رواية لعنة الخطيئة الفصل الحادي عشر 11 بقلم فاطمة احمد
الفصل الحادي عشر : داخل الأسوار.
_________________
إجتمع بعض التجار مع العمدة واِتفقوا على إستيراد كمية ضخمة من الفاكهة فاِستدعى هذا الأخير آدم وصفوان وأخبرهما بوجوب تعاونهما في إتمام هذه الصفقة بما أن بساتينهما تعدُّ من أفضل بساتين البلدة وأكثرها إنتاجا.
وفي ذلك اليوم ذهبت نيجار لبساتين الصاوي حتى تتأكد من شحن صناديق الفاكهة بشكل مثالي ووقفت على رأس العمال تراقبهم بوجوم وتُملي عليهم أوامرها بحجة أن مايقومون به خاطئ.
فنظر لها أحد العمال بضيق مجيبا :
- احنا متعودين نشتغل بالطريقة ديه.
كتفت يداها ببعضهما وأردفت :
- ده لما كنتو بتشتغلو لوحدكو انما دلوقتي احنا شركاء ومينفعش يحصل أي غلط منكو لأن كده اسمنا هيتضرر معاكو.
زفر مستغفرا وتابع عمله فشعرت نيجار بالإستفزاز وكادت تتكلم إلا أن صوته الصلب الذي جاء من خلفها أوقفها :
- ايه اللي بيحصل هنا.
اِستدارت له باِندفاع وبهتت فجأة عندما رأت الشخص نفسه الذي إلتقت به في أعلى التل منذ أسبوع ، وبحركة تلقائية أسدلت خصلات من شعرها على وجهها حتى لا يعرفها ثم تمتمت بشجن :
- ومين حضرتك.
وقف آدم أمامها وقد أحس أنه سمع صوتها من قبل لكنه تجاهل أفكاره وأجابها بجدية :
- أنا صاحب الرزق ده من بعد الله والمفروض أنا اللي اسألك انتي مين وبتعملي ايه هنا .... على حد علمي اني اتفقت مع صفوان يجي للأرض بتاعتي مش يبعتلي حرمة مكانه.
شعرت نيجار أنه يقلل من شأنها ولسعتها كرامتها من أجل الرد فنست تلبكها ورفعت عيناها مطالعة إياه بتحدٍ :
- انا بنت الشرقاوي وليا كامل الحق اجي واطمن على شغل عيلتي زيي زي ابن عمي يا ... آدم بيه.
في هذه اللحظة ركز عليها جيدا متذكرا أين رآها حتى خطرت بباله صورة فتاة التل التي كانت تمتطي فرسها في إحدى الليالي، قطب حاجباه مفكرا في اِحتمالية أن تكون نفسه ولكنه لم يستطع التأكد فتنحنح مجليا صوته وأردف :
- طبعا ليكي الحق الكامل بس انا بعتقد انك خربطتي في الأماكن ... الارض ديه ارضي والعمال بتوعي يعني محدش غيري بيمشي كلمته عليهم بتقدري تروحي لبساتين عيلتك وتديهم الأوامر براحتك محدش هيعاتبك.
فتحت فمها للدفاع إلا أنه قاطعها وهو يرفع يده موقفا إياها واِستطرد بلهجة جادة :
- انتي في ضيافتي دلوقتي فلو احتجتي لأي حاجة بتقدري تطلبيها من العمال هنا احنا بردو ناس بتفهم في الأصول وبتقدر الضيف والغريب.
رغم لباقته في الحديث إلا أنه كان يرسل إليها تلميحات مبطنة مفادها أنها غريبة ولا يحق لها إعطاء الأوامر هنا وفهمت نيجار هذا فضغطت على طرف شفتها بغيظ مستمعة لضحكات العمال المنخفضة أما آدم فتركها وغادر....
مرت عليها دقائق وهي واقفة حتى شعرت بالملل وبدأت بنقل بصرها في المكان ولم تستطع تجاهل المناظر الساحرة المحيطة بها فوجدت نفسها تسير في البستان بإعجاب ظهر على محياها حتى توقفت مكانها مشاهدة المساحة الخضراء التي زينتها الأزهار بمختلف أنواعها وألوانها...
