رواية ميراث الندم الفصل السابع عشر 17 بقلم أمل نصر
يعتريه الغضب! لا؛ بل هي الخيبة، خيبة الأمل التي حطت على قلب تعلق بحلم قديم، وقد شعر انه على وشك الاقتراب من تحقيقه، حتى نسج من خيوط أوهامه بيتًا كبيت العنكبوت، علق بداخله الأماني، وزينه حتى ظن انه الحقيقة، ولكن ومع أول اختبار بسيط لقوته، سقط تمزقه الرياح، حتى طار في الهواء ولم يعد له وجود، لينزل من سماء عالمه الوردي، بصفعة مدوية تلقاها ليفيق على واقعه البائس، مضيفًا عليه جرح بكرامته.
ولكن هو يستحق!
هو من سمح لنفسه أن يندفع خلف رغبته القوية، لم يتريث أو يأخذ فرصة للتفكير في طبيعة الانسانة التي بنى عليها مبتغاه، ونسي انها لا تعرفه من الأساس، هي امرأة متمسكة بأطلال زوجها المحظوظ الراحل، وهو البائس الذي يعيش على ظهر الدنيا، وقد كتبت عليه التعاسة الأبدية، هذا ما علمه الاَن وتأكد منه.
ارتفعت رأسه فجأة، بعد ان شعر بوجودها، مصدر البؤس، والتي قد تكون السبب الرئيسي في كرهه لصنف النساء، واقفة أمامه بهيئة تدعي براءة هي أبعد الناس عنها، لا والأدهى، هذا الحزن المصطنع الذي يعلو قسماتها الان، وكأنها باتت تشعر كباقي البشر!
– عايزة ايه يا فتنة؟ ايه اللي طلعك من البيت دلوك؟
سألها بجفاء، متحاملًا على غضبه المتعاظم، فاقتربت حتى جلست جواره على الاَريكة اسفل عرش الكرم الممتلئ على آخره بطرح الثمار، لترد بصوت ضعيف تدعي الأسى:
– عايزاك انت يا غازي، الدنيا ليلت وانت جاعد في الطل هنا على كنبتك، لا انت داخل البيت تريح وتاكل لجمة، ولا حتى فاكر في البنات اللي عمالين بيسألوا عنك، طب مش خايف لا يطلعلك ديب من وسط عرايش العنب هنا؟
ضيق عينيه يرمقها بابتسامة ساخرة كاشفة، ليرد بكلمات مقصودة:
– لا متخافيش عليا من أي ديب، انا كفيل بيه، مشكلتي بس مع الحيايا يا فتنة، الحيايا اللي لافة حواليا، لا انا جادر أكسرها، ولا جادر ابعدها عني، متكتف بحبال منعاني عنها، حبال من دمي، لو جطعتها يبجى هجطع من روحي.
وصلها مغزى كلماته، فخرج صوتها بمسكنة ولوم:
– عارفة انك بتلجح عليا، من انا مش غبية عشان مفهمش ان انت تجصد بنتتك بالحبال اللي من دمك، ربنا يسامحك يا غازي، بتطلعني انا حيا ، بعد ما شوفت وسمعت بنفسك، عديمة الزوج، ناكرة المعروف وهي بتغلط وتجل منك.
– اخرسي يا فتنة.
هتف بها ليطبق على مرفقها معنفًا بغضب:
– لو في حد جل مني ولا غلط صح يبجى انتي، ما هي مش معجول وحدة هتعيب وتغلط فيا من الباب للطاج، ولا يكونش مفكراني غبي ومش فاهم الاعيبك؟
نزعت ذراعها عنه، لتنطلق ببكاء وملظلومية لا تليق بها:
– تاني يا غازي، بتجيب على مرتك اللوم، حتى في دي كمان؟ اعملك ايه عشان تصدجني، كلكم شايفينها ملاك، وانا بس اللي عارفة بطبعها العفش من ايام ما كنا بنتة صغيرين ولسة بنتعلم، كسرت جلب اخويا اللي هو واد عمها، لاجل عيون ولد الدهشوري اللي كان ساكن في العمارة اللي جصاد المدرسة، بشكله الحلو يشاغل البنتة، ويا عالم بجى، اختارها هي من دون البجية ليه؟
زادت ملامحه مقتًا لها ولتلمحياتها الخبيثة، وبرغم اشتعال رأسه بالظنون بسبب ما تتلفظ به، الا انها تثبت له دائمًا يومًا بعد يوم، كم هي امرأة سيئة وهي الاَن لا تتورع حتى عن الخوض في الأعراض، أو القذف في الراحلين، تنتظر فقط منه اشارة، تحميها من ثورته لعلمها بطبعه الشديد في رفضه لهذا الأمور، ولكنها نصيبه؛ وأم بناته، فلا مهرب منها وقد ثبت له بالدليل القاطع كم هو شقي لاضطراره تحملها:
– امسكي لسانك يا فتنة عشان مجلبش عليكي، وبلاش تكرهيني فيكي .
