولها، والاثنان يتجاوبان معها في حديث يبدوا عادي، حتى لا ينتابها الشك في شيء، نظرا لزيارتهما المفاجأة لمنزل العائلة اليوم.

اتخذ غازي جلسته في الطرف بعيدًا، لينفرد بالحديث الخافت مع صديقه:

– شوفت عمك يا عارف؟ كانه الموضوع جاله على هواه ، وما صدج يلاجي جنازة عشان يشبع فيها لطم.

رد يجيبه برزانة كعادته، رغم ثقل ما يحمله بداخله من مشاعر قاتلة، وأبصاره موجهه نحوها، تلك التي جلست بزاوية وحدها بوجه منطفئ، ذهب عنه الاشراق المعتاد، لا تقوى على رفع نظرها نحو أحد منهم، ولكنها مرغمة على مشاركتهم الجلسة، حتى لا تثير بقلب جدتها الشك:

– عمك من يومه هوال يا غازي وانت عارفه، بس اطمن مش هينطج بحرف، عشان ابويا مشدد عليه، جدتي مش حمل أي زعل.

تحمحم غازي شاعرًا بالغصة التي جرحت حلقه، باستدراك جلي لتلميح ابن عمه، رغم علمه بحسن نيته، حتى عقب له ينكر بكذب مكشوف:

– تركيب وغش يا عارف، انا بس اعرف اللي عملها، وربنا لاكون معرفه مجامه زين؟

– بس انا عرفت اللي عملها؟
انتفض غازي، يردد سائلًا له بتحفز:
– مين يا عارف ابن الكلب ده؟ وجولي إنت عرفته ازاي؟
خرج صوته عاليًا بانفعال لم يقوى على كبته، حتى لفت انظار الرجلين ووالدتهما اليه، حتى مال نحوه عارف هامسًا بخفوت وحذر:
– وطي صوتك يا عم الحج، بنجولك المرة تعبانة، ولو على اجابة السؤال، انا عرفت باسلوبي اسم صاحب الرقم،

التف اليه بأعين نارية، يسأله باستهجان:
– وجاعد جمبي ساكت يا عارف!
زم شفتيه الأخير نحوه باستياء، ثم رفع شاشة الهاتف امام عينيه يرد
– يا عم افهم انا عارف جبل ما اجي هنا على طول، وبرضك صراحة مش عارفة اتصرف ازاي مع صاحبة الرقم ؟ اصله كمان مش بأسمها ، دا بإسم جوزها الميت

ضيق غازي عينيه ليغمغم بقراءة الأسم المدون على الشاشة بتفكير عميق:
– عبادي السناري…… وه،
ارتفعت رأسه متسائلًا باستدراك فوري:
– دا المرحوم عبادي جوز البت نفيسة الحفافة…… يا بت ال……

توقف فجأة يستعيد بذهنه مشهدها، وهي تهرول من باب المنزل الخلفي بخطواتها المسرعة، وكأنها تهرب من جرم فعلته……

نهض فجأة وبدون استئذان يجفل الجالسين بندائه:.
– بسيوني، انت يا واد يا بسيوني، تعالي عايزك حالا يا واد.

القت فاطمة بالسؤال نحو حفيدها عارف:
– واد عمك ماله النهاردة، ؟ شكله مش طبيعي،
أومأ يجيبها على عجالة وهو ينهض ليلحق به:
– مفيش يا جدة، حاجة بسيطة كدة، انت عارفة غازي جلبه حامي في أي حاجة.

صمتت المرأة لتتفحص وجهي ابنيها اللذان كانا يتبادلان النظرات الغامضة، بوجوم يعتلي تعابيرهم، قبل أن تلتف نحو فتنة التي أتت تحمل أصغر بناتها:

– امال غازي راح فين؟ مضروبة الدم مش عايزة تنام غير في باطه.
عقبت فاطمة ضاحكة، تفتح ذراعيها للصغيرة:
– هاتيها انيمها انا المشجلبة دي، ولا تاخديها انتي يا روح، هي أكيد هتسكت معاكي.

وقبل ان يخرج رد الأخيرة، تهكمت فتنة، والشماتة تتراقص في عينبها نحو تلك التي تدعي التماسك وهي في موقف لا تحسد عليه:

– لاه يا جدة، سيبي روح في حالها، لتكون مصدعة ولا حاجة، انا مش عايزة احمل عليها، وهي شكلها مضابج كدة.

اكتفت روح بنظرة حارقة تحدجها بها، فهي لن تسمح بأن تجرها لمشاجرة في هذا الوقت الحساس، يكفيها إجهاد التفكير المتواصل بالهواجس والمخاوف التي تضج بها رأسها، وهي لا ينقصها.