لمعت حدقتاها بإنبهار متأملة نوعا محددا من الورد الأحمر ذو البتلات الذهبية فاِقتربت تشمهم وأمسكت واحدة منها هامسة بلهفة :
- ايه الجمال ده كله.
- دارسي روز.
فاجأها صوت آدم مجددا فاِنتفضت بخضة والتفتت إليه ليبتسم ويقترب منها مشيرا بعينيه للزهرة التي بين يديها :
- اسمها دارسي روز لونها مميز ولازملها عناية كبيرة ... مع أنها هتذبل بعد شويا بين ايديكي.
تلجلجت نيجار بحرج لأنها اقتلعت الزهرة من مكانها بقوة حين استدارت، وتمتمت بحرج :
- اسفة مكنتش بقصد انا اتخضيت لما جيت من ورايا ومحستش بنفسي وانا بقطعها.
لاحظ آدم اِضطرابها واِبتسم بداخله على ذلك لكنه حمحم مصطنعا الصرامة :
- ابقي خدي بالك بعد كده المرة ديه جت على زهرة المرة الجاية الله اعلم هتؤذي مين.
عاد وجهها يرسم تعبيرات متضايقة فرفعت رأسها ناحيته مرددة بعنفوان :
- ايه اؤذي مين ديه حضرتك شايفني غول ؟
- بصراحة انا مشوفتش غول قبل كده بس اللي بعرفه انه مش هيبقى جميل كده أكيد ... اقصد مش هيبقى لسانه طويل زي لسانك.
هتف بمراوغة جعلت الإبتسامة تتسلل لشفتيها لكنها طمستها سريعا وتجاوزته حتى تغادر وهي مازالت تحمل الوردة بيدها، إلا أن آدم الذي كان يرغب بالتأكد من اذا كانت هي نفسها فتاة التلّ ناداها على حين غرة :
- نيجار !
حينها اِستدارت الأخيرة بتلقائية مجيبة :
- نعم ؟
ابتسم آدم بنصر وهو يوليها ظهره بينما اِنتبهت هي لمقصده فضربت جبينها بغيظ وركضت مغادرة أرضه ....)
** عودة إلى الحاضر.
بعد ليلة قضتها بين أحضانه، نهض عنها يرتدي ملابسه بوجوم أما هي فسحبت الغطاء على نفسها مرددة بجمود :
- خلاص خدت اللي عايزه ؟ ياترى ايه الخطوة الجاية في رحلة إنتقامك مني.
تجاهلها تماما فجزت نيجار على أسنانها بحنق منه وهرعت ترتدي قميص نومها الأبيض لتقف خلفه مرددة بغطرسة :
- لو فاكر أنك قدرت تكسر عيني بتبقى غلطان وسيبك من الليلة ديه انت لو لمستني مليون مرة مش هتأثر ولا هتفرق معايا خالص.
سهام من نار انبثقت من عيني آدم وقد اختض بنقمة منها ورغبة في قصّ لسانها الذي يجعل أعصابه تنفلت منه فاِقترب منها بسرعة كمن يود الإنقضاض على فريسته لتلتاع نيجار وتتراجع إلى الخلف بتلقائية.
وقف أمامها ينفث أنفاسه على بشرتها دون كلام فرمشت بتلجلج وجالت ببصرها في المكان من حولها حتى وقع على صدره الصلب الظاهر بوضوح من قميصه الذي لم يقفل أزراره بعد ولسبب ما تذكرت نيجار ملمس بشرته على يدها منذ قليل لكن آدم شتت إنتباهها عندما همس بحدة :
- اكسرك؟ انتي كسرتي عينك من لما قبلتي على كرامتك انك تستغلي نفسك عشان تقضي مصالح ابن عمك وشريكه ورجعتي عملتيها لما جيتي للمزرعة قصدا عشان تخليني اتجوزك بدل بنت عمك ومعملتيش حساب الناس تتكلم على شرفك.
