رواية ميراث الندم الفصل الرابع عشر 14 بقلم أمل نصر
وإن سألوك عن قلبي
فقل لهم لم أهجره.
ولكني اخترت الإبتعاد بعد الخصام
فالهجر طريق لا رجعة فيه.
اما الخصام فهو سنة المحبين.
أن تبتعد بمسافة، يكن هناك فرصة للعتاب.
وعتاب الأحباب ما أجمله، فهو المقدمة للصلح🌹
بنت الجنوب
❈-❈-❈
بثقة كاذبة وتحدي احمق، كان يخطو قاطعًا الردهة في المشفى نحو الغرفة المقصودة، امام انظار الشباب اولاد شقيقاته وبعض من رجال العائلة، يقابل نظراتهما النارية بأخرى غير مبالية، ناقلًا أبصاره نحو الحاج رحيم الذي بدا جليًا انه من يلجم الأولا عن التهجم عليه او الشجار معه.
بعد أن استجاب اخيرًا لدعوته بأن يزور والده، الذي كان مصرًا على رؤيته، والاَخر تقاعس لعدد من الايام حتى أتى اليوم، ليُقابل بمقت يتوقعه.
تخطى حتى اقترب من النساء الاَتي اتخذت ركنًا لها وحدها بجوار الغرفة، أماء بطرف ذقنه نحو والدته كتحية باردة تلقتها المرأة بجمود وعدم اهتمام لم يؤثر فيه، حتى التقت عيناه بشقيقاته الكارهات ثم زوجته المصون، ليختصها بنظرات متوعدة على ملامحه المشتدة، قابلتها بأخرى غير مكترثة على الإطلاق، ليدور حديث الأعين السريع ناشرًا ذبذبات غاضبة في الأجواء، لم يقطعه سوى بعد أن فتح باب غرفة أبيه. ليفصل بينها وبينه، بعد الدخول الى الرجل.
❈-❈-❈
– توك ما جاي تشوفني يا فايز.
خرج الصوت الضعيف من صاحبه فور أن وقعت عينيه عليه معه بداخل الغرفة.
اقترب الاَخير مبررًا رغم تردده الواضح أمامه:
– معلش بجى، ما انت عارف الدنيا ومشاغلها اللي بتعطل الواحد غصب عنه، ع العموم انا كنت بطمن عليك من الرجالة وعم رحيم.
كذب ليس له أي معنى على الإطلاق نظرا لحالة الرجل الخطرة واقترابه من لقاء ربه،
وصل الى فايز ما يفكر به أباه جيدًا، من صمت ملامحه الساكنة، ونظرات الخيبة التي كان يرمقه بها، لتزيد من اشتعاله حتى انفجر به:
– بتبصلي كدة ليه؟ مش انت اللي جيبت الكرهة ما بينا ، لما بديت عليا ولدي وكتبت البيت بإسمه على حياة عينك، طب اهو مات، وانا ورثت فيه بس برضوا مش حجي بالكامل، عشان انا حجي كبير يجي نص البيت، البيت اللي اكتشف ان اللي لينا في شريك، المحروسة بت اخوك اللي طول عمرك مجدمها على ولدك، تطلع كمان مورثها لوحدها هي وولدها…. فاضل ايه تاني؟ ليكون كمان كتبت الارض، الله في سماه، ما هتكلم المرة دي غير بسلاحي، ما هي مش كل مرة هسكت واحط مركوب في خشمي.
– ويعني انت فعلا سكت يا فايز؟
بلهجة هادئة مناقضة تمامًا للعاصفة الفائتة من ابنه، التمعت أعين عبد المعطي بدموع محتجزة تنتظر الاشارة للهطول، ليتابع له بصوت مبحوح:
– أنا عارف اني غلطت معاك يا ولدي، غلطي كان كبير جوي، من وجت ما طلعت ع الدنيا وانا بغطي والم وراك، جلعتك لحد ما خيبتك، طلعتك ع الأنانية وحب النفس لحد ما عميت عن الصح وعن حجوج الناس، انا الغلطان يا ولدي، عشان سيبتك لشياطينك وحطيت أملي في الزرعة الجديدة لحد اما كبرت واخضرت وطرحت أحلى أمل في عيوني، ونسيت ان الثمرة الزينة ما بتجعدتش على عودها، بتتخطف جبل أوانها من حلاوتها…… اااه يا حجازي.