❈-❈-❈

تأفف بضجر ليغلق الهاتف نهائيًا، عن هذه الاتصالات الملحة، والتي مل واصابه القرف منها، ثم ما لبث ان يستقيم واقفًا عن جلسته أعلى المصطبة الرخامية خارج المنزل فور أن رمق بعينيه شقيقته تلج امامه من مدخل الشارع الضيق، في طريقها إليه، حاملة على يدها بنتها، ساحبة معها هذه الفتاة السمراء الغريبة، تحمل هي الأخرى حقيبة يد بلاستيكية من خلفها، تبدوا أنها ثقيلة،

– مساء الخير
القت التحية بعد أن اقتربت تنهج من ثقل السير بابنتها والتي تلقفها الاَخر ليحملها عنها مرددًا خلفها تحيتها:

– مساء الفل، انت برضك جايا شيلاها البنت دي، مش تعوديها تمشي على رجليها احسن، امشي على رجلك يابت وخففي عن امك.

جلجلت الصغيرة بضحكاتها المرحة، تأثرًا بالدغدغات المتواصلة من خالها، والذي انشغل بها، حتى انتبه على قول الأخرى:

– عامل ايه يا استاذ عمر؟
رفع رأسه عن الصغيرة ليجيبها بروتينية، يحاول تذكر اسمها:
– اهلاا يااا يا هدير.
تدخلت جميلة مخاطبة الفتاة بامتنان:
– دخلي السلة جوا يا هدير، ربنا بعدلهالك يا بتي، دايمًا مساعداني

همت ان تنفذ مطلبها، وما ان همت لتتحرك خطوتين حتى التفت برأسها تخاطبه بوجه واجم، قبل ان تكمل طريقها نحو المنزل:
– الف مبروك يا استاذ عمر، ربنا يتمملك بخير.
قالتها ولم تنتظر الرد منه، لتجفله بارقًا عينيه من خلفها متفاجئًا لقولها، حتى نقل بنظره نحو شقيقته التي التوى ثغرها بحرح منه، وقد أجفلها فعل هذه المتهورة، ليخاطبها باستياء معاتبًا:

– كدة برضوا يا جميلة؟ لحجتي تنشري الخبر؟ دا انا لسة حتى مدخلتش البيت.
بررت تدافع عن موقفها:
– يا حبيبي والله ما جولت لحد غير امها، ودي صاحبتي وجارتي، كنت فرحانة ومعرفتش اخبي عليها، هي بجى سمعتنا بالصدفة.

– واهي مسكت في الكلمة، ومش بعيد تنشرها في البلد كلها. طب استني حتى لما ناخد خطوة رسمية.
همت لترد ولكن بخروج الفتاة، اغلقت فمها تنتظر مرورها اولا، والتي سألتها وهي لا ترفع بصرها عنه:
– طب انا ماشية بجى، مش عايزة مني حاجة تاني؟

نفت جميلة على الفور، تربت على كتفها باضطراب حتى تتحرك:
– لا يا حبيبتي متشكرين، روحي انتي كملي خبيز مع امك، روحي ربنا يعدهالك.

كالعادة كانت خطواتها متباطئة، وهذه النظرات المكشوفة نحوه، رغم تغيرها هذه المرة لأخرى متشبعة باللوم وكأنه اخلف بوعده معها!

حينما غادرت اخيرًا تختفي من الشارع امامه، التف نحو شقيقته يردف باستدراك متأخر:
– جميلة، انت جصدتي تجولي جدام البت دي خبر الخطوبة، ومهياش سمعت بالصدفة ولا حاجة، صح ولا لاه؟

اومأت تحرك رأسها باستسلام تجيبه:
– بصراحة أيوة ومتزعلش مني، البت زي ما انت شايف كدة، عجلها خفيف، وانا جولت اخليها تعرف، عشان متعشمش نفسها، ما هي البنتة في السن ده بيبجى خيالهم واسع، وو…. وكدة احسن يعني.

زفر بحنق، ولم يعلم ماذا يفعل معها، أيوافقها على وجهة نظرها، أم يغضب لأفشاءها الأمر قبل حدوثه؟ في الاخير حينما يأس منها، علق بتهكم متأثرًا بقلق بدأ يزحف داخله من بكرة الصباح:

– ناصحة يا اختي، طب اهي بركات الست هدير نشعت علينا كانها، وروح من الصبح جافلة معايا، من وجت الرسالة اليتيمة اللي بعتتها ليلة امبارح، تجول انها هنام بدري ومصدعه.