قطبت حاجباها مفكرة في معنى كلماته حتى شهقت بإدراك مرددة :
- انا جيت لعندك عشان انقذ بنت عمي منك ومكنتش بعرف ان الناس هيتكلمو علينا.
لكن آدم الذي كان متأكدا في عقله الباطن أنها مجرد كاذبة لعينة لم يهدر عناء التفكير في مدى صحة دفاعها بل تابع رامقا إياها باِزدراء :
- بس هتخافي ع شرفك ليه اللي زيك معندهمش شرف ولا قيمة اصلا آخرك تكوني واحدة بتعرض جمالها لراجل عشان يتعلق بيها وبعد ما توقع عيلتها فمشاكل بترجع ترميها في حضنه لعلّ وعسى تخليه يحن ليها تاني.
نزلت حروفه عليها كخيوط من نار جلدت روحها وكسرت كبرياءها فاِلتمعت عيناها بالحقد واِحتد نسق أنفاسها بغضب ورفعت يدها حتى تضربه إلا أنها سُجنت بيده حينما قبض عليها بعنف مغمغما بتوحش :
- ديه تاني مرة أقسم بربي لو رجعتي عملتي كده هكسرلك إيدك ! ودلوقتي الليلة خلصت خلاص.
رمقته نيجار بنظرات لاذعة ساخرة :
- ايه هتمشي وتسيبني هنا لوحدي ولا هتبعتني لبيت أهلي عشان تخلي الناس يتكلمو ع العروسة اللي جوزها رماها ف تاني يوم جواز ... مش شايف أن الحركات ديه قديمة شويا ؟
- متستعجليش على رزقك ... انا مجهزلك مفاجأة هتعجبك اوي.
هدر ببرود فاقم إحساس الحيرة والتوجس لديها لكنها لم تجد وقتا للتساؤل لأنه انخفض يلتقط فستان زفافها الملقي على الأرض ثم قبض على ذراعها وطفق يجرها خلفه غير آبه بتعثراتها أو محاولاتها الفاشلة للتملص من قيده ، وصلا للطابق السفلي ودفعها فكادت تقع لولا أنها تمسكت في آخر لحظة وصاحت بعصبية :
- ايه اللي بتعمله ده انت اتجننت فاكر انك هتقدر تخوفني بالحركات ديه.
صوتها العالي لم يخفي إهتزازات كلماتها خاصة بوجودها في هذا الظلام المرعب وقبل أن يستنَّ لها الهروب رأت الظلام ينقشع بألسنة حمراء ساخنة عندما فتحت أبواب الجحيم أمام وجهها على مصراعيها !
صرخت نيجار متراجعة بهلع غير آبهة بالسقوط المدوي للمنضدة التي اصطدمت بها تماما كما تحطم ثباتها وهي ترى اللهب يتطاير بجنون مرعب من فستانها الذي أضرم فيه النيران للتو !
شهقت عندما شعرت بذراع حديدية تقبض عليها وتحنيها للأسفل فوجدت نفسها فجأة مقابلة تماما للنار وقد ضغط آدم على مؤخرة رأسها وأوشك على إلصاق وجهها بألسنة اللهب الحارة...
جحظت عيناها من هول ماتعايشه فبرطمت باِختناق :
- ا ... انت بتعمل ايه ... سيبني ..
ضحك بجنون وهمس أمام أذنها :
- المشهد ده عظيم بجد بيفكرني بيوم كتب كتابنا ومش عارف ليه شيطاني عماله يوزني عشان ارميكي هنا.
تلاحقت أنفاسها التي بدأت تضيق بفعل الدخان المتصاعد من الفستان وأحست بلفحات النار تلسع وجهها فعافرت لتبعده عن مرماها بهستيرية إلا أن آدم ثبت رأسها وتوهجت تقاسيمه بمتعة سادية متلفظا :
- سألتيني ايه هي الخطوة الجاية في رحلة إنتقامي وده جوابي مفيش خطوة جاية انا هخليكي تتحرقي هنا وتحسي بكل لسعة نار ع جسمك وانتي بتفتكري كل اللي عملتيه قبل كده.