لم يتحمل فايز حتى ضرب بقبضته على الجدار الأبيض جواره بغيظ شديد ينهره:
– ما كفاية بجى وارحمني، هو انت هتذلني بيه؟ هو حي وهو ميت؟ انا تعبت منك ومن ظلمك، مش ناوي بجى تريحني وتبطل.
– لساك جلبك جاحد على ضناك يا فايز؟ حتى بعد ما راح لرب كريم؟
استشاط غضبًا فوق الغضب، فوالده العزيز حتى على فراش الموت مصرًا بعنف على التقليل منه، وهذا ما كان السبب الرئيسي في الشقاق بينه وبين ابنه الراحل، ارتفعت رأسه مجفلًا على سؤاله المباشر:
– عرفت اللي اتسبب في موت ولدك يا فايز؟
– وهكون عرفت منين؟ متفج معاه مثلًا؟
هدر بها فاقدًا المتبقي من أعصابه، فقد كان متوقعًا الشك منه وهذا ما اخره على المجيء، لكن والده كان مصرًا على إخراج ما في قلبه:
– لا يا ولدي مش متفج معاه، بس هو متفج عليك، دور ع المستفيد وهتلاجيه مرتبط بيك، وجف شيطانك شوية عشان تفتح وتشوف صح، احذر شر نفسك، عشان ندمك هيبجى واعر وكبير جوي،
تابع عبد المعطي وهو يراه يشيح بوجهه للناحية الأخرى، برغبة واضحة في اظهار الرفض والسأم من القول المتكرر:
– عدوك من نفسك، وان كنت سادد ودانك عن كلامي دلوك، بكرة الزمن هيخليك تعرفه زين لما تتزاح الغشاوة عن عينك، بتمنى ساعتها ان ربنا يخفف عنك من عذاب الندم، حكم دا واعر وشديد جوي ع النفس
❈-❈-❈
القصب القصب، القصب عايز مية يا واد
محلاكي يا بت يا بيضة، لما العريس يخش.
يلقاكي بيضة بيضة، ومنوراله الوش
داخل يديكي جنية، طالع يديكي جنية
نازل يديكي جنية، على عوجة البورية
في الأوضة البحرية.
توقفت أم أيمن لتصدح بضحكة مجلجلة، ومعها السيدات الاَتي يقرطفن معها أكوام من اوراق الملوخية والتي يتم جز أعوادها في هذا الموسم، قبل ان يجففنها حتى يتم تخزينها بعد ذلك، باختلاف عن باقي المحاصيل، التي يتم حصدها في الأرض،
ام أيمن والعديد من السيدات يأتين هنا بمساعدة العاملات في المنزل ومشاركة لروح التي تحب جلساتهن والمزاح منهن، حتى أنها أتت برفيقتها الجديدة نادية، لتأخذ حصتها من المرح مع النساء الاَتي لا تكف عن الثرثرة في المواضيع المختلفة، مستغلين ألامان بالإختلاء مع أنفسهن في هذا الجزء الخالي من المنزل في الخلف، فلا أحد يسمع الحديث ولا احد يملك التعليق على محتوى ما تتلفظ به ألسنتهن.
يردفن بحكايات قديمة وجديدة، ووقحة في بعض الأحيان، تكن تسلية لهن. كالتعليق البذيء الذي صدر من أحداهن الاَن تعقيبًا على معنى الاغنيه المقصود من أم أيمن .
– بس بس بس يا أم أيمن، راعي ان معانا آنسة حرام عليكي،
هتفت بها نادية، في محاولة يائسة منها لإثناء المرأة الجريئة عن الغوص في نقاشها المنحرف، رغم ضحكاتها ولون بشرتها التي أصبحت تماثل ثمار الطماطم في حمرتها.
تلقت المرأة نقدها بنظرة خبيثة نحو روح التي كانت تخبئ بكفها على عينيها لتشاكسها:
– طب وفيها ايه لما تعرف؟ خليها تتعلم ، دا حتى العلام بفلوس اليومين دول.
رفعت لها الأخيرة رأسها ترد مقهقهة بعدم مقدرة على التوقف:
– عندك حج يا أم أيمن، وانتي بصراحة استاذة.
قالتها روح لتصدح ضحكات النساء مرة أخرى والتلميحات الغير بريئة على الإطلاق من عدة افواه.
غافلين بشكل تام عمن كان متابعًا لهم عبر نافذة إحدى الغرف المطلة على الجهة الخلفية للمنزل الكبير، من خلف الستار المعتم، لا يُصدق ما تراه عينيه، ساحرته التي نزعت عنها اليوم ثوب الحزن والخجل، لتضحك وتقهقه بشقاوة على نكات أم أيمن المعروفة بجرأتها، وهو بالفعل يخمن مغزى الحديث بدون ان يسمع.
