اخر الروايات

رواية ميراث الندم الفصل السادس عشر 16 بقلم أمل نصر

رواية ميراث الندم الفصل السادس عشر 16 بقلم أمل نصر


 ها قد عاد، عاد اخيرًا، يقف بقدميه على ارض الوطن، يطل من شرفة غرفته في منزل العائلة الذي تم أعادة بناءه مرة أخرى، بشكل يناسب العيش الأدمي،
يتنفس هواء البلدة التي حرم منها لعدد من السنوات، أيام وليالي ذاق فيها العلقم، وحده، في غربة كادت أن تمحو ملامحه، تجرده من أنسانية احتفظ بها بصعوبة، تحت الضغوط والأزمات التي مر بها، من يعلم بما مر به؟!

ولكنه الاَن عاد، ليطول التفاحة التي كانت محرمة عليه، يلملم جراحه في حضنها، لقد حان الوقت لأن يعيش.

– يا صباح الورد والهنا، دا عريسنا صحي وواجف في البلكونة كمان.
هتفت جميلة وهي تدفع الباب لتدخل بالصنية التي ارتص عليها العديد من الأطعمة، وخلفها ابنتها الصغيرة ذات العامين، تهلل بمرح:
– خالي جه، خالي جه.

– اه يا عفريتة انتي.
قهقه بضحكة مجلجلة، قبل ان يتناول الصغيرة ويرفعها إليه، يدغدغها بأنفه على انحاء جسدها، لتصدح ضحكاتها بصوت عالي أسعده، يمطرها بالقبلات قبل ان يجلس، وما يزال يضمها إليه، ليخاطب شقيقته باستغراب:

– ايه دا كله دا اللي جايباه يا بت ابوي؟ معبية الصنية وداخلالي الاوضة بيها، هو انت مفكراني عريس صح ياك؟

– عريس وسيد العرسان كمان، هو انا لسة هفكر اصلًا؟ ما خلاص عاد، فاضل بس التكة الأخيرة.
اردفت بها، تطرقع بأصباعيها، عقب على فعلها بمرح:
– والله يا ست جميلة انتي مفيش منك، بحب جوي التفائل بتاعك، لكن يا غالية، احنا صحيح فاضل معانا التكة الأخيرة، بس دي مش هينة برضوا، انا مش هصدج غير لما الاجيها في بيتي،

بكف يدها صارت تربت على ركبته تتمتم بتهوين:
– ان شاء الله يا خوي، هتتيسر وهيتم المراد في أسرع وجت، روح شديدة، واللي خلاها جدرت ع الكل وصبرت تستناك، أكيد هيخليها تكمل المشوار وتنهيه النهاية السعيدة.

– اااه يا بت ابوي.
تأوه يزيد من ضم الصغيرة إليه قائلًا:
– لو تعرفي بحجم الشوج اللي جوايا ناحيتها، انا منعت نفسي امبارح بالعافية، اني اعدي على بيتهم، ولا الف حواليه بالعربية، يمكن تطل من شباكها ولا تطلعلي واملي عيني برؤياها.
اللي منعني بس ان الدنيا كانت ليل، هموت اشوفها جصاد عيني، وبرضوا خايف لمجدرش احوش يدي عن حضنها، عايزة ارغي واحكي معاها كتييير جوي، اسمع صوتها لحد ما ودني توجعني، يمكن ساعتها اشبع منها،
نفسي بجي اليوم دا يكون بكرة.

بتأثر شديد كسى ملامحها، تمتمت جميلة بإشفاق:
– هانت يا حبيبي، راح الكتير مبجاش الا الجليل، انت تاكل وتتجوت دلوك، وبعدها نشوف موضوع مجابلتها دي، ما هو كمان دي مش حاجة ساهلة، وانت الناس هتبجى مالية البيت هنا تسلم عليك الايام دي، دا باب البيت من الصبح مهدنش من الخبط عليه، كلها جاية تهني برجوعك بعد الغيبة.

تبسم بسخرية لينزل الطفلة قبل ان يرفع صنية الطعام بين يديه متمتمًا:
– دلوك عرفوا جيمة ولد عبد السلام، وجايين يستجبلوه كمان، لما جاي شايل ومحمل، سيبك منهم العالم دي.

– طب انت واخد الصنية ورايح على فين؟
هتفت سائلة باستفهام، وهي تجده يتخذ طريقه نحو الخروج من الغرفة، رد بدون ان يلتفت نحوها:
– نازل اكل مع اخواتي وامي وابويا وعيالهم يا جميلة، هو انا هتجيني نفس اكل لوحدي تاني، دا انا ما صدجت.

❈-❈-❈

أما عنها
فقد كانت واقفة أمام المراَة الاَن تتأمل نفسها بشعور لا تجد له وصف، هل هو احساس يغمرها بالفرح الذي اقترب اخيرًا ليطرق بابها، أم هو الشوق الذي اللهب فؤادها منذ أن علمت بمجيئه منذ الأمس، حينما اخبرها عبر رسالة نصية بأنه الاَن داخل البلدة والسيارة تطير به في طرقاتها، لقد قفزت وقتها من فوق التخت، حتى همت أن تتناول عبائتها لتخرج لاستقباله، ولكن عقلها عاد اليها حينما نظرت إلى شاشة الهاتف، لتعلم ان الساعة تعدت الواحدة صباحًا، وإن خرجت مندفعة برغبتها المجنونة الاَن، سوف تجلب على رأسها المشاكل، وهي في غنى عن أي شيء الاَن يعطلها، يكفيها عذاب الانتظار.

