رواية ميراث الندم الفصل الثالث عشر 13 بقلم أمل نصر
سلطان القلوب حين يقرر لا ينتظر أسباب.
يحكم بما يهواه، حتى لو ضد رغبة صاحبه.
أعمى عن عيوب معشوقه مهما بلغت.
جامح عن الحكمة وتحكمات العقل.
غافل عن قصد.
جاهل رغم علمه.
لا يسمع إلا ما يريده
يسير بلا بوصلة توجهه نحو الطريق السليم..
فلا سلام ولا أمان حين يتملك
وشقي هو من يعارضه! 🌹
بنت الجنوب
❈-❈-❈
خرج من باب منزله صباحًا وعينيه منصبه نحو باب الاستراحة، يزفر انفاس متتاليه بضجر وقد مل من استمرار انغلاقه أمامه، مل من اختفاءها بالداخل.
كم مر عليه من الأيام منذ مجيئها؟ لا يعلم، ولم يعد يحسب، كل ما يذكره هو عدد التقاط عينيه لطيفها، عدد المرات القليلة له بلقاءها صدفة حينما يسعده الحظ اذا رأها مع شقيقته أو جدته في حديقة المنزل، والتي لا تخرج إلا حينما تبحث عن ولدها.
قاسية هي ان تكون بجواره وهو محروم من إشباع انظاره من حسنها، خجلها الشديد الذي يمنعها من الحديث معه
أصبح نقمة عليه، يريدها، يريدها.
برغم من التماسه العذر لها، إلا أنه يستنكر هذه العزلة المقصودة منها.
توقف ليسند بظهره على جذع أحد الأشجار الضخمة الملتفة بطول السور المحاوط للمنزل، يجمح نفسه بصعوبة عن الذهاب ودفع الباب بيده ليراها، أو يحثُها على الخروج حتى ترى العالم وتكف عن القوقعة التي حبست نفسها بها، لو كان يملك الحق لفعلها ولم يتأخر لحظة.
– رايحة فين يا روح؟
سأل شقيقته يوقفها من وسط المسافة بعد أن لمحها على وشك الخروج من الباب الخارجي، زوت ما بين حاجبيها باستغراب تام لوقفته الغريبة، ثم ما لبثت ان تغير طريقها حتى وصلت اليه لتسأله بفضول وابتسامة مشاكسة
– ايه يا كبيرنا؟ جاعد واجف جمب الشجر، المرة الجاية هلاجيك فوج السور
زجرها محذرًا:
– روح.
زاد اتساع ابتسامتها لتردف بمزاح:
– بهزر معاك يا كبيرنا، وه، انت مبتحبش الهزار ؟
– لا مبحبش الهزار.
ردد بها بملامح ممتعضة، وشعوره بالغيظ من نظرتها الكاشفة له يزيده حنقًا:
– ماتبطلي يا بت بصتك الباردة وردي ع السؤال جوليلي رايحة فين؟
لم يؤثر بها صيحته بل زادتها ابتهاجًا داخلها حتى لم تقوى على كبت ضحكتها، لتتماسك اخيرًا أمام احتداد ابصاره نحوها:
– خلاص يا عم متزعلش جوي كدة، ع العموم يا سيدي انا رايحة البوسطة اَخد طرد الشحن بتاع الكتب اللي كنت طالباها جريب.
زفرة ضعيفة خرجت منه تعبر عن سأم يكتمه بداخله، ف أمرها الذي طال اصبح يثقل كاهله، حتى كره هذه الكتب التي تسرقها عن عالمها والواقع الذي يعيشون، يراوده شعور أحمق ان إسرافها في الخيال هو المتسبب الأساسي في تمردها.
وهي الذكية لم تغفل عن تبدل ملامحه وما يرواد عقله من أفكار وهواجس، لذلك تابعت:
– غازي يا دهشان، انا قارية كل اللي بيدور في دماغك دلوك، شيل من مخك الافكار دي، انا مش مراهقة ولا عيلة صغيرة عشان انجر ورا الاحلام ومعرفش احدد هدفي، وبلاش نعيد ونزيد في كلام احنا حفظناه، انت ادعيلي بس ربنا يفك عجدتي.
– امين يارب، ان شالله عن جريب.
تضرع بها رافعًا كفيه إلى السماء، تمتمت هي ايضًا خلفه، لتهم أن تغادر وقبل ان تستدير بجسدها اوقفها مرة أخرى:
– استني يا بت هي طارت على مشوار البوسطة…
طالعته باستفسار اجاب عنه حاسمًا أمره:
– انا عايز اكلمك في موضوع.