اِرتعش جسدها بين ذراعيه وبدأ الدوار يداهمها فأغمضت عيناها باكية بإنهيار ثم وفي اللحظة التي ظنت أنه سيقذفها نحو النيران ... صفعتها برودة قاسية من حيث لا تدري !
شهقت نيجار وقد وجدت نفسها مرمية على الأرضية بعدما ألقى عليها آدم دلوا من الماء الذي كان بجانبه ودفعها بعيدا عن اللهيب الذي حول الفستان إلى ركام مشوه معدوم الملامح، ثم ناظرته باِرتجاف من بين خصلاتها المبللة وهو يدعس بقدمه على آخر بقايا الحريق لينظر إليها بعد انتهائه فهمست بعته :
- انت ... انت مريض ... مش طبيعي.
استندت على مرفقها ونهضت تضم جسدها المرتجف بذراعيها تشمله بنظرات مفزوعة كأنه مخبول ! وتراجعت خطوتين عندما اقترب هو منها خطوة متأملا حالتها التي كانت لتثير في نفسه الشفقة لو كانا بوضع مختلف ...
كانت تقف بوهن أمامه مبللة من رأسها لأخمص قدميها وقد التصق بها قميص النوم كجلدٍ ثانٍ لها، شفتاها ازرقتا من البرودة وعيناها تشتعلان ككتلة من الجمر ...
- انتي عارفة انا جبتك لهنا ليه ؟
همس آدم بنقمة سوداء وواصل قتل المسافة بينهما دون أن تتوقف نيجار ان التراجع :
- لأن كل حاجة بدأت من البيت ده ... لولا السبايك اللي خبيتهم هنا مكنتيش ظهرتي قدامي ورسمتي عليا دور البنت اللي تحبني ومكنتش جبتك عشان نكتب كتابنا ... ولا كنتي طعنتيني بخنجر مسموم وسبتيني مرمي وسط النار فنفس البيت.
هزت رأسها بنفي متمتمة بدفاع :
- انا مكنتش ناوية اقتلك مكنتش بعرف ان الخنجر مسموم ولا ....
قاطعها آدم الذي لم يبدو عليه وكأنه استمع لكلماتها حتى :
- بس لسوء حظكم أنا مموتش ربنا كتبلي عمر جديد وهحرص فيه على اني اخليكم تتحسرو على كل دقيقة فحياتكو ... ياحبيبتي.
اعتدلت نيجار بوقفتها ببعض من جلادة تدبرتها بصعوبة هامسة :
- وأنا مش هسيبك تلعب بحياتي يا آدم أنا مش هفضل معاك دقيقة واحدة حتى لو حبستني.
ضحك فجأة وتراجع عنها متحدثا :
- هحبسك ليه بالعكس انتي ليكي مطلق الحرية ولو عايزة بتقدري تمشي دلوقتي وترجعي لعيلتك وصدقيني أنا مش همنعك يلا اتفضلي.
أشار بذراعه للباب كعلامة لأن تغادر فهبت نيجار لتذهب إلا أنها توقفت فجأة وظهر العجز على ملامحها فإبتسم الآخر مدعيا الأسف :
- اه نسيت مش ابن عمك ووالدته نفسهم اللي ضحو بيكي ورموكي ليا بدل بنتهم لو روحتي وخبطتي ع بابهم مش هيفتحولك حتى وبراهن ع أن صفوان هيرجعك ليا بإيده بس مع ذلك بتقدري تجربي بنفسك يلا اتحركي.
تسمرت واقفة مكانها بعدما صدمها بالحقيقة التي تناستها هي كانت تعلم جيدا أنهم تخلوا عنها ولكن مواجهتها للأمر بهذه الطريقة تجرحها وتقلل منها إلا أنها ليست من النوع الذي يتخاذل أمام غيره لذلك لم تظهر تعبيرات الإحباط والحزن عليها.
راقبها آدم بسخرية ثم صعد للغرفة وجلب معطفه ليرميه عليها آمرا :
- يلا نمشي.