زفرت تخرج تنهيدة بعمق ما تحمله داخلها من عذاب، لتلتف بخطوات متأنية حتى جلست على طرف التخت تعود بذاكرتها لهذا اليوم الذي تم به ما يشبه ميثاق العقد بينها وبينه، قبل ان يسافر، وذلك عقب فسخ خطبتها من ابن عمها عارف مباشرةً

((- روح….. اخيرَا جيتي يا روح؟
هتف سائلًا بلهفة ينهج بلهاث، بعد أن وجدها جالسة اسفل شجرة التين التي جاءت اليها برفقة شقيقته، هاربة من ملاحقة الجميع من أفراد عائلتها، بعد اتخاذها هذا القرار المؤلم والمفاجئ، والذي دفعت ثمنه ايام من المرض جعلت شقيقها يضطر تحت الضغط، أن ينصاع لرغبتها ويخسر من أجلها صداقة اقرب الاشخاص من ابناء عمومته عارف ابن عمها، والذي كان نصيبه البائس ان يقع في عشق امرأة لا تبادله المشاعر، وقد مرت فترة خطبتها به حتى كانت كالحبل الذي يطوق رقبتها، يزيدها اختناقًا، يومًا بعد يوم حتى فاض بها ولم تعد لديها قدرة على التحمل.

دنى على عقبيه يجلس مقابلًا لها، بأعين ترقرق بها الدمع ، يسألها بلوعة:
– شهور وانا محرم نفسي حتى ما اعدي جمب البيت ، عشان ما شوفكيش واتوجع، ودلوك لما اسمع بعودتك، الاجيكي دبلانة كدة، ايه اللي حصلك يا روح؟

تبسمت له بشحوب، وجاء الرد من شقيقته:
– جايمة من دور عيا يا عمر، عايزها تبجى كيف؟
سمع منها وبنبرة حانية اختلطت بوجعه:
– سلامتك يا غالية من كل شر، امرض انا سنة ولا يوم واحد تتعبيه انتي….

– بعد الشر عليك متجولش كدة .
قاطعته على الفور ودون انتظار، لتغزو ابتسامة سعيدة ملامحه، بعد ان سمع صوتها اخيرًا، وبهذا الرد الذي أثلج صدره، لتنهض جميلة من جوارهما، تستأذن بحجة مكشوفة:

– انا هروح ابص هناك على أي حد بيحش برسيم في زرعته، امي موصياني اجيبلها باط كبير عشان وكل الطير، ثواني ومش هتأخر.

تبسم هو ينظر في أثرها مغمغمًا:
– عندها زوج والله البت دي، طلعت بتفهم.
– انا فسخت خطوبتي بعارف عشانك.
باغتته بها حتى طالعها مشدوهًا للحظات حتى اسبل اهدابه فجأة، ليعتدل بجلسته متربعًا، موجهًا أنظاره في نفس وجهتها، وقد تهدلت أكتافه بقنوط، حتى اخرج زفير يأسه قائلًا:

– المفروض ان ابجى أسعد واحد دلوك، لكن للأسف العجز وجلة الحيلة، مانعين عني حتى الأمل.

طالعته غاضبة لتردف بانفعال مكتوم:
– انا بجولك اتجدم وملكش دعوة بأي حاجة..
– ومين يتكفل باالجوازة يا روح؟ ليكون مفكراني راجل مدلدل، وهرضى بمليم واحد من عيلتك، دا انا ادفن نفسي احسن.

– يعني برضوا هتجعد ساكت وتسيبني اروح لغيرك، انا فاض بيا ومن سلبيتك، خليك على حالك يا عمر، ولا اجولك، انا هريحك مني خالص.

قالتها وتحاملت على كفيها لتنهض من جلستها على الأرض، وفور ان وقفت على أقدامها، فاجئها بقوله:
– جاتني فرصة عمل في الخليج
طالعته باستفهام، فتابع شارحًا:
– انا مسافر ومشواري طويل يا روح، الراجل اللي هيسفرني، هياخد نص مرتبي لحد ما اخلص دينه عليا، لأني للأسف هسافر على حسابه، دا غير اني ملزوم ابعت لأهلي ومتخلاش عنهم……… يعني مشواري طويل على ما اجدر اللم جرش يمكني من فعل أي حاجة لنفسي….. مش جادر اجولك استنيني، اخاف اظلمك.

– بس انا هستناك.
– حتى لو كنتي ناوياها من جلبك، برضوا مش هلوم عليكي لو شوفتي نصيبك مع حد يستاهلك، انتي دلوك اربعة وعشرين سنة، عمرك من عمر جميلة، ودي مخطوبة زي ما انتي عارفة وخلاص فرحها جرب.

تابعت له بعزم مؤكدة:
– برضوا هستناك يا عمر، ومش هخلف بوعدي معاك))

عادت من شرودها لترفع كفها أمام وجهها تمتم بلوعة:
– خمس سنين، خمس سنين انجطعوا من عمري وانا دلوك على بُعد خطوة واحدة بس واعدي التلاتين، سبحان من صبرني ع اللي فات، وسبحان من يجملني للي جاي

❈-❈-❈

خرج من غرفة الاستقبال التي امتلأت عن اَخرها بالرجال المهنئين بعودته من بلاد الغربة، ليمر على عدد من النساء الاَتي التقطنه بالسلامات والقبلات ايضًا، فهذا شيء عادي بالنسبة للنساء المتقدمات في العمر، فكان يقابلهم بالابتسام والردود الممتنة،

نفذ منهم بأعجوبة ، متعللًا بإرهاقه، حتى خرج من الباب الخلفي يجلس على المصطبة الرخامية، يقلب في شاشة هاتفه، يتبادل معها الرسائل، للاتفاق على موعد للقاءها، قبل اتخاذ أي أجراء رسمي.

– ااه يا عمر، حتى وانت معاها في نفس البلد، برضك لسة في الرسايل اللعينة دي، ابو العوايد الزفت…
غمغم بصوت خافت، قبل ان يجفل رافعًا رأسه على ظل صغير.