– موضوع ايه؟
أجلى حلقه، يجسر نفسه حتى لا يتردد امام طلبه منها:
– انا كنت عايز اكلمك في موضوع نادية.
مالها نادية، ليكون حصل حاجة عفشة لا قدر الله من ناس جوزها.
تسائلت قاطبة وقد زادها توجسًا داخلها خشية حدوث شيء لا تعلمه، سرعان ما صحح لها:
– لا يا ستي متجلجيش الحمد لله مفيش حاجة….. انا بتكلم على حبستها.
– حبستها!
– أيوة حبستها يا روح، من ساعة ما جات وهي جافلة عليها باب الاستراحة، مبتطلعش غير نادر جوي، لا بتاجي عندنا تسلم على جدتي ولا تجعد معاكي، خبر ايه؟ دا لولا ان بشوف ولدها في الجنينة احيانا مع البنات بيلعبوا لكنت افتكرتها مشت من زمان .
غزى محياها ابتسامة لطيفة لفراسته في الانتباه لهذا الأمر، لكن سرعان ما تجمدت لتفهمها الجيد لرغبة الأخيرة في عدم الاحتكاك المباشر بالأسرة وزوجته الكارهة لها من الأساس، أو شقيقها الذي اتخذها حجة منذ مجيئها ليأتي كل يوم من أجل التواصل معاها،
– مالك متنحة ليه؟ ما تردي يا بت ع الكلام اللي بجوله.
استجابت تجيبه هذه المرة بتحفظ كعادتها:
– يعني يا واد ابوي، هي برضك لساها مستحية، ف انا من رأيي انها تبجى براحتها…..
– تبجى براحتها كيف؟
قاطعها بانفعال آثار دهشتها متابعًا بما يشبه التعنيف:
– ميبجاش مخك ضلم، يعني احنا جايبنها من بيت ابوها عشان نحبسها، دا بدل ما تطليعها تشم هوا وتكسبي فيها ثواب.
– يا عم ما هي مش محبوسة والله
– كيف يعني؟
ردت بابتسامة مستترة، تستمع برد فعله الحانق منها:
– انت مبتشوفناش، عشان انا ونادية كل جعداتنا مع بعض في حوش البيت اللي ورا، بنحكي براحتنا بعيد عن الدوشة والناس اللي داخلة طالعة على بيتنا، دا غير ان ولدها اساسًا بيحب البهايم والحصنة الصغيرة.
تجمد بأعين متوسعة يطالعها صامتًا باستدراك متأخر، وقد اكتشف الاَن حجم غباءه المتكرر في تضيع الفرص معها
زادت التسلية في قول شقيقته قبل أن تستأذنه وتذهب:
– طب انا كدة امشي عاد يا واد ابوي، اديك اطمنت اني جايمة بالواجب مع بت عمي الغلبانة، سلام .
تطلع في أثرها يكظم غيظه في الفتك بها، الملعونة التي أصبح كالكتاب المفتوح مكشوف امامها، وهي تدرك جيدًا وتستمع بذلك.
زفر مغمغمًا في نعت نفسه بالمغفل، وقد أهدر مزيدًا من الوقت حتى وهي في القرب منه.
هم ليغادر هو الاخر نحو أعماله التي لا حصر لها، ولكنه انتبه على الصوت القريب، ليفاجأ بها أمامه مباشرةً تخرج من مخبأها وخلفها والدتها تتحدث معها، ويبدو من ملابسهم انهم في طريقهم إلى موعد هام في الخارج.
لم يتردد دقيقة في التفكير حتى أصبح أمامهم
❈-❈-❈
– صباح الخير يا جماعة، معتز باشا.
تناول الطفل يجفلها برفعه إليه وتقبيله، كالعادة ردت التحية بصوت خفيض غطى عليه صوت والدتها التي قابلته بحديثها العفوي:
– صباح الورد والهنا، على كبير العيلة والبلد كلها.
– الله يحفظك يا خالة، ايه امال؟ مجلتوش يعني انكم طالعين.
لاح على وجهها استنكار كبتنه بصعوبة، تاركة لوالدتها مهمة الرد عليه:
– ما احنا كمان مكناش عاملين حسابنا، دي جات كدة فجأة، اصل جد المرحوم حجازي، عبد المعطي الدهشوري، بيجولوا عليه فاج شوية وطالب يشوف نادية وولدها، ربنا يشفي عنه يارب، أو يلطف بيه ويرحمه، بنته هويدا اتصلت بينا وبلغتنا بكدة.