– أكرهك فيا؟ وه، لدرجادي يا غازي.
رددت بها من خلفه بصدمة، غير مستوعبة ان نطق بها، ولكنه عاد مؤكدًا لها هذه المرة بنصح:
– أيوة يا فتنة عشان انا جيبت اخري منك، حاولي تصلحي من نفسك يا بت الناس، عشان المركب بينا تمشي، وافتكري بناتك، البنتة اللي ربطانا انا وانتي ببعض، ركزي اهتمامك بيهم وسيبي البشر في حالهم بجى……
هم أن يكمل باقي نصائحه ولكن قاطعه صوت الهاتف بهذه النغمة المخصصة لشقيقته، والتي رد عليها على الفور، امام غضب زوجته التي تلجمت بصعوبة عن الانفجار به، غير متقبلة لتغيره دفة الحديث، ليقلب الأمر عليها،
ويزيد من غضبها الاَن بأن انتفض فجأة مرددًا عبر الهاتف:
– بتجولي ايه؟ عايزة تمشي!
❈-❈-❈
بدمع لم يجف، واصلت لململة متعلقاتها ومتعلقات صغيرها، في انتظار وصول شقيقها بعد ان أخبرته عبر الهاتف برغبتها الملحة في العودة للمنزل، وبدون أي اسباب ، غير قابلة للنقاش او الجدال، حتى والدتها اضطرت راضخة لها في الاَخير، بعد ان يأست من اقناعها عن العدول في قرارها المفاجئ هذا.
فلم يتبقى لها سوى روح التي كانت ما زالت تواصل لأقناعها، حتى لجأت لشقيقها في غفلة منها، علّه يُغلب عدله على غضبه في اثناءها عن هذا الأمر، رغم تأكدها من سلامة موقفها، وما تفوهت به، حتى وان اخطأت، فلم يكن الا رد طبيعي على كلمات زوجة أخيها السامة:
– بس انا متأكدة ان اخويا لو عرف بالكلام من أوله، لا يمكن هيفوتها دي من غير ما يأدب مرته واخوها الكلب ناجي،
صدر اعتراضها وهي تستقيم بجسدها، عن تنظيم الحقيبة:
– وانا جولت لاه يا روح، هنجعد نعيد ونزيد في الكلام للصبح وبرضو هجولك لاه، الله يرضى عنك متخلنيش اندم اني جوتلك .
– تندمي معايا انا كمان؟ لا يا نادية، الغلط كله منها، هي اللي تستاهل العقاب، مينفعش تتساب كدة، وربي المعبود اخويا مظلوم معاها.
عادت لما تفعله، تلهي نفسها عن التفكير في عبارتها لكن سرعان ما وجدت الرد يخرج منها:
– والله ربنا يعينه، ويعرف يعدلهالو ويهديها، مع اني اشك، دا طبعها من واحنا في المدرسة مع بعض، ياما حصلت مشاكل بسببها خصوصًا……
– خصوصًا إيه؟
رددت من خلفها بالسؤال حينما وجدتها قطعت فجأة، وقد كانت على وشك ان تخطأ وتفصح عما يُراودها من شكوك، وذلك بتذكرها لبعض الاحداث التي تلت خطبتها من زوجها الراحل، داخل المدرسة التي جمعتهما سابقًا، بافتعال المشاكل لها، وفي اجتماعات العائلة، وتنمرها الدائم بالتفنن في مضايقتها وتذكيرها بالمستوى المتدنى عنهم بزواجها من خارج العائلة، هي ليست بغبية حتى لا تعلم بالسبب الأساسي لكره فتنة لها، وقد رأت بعيناها قديمًا، وسمعت من بعض الصديقات المشتركات بينهن، عن الإعجاب الشديد منها نحو الراحل، حتى انها كانت تخبرهم بملئ فمها انه سيتزوجها هي، لأنها الأجمل ولأنها تستحق رجل بوسامته.