تطلع للفتاة التي كانت واقفة مواجهة له مباشرة، ذات بشرة سمراء، بلمعة ناعمة جاذبة للعين، وأعين واسعة كالفنجان، على ملامح دقيقة ووجه دائري طفولي، خطت داخلهم بخط الكحل لتزيدهم روعة، ولكنها كانت تطالعه بجرأة غريبة، طالعها باستفهام، يخمن انها ربما تكن إحدى بنات شقيقاته الاتي كبرن في غيابه عنهن:

– انتي بت مين؟
تبسمت بلهفة تجيبه على الفور:
– انا هدير، وانت عمر اللي كنت مسافر صح؟ زي ما وصفتك خالتي جميلة بالظبط؟ طويل وخشبك عريض، ووشك جمحاوي، بس هي مجالتش ان فيك عضلات.
نزلت عينيه غريزيًا نحو ما تقصد، ليرتفع رأسه إليها بعدها على الفور باستدراك سائلًا بجدية:

– انتي هدير مين؟ بت واحدة من خواتي البنتة، ولا تجربي للعيلة؟.
– لااا انا هدير، جيران خالتي جميلة، ما هو بيتنا في في وش بيتها على طول، انا طول اليوم بحكي معاها في الشارع، ولو دخلت تخدم في بيتها، بخش اساعدها كمان.

كان يتطلع اليها فاغرًا فاهه باندهاش، وهي تسهب في الحديث ولا تعطيه حتى فرصة للتفوه بحرف، حتى إذا توقفت اخيرًا سألها على الفور:
– طب انتي جاية لمين دلوك يا هدير؟ لو عايزة خالتك جميلة، خُشيلها هتلاجيها في الصالة مع الحريم.

حينما ظلت واقفة تطالعه بازبهلال، هتف بحزم أجفلها:
– يا بت ما تخشيلها، هتفضلي واجفة كدة مكانك؟

– اا حاضر.
انتفضت تردف بها، قبل ان تتحرك على الفور ذاهبة، لينظر في أثرها معقبًا بابتسامة على هيئتها:
– الله يجازيكي يا جميلة، حصلت كمان للعيال الصغيرة.

❈-❈-❈

في حديقة منزله، وقد كان يراقبهم في هذا الوقت من الصباح وهو يطالع بعض الاوراق المهمة، قبل ان يذهب متابعًا لأعماله المتراكمة، يضحك من قلبه، على لعب فتياته الصغار بالكرة التي كان يمسك بها معتز معظم الوقت، وحبيبته اَيه أكبرهم واعقلهم بالنسبة اليه، تطالعه مكورة شفتيها بضجر محبب يزيده تسلية، قبل ان يخاطبها بمهادنة:

– عيل صغير يا بابا ما تخديش عليه، اعتبريه زي المنتوشة دنيا اختك، أهي اللي بتلعب في الطين وبهدلت فستانها هناك دي، وانت يا معتز…… معتز.
التف على النداء باسمه، فغمز له غازي بمرح:
– اديهم الكورة، اديهم الكورة يا واد.
قهقه بصوت عالي حينما استجاب لطلبه، قبل ان يعود لابنته:

– ياللا يا اَية خاوو بعض، وانتي يا شرووج، العبي يا حبيبتي معاهم، وبلاها الوجفة وحطة اليد على الوسط دي.
ظل يستمتع بهذه اللحظات الصغيرة، تحت أعينها، وقد كانت تطل كل دقيقة من نافذة الإستراحة لتطمئن على صغيرها واندماجه مع الفتيات الصغيرات، مع انتباهاها الدائم لمعاملته الحانية للأطفال عكس واجهته الخشنة دائمًا.

أما فتنة فقد كانت في ألاعلى بأعين متربصة توزع اهتمامها على ثلاث اتجاهات، جهة زوجها والأطفال، وجهة الإستراحة وهذه التي تختفي وتظهر كل ثانية، تنظر من النافذة، والجهة الثالثة هي في الأسفل، تتحين بانتباه شديد تلك اللحظة التي ستخرج فيها مدعية الاخلاق والثقافة العالية،، لتلتقي بهذا العائد من غربته.
– لقاء العشاق.
تمتمت بها ساخرة تختم بمصمصمة من شفتيها، والشغف داخلها يقتلها لحضور هذه اللحظة الهامة، مع مواصلة الغمغمة والإستهزاء ثم الغناء:
– يا ترى هتحضنوا بعض، ولا هيبجى سلام باليد مع الدموع…… يا ربي ع القصص اللي تجنن، دي ولا افلام نجلاء فتحي ومحمود ياسين في السبيعينات يا ناس، علمني العوم والنبي يا احمد .

❈-❈-❈

في منزل فايز
والذي كان جالسًا على كنبته الخشبية، واضعًا المبسم في فمه، ويدخن بشرود، ناظرًا في نقطة ما في الفراغ، مما لفت انتباه زوجته، لتجاوره الجلوس وتسأله:

– مالك يا فايز؟ ايه اللي شاغل عجلك؟
رمقها بطرف أجفانه متمتمًا بغيظ:
– وانتي مالك باللي واخد عجلي ولا شاغلني، يكونش هتغيري علي كمان، لا اكون بفكر في غيرك؟

مصمصت بشفتيها مردفة بثقة:
– ومغيرش ليه ان شاء الله؟ ما يمكن تعملها صح، بعد ما ورثت، والفلوس خلاص هتجري في يدك، مع انك لو لفيت الدنيا كلها، ما هتلاجي زي مرتك، حلى وجمال واهتمام.