طالعها بغيظ شديد لتعمدها عدم الرد عليه، حتى والاعتراض يعلو قسماتها، تتهرب من النظر اليه، بقصد واضح، أن تجعله على نفس المساحة من البعد دون تقدم، ولكنه لن يأئس؟
عاد إلى جليلة بتشكيك ورفض تام:
– وانتوا إش عرفكم انها صادجة، ما يمكن دي لعبة، أنا سمعت عنها المرة دي شكلها مش ساهلة.
– وايه اللي يخليها تكدب؟ وهتلعب عليا ليه؟ ما خلاص، الحكاية خلصت.
كادت ان تفضحه ابتسامة ملحة لنجاحه في فك الجمود والخروج عن صمتها، فواصل بمكره:
– يا نادية انا مش جصدي حاجة عفشة، انا بس اللي شايفة ان الحرص واجب في اي خطوة الواحد ياخدها.
ازدادت توهجًا مع انفعالها بوجهه محتجة؛
– حرص ايه؟ بتجولك طالبني بالأسم، يعني مينفعش استنى دجيجة تاني، عشان محدش ضامن الأعمار.
– أيوة يا ولدي ما تخافش ان شاء الله، ما انا رايحة معاها برضوا، ولا انت مش شايفني اسد؟
قالتها جليلة بتفكه، وجاء رده على قولها ببعض الحرج ومفاجأة للأخرى:
– لا طبعًا يا خالتي انتي تسدي عن الدنيا كلها…… بس انا برضوا مينفعش أسيب حاجة للظروف.
احتدت عينيها بنظرة خطرة نحوه، تنتظر ولو جملة واحدة للمنع منه حتى تنفجر ضاربة بقراره عرض الحائط، ولكنه علم وعرف بما في نيتها، فواصل بعرضه:.
– انا طبعا لا يمكن امنعكم، بس كمان مجدرش اسيبكم تروحوا لوحدكم انا رايح معاكم
– تروح معانا فين؟ هو احنا رايحين نتفسح؟
هذه المرة كادت أن تخرج ضحكته بدوي صاخب، ولكنه تمالك ليردف بحزم حاسمًا الأمر بسلطلته:
– انا هخدكم وارجعكم بيدي، عن اذنكم اروح اجهز العربية.
قالها وتحرك دون انتظار أخذ الرأي منهما، يحمل معه معتز وكأنه كضمان له، حتى تمتمت في أثره بذهول:
– دا مدناش فرصة حتى نجول لا ولا نعترض ياما.
❈-❈-❈
خرجت من مكتب البريد تحمل بيدها مجموعة من الكتب التي طلبتها قبل ذلك عن طريق الشحن، وفي طريقها نحو السيارة التي من المفروض أن تُقلها إلى المنزل، تفاجأت بمن يتكئ عليها بظهره وكأنها أصبحت عادة معه، في انتظارها كل ما جاءت هنا.
زفرت تتمتم بالإستغفار قبل أن تقترب وتخاطبه بابتسامة صفراء وتحية مقتضبة:
– صباح الخير .
بادلها الابتسام ولكن بأخرى مشاكسة يرد:
– صباح الجمال، عوجتي يعني، كل ده بتسحبي طرد شحن.
زمت شفتيها تشيح بوجهها للجهة الأخرى، تكبح نفسها بصعوبة عن رد غير لائق له، فهي ما زالت تحمل له احترامًا رغم كل ما حدث.
– بتبعدي وشك عني ليه يا روح؟ لدرجادي مش حاملة كلامي؟
أطبقت جفنيها بألم فهو لا ينفك أن يذكرها بمعاناته ومعاناتها معه، في رغبته بها ورغبته هي في رجل اَخر،
ولكن هي من حقها الاختيار، وقد دفعت ثمنه باهظًا في الإنتظار.
عادت اليه تخاطبه بلهجة ناصحة عله يسمع:
– يا عارف يا ولد عمي، ياريت تاخد بالك ان احنا جاعدين في شارع والعيون كلها مسلطة علينا، بلاش حد يفرح فينا ولا يجيب سيرتنا.
رد بوجه جدي، خلى من أي عبث، تقطر نبرته مرارة ما علق بحلقه منذ سنوات عدة:
– مين اللي هيفرح فينا ولا يجيب سيرتنا؟ انا عايز اشوف الناس دي، واعرفهم مجامهم، دا لو في ناس اصلا واخدة بالها من اللي بتلمحي اليه…….
توقف برهة متفرسًا ملامحها الهاربة منه، وفعلها المقصود من أجل أن يتركها ويرحل.
– بلاش تبينها جوي كدة يا بت عمي، أنا ماشي وهسيبك تمشي، مش هخطفك يعني ولا اعمل اللي بيوزني عليه شيطاني، سلام يا روح عارف.