عادت روح لتعيد السؤال بصيغة أخرى وكأنها تعلم بجانب من الأمر:
– سرحتي في ايه يا نادية؟ لدرجادي المواضيع اللي ما بينكم كبيرة؟ انا ملاحظة من زمان انها دايمًا مستجصداكي معرفش ليه؟
رسمت ابتسامة عادية لم تبلغ سوى مط شفتها بصورة بسيطة، ثم ردت بكذب لا تجيده:
– عادي يعني؟ أكيد عشان موضوع اخوها، سيبك منها دي انسانة ربنا يشفيها من السواد اللي جواها.
رغم علمها بانها تكذب لكنها فضلت الا تلح عليها، وظلت صامتة حتى وصلهما صوت نداء السيدة جليلة من خارج الغرفة:
– نادية، تعالي كلمي واد عمك الكبير غازي.
– يا مري.
صدرت منها لاطمة بكفها على وجنتها تردد بحرج:
– ودا ايه اللي جابه ده؟ انا كنت عايزة امشي من سكات من غير ما حد يحس بيا……
توقفت فجأة ترمق الأخرى بنظرة يملؤها الشك تسألها:
– انتي اللي بلغتيه يا روح؟…. صح؟
نفت لها بكذب مكشوف:
– ويعني هكون بلغتوا امتى يعني؟ ما انا جاعدة معاكي
بجالي ساعات اها.
لم تضغط بالالحاح عليها فعقلها كانت مشتتًا بحيرة، ما بين الرفض في الخروج له، وما بين مقابلته بهامة مرفوعة، تخبره بالرغبة في الذهاب وبدون تفسير لأسباب كما فعلت مع والدتها وشقيقها، وليظن بعقله ما يشاء، يكفيها النظرة الغريبة التي رمقها بها وقت ما سمع حديثها السيء عنه، لقد رأت في عيناه ما أوجعها وجعلها تشعر بحجم الجرم الذي ارتكبته في حقه، بعدما وقف معها واغدق عليها برعايته لها ولإبنها، كيف لها ان تضع عينيها بخاصتيه، وقد رحمها هو بكرم اخلاقه، حينما ذهب من امامهما بدون ان يتفوه مستفسرًا ولو بحرف واحد، أما الاَن فلماذا اتى؟ هي تريد الذهاب، والهروب بخزيها منه.
– يا نااادية…
سمعت بالنداء مرة أخرى لتعقب بحنق على فعل والدتها:
– شايفة المرة؟ بتنده من برا من غير حتى ما تتحرك وتاجي هنا، هو انا ناجصة كسوف ولا احراج بعد الخيبة اللي انا فيها دي؟
نهضت روح تخاطبها مشددة عليها في مؤازة منها:
– سيبك من الكسوف ولا الاحراج تعالي وانا هجف معاكي، هنحاول نألف اي كدبة لو جاب سيرة الكلام اللي سمعه.
اقتربت تجذبها من ذراعها لتسحبها معها ولكن الأخرى تمسكت قدميها بالأرض بتردد صريح تخبرها:
– هطلع معاكي بانه وش؟ احط عيني في عينه ازاي بس بعد الغلط اللي غلطته فيه؟ انا بتمنى الأرض تنشج وتبلعني ، ولا ان حتى اعدي في الشارع اللي هو معدي فيه.
تبسمت روح لها بإشفاق لتواصل جذبها بالتحفيز والمزاح:
– متحطيش عينك في عينه يا ستي وبصي في الأرض، وسيبي الباجي على العبد لله، ليكي عليا اشغل خيالي الواسع واخترعلك قصة، انا مش هسيبك واصل
❈-❈-❈
– سيبونا لوحدنا انتو الاتنين.
كانت اول جملة منه بادرهم بها الحديث بعدما دلفا اليه، وبأمر صريح نحو والدتها وشقيقته التي تمسكت بها بهلع حتى لا تتحرك وتتركها وحدها معه، تذكرها بعيناها بحديثهما في الداخل عن اختلاق القصص، فصدر اعتراض روح بتلثعم وقد فاجأها هي الأخرى بطلبه:
– اا انا بجول اجعد معاكم…… ما انا مش غريبة يعني… ولا حتى الست ام عزب، ما هو أصل…….
– رووح.
هتف يقطع استرسالها، وبنظرة مسيطرة أومأ لها بطرف ذقنه لتنهض على غير إرادتها مزعنة لأمره، تاركة الأخرى والاتفاق المبرم بينهما في مواجهة صريحة معه، وقد نهضت والدتها هي الأخرى على الفور متحججة بعمل مشروب ساخن له:
– طب انا هعملك كوباية شاي.
ظلت انظار روح معلقة بهذه المسكينة التي ظلت تناظرها باستجداء لتعود اليها، وقدميها تتحرك نحو المغادرة ببطء شديد، جعل شقيقها يزأر بنفاذ صبر:
– روووح.