رددت هي الأخرى بارتياب:
– وه، دا حتى انا كمان مبتردش عليا، رغم اني اتصلت بيها خمس مرات ، هنروحلهم كيف دلوك من غير ما نعرفوا منها الميعاد المناسب للزيارة؟

– إنتي كمان؟!
تمتم بها ليتناول الهاتف، يحاول مرة أخرى مخاطبًا نفسه بانزعاج داخله:
– هيكون ايه اللي عطلها بس؟ دي معملتهاس وانا في الغربة بعيد عنيها، تعملها في يوم زي ده؟

❈-❈-❈

بداخل الغرفة التي ضمت الثلاث الرجال معها، بسيوني خلف الباب وكأنه يمنع بجسده الضخم خروج الصوت للخارج ، عارف بجهة قريبة، وهي في الوسط، تقف أمامه، بجسد يرتجف، فسهم جمرات عينيه المتقدة نحوها، وهذه الهيبة التي لالطالما عرفتها عنه، من مجرد مواقف شهدت حضوره بها، ورأت حزمه وصرامته في إصدار الأحكام التي تسري على رجال اكبر منه عمرًا ومقامًا، ومع ذلك يفرض سيطرته، وكلمته تنفذ على رؤوس الجميع، فما بالها هي الاَن في حضرته، وذبذبات الخطر تنتشر في الأجواء حولها، مع نظراته المسلطة عليها بوجه مظلم، يُرعب الجنين ببطن امه، وصمت مريب قطعته هي بالسؤال الذي عادت تكرره للمرة الثانية:

– انا كنت بسألك يا غازي بيه، هو انت بعتلي ليه؟ بسيوني سحبني على هنا من غير ما يبلغني بالسبب، وانت بجالك لحضة طويلة من ساعة ما جيت بتبصلي……

– اصنطي…..
قاطعها بحدة جففت الدماء قي عروقها، لتبتلع في ريقها بارتياع متعاظم، حتى اقترب بخطوتين رافعًا سبابته نحوها بتهديد مباشر:

– هي كلمة ومش هاعيدها، هتجاوبي ع السؤال اللي أجهولك من سكات، لإما يا نفيسة عقابك هيبقى اضعاف وساعتها متلوميش الا نفسك.

– سؤال ايه يا بيه انا معرفش حاجة
هتفت بها بدفاعية مسبقة، قبل ان يقطع عليها عارف ليٌضحض حُجتها:
– اسمعي الكلام يا بت، انتي النصيبة لابساكي لابساكي، ولا مفكرانا هينين ومش هنعرف بصاحب الرقم اللي بعت الصور على تليفوتنا،

جحظت عينيها برعب حتى انسحبت الدماء من بشرتها تماثل شحوب الموتى ترتد اقدامها للخلف برغبة يائسة في الهروب من حصار الثلاثة لها، ليزيد عليها غازي بفحيح مفزع:
– وبرضك ما تحاوليش تنكري ولا تلفي وتدوري بالالاعيب عشان انا عارف ان خط المرحوم جوزك معاكي، وان انتي اللي بعتي الصور، زي ما انا عارف بالظبط بجيتك هنا في اليوم نفسه اللي نفذتي فيه عشان شوفتك بعيني، وانت طالعة تتسحبي زي الحرامية من باب البيت الوراني……

توقف ليصدر الأمر بهيمنة ساحقة:
– دلوك هتجاوبي على كل الأسئلة، وأولها سبب دخلتك البيت هنا، كنتي بتعملي ايه في بيتي يا بت؟

خرج صوتها بفزع:
– الست فتنة يا بيه…. هي اللي سلطتني اعمل كدة .

اجفل الثلاثة بقولها، حتى سقطت العصا التي يحملها في العادة من قبضته أرضًا، ليهدر بها، انتي واعية للي بتخترفي بيه دا يا بت؟

رددت بفزع الباحث عن النجاة:
– والله ما بكذب في كلمة، انا هعترفلك بكل حاجة من طج طج لسلام عليكم، وانتي هتميز بنفسك ان كان كلامي صح ولا بألف .

تجمد عن الرد مباشرة، وكأن المفاجأة قد شلت تفكيره، ليتوقف لحظات قبل ان ينقل بنظره نحو ابن عمه ورجله الأقرب بسيوني، بحرج اصابه خوفا من تبين صدقًا يستشعره بغريزته،. لكن سرعان ما استعاد بأسه، ليحسم تردده:

– جيبي كل اللي عندك

❈-❈-❈

بعيدًا عن الجميع، ذهبت للركن الوحيد الذي أصبحت تجد راحتها به، وقد توطدت الصداقة بينهما بعد ان افضت لها بكل ما يعتمل بصدرها، وهذا السر الذي اخفته عن الجميع، قبل ان يحدث ما حدث.

– شايفة يا نادية، بيرن تاني.
نظرت الاخيرة نحو ما تقصده على شاشة الهاتف، لتعقب بإشفاق:
– طب ما تردي عليه، وجوليلوا انك تعبانة حتى ومش جادرة تتكلمي.