برقت بعيناها تشيعه وهو ذاهب بنظرات حاقدة، كلماته الأخيرة زادت من اشتعال النار بجوفها، لماذا لا يخرجها من عقله؟ لماذا أصر على إفشال زيجته من أجل أن يعود إليها؟
احتلت مقعدها تطالع الطريق الذي تقطعه السيارة وعقلها يعود لذكريات لم ولم تنمحي من ذهنها، حينما زاد بضغطه قبل سنوات حتى جعل غازي يتعاون معه، في الإلحاح، واستخدام كل الأساليب المؤثرة بها حتى سحب منها موافقة على غير اردتها، لتجد نفسها مرتدية لخاتم خطوبته، والحكم أصبحت مخطوبة له، رغم تشتتها الدائم في تفسير مشاعرها نحو عمر؛ والذي كان صامتًا طول الوقت رغم افتضاح نظراته، رغم كل افعاله معها، حتى تأكدت من ظنها حينما اختفى فجأة بعد ذلك، لتعلم من شقيقته انه ظل ملازمًا الفراش لسبب مجهول، جعل الجميع يحتار في علاجه،
وبدون تفكير وجدت نفسها تقتحم المنزل بحجة زيارة صديقتها ورؤية المريض كواجب عادي، في منزلهم البسيط، حتى انه كان خاليًا من غرفة له تخصه، لتجده في فناء الخارجي بجسده الذي ازداد نحولًا بصورة أوجعتها، جالسًا بشرود رجل تخطى السبعين، ليس كشاب في سنوات عمره العشرون .
(( – عمر
ألتف إليها بنظرة فارغة منطفئة لم تعهدها منه رغم طول معرفتها به، ليطرق رأسهِ بعد ذلك حتى اقتربت لتسأله بلهفة:
– إنت عامل ايه دلوكت؟
– كويس والحمد لله.
صوته خرج بخفوت وعيناه حادت عن النظر إليها بتجاهل تام، دون اهتمامه المعروف، لولا أن اجلستها صديقتها لتضايفها لاتخذت طريقها نحو الخروج، جمود جعلها تخرج عن صمتها بجرأة تفاجئه:
– عمر، متخلينيش اظن ان سبب الجلبة دي مش تعب عادي زي اللي نعرفه…….، وليكون حزنت على خطوبتي؟
حينما ارتفعت رأسه بهذه النظرة المحتدة منه إليها تأكدت من ظنها،
– طب ولما انت كدة؟ ما اتكلمتش ليه؟ طول عمرك جاعد ساكت، عايزانى اجعد رابطة حالي جدام واحد ساكت.
– ساكت عشان معاييش
هتف بها مقاطعًا بانفعال اكبر من انفعالها، واستطرد بصوت مهزوم:
– انا واحد جليل الحيلة، لا املك المال ولا حتى الأصل اللي يوصلني لبنت السلطان، بهد حيلي في الشغل واحط الجرش ع الجرش واعمل جمعيات وفي الاخر تروح في جوازة بت من خواتي، ولا عيا ابويا ولا امي، يبجى اتكلم بأنه حجة؟
– بس انا مش بت السلطان .
– لكن أنا عمر الغلبان))
كان هذا اول اعتراف صريح تتلقاه منه، ويالها من قسوة حينما ينال المرء أكبر امانيه في غير وقتها، اغرورقت عينيها بالدموع امامه تترجاه ان يتجرأ في التقدم لها، وتفسخ هي خطبتها من أجله، وستفعل المستحيل من أجل أتمام الأمر، ولكنه ابى ورفض بقوة، بل واعتبرها دناءة وسوء خلق منه إن أطاعها في ذلك.
لتخرج من منزله محطمة مستسلمة لقدرها في الارتباط من رجل اخر غير الذي تحبه، لكن حكم القلوب كان أكبر من مقدرتها.
– وصلنا يا ست هانم.
– بتجول حاجة يا عم عبده؟
تسائلت بذهن مازال عالق في ذكريات مضت، وقد غفلت عن توقف السيارة امام منزلهم
❈-❈-❈
– أنا هدخل معاكم .
هتف بها فور أن ترجل من سيارته بصحبتهما، همت جليلة أن ترحب بقراره، ولكن ابنتها سبقتها بالرفض قائلة:
– بلاش انت تعطل نفسك، وروح على مشوارك.
ارتفع حاجبه الأيسر بنظرة خطرة يخبرها بتسلط:
– ما عنديش مشاوير، وحتى لو في انا برضوا لازم اطمن بنفسي….. ع الراجل التعبان..