كانت شهية بشكل موجع، تميل على شقيقته بغمزات مفهومة تعقيبًا على قول المرأة بخجل فتيات في عمر المراهقة،
لقد تضخم قلبه بالفرح من أجلها حتى أصبح يضحك معهما بدون ان يشعر، فلم يغلق ثغره؛ إلا حينما اجفل على انتفاضهن ناهضات بفزع نحو جهة الأطفال، من الناحية الأخرى، يبدوا حدوث أمر ما هناك.
❈-❈-❈
ضمت اليها طفلها بقلب ملتاع لصراخه المتألم، تدلك على ظهر كفه والرسغ حتى المرفق، وقد تشكلت علامة حمراء كخط كبير على الجلد الناعم، بعد تلقية ضربة قوية بأحد أعواد الملوخية القاسية.
– كدة برضوا يا شروق، دي عاملة تعمليها؟ اروح انده لابوكي دلوك، يأدبك عليها دي.
صاحت بها روح موبخة نحو ابنة شقيقها المتسببة في هذا الأمر للطفل الذي ما زال يصرخ بألم، رغم التدليك المتواصل وغسلها بالماء البارد حتى تخفف عنه.
اعترضت الطفلة المتمردة بوجهها:
– ما هو اللي زجني، عايزانى اسكتله؟
زجرتها مستنكرة فعلها بلهجة أشد هذه المرة حتى ترتدع هذه الشبيهة بوالدتها:
– بس يا بت دا انتي أكبر منه، وعيب عليكي تردي عليا اصلا، اقسم بالله لو ما اعتذرتي لاروح اجول ابوكي وهو يعرف شغله معاكي، يا زفتة انتي.
– ما خلاص يا روح.
هتفت فتنة وهي تتقدم نوحهن اَتية من المخرج الخلفي، لتتابع بصوت مشتد:
– جالتلك الواد زجني، يعني شغل عيال وخلصنا على كدة، هندخله ليه الكبار كمان؟ فضيها بجى.
رددت خلفها باستهجان، ترفض التدخل منها في أمر كهذا:
– افضها كيف؟ البت لازم تتعلم عشان ما تعيدهاش تاني، جملي انتي نفسك اللحضة دي، بتك مش هتخس لما تعتذر.
بإصرار أشد نقلت بأنظارها نحو التي ما زالت تهون عن طفلها، موجهة الحديث لها:
– انا شايفة إنه موضوع ما يستحجش، ولا ايه رأيك يا نادية؟ ما هي كل العيال بتضرب وتضرب،
طالعتها بقوة تنهض مستقيمة تواجهها بصوت مهتز من فرط انفعالها:
– فعلا كل العيال بتضرب وتضرب، بس انا ولدي صغير، وحتى لو كبير مش هيقدر يسد ضربتها عشان هو ضيف، والضيف عمره ما يتجرأ على صاحب البيت….
– بس ولدك صاحب بيت.
صدح الصوت الجهوري يلفت أنظار الجميع اليه، ليتوقف أمامهم بهيئة مرعبة ألجمت الألسنة عن التفوه ببنت شفاه، متتابعًا بتشديد على كل حرف:
– انتي ولا ولدك مش ضيوف في بيتك جدك الدهشان، انتي وولدك أصحاب بيت، ليكم زي اللي لينا بالظبط، ودا مش بالكلام، لا دا بالفعل.
قالها قبل أن يدنو من ابنته التي التصقت بوالدتها تبتغي منها الدعم، ليخاطبها بلهجة هادئة، حازمة، صارمة:
– هتتجدمي من واد عمك وتبوسيه فوج راسه وتصالحيه فاهمة؟
اومأت الصغيرة على الفور بموافقة بدون تردد حتى اقتربت من نادية التي كانت تحمله بيدها، ولكن الأخيرة ابت بلهجة مكسورة انغرز نصلها بوسط قلبه:
– لا خلاص، مفيش داعي اساسًا، انا…..
قطعت مجفلة بصدمة، حينما وجدت يدها فارغة بعدما خطف منها ابنها بحركة سريعة، ليقربه من الصغيرة التي قبلته فوق رأسه ووجنتيه على الفور، تردف بالاعتذار، قبل أن يباغتها بأمره:
– أدبًا ليكي، هتطلعي فوج تلعبي لوحدك في أؤضتك،، ولو اتكرر ضربك تاني هضربك انا بداله، اطلعي ياللا…..