تحركت رأسها لاعتراض قائلة:
– مش هيصدج انا عارفاه، خصوصي وانا عارفة كويس جوي دلوك، انه جاعد على نار ، مستني اخبره بميعاد لزيارة اخته ووالدته.

توقفت تغطي بكفهيا على وجهها، تخرج زفرات متتالية
بتعب، لتتسائل بقنوط:
– يعني يا ربي اجعد السنين دي كلها كاتمة سري في بطني، واصبر واتحمل، ودلوك تاجي على اخر لحظة…. وتتعجد؟

– استغفري ربك.
تمتمت بها تربت على ذراعها تبثها الدعم:
– أكيد ربنا كاتب الخير، ارمي تكالك عليه وهو يعدلها من عنده.

تمتمت بقنوط:
– ونعم بالله، بس يعني…. طول السنين اللي فاتت دي وانا بدعي يرجعلي بالسلامة، ودلوك لما رجع…….. استغفر الله العظيم، انا مش بعترض، بس انا تعبت، كنت متوقعة افرح، بس فجأة لجيت الدنيا انهدت فوج راسي، حتى لو غلطت، انا برضك بشر…..

توقفت لبرهة، ثم اتجهت بسؤالها نحو الأخرى:
– تفتكري هيعملوا معايا ايه يا نادية ؟ وموضوعي انا وعمر….. تتوقعي ان فيه أمل تاني.

– ما توقعش.
كادت ان تنطق بها، نظرا لما رأته من شواهد غير مبشرة، وعلمها بعادات البلدة التي لا تقبل التهاون في هذه الأمور، ولكن نظرة الأستجداء في عينيها أجبرتها على التراجع:.

– اجولك يا روح، انتي بدل ما تتوقعي وتضربي أخماس في اسداس، سبيها على ربنا وادعي، انه يوفقك للي فيه الخير ويرضيكي بيه.

أومأت توافقها الرأي:
– يارب يا نادية، سبيتها عليه بجى يدبرها من عنده.
– يبجى ام شاء الله خير.

غمغمت بها الأخيرة بابتسامة مطمئنة، قبل ان ينتبها الاثنان على ولوج الصغيرة اية ، أكبر ابناء غازي، والتي جاءت تخاطب عمتها:

– ابويا طالبك تيجي حالا ع البيت دلوكت يا عمة

❈-❈-❈

دلفت وجدان تسحب نادرة الشقيقة الأخرى لغازي، والذي بعث اليهم ليأتوا على الفور من منازلهن، وكذلك كل من وصله الصور على هاتفه.

– انا عايز اعرف دلوك، المحروس مجمعنا كدة بربطة المعلم، رجالة وحريم وعمال يحشرنا كلنا في المندرة، خبر ايه؟ مالناش مصالح اخنا نشوفها
هتف بها سعيد يستهجن بضجر، فجاءه الرد من عارف:

– معلش يا عمي لو عطالنك عن المرواح ومصالحك، بس بصراحة دي رغبة غازي، هو اللي أمرني اتصل بالناس، وواجفك انت وابوي عن المشايان، اصله عازوكم تشهدوا على موضوع مهم.

– موضوع ايه؟
سأله والده مستفسرًا، ولكن الاَخر لم ينتبه، فقد تعلقت عينيه بها وهي تدلف لتتخذ مقعدها بجوار شيقيقاتها على أحد الارائك، تتجنب التطلع نحو البقية ، وقد تركزت ابصارهم نحوها، بنظرات متسائلة، وأخرى متشفية فرحة، يعرف اصحابها جيدًا:
تهكم سعيد بسخرية تعقيبا عليه:

– يا عيني عليك يا واد اخوي، رابط نفسك ومضيع عمرك على مفيش، ياريتك كنت كملت في جوازك ولا اتجوزت اربعة حتى، ع الأجل عشان كرامتك.

– كرامتي محفوظة يا عم، وبلاش كلامك الواعر ده، ميغركش هدوئي.
خرجت منه كرد قوي، اضاف على قوله والده:
– ياريت تمسك لسانك شوية يا سعيد، اعملي انا حساب حتى، خبر ايه يا واد ابوي؟.

رد سعيد يعدم تقبل:
– هو دا اللي على لسانك وبس، انا كنت عايز اكسر راسها البت جليلة الحيا دي، يمكن اخوها اللي عامل نفسه كبير ساعتها يحس، لكن انت اللي منعتني يا يامن.