اطلق ضحكة متحشرجة، وعينيه تطوف عليها من رأسها وهذه اللون العجيب في شعرها، الجامع بين اللون البني الطبيعي، وبعد الخصلات التي شوهها التفتيح المبالغ فيه، ثم نزل على وجهها الذي لا يخلو ابدا من مساحيق التجميل، لينتبه على العباءة الضيقة على منحناياتها بشكل فج، نظرًا لامتلاء جسدها، فعلق باستهجان:

– مش تخلي بالك يا مرة انتي وتلبسي حاجة عدلة شوية، عايزة عيالك يجولوا عليكي ايه؟

شهقت تنزل بعينيها على ما ترتديه، ليخرج صوتها باستنكار:
– وماله اللي لبساه ان شاء الله؟ ما انا طول عمري بلبس كدة، انا واحدة مدلعة نفسي يا حبيبي، وعيالي معودين ، مش زي الحريم المهملة، اللي تلاجيها تنام بجلابية العجين، ولا ريحة الطبيخ في جتتها.

طالعها بنظرة غامضة، ماطًا شفته على زاوية بابتسامة غير مفهومة، بشكل اثار استيائها لتهتف به ساخطة:
– خبر ايه يا فايز؟ انا ليه حاساك اليومين دول متغير معايا؟ حتى بصتك مش مفهومة، ايه يا ولد سكينة؟ مرتك مبجتش تعجب ولا ايه؟

– يووووه
دمدم بها بتذمر، لينهرها بضجر:
– لمي نفسك وحوشي شاطينك عني، انا دماغي مونونة، وطالبة معايا غباوة.
تابع وبظهر كفه التي امتدت نحوها، يلطم ساعدها مرددًا بفظاظة:

– وياللا بجى هوينا…. ياللا يا مرة اتحركي، خليني ادخن الحجر على رواجة، ياللاااا.
في الاخير اضطرت ان تنهض من جواره، شاعرة بنوع من الأمتهان، فهذا الأحمق يفاجئها هذه الأيام بأفعاله، من بداية رفضه بيع الفدادين التي ورثها من أبيه، رغم تراكم الديون عليهم، ثم شروده المتواصل وفتور تعامله معها، تجزم ان به شيئًا ما.

أما هو فقد كان شاردًا فيها، ابنة عمه المتمردة المتعالية ، التي ظن قديمًا بهجرانه لها، انه قد تمكن من كسرها، ولم يكن يعلم انها اتخذت من غيابه عنها سورًا لتحصن نفسها منه، لقد صدقت حينما قالت انه كان يحترق في البعد أكثر منها، ليته غلب الحكمة على عِنده ولو مرة واحدة، حتى لا يخسر الكثير بخسرانها:

– فرسة يا سليمة فرسة
دمدم بها ليكركر في شيشته بقوة وعقله يعود لشروده

❈-❈-❈

هي فين؟
بادرها بالسؤال فور أن وصل إليه، بعد القاءه التحية على عجالة، وقد احتلت مقعدها اليوم وعلى غير العادة اسفل المظلة في الحديقة، وقد ملت الانتظار من شرفتها، حتى قارب اليوم على الانتهاء وهذه الملعونة تتصرف بطبيعية داخل المنزل، ولم تخرج حتى الاَن للقاء المحبوب العائد من السفر، ولكنها مُصرة على ارضاء فضولها في كشفها.
تبسمت رغم حنقها من لهفة شقيقها المكشوفة أمامها، لتجيبه بمراوغة:

– مستعجل جوي عشان تكلمها، ما تصبر شوية على ما اروح اجيسلك انا نبضها.
رد بابتسامة لا تخلو من السخرية:
– انتي يا فتنة اللي هتجسي نبضها كمان، لا يا حبيبتي احنا شايلنك للكبيرة، ياللا بسرعة ريحي جلبي بجى ودليني على مكانها.

التوى ثغرها لتجيبه بإشارة من يدها نحو الخلف قائلة:
– جاعدة مع المحروس ولدها، اصله بيلعب من المهر الصغير، الباشا الكبير جوز اختك عودوا عليه، شوفت الخيبة اللي انا فيها.

اربت بكفه على كتفها بمهادنة وهو يتحرك ويتركها:
– معلش يا بت ابوي، بكرة اخلصك من الاتنين خالص ، بس انتي ادعيلي.

راقبته بعيناها وهو يعدو بخطواته السريعة، لتغمغم بسخط:.
– عمال تجري كدة يا خوي ع المحروسة، ولا اكنك شوفت حريم جبل كدة، جال ويجولي ادعيلي كمان، عيل فجري……. بس هي محظوظة بت ال……. متجعش غير وهي واجفة، بختها نار مع الرجالة.

❈-❈-❈

مستندة على جدار أحدى الحظائر، تراقب صغيرها الذي كان يُطعم المهر الصغير، ويداعبه دون خوف أو تردد، وقد اعتاد الاثنان على بعضها، بفضل غازي، لا تنكر ان لهذا الرجل افضال عليها، مهمها عددتها لن تحصيها، يكفي نعمة الأمان، فهذه وحدها تغني عن أي شيء.

– مسالخير يا أم معتز
التفت اليه مجفلة وابصارها تذهب للخلف وما حوله، تتوقع قدوم أحد ما معه، لتجيب التحية باستغراب لم يخفى عليه:

– مساء الخير.
واصل تقدمه حتى أصبح مقابلها تمامًا، مما زاد من اندهاشها، ليُكمل بابتسامة استهجنتها مع هذا الأسلوب الناعم في الحديث معها:
– عاملة ايه النهاردة؟ انا شايفك زينة ما شاء الله والضحكة منورة وشك، ينعل ابو الحزن.

ابتعلت لتومئ برأسها على مضض مردفة وهي تعتدل بجسدها لتتحرك من أمامه:
– حمد لله على كل حال.
– استني هنا يا نادية، هو انا معرفش اتكلم معاكي واصل.