بعد مدة وصلا للسرايا وكان الوقت مايزال مبكرا فتح الباب ودلفا سويا فقابلتهما حكمت حينما كانت تهبط على درجات السلم ووقفت تطالع نيجار التي كانت في حال مزرية واِبتسمت بتهكم هاتفة :
- أحيانا البواب بيفكر نفسه صاحب البيت وبيتجبر على ولي نعمته عشان كده حلو أنك توري لكل واحد مقامه المناسب ياحفيدي.
ثم أردفت بجدية :
- انت دخلت عليها ؟
رفعت نيجار بصرها بدهشة من طرحها المباشر لهذا السؤال الذي يمسّ خصوصيتهما بينما عبس آدم محدجا إياها باِمتعاض لكن حكمت لم تلقِ له بالا بل تابعت تتساءل :
- اتأكدت من أنها عفيفة ولا حتى عفتها طلعت لعبة ؟
- انتي بتقولي ايه !
اعترضت نيجار التي تقدمت منهما بضع خطوات متشدقة بحدة :
- أنا مبسمحلكيش تتكلمي عني كده.
إلتفّ لها آدم بتحذير قبل أن ينحني مقبلا يد باِحترام ثم يغير الموضوع قائلا :
- صباح الخير.
ربتت على كتفه وقبض هو على ذراع نيجار دافعا إياها للأمام مغمغما بقتامة :
- بوسي إيدها.
نظرت له الأخرى بغضب ورفضت الإنصياع لأمره ليجز على أسنانه بسخط:
- متخلنيش اعيد كلامي.
رفعت حكمت يدها موقفة إياه :
- مفيش مشكلة خليها تطلع دلوقتي وتجهز نفسها لأن عيلتها والناس هيجم بعد شويا.
زفرت نيجار وصعدت للطابق العلوي بينما أردفت هي بغموض حاد :
- أنا افتكرتها هترجع وعينها مكسورة بس لسه قوية ولسانها طويل ... الواضح أنك معملتش اللي عليك.
قطب حاجباه بخنق وقد فهم ماترمي إليه فجدته كانت تود منه أخذ حقه من نيجار بقسوة وضربها واعتقدت أنه أخذها لبيت الهضبة من أجل هذا السبب أيضا، فتنحنح مجيبا عليها بنبرة جادة :
- احنا لسه في أول يوم و أي تصرف وحش مني كان هيوقعني في مشاكل ويخلي سيرتنا ع لسان الناس اللي هتجي لعندنا وبعدين عيلة نيجار هتعمل مشكلة لو جم وشافوها مضروبة ... خلي كل حاجة تحصل في الوقت المناسب.
***
دخلت للغرفة ورمت معطفه على الأرض مرددة :
- البيه بيحاول يولع فيا وجدته بترمي كلام عليا قال ايه لازم يتأكد اذا انا عفيفة ولا لأ.
شدت على شعرها بعصبية لاعنة آدم وصفوان واليوم الذي عرض عليها الدخول في هذه اللعبة التي دمرت حياتها ثم ألقت نفسها على السرير معيدة أحداث اليوم الماضي عليها وكلما جاء ببالها أنها أصبحت زوجة الرجل الذي غدرت به توشك على فقدان أعصابها والصراخ، مرت عليها بضع ساعات وهي على هذه الحال كانت نيجار قد غفت من شدة الإرهاق ثم أفاقت على طرق الباب ...
إعتدلت في جلستها لتدلف الخادمة أم محمود وتنظر لها من الأعلى للأسفل باِستغراب وفضول من حالتها حتى زفرت هذه الأخيرة متشدقة بغطرسة :
- انتي هتفضلي متنحة فيا كده اتكلمي في ايه.
حمحمت مخفضة بصرها وتمتمت :
- صباحية مباركة يا هانم، عيلتك والمعازيم جم يطمنو عليكي والست حكمت عايزاكي تجهزي نفسك وتنزلي.
نظرت نيجار لما تحمله بين يديها ثم أمرتها بوضعهم والخروج نهضت بتكاسل حتى تأخذ حماما وارتدت عباءة إستقبال زرقاء اللون، وضعت مكياجا بسيطا وزينت عنقها ويديها بأساور ذهبية وأرفقت طلتها بحذاء ذو كعب عالٍ لتقف متأملة نفسها بسخرية :
- على الأقل طلع عندها زوق حكمت هانم ديه.