ظل عارف محتفظًا بصمته، وترك لوالده الرد :
– ملكش دعوة يا سعيد، ليها اخ هو اللي يحاسبها، واخوها مش عامل نفسه كبير، لأنه بالفعل هو كبير يا سعيد، ولا انت لس مش معترف برضوا؟

سمع منه ليزداد حنقًا، ويشيح بوجهه عنهما، مغمغمًا بعدم رضا:
– هو دا اللي انتوا فالحين فيه؟ رط ورغي ع الفاضي، مكبرين عيل صغير عليكم، منفعش حتى في تربية اخته، تستاهلوا الجرس والفضايح بسببها.

– السلام عليكم يا جماعة.
القى التحية بصوته القوي، ليلفت انظار الجميع نحوه، بعد ان دلف فجأة اليهم، ردد معظمهم التحية ردًا له، ليعم الهدوء بالصمت تقديرا له، دار يأعينه يوزع نظراته على كل فرد منهم حتى انتبه لصغيرته التي كانت جالسة بحجر والدتها.

– شروق، تعالي يا بابا .
على الفور نزلت من حجر والدتها متوجهه نحوه بطاعة، رفعها اليه يقبلها مداعبًا ببعض الكلمات :
– سهرانة ليه لجد دلوك؟ مش بكرة وراكي مدرسة؟
هتروحي تنامي أو تلعبي مع خواتك في اوضتهم، عشان عيب تجعدي وتسمعي كلام الكبار
أومأت بهز رأسها ليعتبرها موافقة، ثم التف نحو رجله:

– بسيوني، خد البرنسيسة دي ووديها لأوضتها.
رفعها الرجل اليه وخرج بها، ليأخذ هو فرصته كاملة الاَن مع انصات الجميع، وقبل ان يبدأ ، تكلم ناجي ساخرًا:

– خبر ايه يا واد عمي، جمعنا كدة بربطه المعلم، ليكون هتوزع علينا التركة من جديد؟
علقت فتنة والتي كالعادة كانت جالسة جواره، بمزاح الواثق من نتيجة أفعاله:
– وه يا ناجي، تفكيرك كله غير في الأرض والفلوس، ما تصبر يا عم، واد عمك اكيد مجمعنا لحاجة مهمة، ولا ايه يا كبير؟

تبسم عدد من الإفراد لها اما هو وقد استشعر بنبرة السخرية في لهجتها ، فقد تماسك ليببادلها ابتسامة صفراء مرددًا:

– اهي جالتلك اهي حرمنا المصون، اصبر عشان تعرف بالحاجة المهمة،
تدخل سعيد بفظاظة ليست غريبة عنه:
– بس ياريت يكون بسرعة وتختصر بجى ، انا معطل مصالحي بجالي كذا ساعة دلوك…..

– مش هاخرك يا عمي .
هتف يقطع استرساله، قبل ان يعود للجميع مخاطبًا،
– طب عشان ندخل في الموضوع على طول.
توقف قليلًا يستجمع شجاعته، وقد وجد الصعوبة في لفظ الكلمات الثقيلة على لسانه في هذا الموقف المهيب.

– بصراحة كدة انا جمعت عدد الافراد اللي وصلهم الصور من الرقم الغريب ع التلفون.

صدرت الهمهات وتوجهت النظرات نحو صاحبة الصور ، والتي انكمشت على نفسها بحرج منهم، ترمق شقيقها باستجداء، ان يرحمها من حكم تنتظره، بادلها بنظرة مطمئنة تعرفها عنه ، قبل ان يعود إلى البقية، وقد صدر صوت عمه سعيد ساخرًا:

– نفهم من كدة يا واد اخوي، ان انت مجمعنا عشان نعرف حجيجة الصورة؟ ولا ناوي تأدب صاحبة الصورة؟

عض على نواجزه يكبح نفسه عن رد قوي ، وقد اكتفى برد عمه يامن الذي انتقل اليه الغضب هو الأخر مثل ابنه:
– سعيييد، سيبه يكمل كلامه يا واد ابوي، واسمع زي البجية، الله يرضى عنك.
– اديني سكت.
دمدم بها بغيظ، ليذعن لطلب شقيقه، ويستمع بسخط داخله، فجاء رد غازي له:

– لا وانت الصادج يا عمي، انا مجمعكم عشان اكشف صاحب العملة نفسها، جليل الأصل اللي يدور على فضيحة لبت عمه، يسلط ناس معروفة بجلة حياها، ويديها ارقام العيلة عشان تبعت وتنشر، من غير تجدير ان اللي تعمل كدة، ممكن تنشرها في باجي البلد كلها.

– ايه اللي انت بتجوله دا يا غازي؟
هتف بها ناجي متسائلًا، بجوار شقيقته والتي شحب وجهها، وقد ذهب عنه العبث.
التف اليه يقابل عينيها المتربصة ليهتف مجيبًا له:
– دلوك تعرف كل حاجة يا باشا، أدخلي يا بت.