التفت لوالدتها بنظرة راجية، تطلب منها العون، خشية خروج الأمر عن السيطرة كالمرة السابقة، بأن يتشاجر مع سند أو عيسى فهم في نفس الخانة بالنسبة إليه
ولكن جليلة كالعادة خذلتها بموافقتها:
– وماله يا بتي ما هو كبير ناسه وواجب عليه برضوا الزيارة، ولا عايزاهم يجولوا وجف على باب المستشفى ومدخلش؟…..
يالا يا ولدي خلينا نلحجوا بسرعة.
قالتها جليلة تسبقهم في صعود الدرجات الرخامية نحو المدخل حاملة بيدها معتز، وظل هو واقفًا في انتظارها بنظرة أبلغ من الحديث، حتى استلسمت لتلحق بوالدتها وهو خلفها يخطو بحمائية وتحفز لأي فعل .
❈-❈-❈
كما توقعت بمجرد أن وصلت للقسم المقصود، انتصبت رؤوس الاثنان عيسى وسند بنظرات نارية وتحديج خطر لهذا الذي وصل أمامهم بعنجهية يتقدم النساء في مصافحة الحاج رحيم وبعض من أبناءه، بتجاهل تام لهما، والذي رحب به بتقدير، قبل أن يصافح نادية ووالدتها بمؤازرة:
– بارك الله فيك يا ولدي، تعبت نفسك.
– لا مفيش تعب ولا حاجة، احنا بس كنا عايزين نطمن على الحاج عبد المعطي أخباره ايه دلوك؟
– نادية.
صدر الصوت من المرأة العجوز تسبق رد الرجل، لتفتح ذراعيها، كي تضمها إليها هي وحفيدها، والأخرى تبكي إليها باشتياق
تسمر غازي يطالع حنان سكينة والتي كانت تصفها بجدتها، وهي تمسح بكفيها على خديها تجفف عنها الدموع, باشتياق لا تكذبه العين.
ينتابه الفضول بشدة عن هذه العلاقة التي كانت تحاوطها من عائلة بالكامل تكمل مسيرة اباها في تدليلها، حتى الجد الذي استفاق بصعوبة يطلبها بالأسم لرؤيتها، يبدوا ان هذه المرأة خلقت للحب فقط ولا يصح معها غير ذلك .
بعد قليل
كانت هي بداخل غرفة الرجل وهو ينتظرها في ردهة المشفى يقطعها ذهابًا وايابًا بسير متباطئ كنمر في انتظار اشارة واحدة فقط للبدء في خوض المعركة، والفتك بمن يتربص به، يتبادل النظرات النارية مع الاثنان عيسى وسند ، وقد بدا كحاجز بشري يمنعهما من التواصل معها، وحديث الأعين أبلغ من أي حديث.
❈-❈-❈
وفي الداخل
الدموع وحدها هي من كانت سيدة الموقف، وهي تدنو من الرجل وتضع قبلتها على جبينه، ثم كفه التي كانت تضغط على كفها، يطالعها بألم ودموعه هو الاخر كانت المتحدث الرئيسي له في توجيه النظر إليها وإلى طفلها، شعور قاتل بالندم، يجثم على قلبه الضعيف، وقد ظن أنه قد فعل الصالح، أما الاَن وبعد افتقاده لقرة عينه، فقلبه المكتوى بنار الفقد يتمنى ان يعاد الزمن مرة أخرى، علّه يعيد حسابه او حتى يعود اكثر، رافضًا أن ينجب من الأساس، لا ولد ولا بنت، وقد علم الاَن؛ أن لا مال يدوم ولا بنين تشفع، فما بالك لو كانت الذرية نفسها هي سبب الهلاك بفسادها.
– خلاص يا جد كفاية دموع، انت مش حمل تعب .
عقبت على قولها هويدا الواقفة في ركن الغربة بجوار شقيقتها وسليمة:
– جوليلو يا بنتي، دا من ساعة ما فتح عينه وحس بالدنيا وعينه مبطلتش بكا، طب حتى يرحم نفسه.
– طمن جلبك يا جد، احنا زين والحمد لله والله.
قالتها في محاولة منها لتهدئة الرجل المكلوم، فما كان منه سوى أن اشار بكفه بضعف نحو صغيرها لتقربه إليه، ليضع قبلة على وجنته قبل أن يومئ لها بعينيه التي دمعت أكثر، حتى همس بصوت مبحوح بجوار أذنها :
– سامحيني يا بتي.
❈-❈-❈
خرجت سليمة، تاركة الغرفة بوجوم شارد ، تفكر في قول عمها الذي اختلى بها قبل الجميع، يخبرها رغم تعبه الشديد ببعض الكلمات البسيطة المقتضبة، يرشدها نحو الطريق الذي يجب عليها اتباعه الاَن، بدون التقيد بأي بشيء وقد حلّها من كل التزام أو وعد يضعفها أو يؤخرها.