بصيحته الأخيرة انتفضت تركض من امامهم بفزع منه، ومن عقابه، حتى صرخت بوجهه زوجته باستنكار:
– خبر ايه؟ حصل ايه لدا كله…
– اخرسي…..
خرجت منه ليزجرها بعنين مخيفة يوقفها قبل أن تتمادى، وبصوت خافت محذر:
– اطلعي على شجتك يا فتنة.
– اطلعي شجتك بجولك، لا ميحصلش طيب معاكي.
تابع مرددًا الأخيرة بصوت أشد ووعيد عينيه يشتعل من قلب الجحيم، حتى جعلها تتقهقهر مجبرة، تنصاع لأمره، وقد بدا انه على حافة الفتك بها بغضبه الغير مبرر من وجهة نظرها، غير مبالي بالتقليل منها أمام النساء.
بحرج شديد خرج صوت نادية، وعينيها نحو طفلها الذي ما زال محمولًا على ساعده:
– مكانش له لزوم لكل اللي حصل، هو كان لعب عيال صح زي ما جالت، تعالى يا حبيبي.
وجهت الأخيرة نحو صغيرها الذي ابعده هو على الفور من أمامها، يرد بلهجة حازمة
– الواد هيجعد معايا شوية عايز اصالحه، سبيه.
قالها وتحرك ذاهبًا به من امامها وامام شقيقته التي هونت عليها بابتسامة مطمئنة
– يا ساتر يا رب، دا أكيد نكد بعد الضحك الكتير، بسببك يا أم أيمن، امسكي لسانك ده شوية يا مرة.
تفوهت بها إحدى النساء لتعيدهم للأجواء السابقة، وكالعادة لم تسلم من رد وقح من ام أيمن جعل الضحكات تصدح من جديد، حتى استجابت على غير ارادتها للضحك مرة أخرى معهم.
❈-❈-❈
بداخل مطبخها وقد استمعت لصوت بناتها المهلل بعودة اباهم من الخارج، جففت يدها من جلي الأطباق حتى تخرج إليه مسرعة، كي تسأله عما حدث في زيارته لإبيه:
– عملت إيه يا فايز؟
هتفت بها بلهفة فور أن خرجت الى صالة المنزل، ولكنها لم تجد أمامها سوى بناتها الاَتي كنا جالستين امام التلفاز:
– أبوكم فين يا بت؟ انا سمعاكم بتكلموه.
– ابويا دخل على طول ومعبرناش ياما.
أجابت بها اصغر أبناءها رغد، لتضيف على قولها شقيقتها الأكبر إسراء:
-‘أيوة ياما، دا حتى راح على اؤضته على طول.
– راح على اؤضته على طول.
غمغمت تردد بها، وهي ترتد بأقدامها لتغير اتجاهاها نحو الغرفة:
– فايز انت جاعد كدة بتعمل ايه؟…..
توقفت الكلمات على فمها بعدما انتبهت على هذا الوجوم الذي يعتلي قسماته، ونظرة غريبة رمقها بها، قبل ان يعود لشروده نحو نقطة ما في الفراغ .
ابتعلت بتوتر لتجلس جواره على طرف التخت، تمسح بكفها على كتف ذراعه، تخاطبه بنعومة:
– إيه؟ مالك يا راجل؟ وشك مجلوب ولا كانك جاي من عزا.
احتدت نظرة خاطفة منه لها، زادت من توجسها لتعيد المحاولة بتردد:
– خبر ايه يا فايز بهزر معاك، مالك كدة مبوم ليه؟
اجلى حلقه ينظفه مما علق به، قبل ان يخرج صوته اليها:
– اطلعي من الاوضة دلوك يا شربات، عشان انا عايز انام .
دمدمت بدهشة وعدم استيعاب.
– وه، تنام كيف يا راجل؟ دي الساعة مجادش احداشر الضهر حتى، نوم ايه ده؟
– حداشر ولا سبع تاشر، بجولك عايز انام مصدع ، جومي ياللا مش ناجص وجع مخ .
بصيحته الأخيرة انتفضت ناهضة على الفور، تردد بمهادنة لتجنب غضبه:
– خلاص يا خوي براحتك، انا بس كنت مستعجبة،
تابعت وهي تتحرك للخروج:
– هروح اخلص اللي في يدي وهنبه ع البنتة يوطوا التلفزون، عشان انت تنام وتريح جتتك زين، ما انت أكيد تعبان.