دلفت على النداء يسحبها احد الرجال، لتلفت انظار الجميع إليها ، وقد على صوت الهمهمات المتسائلة، من معظمهم، فتابع يجيب التساؤل، بأبصار ارتكزت على زوجته والتي اعتلى الفزع ملامحها، ليتأكد هو من صدق رواية هذه المراة والتي وقفت مطأطأة رأسها بخزي، ولم ترفعها سوى بعد ندائه القوي:

– ارفعي راسك يا نفيسة وجولي على كل اللي حصل، بس جبل كل شيء،.
رفع سبابته امام الجميع ملوحًا بتهديد:
– الكلام اللي هيتجال دلوك، ولا كلمة منه هتطلغ برانا، احنا عيلة في بعض، والبت دي عارفة نفسها لو نضجت بحرف، تاني يوم لسانها هيبجى برا خشمها، عشان تخرص للأبد ، وانتوا كل واحد فيكم هيدني تلفونه، عشان امسح الصور بنفسي.

علت اصوات الاحتجاج، ولكن عارف قطعها بفطنته:
– كمل يا غازي، احنا كلنا موافجين، ولا ايه يا جماعة.
لم يقوى أحد على الاعنراض، فتبسم هو بانتشاء وعينه لم تفارقها، وقد تبدلت تعابيرها الاَن لأخرى مرتابة، تحدج المرأة بتهديد، فهدر حازمًا لها:

– تمام جوي، اتكلمي يا نفيسة.

❈-❈-❈

بجوار النافذة كانت تقف خلف الستار، تراقب بقلق، تشعر أن هناك أمر ما خلف هذا الاجتماع، في هذا الوقت من المساء، وحدسها يخبرها بيقين تام، ان ما يحدث له صلة ما بروح، وتقرير مصيرها، بعد هذه المصيبة التي حلت فوق رأسها،

تنهدت بأسى لحال الفتاة رقيقة القلب الطيبة، والتي تعلقت بها في الفترة الأخيرة، بعد مجيئها هنا وسكنها في هذا المسكن، وقد حظيت منها بمعاملة طيبة وكأنها من أهل المنزل، أو كأنها شقيقتها بالفعل.

تتمنى من الله أن يمر الأمر على خير، وأن تنال ما ترغب به، رغم يقينها باستحالة حدوثه الاَن،

– واجفة عندك ورا الشباك بتعملي ايه؟
هتفت بالسؤال جليلة بعدما عادت من الخارج، وزيارتها اليومية لمتابعة احوال منزلها هناك .

تطلعت نادية اليها بإشفاق تقول:
– تعباكي ياما في الروحة والجية، مشندلة ما بين هنا وبين بيتنا هناك .

تبسمت جليلة بعزوبة ترد بمزاح:
– يا خيتي وانا من امتى كنت مرتاحة يعني؟ وهي اللي تخلف البنتة تشوف الراحة واصل، ادعيلي بس ربنا يشدني وافضل ناصبة طولي معاكي انتي واخواتك على طول.

– يارب ياما، يديكي الصحة وما تحتاجي لحد فينا ابدًا.

تمتمت جليلة تأمم خلفها، قبل ان تعود لنفس السؤال.
– اللهم آمين يارب، مجولتيش بجى، واجفة عندك بتعملي ايه؟

بتصف ابتسامة ردت تجيبها بمغزى وكأنها تخاطب نفسها:
– بتفرج ع الدنيا ياما، بشوفها واخدانا على فين؟ وهي بتوطحنا من موجة عالية لتانية واطية، لواحدة عالية تانية، وبعديها العكس وهكذا.

قطبت جليلة تعقب بعدم فهم، قبل ان تُحرك قدميها وتذهب للداخل:
– وه، انتي هتتكلمي بالالغاز، امك فاهمة الكلام العادي عشان تفهم غيره يا محروسة؟ امام عجايب دي يا ولاد

تبسمت تتابع انصرافها نحو غرفتها ، ثم عادت للنظر الى خارج النافذة، تتابع بخقوت:
– ربنا يعدلها بجى، ويعديها على خير.

❈-❈-❈

انتهت نفيسة بعد ان قصت جميع ما حدث، باختصار فرضه هو ليحفظ سمعة شقيقته، من اللغو والمزايدة.
انكمشت المرأة محلها بأدب، في انتظار أمر منه، ليخرج قوله موجها خطابه للجميع، بشجاعة يحسد عليها،

– اولا كدة من غير لوم ولا جيب وحط في الكلام، انا اختي ومسؤلة مني، يعني مش هسكت لأي حد يجيب كلمة واحدة عليها، فما بالكم بجى باللي اتعمد انه يشوه صورتها او يتسببلها بفضيحة بالعملة السودة دي،
التف برأسهِ نحو تلك التي كانت تناظره بتحدي هذه المرة، وقد انكشف الغطاء التي كانت تتستر من خلفه، وأصبحت المواجهة بينهما مباشرةً، بعد تعمده كشفها بارتداد الأمر عليها.