– ست سليمة.
التفت نحو هذا الذي هتف بإسمها لتجده امامها يقترب منها بوقار يُعرفها بنفسه:
– انا غازي الدهشان أكيد سمعتي عني أو تعرفيني
بادلته المصافحة، تخطف نظرة سريعة نحو عيسى وسند الغاضبان، لتخاطبه بعدم اكتراث؛
– أكيد عارفاك يا ولدي، ولو مكنتش عارفاك، كنت هرصى برضوا اسيب مرة ولدي وحفيدي في حمايتك .
رفع كفه يصفع عنقه متمتمًا لها:
– دول في رجبتي، والله احفظهم بعمري كله يا ست سليمة.
استجابت له بابتسامة ممتنة لفعله يكتنفها بعض الإرتياح لقوله، حتى انتبهت على نظرته التي اتجهت خلفها نحو باب الغرفة الذي انفتح لتخرج منه زوجة ابنها وحفيدها، وقد انصب تركيزه عليهما.
ضاقت عينيها بتفهم سريع وفراسة ليست غريبة عنها ، وقد فهمت الاَن سر الاهتمام الشديد منه لهما.
❈-❈-❈
– بجولك خدهم وراح بيهم مشوار يا ناجي، اغنيها ع الربابة عشان تفهم.
صرخت بها عبر الهاتف متخصرة في غرفتها التي اغلفتها عليها لتبتعد عن الجميع، وجاء صوته باستهجان:
– لمي نفسك يا فتنة انا مش ناجص جلة أدبك دي ع المسا، يعني هيكون خدها هي وامها ولدها وراح فين يعني، يفسحهم مثلًا؟
– حد عارف ما يمكن يعملها صح، ودا بيهمه حد اصلًا؟ واد عامك مفتري ومحدش جادر يلمه.
– الله يخرب بيتك يا شيخة، يا بت انتي عايزة تحرجي دمي وبس، اجفلي خشمك يا فتنة انا جايلك اصلا اشوف اللي حاصل، واشوف خدها وراحوا فين؟ بس انتي امسكي لسانك ده مش عايزين نصايب.
– ماشي يا واد ابوي هسكت واعمل نفسي مش واخدة بالي، ان شالله حتى يكون بيفسحها ولا يوكلها جيلاتي زي اللي بيجيبوا للبنتة.
❈-❈-❈
– إنت وجفت ليه؟
هتفت متسائلة بدهشة بعد ان اجفلها بتوقفه أمام أحدى المحلات العريقة بالمحافظة لصنع المثلجات، وجاء رده بابتسامة بريئة:
– معلش يا جماعة، بس انا متعود انزل هنا دايمًا كل ما اجي المحافظة، اجيب ايس كريم للبنتة لازم ارضيهم أحسن ميدخلونيش البيت.
استجابت جليلة بابتسامة تعقب بعفويتها:
– وماله يا ولدي ربنا ما يحرمهم من دخلتك عليهم، دا البنات دول زينة الدنيا كلها.
اسبل اهدابه عنهما قليلًا بصمت قطعه بعد لحظات موجهًا قوله لهما:
– طب انا ليا عشم عندكم يا خالة، بصراحة بجى انا نفسي ادخل بمعتز خليه يشوف منظر النيل دا في الناحية الورانية من المحل، دا حاجة كدة حلو جوي، خلوا الواد يشم هوا بدل الحبسة
❈-❈-❈
– دلف الى منزله عائدًا من دوام عمله بوجوم آثار ريبة زوجته، والتي توقفت تطالعه حتى سقط ليجلس على اريكته الخشبية، يتلاعب بشعر ذقنه بشرود واضح، جعلها تقترب لتحتل مقعدها جواره وتسأله بفضول:
– مالك يا اخوي؟ داخل كدة ومش داري بالدنيا، ايه اللي شاغل بالك؟
التف إليها يزفر بأنفاس متحشرجة قبل أن يجيبها:
– ابويا فاج يا شربات، كل اللي يشوفني من ساعة ما نزلت من العربية، يبشرني بالخبر المهم.
امتعضت ملامحها لترفع طرف شفتها بتهكم صريح:.
– دا على اساس يعني ان احنا هنتنططوا من الفرحة بفوجته، ناس فاضية بالها.
رمقها بنظرة غامضة لم تفممها، حتى تسائلت بتوجس:
– اوعى تكون زعلان على فوجته، لا يا حبيبي اطمن انا سألت وعرفت، ابوك ملوش جومة منها تاني، ايام معدودة حتى بعد ما فاج دلوك.