بكلمته الفاصلة والنداء باسمها، اضطرت على الفور لتنفيذ الأمر، وظلت هي تنظر في اثرها تأمل ان تعود اليها، قبل ان تنتبه على قوله
– عايزة تمشي؟!
صدر السؤال بجمود ماثل هيئته، مما زادها اضطرابًا، ليخرج ردها بخفوت نتيجة لصعوبة الموقف اللعين الذي وضعت به:
– انااا بجول كدة أحسن، يعني عشان….
– عشان ايه؟
تبًا لماذا يُصر على إحراجها؟ ألا يكفيه هيئتها الاَن وكأنها فأر علق بالمصيدة أمامه،
هذا ما اردفت بها داخلها، وهي تسمع لنبرته القاسية وعينيه منصبة عليها بتركيز تام، متسائلًا عن طبيعة المرأة التي أمامه، هل هي الملاك الذي ظل على حلم بلقاءها لعدد من السنوات، قاربت لنصف عمره؟ أم تلك اللعوب التي تحدثت عنها زوجته؟ اللعنة عليها هي الأخرى، نفض رأسه سريعًا ليعود اليها بالتوضيح مباشرةًا
– لو كان جاصدك ع الكلمتين اللي سمعتيهم…..
توقف متابعًا لارتباكها الشديد فور ذكره للأمر، والتعرق الذي انتشر بأنحاء وجهها، قبل أن يتابع بلهجة خشنة، خلت تمامًا من أي تأثر، رغم خناجر الألم التي كانت تحفر داخله بعمق:
– متشليش هم انا راجل كبير، واكيد فاهم ان ليكي اسبابك اللي دفعتك تجولي كدة.
تسرب إليها بعض الارتياح لتحاول ان تلتقط انفاسها، ولكن كان ذلك قبل ان يجمد الدماء بعروقها فور ان تابع لها باستفساره:
– بس انا بجى عايز اعرف السبب اللي خلاكي تجولي كدة عليا؟
برقت عينيها امامه بإجفال شديد، سرعان ما سيطرت عليه، تبتلع ريقها الذي جف بحضرته، ورأسها تدور في اختلاق أي قصة تنفيذًا لتوجيهات روح التي نفذت بجلدها وتركتها وحدها.
– ما تردي ساكتة ليه؟
وصلها صوته للمرة الثانية بهذه اللهجة الجديدة عليها، لتضطر اخيرا للرد عليه، متكتفة الذراعين وابصارها للأمام بعيدًا عنه
– ممكن مجاوبش ع السؤال، اللي حصل كان غلطة في حجك وانا معترفة بكدة.
– مش موضوع غلط.
زفر يخرج دفعة من هواء مكبوت بصدره، يستطرد:
– الموضوع انك قارنتي بيني وبين جوزك المرحوم، اينعم انتي صغرتيني لأجل من الربع……
شدد ع الأخيرة ثم واصل:
– بس تمام انا مجدرش اللوم عليكي، دا حجك تجدريني في الحجم اللي انتي شايفاه، لكن المهم بجى ليه؟
لو كانت الكلمات مسننة وتذبح، لكان رأى بنفسه حجم الجروح التي فعلها بها، وهي بالفعل تعطيه الحق، ولن تلوم عليه رغم تضيقه عليها الاَن واصراره، على معرفة الاسباب التي قد تأتي بنتائج غير محسوبة، بالإضافة لإذلال تشعر به من الاَن، وهي ليست على استعداد لمواجهة هذا الأمر
أغمضت عينيها بألم تجيب بصوت بح من هول ما يكتنفها في هذه اللحظة:
– أنا جولت اني غلطت، ولذلك منعا للمشاكل والإحراج، ياريت تعفيني من أي كلام تاني، اخويا خلاص زمانه على وصول .
– كمان اتصلتي باخوكي عشان ياخدك، دا الموضوع كبير بجى وانا مش واخد بالي.
نهض عن مقعده ف انتبه على لمعة الدموع التي تحتجزها بصعوبة امامه، ليردف بحزم:
– انتي جيتي هنا، بعد انا ما اتعهدت بحمايتك انتي وولدك، والكلام ده مفيش منه رجوع، يعني مكانك معززة مكرمة، مفيش حاجة هتضايجك من هنا ورايح، حتى لو كنت انا نفسي!
خرج بعد ان لفظ كلماته، خاتمًا بهذه الجملة المبهمة التي زادتها توجعًا، لتطلق سراح قهرها، ببكاء مرير، حتى دلفت اليها روح لتضمها اليه، شاعرة بحجم الألم الذي تتعرض له.