في نفس اللحظة دخلت زوجة عمها مع إحدى النساء التي أطلقت زغاريد عالية مرددة ببهجة :
- صباحية مباركة يا عروسة بسم الله ماشاء الله ربنا يحرسك من العين.
اقتربت منها جميلة وقبلتها وقالت :
- طمنيني عليكي ياحبيبتي انتي كويسة.
نظرت لها بتهكم واضح لكنها ردت ببسمة مصطنعة أمام البقية :
- الحمد لله ربنا يبارك فيكو.
بعد قليل دخلت لصالة إستقبال النساء وجميع الأعين ترصدت بها مطالعين المرأة التي تزوجت من إبن أكبر عائلات البلدة بعدما كانوا يعادونهم، أحست نيجار بنظراتهن الفضولية تخترقها من كل صوب وهمساتهن تصل لأذنيها بوضوح فعضت على شفتها باِضطراب منفعل وتمتمت :
- صباح الخير.
ردوا عليها بالمباركات وقالت حكمت بدبلوماسية :
- في ايه هتفضلي واقفة كده ومش هتضيفيهم ؟
معلش يا جماعة العروسة جديدة ملحقناش نعلمها الأصول بس هتتعلم بإذن الله.
سحبت نفسا عميقا تكبت جماح غضبها وشرعت تقدم لهن واجب الضيافة ثم جلست جوار جميلة التي همستها :
- مقدرتش اسألك قدام الحريم فوق طمنيني عليكي عاملة ايه مع جوزك.
كان سؤالها يرمي لشيء واحد فهمته الأخرى وضغطت على يدها بينما تهز رأسها بإيجاب لتبتسم زوجة عمها براحة وهنا نطقت سيدة من الضيوف بينما ترتشف من كوب الشاي :
- الحمد لله انكم تصالحتو يا حكمت هانم احنا مصدقناش وقت قالولنا ان العيلتين هيبقو نسايب بس كويس اهو تقل المشاكل شويا.
تابعت امرأة أخرى استلمت دفة الحديث :
- حتى الجوازة حصلت بسرعة ومع أنها عدت على خير وعملتو الواجب بس احنا كلنا كنا متوقعين ان فرح حفيد الصاوي الوحيد هيكون أكبر وأفخم فرح في البلد ربنا يعلم اني بعتبر آدم زي ابني وزعلت اوي عليه.
تنهدت حكمت كمن تحمل أثقال العالم على كتفها وعلقت :
- عندك حق بس نعمل ايه ده نصيب حفيدي اللهم لا اعتراض.
ساد الصمت مجددا حتى قطعته سيدة أخرى وهي تسأل بتطفل :
- صحيح يابنتي انا لما كنت واقفة الفجر ع الشباك شوفت جوزك طالع من البيت مع انه عريس جديد ولازم يقضي الأيام ديه معاكي خير هو روح ع فين.
نظرت لها نيجار برفعة حاجب ثم ابتسمت مجيبة :
- معرفش ياخالتي بس طالما حضرتك شوفتيه وهو طالع الفجر المفروض تعرفي هو فين بالمرة وهيرجع امتى كمان.
اِحمر وجهها بحرج وصمتت أما ليلى فكتمت ضحكتها بصعوبة لترشقها حكمت بنظرات حازمة جعلتها تهدأ ...
__________________
وقف بمسافة أمتار عن الزجاجات التي تناثرت هنا وهناك وحمل البندقية بوضعيتها المناسبة مركزا على الهدف ثم بدأ بإطلاق النار عليها واحدة تلوَ الأخرى حتى جاء فاروق ووقف بجواره هاتفا :
- العمال عماله يبصولك ومستغربين لأنهم جم الصبح بدري ولقوك هنا بدل ماتكون في بيتك ومع عروستك.
قطب آدم حاجباه معقبا عليه دون أن يفقد تركيزه على التصويب :
- وأنت مستغرب زيهم ولا لأ.
ابتسم وأجاب عليه :
- بصراحة اللي استغربت منه هو هدوئك وسلامك النفسي دلوقتي يعني انا كنت خايف تعمل شيء يضرنا كلنا بس الحمد لله.