برقت عينيها امامه، تحدجه بغضب، بأن يتصدره أمامها، ليمنع عنها التقدم، ف استطرد مبررًا:
– معلش اعذريني بجى، ما هو انا بصراحة فاض بيا، ونفسي بجى تديني فرصة واحدة بس وتسمعيني…..

باحتقان ملأ جوفها:
– اسمعك ليه؟ ايه اللي يخليني اسمع؟ انا واحدة جوزها ميت ومش مكمل الست أشهر، وحتى لو عدى على فراجه بالسنين، برضو لا عايز اتجوز ولا اتزفت اصلا، عن اذنك.

وكأنه لم يسمع واصل بإصرار تعجبت له، مانعًا عنها الحركة بتصدره أمامها:
– لا يا نادية لازم تسمعي، عشان انا الكلام ده كان لازم اجولوهولك من زمان، انا واد عمك، وكنت أولى بيكي من ولد الدهشوري، انا اللي رايدك من زمان، ومفيش مرة ملت عيني غيرك، لو على الحزن ع المرحوم، انا ممكن اجدر واستنى تاني، بس لازم تعرفي ان ملكيش غيري، انا هعيشك برنسيسة وولدك هيبجى ولدي، مش هخليكي تضطري لحماية حد، عشان هتبجي في حمايتي، فكري يا نادية، ومتغلبيش راسك الناشفة…….

توقف يتأمل ملامحها المزعورة، وسكوتها أمامه، غير مصدقًا لهذا القرب بينها وبينه، في هذا المكان الكبير الخالي إلا منهما، وجهها المقابل له، وقد مثل له الفتنة بحد ذاتها، شيطان رأسهِ يدعوه لفعل ما يتوق إليه منذ أن كبرت أمامه، وأصبحت كثمرة ناضجة ترواده لقطفها وتذوقها، قبل ان يخطفها ابن الدهشوري وينول ما كان حق له.

لم ينتبه لارتجافها، ولا لنظرة البغض التي كانت تطل من عينيها، فقد نزلت ابصاره على شفتيها التي كانت ترتعش أمامه بانفراج وكأنها ترحب به، وأنفاسها تعلو وتهبط بانفعال كاد أن يصيبه الجنون، ذهب عقله، وضعفت مقاومته، ليدنو منها بذهنٍ مغيب، لم يستفيق إلا على صفعه مدوية بكفها على الجهة اليمنى من وجهه، قبل ان تدفعه بقبضتيها وتتخطاه بعنف ترفع صغيرها وتعدو ذاهبة بخطوات تحفر الأرض بغضبها.

شعر بالخزي، يمرر كفه على موضع اللطمة وعينيه يرفعها للنظر في الأنحاء حوله، خشية أن يكون انتبه لفعلته شخصا ما، ثم ما لبث ان يعدل الشال الصوفي حول رقبته ليغادر بعدها كاللص الذي يبتعد بسرعة عن مكان جريمته، يتلفت يمينًا ويسارًا، حتى أنه تجنب التطلع إلى شقيقته التي شكت في الأمر، بعد أن سبقته الأخرى بركضها لداخل المنزل الكبير بوجه ممتقع.

مطت شفتيها لتدمدم بتوتر:
– يخرب مطنك يا ناجي، شكلك كدة طينت الدنيا بلهوجتك.

❈-❈-❈

تركت ما بيدها، وهذه الرسائل التي كانت تتلقاها طوال اليوم من عزيزها، في ظل ازدحام منزله بالمهنئين بعودته، وعدم ترك له ولو وقت صغير مستقطع حتى يخرج للقاءها.

لتعطي انتباهاها الكامل الاَن لهذه التي ترتجف أمامها، بعد ان قصت عليها ما حدث على عجالة، في جلسة جمعتهما وحدهما داخل غرفتها:

– اهدي يا نادية، انتي خدتي حجك وعرفتيه انك مش هينة، دا لسة كمان لما احكي لغازي، والله…..
– لا متجوليش لحد.
قاطعتها بانهيار وتشنج:
– انا مش عايزة سيرتي تتجاب على أي لسان، عايزة اجعد في حالي واجفل بابي عليا، حرام اجعد كافية خيري شري، ليه محدش عايز يسيبني في حالي؟

اقتربت تضمها اليها بدعم مهونة:
– يا حبيبتي احنا كلنا معاكي وفي ضهرك، مفيش حد يجدر يتعرضلك، وان كان ع اللي حصل النهاردة، ف انا بجولك اها لازم اخويا يعرف ونحجج في الموضوع ده، عشان نعرف، ايه اللي خلاه يوصلك في اخر البيت، وفي المكان الخالي ده، الا أذا كان في حد ساعده؟ او دلوه على مكانك، ناجي واد عمي معوج من زمان، ولازمله شدة عشان يتعدل.

– حتى لو هو كدة فعلا يا روح، برضك يبجى بعيد عني، اسمي لو اتجاب في سيرة، يبجى الكلام هيكبر، وانا مضمنش يجولوا عليا ايه؟ دا يمكن ساعتها يستغل الظرف ويزود من مخه، وابجى مضطرة اتجوزو صح .

صمتت روح باستيعاب جلي، تستدرك صدق قولها، هي بالفعل في موضع ضعف، حتى لو كانت هي المظلومة، هذا المجتمع المنلغق بعاداته وتقاليده، لا يعطي للمرأة الحق في هذه المواقف، حتى لو كانت ضحية، وكم من مأسي مرت أمامها وتحسرت على غياب العدالة بها.