زاد غموضه وقد اعتدل مواجهًا لها بجذعه:
– وانتي مين جالك اني زعلان على فوجته، ولا خايف لا يبلط فيها؟
– أمال ايه؟
صدر استفسارها وقد ازدادت حيرتها من جموده، قبل أن يصعقها بقوله:.
– هو شكله صح بيودع، بس طالب يشوفني .
وعلى عكس المتوقع، اشرق وجهها وتراقصت الأطماع برأسها، لتردف له على الفور تبتغي اقناعه:
– طب ومستني ايه؟ اطلع على طول يا فايز، روح شوفه يمكن يكون ربنا هداه وحس بغلطه، جايز يصالحك جبل ما يسيب الدنيا ويفارجنا.
هذه المرة توقف صامتًا يطالعها للحظات مرت عليها ببطئ شديد تنتظر الرد منه، قبل ان يصعقها بقوله:
– بس انا مش عايز يا شربات، عشان عارف نظرته ليا هتبجى ازاي؟ اخاف ليتهمني بتهمة انا بريء منها، اخاف اخد غضبه على شيء ملياش يد فيه.
ابتلعت ريقها وقد فهمت مقصده، لتقترب منه، وتربت بيدها على ذراعه بدعم، ولكن الشغف بالمال جعلها تحاول بسياستها معه:
– مدام عارف نفسك زين يا اخوي ميهمكش، حتى لو كان يعني، ما هو اللي ظلمك الاول لما حرمك من حجك في البيت، انت مينفعش تجعد وتستنى أكتر من كدة، دي حتى تبجى عيية في حجك، دي الناس اللي راحة جاية ع المستشفى اللي هو فيها من ساعة ما اتشاع الخبر انه فاج، يبجى انت اللي هتجعد عشان يسألوا ولده فين؟
اعتلي ثغره ابتسامة مستخفة معقبًا على قوله:
– لا اطمني يا اختي محدش هيسأل، هو في حد طايجني فيها العيلة المخروبة دي، عشان يسأل ولا يطمن عليا؟
عوجت شفتيها على جانب واحد تكظم غيظها من سلبيته المفرطة في التحرك نحو شيء تظن فيه المصلحة، حتى تسائلت بيأس:
– طب وبعدين يعني؟ انت دلوك قررت ايه؟ هتروح تشوفه ولا هتجعد؟
❈-❈-❈
دارت عينيها في الأجواء الهادئة حولها، مشهد النيل من خلف الحاجز الزجاجي، الرقي المبالغ فيه لهذا المكان الذي لأول مرة تطئه بقدميها، لا تصدق أنها استجابت لإلحاحه، كيف لها ان تطيع والدتها وتترجل معهما، لماذا أتى من الأصل معهما؟
– أنا عايزة امشي ياما.
هتفت بها تجفل جليلة من شرودها هي الأخرى، مستنكرة هذا الأنبهار الذي يعلو قسماتها، والتي قطبت حبينها تسألها باستغراب:
– بسم الله الرحمن الرحيم، تمشي فين يا بتي؟ والراجل لسة مجاش بالواد اساسًا؟
احتدت نبرتها في الرد عليها:
– ما هو انتي السبب ياما، مكانش لازم توافجي ابدا على النزلة هنا، ولا كنا رضينا بأنه ياخد الواد يفرجه ع المكان، هو احنا جاين في ايه ولا ايه بس؟
حاولت المرأة امتصاص غضبها، تخاطبها بمهادنة ولهجة هادئة:
– يا بتي ما يبجاش عجلك متربس، هو احنا عرضنا عليه من الاساس ولا جولنا، ما انتي شوفتي بنفسك، الراجل هو اللي مكلف نفسه ورابط حاله معانا، دا كفاية نزلته المحافظة والمشوار اللي واخده معانا من الصبح، انا استحيت يا بتي اكسفه ولا اجوله سيب الواد، تيجي كيف دي بس؟
– ع الاجل كنا جعدنا نستناه في العربية ياما، مالنا احنا بالمسخرة دي واماكن الناس الغنية دي.
تمتمت بها تتابع بضجر، لتلتف برأسها للأمام وكأنها تحدث نفسها:
– انا جولت اجعد في بيتي احسن، لا اطلع ولا اخش، هو انا ناجصة كلام ولا حديت؟
– مساء الخير يا فندم.
القت الفتاة النادلة بالتحية الروتينية، قبل أن تفاجئ الاثنان بعدد من الكاسات امتلأت على اَخرها بقطع الفاكهة التي امتزجت مع الأطعمة المختلفة، حتى بدت كلوحة فنيه تغري كل من يراها.