ظل على صمته حتى خرجت ويدها فوق مقبض لترمق ظهره المنحنى بنظرة فاحصة، تخاطب نفسها بالتريث، حتى تعرف منه كل شيء في وقت آخر، وليس اليوم، فهيئته لا تسمح بالنقاش أو الإلحاح.
❈-❈-❈
رفعت رأسها لتعتدل مستقيمة بعد ان انهت غسل يديها من صنبور المياه الموجود في الجزء الفاصل بين الحظائر والفناء ألخلفي، والذي يبدوا كغرفة ضخمة مخصصة لتخزين الأدوات الزراعية وأشياء أخرى،
تفاجأت بها واقفة متكتفة الذراعين أمامها بتحفز، تتفوه بحديث يبدوا عادي، ولكن اشتعال النظرات ولغة الجسد لا تخفى على الرائي.
– يعجبك اللي حصل دا يا نادية؟ ان كان يعجبك انا مش هتكلم.
تسائلت قاطبة باستفسار لهذه المراوغة المتعمدة منها:
– يعجبني ايه؟ انا مطلبتش من جوزك انه يدخل اساسًا، يعني الكلام ده تتحاسبوا انتوا الاتنين مع بعض عليه.
– انتي مطلتبيش بس هو عمل كدة لما شاف اللمة وعمايل روح مع البت الصغيرة لما استعندتها، ما هو لو كنتوا فوتوا انتوا الاتنين من الأول، والامر عدى على خير، مكنتش انا هخش عشان الم الدنيا ، ويجي هو يفهمنا غلط ويهزجني جدامكم وجدام الحريم الشغالة عندي.
– وجفي عندك يا فتنة.
صاحت بها كرد طبيعي على الهجوم المباغت الذي تلقاه ، لتزفز قليلًا تلتقط انفاسها قبل ان ترد بتفنيد لها:
– أولًا، ولتاني مرة انا بجولك، احنا مطلبناش من جوزك يتدخل، وحكاية اللمة ولا اللي عملته روح انا مليش دخل بيه، ثم كمان لو ع الحريم اللي بتتكلمي عليها دول، ما هماش شغالين في بيتك عشان يتجال انهم شغالين عندك.
– انتي هتطلعيني من الموضوع الأساسي وتدخليني في كلام فاضي، ما تفهمي انا غرضي ايه؟
هذه المرة كانت النبرة عدائية منها بامتياز، ولولا تدخل روح التي أتت اخيرًا، لا تعلم كيف كانت سترد على وقاحتها:
– في ايه يا فتنة؟ انتي جاية هنا كمان تزعجي،
سمعت منها الأخيرة لتضرب كفًا بالاَخر متمتمة لها باستنكار وحنق:
– لا إله إلا الله، هو انتي حد كان وكلك عنها محامي يا ست روح؟ ولا يمكن شيفاني بتعرك معاها مثلًا عشان تاجي وتحشري مناخيرك وسطينا.
اعتلى الذهول ملامحها لتردف لها بعدم استيعاب:
– يعني كل اللي انتي بتعمليه دا يا فتنة، والصوت العالي، في شرعك يبجى كلام عادي؟
صدرت شهقة بصوت عالي من فتنة، في استعداد للشجار الفعلي، لحقت عليه نادية سريعًا رغم صدمتها لتقبض بكفها على مرفق الأخرى متمتمة بحزم لتنهي الامر:
– خلاص يا جماعة، الله يخليكم فوضوها…… ياللا يا روح خليني اعدي.
قالت الأخيرة حينما وجدت منهن الصمت، ولكنها وقبل ان تتحرك خطوتين اوقفتها فتنة بقولها:
– الا جوليلي صح يا نادية….. هو جوزي المرة اللي فاتت لما جاب الجيلاتي للبنات، دخل المحل لوحده يجيب الطلبات المخصوصة دي؟…….. ولا يكون سابكم في العربية لوحديكم؟ حجة دي تبجى جلة زوج منه..
بهتت وكأن دلوًا من الماء البارد تدلى فوقها وأغرقها بالكامل، نظرة الاتهام وسوء النية كان واضحًا كضوء الشمس في نبرتها، وقبل ان تبحث لها عن رد يحفظ ماء وجهها، تدخلت روح لتنقذها:
– تصدجي يا فتنة، جوزك عنده حج في كل اللي بيعمله معاكي…… انتي فعلا تستهلي أي فعل منه، ملكيش غير الشدة يا بت عمي، اتحركي يا نادية خلينا نمشي، مش ناجصين مرض ولا وجع جلب.