اطرقت رأسها أمامها بخزي، وقد لجمها المنطق الغريب، عن الدفاع او الوقوف معها، امام فعل هذا الدنيء، لكن ومع ذلك لن تصمت،

– انتي بتجولي انك شوفتي فتنة كانت جاعدة في الجنينة، ساعة ما انتي جيتي على البيت هنا؟

اومأت برأسها ، لتمسح بطرف أصابعها الدموع العالقة على وجنتيها، ثم نهضت تردف بما يجيش بصدرها:
– بس برضك سيبك منها دي، لأنها أعفش من اخوها على فكرة، أنا عارفاها من أيام المدرسة……

تنهدت بضيق يجثم على أنفاسها لتتحرك نحو النافذة، تطل منها للخارج، مردفة:
– أنا اتخنجت جوي، ونفسي اشم هوا بعيد او اروح في أي حتة ادفن رأسي فيها حتى، هي الجناين الكتيرة دي تبعكم صح؟

مررت روح كفها بحنان على ظهرها تجيبها بمؤازرة:
– ايوة بتاعتنا، لو عايزة تتمشي، لحد الخضرة هناك روحي، الوجت لسة عصاري، مجاتش المغرب.

سمعت منها واستدارت بنظرة نحو صغيرها الجالس على فراش التخت، مندمجًا في مشاهدة افلام الكرتون على شاشة التلفاز المعلقة بالحائط، فتابعت لها روح بلهجة مطمئنة:

– متجلجيش عليه، اطلعي انتي وفرطي عن نفسك، وخدي الوجت اللي يكفيكي، معتز دا يا روح جلبي من جوا.

❈-❈-❈

دلف داخل غرفة نوم والديه، مستغلًا غياب والده، ليختلي بالحديث مع والدته، والتي كانت تعمل على ترتيب الفراش وتبديل ملاءته، فخرج صوتها بلهاث:

– ايوة يا مالك، لو عايزني احضرلك غدا، يبجى استنى بس اخلص اللي يدي يا ولدي.
رمقها بنظرة غامضة يجيبها:
– بس انا مش عايز وكل ياما، انا كنت جاي بس اطل عليكي، عاملة ايه بجى؟

تبسمت بتشكيك لمرواغته لها، ثم ما لبثت أن تجاريه:
– زينة يا أستاذ مالك، تشكر ع السؤال يا باشا.
التفت نحو خزانة الملابس تبحث عن عدد من قطع المفارش الصغيرة، تحصيها على يدها، قبل أن تخرج بها، وتكمل مهمتها على باقي الاثاث في المنزل، وصلها صوت ابنها بتمهل مقصود:

– لكن انتي متعرفيش ابويا راح فين ياما؟
التفت جالسة على عقبيها في متابعة لرحلة البحث:
– وانا هعرف منين يا حبيبي، هو ابوك دا بجى حد فاهمله حاجة اساسًا.

– اممم
زام بفمه ثم تحرك خطوتين ليجلس على طرف التخت متابعًا بأسلوب يقارب السخرية:
– دا انتي غلبانة جوي ياما، على كدة مسمعتيش باللي عمله مع مرته التانية…. خالتي سليمة ام حجازي.
– مالها ام حجازي؟
اتنفضت تردف بها، تاركة كل ما بيدها، لتجاوره الجلوس على الجهة الأخرى:
– أردف يجيبها:
– اصل انا زورت جدتي سكينة من كام يوم، سمعت بجى هناك باللي عمله…… جوزك شكله اتجن وحن لمرته الجديمة تاني، لما عرف ان المصلحة اللي جاية من ناحيتها احسن من العداوة معاها…… دا متكسفش من خواته البنتة، وراحلهم في عز الليالي يجولهم انا جاي ابيت مع مرتي، تصدجيها دي؟

التف برأسه يطالع وجهها، وقد توحشت ملامحها، تخاطبه بشراسة:
– انت بتجول ايه يا مالك؟ متأكد انت من الكلام ده؟ طب وهي…. جبلت بيه؟
– والله زي ما بجولك ياما، دا اللي سمعته.
قالها ببرائة، ليضيف بمكر:
– اما عنها، ف انا بصراحة معرفش ايه ظروفها معاه، شكل جوزك ناويها ياما، ومش بعيد نلاجيه في يوم وليلة، سايب البيت وراح جعد معاها، طبعا ما هو البيت بيتها هي وولدها المرحوم.

– بيت مين؟ متجولش كدة.
صرخت بها بوجهه لتنتفض تفرك كفيها بحقد متعاظم:
– ااه، عشان كدة بجى، الراجل جرفان وبيعاملنا من تحت مناخيره، دا غير انه مش راضي يببع جيراط واحد من الفدادين اللي ورثها من ابوه، والله لاجيب عاليها واطيها لو حصل، دا انا متحملة جرفه بجالي عمر، دلوك لما تفرج يسيبني.

التفت فجأة نحو ابنها الذي انتبهت على هدوئه المريب، لتهدر به:
– انت مالك ساكت كدة ليه؟ بتولع النار في جسمي وانت ولا على بالك.
ظل على وضعه يرمقها بنظرات غامضة، قبل ان يتنازل اخيرًا يجيبها:
– ما انا جاي اكلمك اها ياما، واخد رأيك في اللي سمعته، مش يمكن اكون انا غلطان ولا انتي فاهماه غلط!

مالت رأسها للأمام، تطالعه قاطبة جبينها بشدة، رافعة طرف شفتها باستغراب جلي، فهذا الولد أصبح كالبئر الغويط امامها، ولم تعد تفهمه على الإطلاق.