لكن وفي ظل انبهار جليلة هتفت هي بالفتاة توقفها قبل أن تتحرك:
– إيه اللي انتي جايباه ده؟ احنا مطلبناش الحاجات دي.
– بس البيه طلب.
رددت بها الفتاة تشير بذقنها نحوه، وقد كان اَتيًا بصحبة معتز، تسمرت هي لعدة لحظات ترمق صغيرها الذي كان يمرح بيد المذكور، ممسكًا بيده عدد من البالونات الطائرة، وأشكال العاب مختلفة، حتى اذا وصل إليهما، ارتفعت رأسها اليه بنظرة تعبر عن احتجاج على وشك البزوغ، استطاع منعه من بدايته، بقوله:
– معلش يا جماعة، بس انا حالف بيني وبين نفسي ما احط معلجة في حنكي غير بعد اما انتوا تشاركوني العزومة البسيطة دي، رغم اني هموت عليه.
– بعد الشر عليك يا ولدي، ليه بتجول كدة؟
هتفت بها جليلة على الفور بعفوية كادت أن تجلط ابنتها، على عكس السعادة التي توغلت بقلبه هو، وها قد وجد له حيلة جديدة معها.
❈-❈-❈
وفي مكان اَخر.
دلفت جميلة داخل المنزل الجديد والذي تم بناءه على مدار سنوات، وها قد اقترب الميعاد المنتظر، بالأنتهاء من تشطيبه، حتى يعود بعدها الغائب من غربته، التي اقتطعت منه أجمل سنوات العمر، من أجل الوصول لهدفه:
– هي دي شجة اخوكي يا خالة جميلة؟
هتفت من خلفها تجول بأنظارها داخل المنزل بانبهار شديد جعل جميلة تلتف إليها بابتسامة رائقة:.
– أيوة يا هدير هي دي شجة اخويا، هي الأحلى بجى ولا شجة واد خالتك عابدين اللي عايز يتجوزك؟
شهقت هدير رافعة طرف شفتها باستنكار طريف:
– عابدين مين ده كمان اللي اتجوزوا؟ هي ناجصة مرض يا خالة جميلة، سيبك من سيرة الزفت المخبل ده، وخلينا في الفرح الحلو، انا سمعاكي بتجولي لامي ان اخوكي جربت رجعته، وهتجوزوه على طول اول ما ينزل.
تمتمت جميلة رافعة كفيها للسماء بتضرع:
– ان شا الله يارب، ادعيلنا بالتساهيل يا بتي، نفسنا بجى نغمض عنينيا ونفتحها نلاجيه متجوز وفي حضن عروسته، هنموت والله ع اليوم ده.
– بعد الشر يا خالتي، شالله يا رب يفرحكم بيه عن جريب،
قالتها ثم التمعت عينيها بفضول سائلة:
– طب انتوا كدة بتدوروا على عروسة ولا هو خاطب من هناك؟
ردت جميلة بعدم انتباه وهي تخلع عنها جلبابها الأسود
لتظل بالعباءة البيتية قبل البدء في التنظيف:
– لا يا ختي لا خاطبين ولا بندور على عروسة، لما يجي هو يعدلها ربنا.
– كيف يعني؟ دا انتي بنفسك بتجولي العمر سرجه، ويدوب تفرحوا بيه؟ يعني حجه عليكم ينزل يلاجي العروسة مستنياه.
ضحكت جميلة تتوقف عما تفعله لتتلاعب بها بتسلية:.
– لا ما احنا مش ناصحين زيك ولا زي امك يا ست هدير عشان ندورو ع العروسة اللي تستناه.
استقامت الاَخيرة لتفرد ظهرها أمامها، ثم تردف بلهفة وتفاجأها:
– وتدوري ليه ولا تتعبي جلبك، ما العروسة جدامك اها، ولا انا معجبكيش؟
تسمرت جميلة تطالعها بذهول سرعان ما تحول لضحكة رنانة في قلب الشقة الخالية، قبل ان تزجرها ضاحكة:
– عروسة في عينك اللي تاكي فرسة تفرسك، امشي يابت انجري على أي حتة غيري عبايتك عشان نمسحوا الشقة ونروجها، امشي .
ركضت هدير امامها تتخفى داخل احدى الغرف باستجابة لمزاحها بعد أن هددتها بعصى المقشة الخشبية، لتتمتم من خلفها جميلة:
– جال تتجوزوا جال، دا كان خلف واحدة من عمرك يا مضروبة الدم.
يتبع…
الرابع عشر من هنا