❈-❈-❈
عاد مساءً، والساعة تعدت الثانية بعد منتصف الليل،
يجر اقدامه بعدم اتزان، جسده يهتز قليلًا بترنح، فرأسه التي اعتادت على المكيفات، أصبحت لا تتأثر، إلا ان زادت الجرعات، مثلما حدث اليوم فقد افرط في الشراب، نتيجة لشروده في الفكر الذي سيطر على ذهنه هذه الايام حولها، شوق يأكل في جسده، من وقت ان رأها على هيئتها الانثوية، في خلوتها وقت ما كان يراقبها نائمة، ليته ما فعل ، فقد تجددت برأسه اشياء ظنها دفنت واندثرت، خلف كره كان يدعيه زورًا، عندًا فيها وفي والده، تبًا، ليته سمع لصوت الشوق بداخله ولو لمرة واحدة، قبل ان تتوسع الهوة، وتصبح الأماني، ضرب من ضروب المستحيل، على الرغم من انها حقه..
زفر يسقط بثقل جسده على طرف التخت حتى اهتز من اسفله، ف استيقظت زوجته لترمقه متسائلة ببعض الوعي
– انت رجعت يا فايز؟
سمع منها السؤال ليلتف بجذعه يلوح بكفه امامها بقرف مرددًا:
– ايوة رجعت، نامي انتي نامي .
جذب انتباهاها لتنهض بجذعها باستفاقة جيدة تخاطبه:
– انام انام، وانت جاي دلوك على وش الفجر، طب افتكر ان وراك سرحة في المصنع، هتلحج تريح ولا تنام امتى؟.
طالعها بملامح ممتعضة يجيب بقرف وهو يخلع في ملابسه:
– متشغليش نفسك بيها دي، انا اساسا مش سارح بكرة الشغل، واخد اجازة استريحتي؟
– واخد اجازة؟ كيف ده؟ احنا بكرة الخميس مش الجمعة .
زام بتذمر غير متقبلًا لاعتراضها:
– يووووه، انتي يا مرة انتي عايزة نكد على اخر الليل، جولنا اجازة وخلصنا ، هتدخلي كمان في اللي ملكيش فيه……
نهض بخطواته المائلة ليردف متجهًا نحو الحمام:
– مرة زي البومة، طيرتي الكاسين اللي دافع فيهم دم جلبي…… جبر ياخدك….
ظلت تطالع أثره حتى اختفي يصفق باب الحمام بوجهها، لتتمتم في اثره بغيظ شديد:
– بجى انا بومة يا فايز وبتدعي عليا بالموت كمان….
صفقت كفيها ببعضهما تتابع بتوعد:
– ماشي يا ولد سكينة، ماشي، بكرة نعرف اخرك ايه؟ لكن والنعمة ما هرحمك ساعتها لو عرفت انك ناوي ع الغدر، ونشوف مين فينا اللي هيسبج؟
❈-❈-❈
– عارف… هو انا معيوب؟
سأله بنبرة اختلطت ما بين يأسه وألمه، والذي شعر بها الاخر ليرد على السؤال بسؤال:
– لو كان ع العيوب، ف احنا كلنا معيوبين ومحدش فينا كامل، يعني مش انت بس ليه بجى بتجول كدة؟
زفر يميل بجسده للخلف حتى استند برأسه على الحائط من خلفه يطالعه بصمت، في جلسة جمعتهما وحدهما بمندرة الحاج يامن، والد عارف وشقيقان اَخرين هما، عبد الباسط، وعبد البر،
الحاج يامن وهو عم غازي الذي يتمتع ببعض الحكمة، باختلاف تام عن سعيد والد فتنة وناجي، والذي كان يطمع دائمًا في تولي الزعامة على العائلة، فكان زواج ابنته من غازي بتخطيط من الجد الكبير، وقد كانت مكتملة الصفات بالنسبة للجميع، ولترضية ابنه القانط على تولي شاب صغير ما هو حق له.