– مرض في عينك جليلة الحيا،
غمغمت بها فتنة، في مطالعة لأثرهما بعد أن اختفيا من أمامها، تتابع بسخط:
– محد واجع جلبي، ولا مطفشني في عيشتي غيرك.
❈-❈-❈
لا تعلم كيف وصلت إلى هنا داخل الاستراحة التي أصبحت مقرها ومخبأها عن العالم، عقلها يدور كالرحي، بتفكير متواصل بعد ما حدث من الأخرى، لقد صعقتها في شك رأته جليًا في عينيها، حتى لو ادعت بلسانها غير ذلك.
كيف دار بها الزمان لتصبح في موضع كهذا؟ وهي التي تغلق بابها عليها منذ صغرها، تتجنب جلسات النساء وهمزاتهم ولمزاتهم المعروفة.
تتجنب الاصطدام مع واحدة مثل فتنة او غيرها، وكيف لها أن تلومها؟ كيف لها ان تتقبل هذا الوضع؟ بعدما كانت سيدة النساء في منزلها الدافئ؟ وبحضن اجمل الأزواج واروعهم.
تحركت قدميها نحو الشرفة التي تتوسط الحائط في الصالة الكبيرة، لتتطلع نحو الخضرة الممتدة على طول البصر في هذا المكان الذي يبدوا كمملكة محصنة وعالم يدور بداخلها مختلف عن العالم الخارجي.
أبصرت من جهة قريبة الى حد ما صغيرها الذي كان يضحك ملئ شدقيه ووجهه مشرق بفرح غامر، وقد اعتلى الحصان بصحبة هذا الرجل الذي يجفلها بحنانه الغريب نحوه، يتريض به وسط الخضرة برعاية شديدة، ينتابها استغراب غريزي لهذه الاهتمام المبالغ فيه له، تتعجب لهذه الاندماج السريع بينهما، حتى أنه من يرى الصورة من بعيد الاَن، يخمن من رأسه وكأنه اب و….
تنهدت تطرد زفراتها بألم فاق التحمل، ماذا يخبء لها الزمان؟ متى تستعيد استقرارها القديم وراحتها في اجتناب البشر والاحقاد منهم،
كانت شاردة في ايامها السعيدة في الماضي، فلم تنتبه على نظراته المصوبة نحوها سوى بعد فترة من الوقت،
لماذا تتوه في مغزاها؟ وكأنها تحمل شيئًا ما لا تعمله؟
التقط نظرتها اليه، كجرعة ماء صافي رطبت على قلبه العطش لكل لفتة منها، تقف أمامه كالبدر تراقبه من خلف الستار الابيض للنافذة، كيف لامرأة واحدة أن تستحوز على كل هذه المميزات لها وحدها؟ رقيقة كالنسمة، جميلة حد الفتنة، ولها ضحكة اكتشفها فقط اليوم على الرغم من أنه لم يسمعها، ولكنها تأسر القلوب بسحرها، يشكر من قلبه ام أيمن ان أجبرتها على الضحك بخفة ظلها وجرأتها في المشاكسة والحديث، لقد عشق هذه المرأة ويفكر جديًا بمكفأة لابنها، تقديرًا للسعادة التي وضعتها بقلبه لمدة من الوقت، حفظ بها الملاح المليحة وهي تظهر الوجه الحقيقي الخالي من الحزن والضياع
يبدوا أنها انتبهت له اخيرًا لتتراجع للداخل، تحجب نفسها داخل مخبأها في الاستراحة.
تنهد بوله، ليطبع قلبة ذات صوت عالي على وجنة الصغير، والذي لم يكف ع الضحكات على أقل حركة يفعلها الحصان برأسه أو بجسده ليجلجل بصوته الطفولي يدغدغ قلبه من الداخل، حتى عاد ليقبله مرة أخرى متمتمًا في جوف عنقه الذي دفن وجهه به، مع استنشاق رائحته العطره بأنفه:
– يا ولدي حرام عليك، خف عليا شوية، هحبك أكتر من كدة ايه؟ انا هلاجيها منك ولا من امك…. ها جولي ياد، هلاجيها منك ولا من أمك؟
وكان رد معتز ضحكات أكتر بصوت أعلى ليزده تعلقًا به
❈-❈-❈
– نادية.