❈-❈-❈

سكن جسدها المرهق أخيرًا بعد بكاء كثير ومرير، وقد ساهمت برودة الطقس الطفيفة، مع الهواء الذي كان يداعب اغصان الشجر أمامها في سيمفونية بديعة، ما بين نسماتٍ عليلة وتراقص أوراق الشجر أمامها، مع هدوء المكان الخالي من حولها، لتخمد نيران القهر بداخلها ولو قليلًا، وتصفي ذهنها المستنزف من أفكاره المتصارعة، ف تتنفس من نقاء الطبيعية، بعيدًا عن الأحقاد والمكائد التي تحيط بها من كل الجهات.
راحة تخللت روحها المنهكة، لتستكين مستسلمة لسحر اللحظة؛ والذي انساها الوقت وحرمة المكان الغريب عنها، حتى استفاقت تستدرك ورطتها بعد أن وقعت عينيها على زوج العيون المخيفة رغم صفاء لونها البني والذي أصبح قاتم في هذا الوقت، وهو يقترب بخطواته المتربصة نحوها، ثم خرج صوته اَخيرًا، بعد أن جفف الدماء بعروقها:
– بتعملي إيه هنا؟
انتصبت فجأة عن الأرض التي كانت تفترشها، لتجيب بتعلثم مبتلعة ريقها بصعوبة:
– ااا أنا طلعت… يعني كنت مخنوجة شوية وجولت افك عن نفسي بشوية هوا.
صدرت منه حركة بجذعه نحوها جعلتها ترتد للخلف بخوف غريزي ازداد بقوله المحتد:
– طالعة تشمي هوا والساعة داخلة دلوكت على تسعة؟
دافعت بتلجلج وكأنها ارتكبت جرم:
– اا انا ما كنتش واخدة بالي والله، انا طالعة الدنيا كانت مغارب، لكن اظاهر ان الوجت سرجني.
صمت يرمقها بنظراته الغامضة، وقد زاد عليها تجهم وجهه هذه المرة، بتعاببر زادت من حيرتها، ما بال هذا الرجل وأفعاله الغريبة معها، يعاملها بشدة ليست معتادة عليها، يدخل بقلبها الخوف منه، رغم أنه من المفترض به حمايتها، اسبلت اهدابها عنه، تلعن قدرها الذي وضعها في منزله وتحت رعايته في أشد أوقاتها غرابة، ألا يكفيها ما يقسم ظهرها من هموم ومصائب تنتظرها، نفضت رأسها وقد استفزها سكوته الذي طال، فتحركت لتستدير عنه مستئذنة:
– عن إذنك أنا راجعة البي….
قطعت وشهقة مفاجئة خرجت منها كتمتها على الفور بكف يدها، فور أن رأت آخر ما كانت تتوقعه أمامها بمسافة قريبة يكشر عن أنيابه وقبل أن تلتف رأسها للخلف صعقت بصوت الطلقات النارية التي خرجت من خلفها تردي الذئب قتيلًا على الفور، فلم تقوى هذه المرة على كتم صرختها:
– بتجتله كدة على طول؟
بنفس السرعة التي قتل بها الذئب، عاد بوضع سلاحه الناري في مخبئه داخل الصديري اسفل الجلباب يقول بنبرة ساخرة:
– أمال كنت هستني لما استأذنه!
يحدثها ببساطة، عائدًا لنفس الإبتسامة الغريبة، غير اَبهًا بارتياعها لفعلته، وكأنه ينقصها هذا المعتوه ليزيد على تكالب الأزمات حولها.
تكلم فجأة يوقف تحديقها به:
– هتفضلي واجفة هنا كتير؟ اتحركي ياللا خلينا نمشي.
رغم رغبتها في الهروب راكضة، إلا أن الصدمة جعلتها تشعر وكأن شللًا اصابها عن التحرك، أو هذا ما كانت تظنه، قبل أن يجفلها هادرًا:
– ما تحركي رجلك، انتي لزجتي في الأرض؟ مدي ياللا خليني أروحك
انتفضت على أثر صيحته، فتحركت أقدامها بخطواتها السريعة أمامه، وكأنها تسابق الريح، ليغمغم خلفها بسخرية:
– جال تفك عن نفسها وتشم هوا جال، جاعدين في مارينا احنا هنا!

❈-❈-❈

– عايز ماما، فين ماما؟
بكلماته القليلة التي يحفظها، كان يردد بتساؤله لها كل ما تذكر، فكانت هي تهادنه وتشغله بالالعاب حتى مل وتوقف غير مستجيبًا لكل محاولاتها في استرضاءه، لتضطر أن تخرج به في حديقة المنزل ينتظرا عودتها، بعد ان اتصلت بشقيقها، حتى يبحث عنها ويجدها:

– ماما هتجيبلك حاجة حلوة يا زيزو، هي خلاص جربت تاجي، اهو دلوك هتلاجيها داخلة من الباب ده.
اردفت بالاخيرة توجه انظاره معها نحو المدخل الخارجي للمنزل، لتغمغم داخلها:

– يارب جيبها مستورة، الدنيا ليلت ، والجزينة حتى نسيت ما تاخد تلفونها.
– هي مين اللي نسيت ما تاخد تلفونها؟
شهقت روح واضعة كفها على موضع قلبها، وقد باغتها الصوت من زوجة اخيها التي لم تهدأ حتى الاَن في مراقبتها.

– خبر ايه يا روح، مش لدرجادي يعني؟
– لاه للدرجادي عشان انا جلبي كان هيوجف، كنتي مسي الأول ولا اعملي اي حركة بدل ما تخلعيني كدة بصوتك من ورا ضهري، الدنيا ليالي زي ما انتي شايفة.

مصمصمت بشفتيها في البداية، ثم تسائلت بفضول:
– طب ولما هي ليالي كدة، جاعدة انتي والواد الصغير دا في الهو لوحديكم ليه؟ هي امه اتبرعتلك بيه؟

ضغطت تعض على نواجزها، تكبح نفسها من رد قد يحتسب عليها بعد ذلك، لتردف لها بحنق:
– اعوذ بالله منك ومن الفاظك، يا بوي عليكي يا شيخة….. امه راحت تطل على بيت ابوها، وزمانها على وصول، استريحتي يا ستي.