عكس يامن، والذي كان اهتمامه منصبًا على التعليم، والإصرار على اكمال شباب العائلة دراستهم بالكليات العليا ، كما فعل مع غازي وابنيه الآخرين وعارف الذي كان يتمعن النظر بابن عمه الاَن بشك جعله يسأله على الفور:
– غازي هو انت بتحب ؟
تلقى السؤال بفتور يجيب عنه:
– وايه فايدة اني ارد ع السؤال؟ مدام مفيش أمل؟
وعلى عكس المتوقع، جاء الرد من عارف بابتسامة خجلة في البداية، ثم سرعان ما تحولت لضحكة صاخبة استفزت غازي، لينهره بانفعال:
– خبر ايه؟ شوفتني جولت نكتة جدامك ياك؟
رد عارف من بين ضحكاته التي لم تتوقف:
– اصل بصراحة كنت فاكر نفسي بس الوحيد اللي بجولها الجملة دي، جبل ما اكتشف ان انت معايا في نفس الأمر +1 انا وانت فجر يا غازي.
اكمل مقهقهًا حتى اصاب الاَخر بالعدوى ليشاركه السخرية على سوء الحظ الذي يتميزان به دونًا عن الجميع.
حينما توقفا اخيرًا جاء قول عارف مباغتًا له:
– نادية بت عمك هريدي صح؟
اجفل ليعتدل بجلسته متحفزًا باستفهام:
– ايه اللي جاب سيرة اخت عزب في الموضوع؟ خبر ايه يا عارف؟ ماتخلي بالك .
ردد عارف مؤكدًا له بتقرير:
– أخلي بالي من ايه؟ دا انا شوفت نظرتك ليها المرة اللي فاتت وفهمت لوحدي، الحاجات دي متخفاش على واحد زيي يا عم الحج، خصوصًا مع شخصية زي شخصيتك، دوغري ولا ليك في البص ع النسوان ولا حتى كان عندك تجارب عشان تاخد بالك.
لم يعد هناك جدوى للنكران فصديق روحه عارف كان اقرب الأشخاص له قديمًا وما زال أكثرهم تفهمًا له، رغم ابتعاده عنه لفترة تعدت السنوات، توقف قليلًا بتردد قبل ان يُقر باستسلام:
– لكنها مبتحبنيش يا عارف، ولا عمرها هتبصلي، انا شوفت وسمعت بنفسي رأيها فيا، مهما اتكلمت ولا جولت مش هجدر اوصفلك خيبة الأمل اللي حسيت بيها.
لم يكن في حاجة للتفسير أكثر من ذلك فقلب عارف المعذب، والذي يتلوى بنار العشق من طرف واحد على مدار سنوات عمره، فهو اقدر الناس على التجاوب معه.
– ما تلومهاش يا غازي، حتى لو سمعت وشوفت بنفسك ما تلومهاش، انا عارفك ومجدر اللي انت فيه، بس مكدبش عليك يا واد عمي، حاسك متسرع ومندفع في الموضوع ده، رغم ان دي طبيعتك على فكرة ، بس في الحاجة دي بالذات، مينفعش معاها الكلام ده، دا غير ان انت كمان……
– متجوز ومخلف.
خرجت من غازي ليكمل على قوله:
– انت صح في كل كلامك يا عارف، شكل كدة جلة التجارب زي ما بتجول، هي فعلا اللي خلتني اندفع في مشاعري، بس انا خلاص عرفت غلطي، ورضيت بنصيبي، حتى لو هو مش راضي بيا.
اطرق الاَخير رأسه بأسف مخرجًا زفرة محملة بالأسى على حال ابن عمه، وهذه المرارة التي تقطر من كلماته، لقد اوجع قلبه الموجوع من الأساس، ليزيد عليه بقوله:
– بعدت عني ليه يا عارف، كنت محتاجك جنبي جوي الفترة اللي بعدنا فيها دي؟ انا لوحدي يا واد عمي، رغم كل الزحمة اللي حواليا، الراجل برضوا دايما محتاج راجل يجف جنبه دايمًا، يشاوره، ياخد رأيه، واحنا الاتنين بنكمل بعض .
ابتسامة عزبة غزت ثغر الاَخير ليعقب عليه:
– يا سيدي واديني رجعتلك من تاني، ومدام الحال من بعضه، يبجى اتلم المتعوس على خايب الرجا.
قالها ليعود للضحك مرة أخرى، وغازي يشاركه ويتبادل معه النكات والحكايات الطريفة على المتعوسين من أمثالهم.
❈-❈-❈
في اليوم التالي
خرجت بعادة اتخذتها منذ شهور ولم تنقطع عنها، ان تذهب كل يوم خميس، في زيارة لقبر ابنها المرحوم، تقرا من ايات الذكر الحكيم، وتوزع الأقراص التي تقوم بصنعها بنفسها على الأطفال، ثم تسقي النباتات التي قامت بزرعها بجواره .
ولكنها هذه المرة تفاجأت باَخر شخص تتوقع رؤيته، يحتل مكانها اليوم على البقعة التي تجلس بها:
– فايز.