دلفت والدتها عائدة من الخارج تخلع عنها حجابها، تنهج بلهاث جعلها تلتف إليها وتسألها باستغراب:
– خبر ايه؟ راجعة بتنهتي ليه كدة؟ هو انتي جاي السكة جري ياما؟
اومأت لها جليلة بهز رأسها تتناول زجاجة ماء باردة تتجرع منها حتى مسحت بظهر كفها على فمها، لتلتقط أنفاسها المتسارعة، وتزيد من توجس ابنتها التي عادت سائلة مرة أخرى:
– ياما بتنتهي كدة ليه؟ وانتي أساسًا إيه اللي أخرك؟
سحبت جليلة شهيق طويل لتهدء من وتيرة أنفاسها، وحتى تتمكن من الرد اَخيرًا:
– اللي أخرني هو الخبر اللي كنت عايزة اتأكد منه، بعد ما وصلني من اختك ثريا، ما انتي عارفه جوزها، من نفس عيلة المرحوم حجازي الله يرحمه،
– ما لهم ناس جوزي ياما؟
هتفت بها بمزيد من الخوف، فخرج الرد من جليلة بحزن:
– عبد المعطي الدهشوري… تعيشي انتي .
صرخت ضاربة على بكف يدها على صدرها بلوعة:
– جدي مات.
❈-❈-❈
وعند فتنة التي كانت تتاَكل من الغيظ، تلطم كفيها ببعضهما بنار مشتعلة في جوفها، من هاتان الملعونتان الاَتي ابتلت بيهن، الاَ يكفيها واحدة تقف لها كالشوكة في الحلق؟ لتأتي الأخرى وتنغص عليها عيشها مع رجل يقدمها وابنها على الجميع؟
ولكن لا، هذه حلها بسيط، لقد اقتربت انتهاء عدتها ولم يتبقى لها سوى أيام قلائل، وبعدها ستفعل المستحيل حتى ترميها في حضن شقيقها المنتظر الفرصة على احر من الجمر،
حتى وهي تكرهها وتستكثر عليها ان تتزوح وهي ارملة بشاب لم يسبق له الزواج كشقيقها، ولكن لا يهم، مدام الأحمق يريدها ف ليشبع بها ، المهم اليها الان أن تبعدها من محيطها، ثم في بيت شقيقها ستصبح لها السلطة عليها لتفعل بها ما تشاء، سوف تخرج عليها القديم والجديد ولن تترك لها شيء، مدامت لا تستطيع أن تتمكن منها هنا،
ولكن كيف يتم ذلك؟ وبوز الفقر روح كما تسميها، جاثمة على أنفاسها وتفتعل معها الشجار من أجلها، وكأنها نصبت نفسها محامي لها.
تبًا، لو ظل الأمر على هذه الصورة وهذه الملعونة خائبة الرجا، موجود بالمرصاد لها، فسوف ستفسد عليها الأمر من أوله، ولن تمكنها من تنفيذ مخططها.
لكن لا والله، لن تظل هكذا مكتوفة الأيدي بدون حيلة ، لابد ان توقفها من اليوم، لا بل الاَن.
تحركت على الفور تغلق باب غرفتها من الخارج، لتنزل في الطابق الأسفل حيث وجهتها نحو الأخرى.
❈-❈-❈
– روح.
هتفت بالأسم بعد أن دفعت باب الغرفة عليها دون استئذان، مندفعة بغليلها الذي يعميها في معظم الاحيان عن مراعاة الأدب او أصول التعامل الطبيعية بين البشر
لكنها تفاجأت بخلو الغرفة منها، همت ان تخرج وتبحث عنها في الخارج، ولكن صوت الماء انبأها بمحل وجودها داخل حمام الغرفة.
تخصرت بأعين نارية تنتظرها هذه الدقائق القليلة، ولكن صوت بالهاتف جعلها تنتبه على موضع وجوده على مكتبها الممتلئ عن اخره بعدد من الكتب الغبية
مع ورود الصوت القصير مرة أخرى، استبد بها الفضول لتلقي نظرة على هذه الاشعارات المتتالية بكثرة عليه
ويبدوا ان الهاتف كان مفتوحًا، فلم تجد صعوبة في الضغط على الإشعار الذي فتح لها باقي الرسائل.
” هانت، يارب جرب الميعاد ”
زاد بها الشغف لتمرر بإصبعها تتفقد الباقي من كلمات الغزل المبطن، وعن لوعة الفراق، وقرب اللقاء المنتظر، بالزواج.
كتمت شهقة الادراك بكفها على فمها، وقد تأكدت من ظنها. الملعونة ترفض الزواج من اجل رجل اخر مرتبطة به،
دققت لترى اسم صاحب الرسائل وجدته عبارة عن حروف رمزية، مجرد حرفين باللغة الإنجليزية O&R لم تفهم معناه ولكن بالتمرير على قراءة الباقي وهذه الجملة العابرة عن ذكر لقاء لها في المدافن بجميلة…..