كسر آخر زجاجة وأعطى البندقية للعامل بينما يردد :
- بقدر اجزم أن صفوان مقدرش ينام طول الليل وهو بيفكر ف حاجات زي اللي انت كنت بتفكر فيها.
كاد يتكلم لكن وقع بصره على شخص ما قادم من بعيد فرفع حاجبيه متشدقا :
- مش لو جبنا سيرة حد تاني أحسن.
نظر آدم إلى حيث ينظر فاروق ووجد صفوان يسير نحوهما بملامح متجهمة فاِبتسم ساخرا ثم تحرك مقلصا المسافة بينهما حتى وصل إليه وقال ببرود :
- الله انا مش مصدق أن أجدع وأرجل واحد في البلد زارني في مزرعتي المتواضعة خير يا صفوان بيه انت ضيعت طريقك ولا ايه.
زم شفته بخنق منه وهتف على مضض :
- العمدة قال اني لازم اجي واكلمك عشان نصفي القلوب وانا اضطريت اعمل نفسي موافق عشان ميفتكرش اني بعارض أوامره.
همهم وكتف ذراعاه معقبا عليه بتلاعب :
- ومقولتلوش ان السواد ده مزروع في عروقك ومش هتقدر تصفيه.
تأفف صفوان ورد عليه مضيقا عيناه :
- بقولك ايه انا بحاول امسك نفسي ومعملش مشكلة بس متحاولش تستفزني لأني مش هسكتلك ... ولو فاكر ان بجوازك هتقدر ...
قاطعه آدم متابعا جملته بتنهيدة عابثة :
- لو فاكر اني هقدر اكسرك ببقى غلطان الجملة ديه طلعت متوارثة في عيلتكم بقى.
تأهب هذا الأخير وانكمش وجهه بخطورة هاتفا :
- مين قالهالك نيجار صح اوعى تكون أذيتها ولا لمست شعرة منها هطلع بروحك.
- انت بتهددني ليه مش شايفني بخاف.
علق عليه ساخرا فزفر صفوان واِستطرد مستفسرا :
- انت قربت منها لمستها ؟
- هشش عيب تسألني في الموضوع ده.
لاحظ آدم تحول ملامحه للعصبية الشديد ليبتسم وينحني عليه مردفا بهمس :
- ديه خصوصية اتنين متجوزين ومينفعش تطلع لبرا ... مع اني مش متأكد لو هعتبرها زوجة أو حاجة تانية.
قبض صفوان على ياقته باِنفعال شديد قابله الآخر ببرود مستفز فأفلته وغادر المزرعة بأعصاب منفلتة كمن يرى الشياطين في طريقه ...
________________
في المساء.
دخلت للغرفة بعد يوم طويل قضته وسط ثرثرة وغمزات النساء وتلميحات حكمت التي كانت تهين عائلتها بطريقة غير مباشرة وتجعل الضيوف يضحكون عليهم مما جعلها تستشيط غيظا وكادت ترد عليها لكن زوجة عمها أوقفتها ...
ولم يكفيها هذا بل جعلتها حكمت تنضف صالة الإستقبال بأكملها وتمسح السلالم مصطنعة البراءة وكأنها لا تقصد إهانتها ...
زفرت نيجار بضجر واِستندت على التسريحة مبرطمة :
- ده احنا لسه في أول يوم بس انا مش طايقة ولا قادرة استحملهم حاسة نفسي بختنق هنا ولسه لما آدم يجي ربنا يعلم ايه اللي ممكن يعمله فيا عشان ينتقم مني.
رن هاتفها فجأة ونظرت لهوية المتصل ولم تجب لكنه عاود الإتصال بها ففتحت الخط :
- نعم يا سلمى.
تنحنحت تجلي صوتها وردت عليها :
- عامله ايه اخبارك معلش انا مقدرتش اجي مع ماما النهارده لأني كنت تعبانة شويا.
- عادي مفيش مشكلة.
- طب انتي كويسة عيلة الصاوي عملتلك حاجة وحشة.