التف برأسه نحوها وفمه يردد ببعض السور القصيرة التي ما زال يحفظها، ثم عاد يندمج فيما يفعل، كتمت هي بداخلها زفرة حانقة، لتجلس في الناحية الأخرى، تتجاهله عن عمد، وتفعل روتينها المعتاد في هذه الأوقات.
حينما انتهت اخيرًا، وتوجهت للمغادرة، وجدته يسير بجوارها يخاطبها :
– عارفك مستغربة، بس دي مش اول مرة على فكرة، انا كذا مرة اجي هنا، واقرا واترحم عليه زي ما شوفتي، وبعمل كدة مع ابويا كمان اللهم يرحمه.
رمقته بملامح مغلقة ثم ما لبثت أن تتابع طريقها وكأنها لم تسمع شيء، فتابع لها:
– اوعي تفكري ان انتي بس اللي زعلتي عليه، لا يا سليمة، ده مهما كان برضوا ولدي، والضفر عمره ما يطلع من لحمه، حتى لو كان في ما بينا مصانع الحداد،
شبه ابتسامة ساخرة اعتلت ملامحها لتتوقف فجأة وتسأله مباشرةً:
– صدجت انت بموضوع الضفر اللي ميطلعش من لحمه، ع العموم زين يا فايز، انك افتكرت الموضوع ده…… مع انه جه متأخر، متأخر جوي، بعد الواد ما مات، بس كتر خيرك يا سيدي.
لسانها السليط يلسعه كسياط حامية، ولكن لا بأس،، هو لن يكف عن المحاولة، تحرك بقدميه كي يلحق بها قبل ان تصل لسيارة الأجرة التي تنتظرها خارج البوابة الخارجية للمدفن، حتى اوقفها بقوله:
– المهم اني بحاول يا سليمة، والأيام اللي جاية ما بينا كتير، عشان تعرفي بس ان ربني هداني.
قالها وتحرك للناحية الأخرى، حيث اتجاه منزله القريب. لتعقب هي ناظرة في أثره بغضب مكبوت:
– وانا مستنية اشوف اخرك يا فايز، ومتشوجة للي جاي جوي!
❈-❈-❈
وفي مكان آخر .
حيث كان ينتظرها في نفس المكان القديم، خلف شجرة التين الملتصقة بعدد من النخلات الاتي كبرت مع مرور الزمن وفي غيابه، حتى نبتت خلفاتهم.
بقلب شعر به على وشك التوقف، لا بل هو توقف بالفعل، فور رؤيتها بهذه الطلة الملوكية، وجهها كالبدر زاده الوقت بهاءًا، وابتسامة، طاف العديد من البلاد ورأي أعداد لا حصر لها من البشر ، ومع ذلك لم يجد ما يماثل روعتها.
كالمغيب بسحرها، مشدوهًا بازبهلال ظل متوقفًا في انتظارها حتى اقتربت منه هي تخاطبه:
– عمر….. يا عمر، مالك متنح كدة ليه؟ خزوج ليكون معرفتنيش؟!
افتر فاهه اخيرًا بابتسامة تطمئنها قبل ان يزفر دفعة من الهواء الذي انحبس بصدره فور رؤيتها، حتى يستطيع ان يخرج صوته:
– ولما انا معرفكيش انتي؟ امال هعرف مين بجى؟ روح…….
– يا جلب روح…….
قالتها تذكره بنعومتها القديمة، ليزأر رافعًا كفيه في الهواء أمامها يلوح بهما بضغط شديد مرددًا بقلة حيلة:
– أعمل إيه دلوك؟ جوليلي انا مش جادر، ماسك نفسي بالعافية وهموت واضمك لصدري يا روح، اعمل ايه؟ الله لا يسيئك ارحميني.
ارتسم الخجل جليًا على ملامحها، لتغزو السخونة وجنتيها، فردت عليه بدلال الأنثى:
– وه يا عمر ، وانا في ايدي ايه يعني؟….. ما انا زي زيك
ولا انت شايفني حجر وما بحسش، بس بالاصول بجى، يعني دي محدش يجدر يتعداها.
اغمض عينيه متأوهًا باستمتاع لسماع صوتها، يقبض على كفيه ويردف برغبة محمومة:
– كملي يا روح، وسمعيني حسك، كملي وجولي أي حاجة تاجي في بالك.
تلقت دعوته بترحاب لتردف بما يجول بقلبها:
– وحشتني يا عمر، بعدد السنين اللي مرت عليا وانا بستناك، وحشتني بعدد الايام اللي عديتها في انتظارك ، وحشتني يا عمر، ورجعتك ردت لي روحي اللي كانت غايبه عني.