توقفت قليلًا باستدراك متأخر، وقد وصلت الاَن لغايتها، جميلة تلك، هي صديقتها القديمة، وشقيقها المغترب منذ سنوات لا تذكر عددها.
لاحت على شفتيها ابتسامة خبيثة متمتمة داخلها بسخرية:
– يخيبك يا روح، بجى تسيبي ولاد العمد ولا الدكاتره والمهندسين، ولا واد عمك اللي مربوط جنبك وحاله واجف عشانك، وانتي مستنية عمر ، عمر ابن عبد السلام، العامل الأجري …. بتحبي واد الأجري يا هبلة، واخته جميلة، اللي هي مش جميلة أصلا….
اخفت بصعوبة ضحكتها لتتسحب تاركة كل شيء في مكانه، مؤجلة حديثها معها لوقت آخر ، وقد اسعدها الحظ في اكتشاف السر اخيرًا، السر الخفي لروح بنت عمها، رمز النقاء والجمال في العائلة الكريمة.
❈-❈-❈
أعلى سطح المنزل، وقد كان متابعًا لحركة الرجال المضطربة في الشارع في الأسفل من أعمام ورجال من عائلة أبيه الذي خرج مع بعضهم، منكس الرأس بهيئة تبدوا عليها الحزن بالفعل.
ضاقت عينيه في متابعة متمعنة له، يراقب سيره وكأنه يجر أقدامه بثقل بينهم، تبًا له، من يراه يصدق بالفعل انه رجل كُسر ظهره بوفاة والده، وقبله ابنه الكبير.
– مالك، انت لسة جاعد واجف مكانك؟
هتفت بها شربات تنزعه من شروده، لتخطو حتى وصلت إليه تسحبه من مرفقه بعيدًا عن حافة الحاجز الإسمنتي، حتى تناولت ما يضعه بفمه، لتدعسها أسفل حذائها، متمتمة بدهشة:
– وبتشرب سجاير ع السطح، والشارع كله مجلوب على موت جدك، عايزهم يجولوا عليك فرحان يا جزين؟
زجرها بها محتجًا، ليبعدها عنه:
– ما يجولوا اللي يجولوه، واحنا من امتى بيهمنا كلام الناس؟ ولا انتي فاكراهم مصدجين صح ان احنا زعلانين؟ ولا يكون انتي كمان خال عليكي تمثيل جوزك؟
يصدمها بالفعل بردوده، هذا الولد الذي يزداد جموحه يومًا عن يومًا، حتى خروجه عن السيطرة، لقد أصبخ يخيفها بالفعل:
– يا ولدي بلاش الكلام ده واحنا ع السطح دلوك، لاحسن حد يسمعك مش ناجصين فضايح، اعجل كدة وروح اتشطف والبس الجلبية الزينة، عشان تجف مع الرجالة تاخد العزا، انت بجيت راجل يا حبيبي، وانا عايز الكل ياخد باله منك عشان….
– عايزاني احل محل اللي راح ياما؟
بهتت تطالعه بإجفال زاد عليه بقوله:
– أنا عمري ما هبجى حجازي ياما، عشان انا مكروه بالوراثة، يعني الناس تصدج عليا اشرب سيجارة ع السطح دلوك وجدي بيدفنوه، لكن محدش هيصدج اني صالح ولا بعرف اصلي حتى.
– خبر ايه؟ شايفنا كفار؟
غمغمت بها تضربه بقبضتها على صدره، لتجذبه من ياقة قميصة تهزهزه بعنف علّه يفيق:
– اصحى كدة وبطل جنان، الدنيا فضيت لنا خلاص يا اهبل، اللي جاي حصاد وبس، نبجى لازم نجف على راسهم ونعرف كل كبيرة وصغيرة…. انا نازلة دلوك هروح اجف في وسط الحريم، وانت هتنزل ورايا وتاخد مكانك وسط الرجالة فاهم؟ انت اللي هتنفعني، ابوك خيبة وباينه حزنان صح، مش ناجصة وكسه فيك وفيه.
دفعته عنها، كي تغادر لتلحق بخروجها الى العزاء على الفور، ولكن وقبل ان تضع قدمها على الدرج لتهبط، اوقفها مناديًا:
– خلاص يبجى خلصوا بسرعة بجى، انا مش هصبر أكتر من كدة، فاهمة ياما؟
يتبع…..
الخامس عشر من هنا