– ها يا فتنة، إيه رأيك؟
سألها وضجيج انفاسه العالية يكاد أن يصُم الأذان، يلجم نفسه بصعوبة عن الفتك بها، وقد تعدت بفعلتها كل الخطوط الحمراء، وقبح طبعها الذي قصد هذه المرة أن يطعنه بأذية أقرب ماليه:

– ما تردي يا هانم، ولا البسة كلت لسانك؟ كدبي البت دي لو معاكي الحج، برئي نفسك جدام عمك، وابوكي اللي شادد حيله على بت اخوه عشان يربيها، وناسي بته اللي هي مشافتش رباية من أساسه.

– لم نفسك يا ولد كامل، واعرف انت بتخربط على مين؟
صاح بها سعيد ضاربًا بعصاه فوق الأرض، لتصدر صوتًا قوي.

تجاهل غازي، لينقل بأنظاره نحوها، لن يلتفت لأي أحد غيرها، ولن يثتيه شيء عن كشف حقيفة هذه الأفعى زوجته، والتي خرج ردها أخيرًا بجبروت أدهشه، ناقلة بنظرة ازدراء نحو المرأة المنكمشة على نفسها بزعر:

– وانا ايه اللي يجبرني ارد على كلام واحدة ملهاش جيمة ولا سعر زي دي؟ ايه جيمتها دي عشان تصدجوا كلامها عليا؟ ولا انت عايز تزيح من اختك وترمي عليا، طب حرك دمك الحامي ده ع اللي جابلت الراجل الغريب عنها، والصور تشهد .

– لمي لسانك يا فتنة، وانتبهي انك بتتكلمي على بت عمك.
خرجت من عارف يسبق زوجها في الرد، وقد اظلم وجهه امامها واكفهرت معالمه، ليستطرد بصرامة:

– وردي ع السؤال، عشان الكلام ده يدينك على فكرة، ويثبت كلام البت دي عليكي.

صاحت به بجرأة أمام الجميع:
– والم ليه؟ وانتو كلكم عايزين تطرمخوا على عملة المحروسة وجايين تحاسبوني بدالها، البت دي اللي جاية تجول بالفم المليان ان انا ادلتها الارقام عشان تبعت عليها الصور، جبرها أكيد متجولش الكلام الاولاني، في ان الصور دي حجيجية، والبت دي هي اللي صورتهم بالفعل.

– فتنة .
صاح بدوره يوقف استرسالها، بعد ان صرف المرأة التي تدعي نفيسة بإماءة خفيفة بذقنه، ليتفرغ لمواجهتها:
– جاوبي ع السؤال اللي يخصك، محدش غريب وسطينا، اللي جاعدين عمك وبنات عمامك، انا جمعتهم مخصوص عشان يحكموا، في مرة في الدنيا كلها، عندها ذرة عجل ولا ضمير، تدي ارقام عيلتها لواحدة زي اللي اسمها نفيسة دي، وتجولها ابعتي صور بت عمي عليهم، طب ماخوفتيش على سمعة بت عمك لو البت دي وزعت الصور على ناس غريبة، مفكرتيش ان الأمر لو اتوسع هيضر سمعة الكل، مفتكرتيش بناتك؟

– مالهم بناتي؟
هتفت بها تنقل بنظرها نحو روح التي بدت كالمخطوفة، فاقدة الادراك لهول ما يحدث معها, وهذه تتابع غير مبالية:
– انا بنتتي هيطلعوا مأدبين، البت اللي المحها تكلم واد هكويها بالنار، مش هسيبها تمشي على حل شعرها.

– امسكي خشمك يا بت.
صدرت هذه المرة من عمها يامن، يسبق الجميع، وقد فاض به من تبجحها، ليردف حاسمًا من أجل ان ينهي النقاش بحكمته:

– فوضوها على كدة، الصور هتتمسح من على كل التلفونات، ونعتبر الأمر كأنه محصلش ، بعد ما تعتذري يا فتنة لجوزك وبت عمك .

– اعتذر لمين؟
رد بصياح اقوى:
– سمعتي كلامي زين يا فتنة، وانا مش هعيده من تاني، عجل بتك يا سعيد، احنا عايزين نلم مش ناقصين بعترة.