– يا خيا، ويعني انا كمان مالي بيها، تطلع على بيت ابوها ولا تروح الحتة اللي تعجبها حتى، مدام لاجية اللي يشيل ويراعي عنها، تعمل اللي على كيفها..

كلماتها المسمومة، وهذه التلميحات المستفزة، جعلت الدماء تغلي برأسها، لتتذكر الحدث الأساسي خلف خروج المسكينة هائمة على وجهها، وهذا ما جعلها تواجهها بغضب:

– اما اجولك يا فتنة، اسمعي مني الكلمتين دول، وركزي فيهم كويس……. عجلي اخوكي ولميه عن بنات الناس، بلاش الشغل ده، هو مش عيل صغير ولا مراهق.

رغم ارتباكها الملحوظ، وشحوب وجهها الذي بدا واضحًا بقوة أمامها، إلا انها وكالعادة، تدافع وتبرر حتى لو على خطأ:
– ماله اخويا بجى يا ست روح؟ خلي بالك يا بت الأصول، دا يبجى واد عمك، يعني عيب عليكي تغلطي فيه.

– هو اللي جاب الغلط لروحه.
خرجت منها بقوة لتتابع مشددة:
– اللي عايز بنات الناس، يدخل البيت من بابه، مش يلف زي الحرامية، ويستني اللحضة اللي الدنيا فيها تبجى خالية عشان يتصرف بندالة، مرة تاني هجولها، عييب، واللي يساعده في الغلط برضوا عيب عليه، دي بنات ناس وامانة في رجبتنا، ولا هو خلاص السهر مع الاجانب وجعدات البنات اياها، نسوه الأصول والحرام والحلال

توقفت تطالع هيئتها، وهي مستشيطة بنيران حقدها، فلم تعد لديها حجة على المجادلة، لتضيف عليها بتهديد:
– أرجع تاني واجولك، وعيه ووعي نفسك، غازي جوزك لو عرف، اول واحدة انتي هتتأذي.

– مامااا
هتف بها معتز يترك كفي روح، ليركض نحو والدته، التي كانت تدلف من الباب الحديدي، فرحت بعودتها لتغلق باب المناقشة مع عدوة نفسها وعدوة الجميع ابنة عمها فتنة، ولكن بمجرد رويتها لشقيقها يدلف هو الاخر خلف نادية، على الفور تمتمت بذكاء وهي تلحق بالصغير، حتى تمنع عنها فرصة تختلقها للظن:

– ما شاء الله دا كمان غازي راجع، أكيد لمحها في الطريج وجابها يوصلها معاه.

زاد الحريق بقلب فتنة، والبغض نحو هذه المدعوة نادية والملعونة ابنة عمها، مدعية الاخلاق والفضيلة تنصحها، وهي ذائبة في عشق احدهم، تتبادل معه الرسائل والاتفاقات وكأنها لا تملك كبيرًا يعملها الأدب على عدم حيائها:

– ماشي يا روح، ماااشي.

❈-❈-❈

في اليوم التالي

كان الغضب قد استبد بها، ليلة كاملة قضتها في التفكير المتواصل والقلق المتعاظم بعد تهديد ابنة عمها، روح ، تلك التي تقف لها كالشوكة في الحلق
زوجها الأحمق ان علم بما حدث، لن يكفيه وقتها عقاب عادي لها ولا لشقيقها المتهور، سوف تنال الاذية معه، وكله بسبب هذه المتلونة والتي جاءت كالبلاء الذي حط على رأسها.

وجدت فرصتها فور ان رأتها خارجة بطبق الحلوة، تعطي ابنها وتوزع على بقية الاطفال الصغار ما صنعته بيدها، اقتربت منها على الفور تخاطبها مباشرة ودون القاء التحية حتى:

– جولتي ايه لروح يا نادية، عشان تيجي وتهددني بسببك؟.
طالعتها في البداية بإجفال، ثم ما لبثت ان تستعيد توازنها في الرد مضيقة عينيها بتركيز:

– طب ما بدل ما تسأليني، وتخليني افكر وادور حوالين نفسي، جوليلي على طول يا ستي، وانا برضك اجاوبك على طول.

التمعت عينيها بشر، لتزيد قربها منها، تردف بخفوت وفحيح:
– انتي عارفة انا جصدي ايه كويس، مش معنى ان اخويا مش عاجبك، يبجى تشنعي عليه وتجولي كلام عفش،…… خلي بالك يا غالية، اخويا راجل ويعمل اللي على كيفه ومحدش هيجيب عليه لوم، انما انتي بجى، مش حمل نص كلمة عليكي.

برقت عينيها تواجهها ببغض، لتهدر بقهر تجاهد الا تظهره امامها، عديمة الرحمة والانسانية:

– انا أشرف منه ومن مية من عينته، واه يا فتنة، اخوكي مش عاجبني، ولا حتى ارضى البسه جزمة في رجلي.

بابتسامة مستخفة ساخرة ردت تواصل بمكرها:
– والله، يعني اخويا بجلاله جدره مش عاجبك! امال مين اللي يعجبك يا نادية؟ جوزي مثلاً؟

لقد بالغت في إهانتها، بالغت في الضغط عليها حتى خرج ردها بكرامة جريحة، تمنع به سيل دموع الضغف أمامها:

– جوزك مين يا ام جوز، جوزك ده كبير عيلته ولا كبير البلد، ولا كبير المحافظة كلها، هيجي ايه في جوزي الله يرحمه؟….. ولا ربعه حتى.

توقفت فجأة على ابتسامة منتشية متشفية من الأخرى، بنظرة اجبرتها على النظر للخلف، وكانت الصاعقة حينما وجدته أمامها مباشرةً، وقد بدا من ملامح وجهه المنغلقة والمتجمهة، انه سمع جملتها الأخيرة بكل وضوح.

يتبع…..



السابع عشر من هنا

 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close