تنهدت نيجار وتوجهت نحو السرير بينما تردد بسخرية :
- مفيش أسوء من اني اكون قاعدة معاهم في مكان واحد س هعمل ايه المهم صفوان يرتاح ع حسابي.
تلبكت سلمى من تلمحيها وهتفت :
- بصراحة صفوان مضايق أوي امبارح رجع للبيت وهو سكران ومن شويا سمعته بيزعق مع ماما كان متعصب اوي و بيتكلم على ... جوزك.
استنفرت حواسها بإنتباه وسألتها عما حدث فقالت الأخرى :
- انا مسمعتش كل حاجة بس اللي فهمته انه شاف آدم النهارده واللهم أعلم هو قاله ايه استفزه وخلاه يتعصب بس واضح الكلام كان عليكي لأن ماما قالتله هي بقت مراته وانت مبتقدرش تعمل حاجة.
بعد دقائق دخل آدم ووجدها جالسة بشرود فتغضن وجهه بمقت وبدأ بتغيير ملابسه من أجل النوم تحت نظرات نيجار التي انكمشت على نفسها بقلق متوقعة مضايقته لها إلا أنه خالف توقعاتها عندما اقترب من السرير مغمغما دون النظر إليها :
- قومي من هنا ونامي في أي مكان بعيد عني.
رفعت رأسها له بحيرة وعدم فهم فأعاد كلامه بلهجة أصلب :
- انتي مش سامعة انا بقول ايه !
انتفضت واقفة وبرطمت بتلعثم :
- هنام فين طيب.
- في أي داهية جوا الأوضة ديه أنا لو عليا برميكي برا بس مينفعش عشان أختي هتفهم.
لفظ كلماته بقسوة حارقة مطالعا إياها باِزدراء جعلها تشعر بالإهانة فلفَّت حول السرير ووقفت أمامه مكتفة يداها بتعالي :
- مكنش ده كلامك امبارح وقت خطفتني لبيت الهضبة وخدتني غصب عني ولا انت عملت كده علشان تقهر ابن عمي وتبينله اني خلاص بقيت تحت إيدك.
مط آدم شفته ورشقها ببرود هاتفا :
- برافو كنت متوقع دماغك الخبيث يفهمني من امبارح بس اهو على الأقل استوعبتي انها كانت ليلة واحدة وراحت لحالها وكنت قرفان من نفسي وانا بقربلك.
وبالنسبة ل اني خدتك غصب عنك ف مش متأكد من النقطة ديه لأني لسه فاكر كنتي عاملة ازاي ليلة امبارح.
اِحمرّ وجهها من تلميحه وتذكيره بقربهما لكنها نفضت شعورها عنها وانتفضت مدافعة عن نفسها :
- انا لو كنت هادية فده علشان ااا...
قاطعها دون اكتراث :
- ميهمنيش امشي من وشي دلوقتي.
تأففت نيجار بحنق وهمَّت بالتحرك فأوقفها بإستدراك وهو ينتشل هاتفها من يدها مرددا :
- من النهارده انتي مش هتتكلمي مع عيلتك ديه كفاية انك موجودة هنا مش هقبل صوت واحد زيادة منكو يدنس بيتي اكتر.
شهقت بتفاجؤ وحاولت منعه فدفعها آدم ورمى الهاتف على الحائط بعنف أدى إلى تحطمه فورا لتصرخ :
- ايه الحركات ديه انت واحد مجنون !
وهنا صاحت مجددا لكن هذه المرة كانت ناتجة عن الألم عندما قبض آدم على شعرها من الخلف وجعلها تجثو على ركبتيها معيدا رأسها للخلف فسبب بذلك وجعا في فقرات ظهرها تأوهت نيجار وأمسكت مكان قبضته محاولة الإفلات بينما شدد عليها الآخر وبصق كلماته السوداوية :
- وحاجة تانية ... اوعى لسانك يطول عليا او تحاولي تتذاكي لأني ساعتها مش هخوفك بالنار لا هرميكي فيها بجد بس بعد ما اقطعلك لسانك ...علشان كده اتأدبي ومتستعجليش ع رزقك !