سمع الاخير، ولم يطاوعه كبرياءه على الانصياع لأمر شقيقه، حتى لا يعترف بجرم ابنته، فتطوع ناجي شقيقها، كي ينهي الأمر، رغم علمه بغباء شقيقته حين تُغلب العنجهية على صوت العقل:

– عمك عنده حج، اعتذري لجوزك وبت عمك يا فتنة.
تراقص الجنون برأسها، ترفض بكل جوارها ان تنقص من قدرها بالاعتذار، ولمن؟ لهذه المتعالية، التي امسكت عليها اخيرًا الخطأ لتكشفها امامهم؟ ام لزوجها الذي يتعمد الدفاع عنها باستماتة، حتى وهي تضعه في موقف ضعف وخزي لا يرتضيه أي رجل، إذن فليتحمل؟

احتدت انفاسها لتطالع الجميع بتحدي، يدفعها شيطانها، لتخرج بالقاضية، دون الالتفاف لأي شيء آخر سوى هزيمتهم.

– لأ يا عمي، متجوليش اعتذري، عشان انا شوفت بنفسي، شوفت رسايل العشج بين المحروسة بيتكم مع ولد عبد السلام الأجري على تلفونها، طب تجدروا تجولولي هي جاعدة لحد دلوكت من غير جواز ليه؟ خمس سنين مستنياه! …… الله اعلم بجى…. هي خايفة من ايه يتكشف على غيره؟!

– إيه اللي بتجوليه ده كدة حرام عليكي؟
صرخت بها، تخرج صوتها اخيرًا بقهر المظلوم، تدخلت وجدان الكبرى، بدفاعيه غريزية عنها ، امام الصدمة التي لجمت شقيقها عن الرد لهذه الملعونة، وقد تسمر واقفًا أمامهم كالجماد:

– لمي نفسك يا فتنة، مش بت الدهشان اللي يتجال عليها كدة، كلامك يطير فيه رجاب يا جزبنة، ما ترد بتك لعجلها يا عمي، ولا انت فالح ان حسك يعلى على بت اخوك وبس؟

وعلى عكس المتوقع نهض سعيد يساند ابنته وقد جاءته الفرصة من ذهب لكسر هذه المتغطرس الصغير، والذي نصب في مكان لا يستحقه، بأن اخذ حقه في قيادة العائلة:

– يعني عايزاني اجولها ايه يا بتي؟ بت عمك سألت سؤال واحنا عايزين اجابته، صور اختك على تلفون كل واحد فينا، دا غير الرسايل اللي بتجول هي شافتها بعنيها.

رحبت فتنة بدعم اباها لتردف بحماس متزايد:
– اه والله يا بوي، انا مستعدة اوريكم تشوفوا بعنيكم، بس هي تديني تليفونها، وانا اطلعهم وانتوا تشهدوا بتفسكم،

نقلت بتظرها نحو عارف الذي كان صامتًا بتجهم، وقد اصبح الموقف فوق قدرة تحمله:
– عايزاك تشوف بنفسك يا واد عمي، عشان تعرف ان انت ضيعت عمرك هدر لما ربطت نفسك جمبيها.

بانهيار تام، صارت تصرخ لتصديقها:
– والله العظيم كدب، انا شريفة وما حد جربلي، احلفلكم بإيه عشان تصدجوني؟

واصل سعيد وقد انتشى بانتصاره الوقتي، موزعًا ابصاره على الجميع، يزيد بفرض سلطته عليها وعلى شقيقها:
– وما تحلفي ع المصحف حتى، احنا هنصدجك كيف؟ ملكيش حل، غير جوازك من حد من عيال عمك، عشان نلم الموضوع ونتأكد من برائتك، وانا بجول ولدي ناجي اها، زينة الشباب، اظن مش هتلاجي زيه، خصوصًا بعد ما رفضتي ولد عمك عارف كذا مرة.

بهت المذكور، وقد وضعه أبيه في موقف لا يحسد عليه، في مرمي ابصار ابن عمه النارية والذي بدا انه يستفيق من صدمته، وزادت شقيقته بحماقتها:
– اها، جبهالك ابويا ع الطبطاب، لو انتي واثقة في نفسك يا بت عمي، تجبلي الجواز.

الى هنا وتوقف كل شيء لتخرج صرختها الأخيرة قبل ان تسقط وتفقد وعيها :
– كمااان، يعني انتي تألفي من مخك، وابوكي يحكم ……..
– رووح.
صرخت بها شقيقتها وهي تتلقفها بحضنها، لينهض عمها يامن نحوها، وعارف الذي غلبه قلبه، لرؤية ما بها والاطمئنان عليها،
فييسقط غازي بثقله على المقعد من خلفه، بضغف وعجز، ثم يخرج بالكلمة الفاصلة اخيرًا نحو عمه:

– مش انت حكمت يا عمي، انا كمان ليا حكمي، بتك طالج .

يتبع…..



الحادي والعشرون من هنا

 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close