– اااااه.
تأوه رافعًا رأسه للسماء، ليباغتها هذه المرة ويتناول كفيها، يرفعهما بين كفيه، يستنشق رائحتها بهما، يستعيد روحه، يستعيد انسانيته التي كاد أن يفتقدها في عالم غريب عنه، كان به وحيدًا يصارع الحياة، يصارع ايامًا من العذاب بدون سند او أحد يدعمه، يصارع الظلم!
– انتي بتبكي يا عمر؟
تفوهت بها بقلب مرتعب، وقد احرقتها الدمعة الساخنة التي سقطت على جلدها.
تجاهل لينزل بكفيها، ولكنها ظلت حبيسة بين كفيه، ليردف بحنين يكبته بصعوبة:
– انا اللي اتوحشتك جوي يا روح، ومش هجدر استنى أكتر من كدة، الليلة ان شاء الله، هبعت مرسال يبلغ اخوكي ان عايز اجابله، وبمجرد بس ما يحدد الميعاد هكون عندكم، يعني الباجي بجى عليكي، وانا مستعد لكل طلباته، بس هو يوافج.
تبسمت بلهفة، وطبول الفرح تضرب داخل صدرها، قلبها لم يعد مكانه، تشعر به يتقافز بين أضلعها، وكأنه طفل صغير وجد ضالته اخيرًا حتى يلعب، ويلهو، ويمرح، و….
توقفت فجأة باستدراك وابتسامة خبئت فجأة لتردف بتذكر:
– بس دا غازي جال انه مسافر النهاردة.
– مسافر فين؟؟
ابتلعت تجيبه بتوتر انتقل اليها نتيجة لسؤاله:
– ااا على مصر، في القاهرة يعني، أصله راح يطل ع الشركة بتاعة العيلة، اللي بتورد الفواكه وال…
قطعت مجفلة، وقد افلت يديها ليهتف بها فجأة قائلًا بانفعال:
– ولما انتي عارفة انه مسافر، مبلغتنيش ليه من امبارح يا روح؟ احنا ناجصين تضيع وجت.
ارتدت رأسها للخلف بخوف غريزي، هذا الملامح الجديدة عليها، مختلفة تمامًا عن الصورة القديمة التي تحفظها عنه،، او ربما هي لم تعتد منه قبل ذلك أن ينفعل بوجهها.
تمالكت تذكر نفسها انها تتحدث مع حبيبها، عمر، عشق الطفولة والشباب وكل ايامها، ولكن ملامحه المنكمشة جعلتها تبرر بتردد:
– ما انا مكنتش اعرف يا عمر، سمعته بالصدفة النهاردة وانا بتغدى مع جدتي…..
– يعني سافر ولا لسة؟
اجفلها بصيحته المتسائلة، حتى اجابته سريعًا باضطراب:
– ممعرفش، هو كان جايل ان ماشي النهاردة في العصاري…..
– خلاص يبجى تمشي وتحصليه
– امشي كدة على طول يا عمر؟
لم يكن سؤالًا بل جاء منها كعتاب، ليستعيد هدوئه قليلًا، قبل ان يخبرها برغبته:
– لا يا روح، استني معايا شوية، ويارب اخوكي ما يعملها غير لما توصلي عنده وتبلغيه بزيارة أي حد من طرفي، ان شالله حتى جميلة او امي، المهم انه ياخد فكرة.
– ربنا يجرب البعيد.
قالتها ليبدا بينهما حديث سريع، يخبرها فيه عن لوعته، وتخبره هي عن شوقها الذي لم يتوقف ابدا في غيابه عنها.
وفي ناحية اخري كانت تقف هذه الفتاة خلف احدي الشجيرات الكثيفة، تتابع اللقاء من اوله، وتجيب الاَن عن الاتصال:
– الو يا ست فتنة، انا طلعت وراها زي ما جولتي، وخدت شوية صور من اللي جلبك يحبها……. ابعتهم؟ طب ما بدل ما ابعتهم، اجيلك انا بنفسي بالتلفون وتشوفيهم مني………. ايوة طبعا عشان الفلوس، ما يمكن بعد ما ابعتهم ما تسأليش ولا تديني بجية الاتفاج……… بس من غير شتيمة يا ست الناس، انا هجيلك بعد الشوية باللي انتي عايزاه، وانتي تبجي جاهزة بالمعلوم…… سلام يا مرة الكبير يا غالية.
يتبع…..
الثامن عشر من هنا